دراسات فی ولایه الفقیه و فقه الدوله الاسلامیه المجلد 1

اشارة

سرشناسه : منتظری، حسینعلی، - 1301

عنوان و نام پديدآور : دراسات فی ولایه الفقیه و فقه الدوله الاسلامیه/ لمولفه المنتظری

مشخصات نشر : قم: دار الفکر، 14ق. = - 13.

شابک : 2500ریال(ج.4)

يادداشت : فهرستنویسی براساس جلد چهارم، 1411ق. = 1370

يادداشت : جلد سوم این کتاب توسط انتشارات تفکر منتشر شده است

يادداشت : جلد سوم (چاپ دوم: 1415ق. = 1373)؛ بها: 7000 ریال. (ناشر: نشر تفکر)

يادداشت : ج. 3 (چاپ دوم) 1415 = 1374

یادداشت : کتابنامه

عنوان دیگر : ولایه الفقیه و فقه الدوله الاسلامیه

موضوع : ولایت فقیه

موضوع : اسلام و دولت

رده بندی کنگره : BP223/8 /م 78د4 1300ی

رده بندی دیویی : 297/45

شماره کتابشناسی ملی : م 70-2367

[ثناء و دعاء]

بِسْمِ اللّٰهِ الرَّحْمٰنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على خير خلقه محمد و آله الطاهرين، اولي الأمر الذين أذهب اللّه عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا، و أمرنا رسول اللّه «ص» بالتمسك بهم قرينا للكتاب العزيز الذي لٰا يَأْتِيهِ الْبٰاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لٰا مِنْ خَلْفِهِ و قال: «انهما لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض.» «1»

اللّهم فوقنا للتمسك بالكتاب العزيز، و بالعترة الذين لم يألوا جهدا في تبيين معارفه و أحكامه و في نصح الأمة و إرشادها.

______________________________

(1)- على ما ورد في حديث الثقلين. و قد تواتر الحديث إجمالا بين الفريقين. راجع ص 58 من الكتاب.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 3

مقدمة [المؤلف]

اشارة

نذكر في المقدمة بنحو الإجمال ضرورة الحكومة، و أنحائها، و الحكومة الاسلامية، و ما دعاني الى تأليف هذا الكتاب و فيها اشارة إلى أبواب الكتاب و فصوله:

1- ضرورة الحكومة:

اعلم أن من أهم الأمور الضرورية للبشر وجود النظام الاجتماعي و الحكومة العادلة الحافظة لحقوق المجتمع، فإن الإنسان مدني بالطبع، لا يحصل على حاجاته و طلباته إلّا في ظل الاجتماع و التعاون، و كثيرا ما تعرض له قضايا عامّة تمسّ مصالح المجتمع و يطلب فيها قرار و رأي واحد يجمع القاطعية و قابلية التنفيذ و القدرة عليه، و لا يحصل ذلك الّا تحت لواء حكومة قاطعة، و لأجل ذلك ترى أنه لم تخل حياة الإنسان في جميع مراحلها و أدوارها حتى في العصور الحجرية و في الغابات من حكومة و دويلة.

و هنا ملاحظة أخرى، و هي ان الإنسان قد جبل في طبعه و كيانه على شهوات

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 4

و ميول مختلفة: من حبّ الذات، و حبّ المال و الجاه، و الحرية المطلقة في كل ما يريده و يهواه. و كثيرا ما يستلزم ذلك كلّه التّزاحم و التضارب في الأفكار و الأهواء، و يستعقب الجدال و الصراع. فلا محالة تقع الحاجة الى قوانين و مقررات، و الى قوة منفذة لها مانعة من التعدّي و الكفاح، و لا نعني بالحكومة إلّا هذه القوة المنفذة.

بل الحيوانات أيضا لا تخلو من نحو من النظام، كما يشاهد ذلك في النمل و النحل و نحوهما.

و حتى لو فرضنا محالا أو نادرا تكامل المجتمع و تحقق الرشد الأخلاقي لجميع أفراده، و حصول الإيثار و التناصف بينهم فالاحتياج الى نظام يجمع أمرهم في المصالح العامة و يسدّ

حاجاتهم في الأرزاق و الأمور الصحّيّة، و التعليم و التربية، و المواصلات و المخابرات، و الطرق و الشوارع و غير ذلك من الأمور الرفاهية، و جباية الضرائب و صرفها في هذه المصارف العامة، مما لا يقبل الإنكار. و لا يختصّ هذا بعصر دون عصر أو ظرف دون ظرف.

فما عن الأصمّ من عدم الاحتياج الى الحكومة اذا تناصفت الأمّة و لم تتظالم، و ما عن ماركس من عدم الاحتياج اليها بعد تحقق الكمون المترقي و ارتفاع الاختلاف الطبقي واضح الفساد.

و أما ما تراه من استيحاش أكثر الناس في بلادنا و تنفرهم من اسم الحكومة و الدولة فليس الّا لابتلائهم طوال القرون المتمادية بأنواع الحكومات المستبدّة الظالمة أو غير اللائقة التي لم تملك البصيرة و الكفاية. و إلّا فالحكومة الصالحة اللائقة الحافظة لحقوق الأمّة الآخذة بيدها المدافعة عن منافعها و مصالحها، مما تقبلها الطباع السليمة و يحكم بضرورتها العقل السليم.

بل ان الحكومة الجائرة أيضا مع ما فيها من الشرّ و الفساد خير من الفتنة و الهرج، كما عن امير المؤمنين «ع»: «وال ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم.» «1»

و في نهج البلاغة في رد كلام الخوارج: «هؤلاء يقولون: لا إمرة الّا للّه، و انه لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر يعمل في إمرته المؤمن و يستمتع فيها الكافر.» «2»

______________________________

(1)- الغرر و الدّرر 6/ 236، الحديث 10109.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 125؛ عبده 1/ 87؛ لح/ 82، الخطبة 40.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 5

و لا يريد هو عليه السلام تبرير امارة الفاجر و بيان مشروعيتها، بل يريد بيان تقدّمها عقلا على الفتنة و الهرج اذا دار الأمر بينهما.

2- كيف نشأت الدولة و تنشأ؟

قد ذكروا في

ذلك نظريات عديدة:

منها: ان الدولة نظام اجتماعي يفرضه بالإجبار شخص قويّ أو فريق غالب على الضعفاء و المستضعفين و المتوسطين، استعبادا و استثمارا لهم او استصلاحا و تعطفا عليهم حسب اختلاف الحكام في نيّاتهم.

و منها: ان تشكيل العائلة أمر يقتضيه طبع البشر، ثم هي الخلية الأولى لكل مجتمع و دولة، اذ تجتمع العائلات و تتصل حسب طبعها و حاجتها فتصير عشيرة ثم قبيلة ثم مدينة سياسية يسوسها حكم واحد، ثم ترتبط المدن تدريجا و يحكم عليها نظام واحد و حكم واحد فتصير ملكا واحدا و دولة واحدة، فالدولة نتيجة حركة التاريخ بالطبع.

و منها: ان الإنسان في بادي الأمر كان يعيش على الفطرة و الغريزة و كان يتمتع بحريّة كاملة، ثم تضاربت المصالح و الحرّيّات فسادت القوة و ضاعت حقوق الضعفاء و أصبح أمر الجماعة فوضى، فتوافق عقلاء الناس و اصطلحوا على وضع قوانين خاصة محدّدة للحريات و على قوة منفذة لها حفظا للحقوق، فالحكومة معاقدة اجتماعية بين الحاكم و بين الرعية تحصل باختيار الطرفين.

الى غير ذلك مما قيل في المقام، و لا يهمّنا ذكرها و نقدها و قياس بعضها الى بعض بعد ما اتّضح- كما مرّ- أصل ضرورة الحكومة و الدولة، و سيأتي منا بيان ان الحكومة داخلة في نسج الإسلام و نظامه و ان النبي الأكرم «ص» أسس بناء الحكومة الإسلامية بأمر اللّه- تعالى- و تعاقدت الجماعة الإسلامية الأولى معه «ص» على الإيمان باللّه و برسوله و برئاسته على الأمة و اتباعها له في كل ما آتاه. و من جملة ما آتاه المقررات السياسية و الاجتماعية و الاقتصادية، كما هو واضح لمن تتبع فقه الإسلام.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص:

6

و نحن نعتقد ان اللّه- تعالى- من بدو نشأة الإنسان و خلقه لم يخلهم من الأنبياء و الهداة الى اللّه- تعالى- بل أول من خلقه منهم كان نبيّا، فلعل الحكومة و مقرراتها بسذاجتها كانت من جملة البرامج التي أتى بها الأنبياء من ناحية الوحي حسب حاجة الانسان اليها في طبعه و ذاته.

فمنشأ الدولة و الحكومة في بادي الأمر هو أمر اللّه و وحيه و ان انحرفت بعد ذلك عن مسيرها الصحيح بتغلّب الظالمين و الطغاة. و في الحديث عن النبي «ص» قال:

«كانت بنو اسرائيل تسوسهم الأنبياء كلما هلك نبي خلفه نبي، و انه لا نبي بعدي و ستكون خلفاء فتكثر.» «1»

3- أنحاء الحكومات الدارجة في البلاد:

الاولى: الملكية المطلقة الاستبدادية،

و ذلك بان يتسلط الفرد بالقهر و الغلبة و بقوة العساكر و السلاح على البلاد و العباد، و ينزل بمعارضيه أشدّ العقوبات، و لا يتقيد بقانون و لا ضابطة خاصة بل يجعل مال اللّه دولا و عباده خولا، يحكم فيهم بما يهوى و يريد، و يتصور كون السلطة ملكا طلقا له و لوارثه نسلا بعد نسل. و ربما يبلغ هذا السلطان في استعلائه و استكباره حدّا يسمّي نفسه ظلّ اللّه في أرضه و مظهرا لقدرته و سلطنته، و قد يصل الى حدّ يدعي الربوبيّة كما اتفق لفرعون و أمثاله.

و هذا القسم من الحكومة من أردإ أنواعها عند العقل و الفطرة. و أحسن التعبير عن هذا النوع من الحكومة هو ما حكاه اللّه- تعالى- عن ملكة سبأ «قٰالَتْ: إِنَّ الْمُلُوكَ إِذٰا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهٰا وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهٰا أَذِلَّةً، وَ كَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ.» «2»

الثانية: الملكية المشروطة

المستحدثة في الأعصار الأخيرة، بان تعتبر الملكية حقا ثابتا وراثيّا و لكن الملك محدود مقيد، و يكون تدبير الأمور محوّلا الى القوى الثلاث:

______________________________

(1)- صحيح مسلم 3/ 1471، الحديث 1842، كتاب الامارة، الباب 10 (باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء ...).

(2)- سورة النمل (27)، الآية 34.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 7

التشريعية و التنفيذية و القضائية، من دون ان يكون للملك أيّ دخل في ذلك و لا يتحمل أيّة مسئولية في إدارة الملك، كما هو الحال في انكلترا مثلا. فكأنّ الملك عضو زائد محترم مكرّم جدّا يصرف في وجوه تعيشه و ترفهه و تجمّلاته و وسائل فسقه و فجوره آلاف الألوف من بيت المال و من حقوق المحرومين من دون أن يكون على عاتقه أية مسئولية عامة بالنسبة الى المسائل

الأساسية.

و واضح أن هذه أيضا كالأولى باطلة مخالفة للعقل و الفطرة، اذ لا وجه لهذا الحقّ و هذه الوراثة المستمرة من دون نصب من قبل اللّه- تعالى- أو انتخاب من قبل الأمّة، و من دون ان يتحمل مسئولية عامة ماسّة بمصالح المجتمع، سوى المصارف المجحفة الزائدة تبعا للرسم و العادة.

الثالثة: الحكومة الأشرافية،

و تسمى في اصطلاح العصر: «ارستوقراطية»، و ذلك بان يتسلط فريق أو شخص من المجتمع على الآخرين لمجرد التفوق النسبي أو المالي، كما هو شائع في العشائر و القبائل و لا سيما في البدويين منهم.

و لا يخفى ان مجرد الانتساب او التمول ما لم يقترن بالصلاحيات النفسية و قوة التدبير و الانتخاب من قبل الأمّة لا يكون ملاكا للولاية و لزوم الطاعة عند العقل و الفطرة.

الرابعة: الحكومة الانتخابية

التي تحصر حقّ الانتخاب بطبقة خاصة معيّنة.

و لا نعرف له مثلا في عصرنا إلّا ما هو المتعارف لدى كنيسة الروم فعلا من انتخاب البابا من قبل البطاركة فقط على أساس أنهم أهل الحل و العقد من دون ان يطلب أصوات الناس و أنظارهم.

الخامسة: الحكومة الانتخابية الشعبية

و لكن على أساس فكرة و ايدئولوجية خاصة، فيكون الحاكم منتخبا من قبل الفئة المعتقدة بهذه الفكرة الخاصة و مكلفا بادارة المجتمع على هذا الاساس. و لعل الحكومة السوفياتية بأقمارها من هذا القبيل، حيث يكون الانتخاب على أساس المنهج الماركسي و لا سيما في الاقتصاد.

السادسة: الحكومة الانتخابية الديموقراطية العامة

المعبّر عنها بحكومة الشعب

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 8

على الشعب، فيكون الشعب في الحقيقة منشأ للتشريع و التنفيذ، و الحاكم المنتخب يحقق أهواء الشعب و حاجاته كيف ما كانت. و ربما يعدّ هذه أحسن أنحاء الحكومات الدارجة و أوفقها للفطرة لصلاحها مبدأ و غاية، فالمبدأ ارادة الشعب و آراؤه، و الغاية تأمين حاجاته العامة.

أقول: هذا على فرض تحققها واقعا بان يكون الشعب مدركا رشيدا مختارا لا يقع تحت تأثير العوامل المظلّلة و الأجواء و الأهواء و الوعود البراقة و الدعايات الكاذبة الرائجة. و لكن يبعد جدّا حصولها كذلك مأئة بالمائة حتى في مثل الامم الراقية، حيث نرى فيها وقوع الشعب عملا تحت تأثير الوسائل الإعلامية المملوكة لأصحاب الثروات و الشركات العظيمة الاقتصادية التي يكثر فيها الدعايات الكاذبة، فلا تتحقق حكومة الشعب حقيقة بل حكومة طبقة خاصة من المجتمع امتلكوا الثروات و المؤسسات و لا يهدفون إلّا مصالح أنفسهم.

4- الحكومة الاسلامية:

قد عرفت ضرورة الحكومة و حفظ النظام الاجتماعي للبشر، و انّ الهرج و المرج الاجتماعي مما يدرك ضرره و قبحه كل عاقل من أي أمّة أو ملّة كان.

و المراجع للكتاب و السنة و فقه مذاهب الإسلام من الشيعة و السنة يظهر له بالبداهة ان دين الإسلام الذي جاء به النبي الأكرم «ص» لم ينحصر أحكامه في أمور عبادية و مراسيم و آداب فردية فقط، بل هو جامع لجميع ما يحتاج اليه الانسان في مراحل حياته الفردية و العائلية و الاجتماعية من المعارف و الأخلاق و العبادات و المعاملات و السياسات و الاقتصاد و العلاقات الداخلية و الخارجية. فهو بنفسه نظام كامل يجمع الاقتصاد و السياسة أيضا.

و التتبع في أخبار الفريقين

و فتاواهم في الأبواب المختلفة لفقه الإسلام يرشدنا الى كون الحكومة و تنفيذ المقررات أيضا داخلة في نسج الإسلام و نظامه. فالاسلام بذاته دين و دولة، و عبادة و اقتصاد و سياسة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 9

فترى النبي الأكرم «ص» بعد هجرته الى المدينة باشر بتأسيس اول دولة اسلامية عادلة، و قد مهّد لها مقدماتها من أخذ البيعة من القبائل و الوفود و عقد ميثاق الاخوة بين المهاجرين و الانصار و المعاهدة بينهم و بين يهود المدينة. و أقام مسجدا جعله مركزا لتجمّع المسلمين و موضعا لصلواتهم و لنشاطاتهم الاجتماعية و السياسية.

و راسل الملوك و الامراء في البلاد و كتب اليهم يدعوهم الى الإسلام و الدخول تحت ظلّ حكومته.

و لم يقنع ببيان الأحكام و إقامة الصلوات و التبليغ و الارشاد فقط. بل كان ينفّذ حدود الإسلام و احكامه و يبعث العمّال و الولاة و يطالب بالضرائب و الماليات و يجهّز الجيوش و يقاتل المشركين و المناوئين، الى غير ذلك من شئون الحكومة. فهذه كانت سيرته في حياته.

و قد كان الحكم الذي قام به «ص» في عصره مع قصر مدته حكما فريدا لم تعرف البشرية الى الآن له شبيها في سهولته و سذاجته و ما وجد فيه الناس من عدل و حرية و مساواة و ايثار، و قد أذعن بذلك المؤرخون من غير المسلمين أيضا.

و بعد وفاته «ص» لم يشكّ أحد من المسلمين في الاحتياج الى الحكومة، بل أجمعوا على وجوبها و ضرورتها. و إنما وقع الخلاف بين الفريقين في انه «ص» هل نصب أمير المؤمنين «ع» واليا أو إنّه أهمل أمر الخلافة و فوضه الى المسلمين. فالشيعة الامامية تعتقد

ان النبي «ص» قد عيّن أمير المؤمنين «ع» في غدير خمّ و في غيره من المواقف و نصبه لتصدّي الولاية بعد وفاته. و السنة يقولون بانعقاد الامامة بعده «ص» بالشورى و انتخاب أهل الحلّ و العقد. و كيف كان فرسول اللّه «ص» مضافا الى نبوته و رسالته كان بنصّ القرآن الكريم اولى بالمؤمنين من أنفسهم و كان له الولاية عليهم، و كذلك الأئمة الاثنا عشر عندنا كان لهم حق الولاية.

و البحث بحث كلامي يطلب من محله.

و تمتاز الحكومة الاسلامية عن الحكومة الديموقراطية الغربية الدارجة بوجوه:

منها: ان الحاكم في الحكومة الاسلامية يجب أن يكون أعلم الناس و أعدلهم و أتقاهم و أقواهم بالأمر و أبصرهم بمواقع الأمور. ففي عصر النبي «ص» كان هو بنفسه اولى بالمؤمنين من أنفسهم و كانت له الولاية عليهم من قبل اللّه- تعالى-. و بعده كانت الولاية عندنا حقا للأئمة الاثني عشر، و في عصر الغيبة للفقيه العادل العالم بزمانه البصير بالأمور و الحوادث الرؤوف الحافظ لحقوق الناس حتى الأقليات غير المسلمة،

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 10

فلا يجوز للأمة انتخاب غيره.

و منها: ان الحكومة الاسلامية بشعبها الثلاثة من التشريع و القضاء و التنفيذ تتقيّد بموازين الإسلام و قوانينه العادلة النازلة من قبل اللّه- تعالى- و الوالي منفّذ لأحكامه. و قد يعبّر عن هذه الحكومة بالحكومة التئوقراطية بمعنى حكومة القانون الإلهي على المجتمع.

و أما في النظام الديموقراطي الانتخابي الدارج فملاك الانتخاب فيه رضا الناخبين، و الهدف منه تحقيق أهوائهم و مشتهياتهم كيف ما كانت، فلا يتقيد الناخب و لا المنتخب لا بمقررات شرعية و لا بمصالح عقلية و فضائل أخلاقية. و سيأتي تفصيل ذلك في الباب الخامس،

فانتظر.

5- شروط الحاكم المنتخب عند العقلاء:

لا يخفى أن الانسان العاقل اذا اراد تفويض عمل الى غيره فهو بحكم الفطرة يراعي في الفرد المنتخب أن يتحقق فيه أمور: الأول: العقل الوافي. الثاني: العلم بفنون العمل المفوّض اليه. الثالث: قدرته على العمل. الرابع: أن يكون أمينا لا يهمل الأمر و لا يخون فيه. و قد يعبّر عن ذلك بالعدالة. فمن اراد استيجار شخص لإحداث بناء مثلا فلا محالة يراعي فيه بحكم الفطرة تحقق هذه الشروط و الصفات.

و ادارة شئون الأمة من أهمّ الأمور و أعضلها و أدقها، فلا محالة اذا فرض كون انتخاب الوالي بيد الشعب و كان الشعب حرّا مختارا في الانتخاب وجب عليه بحكم العقل و الفطرة أن يراعي في الوالي المنتخب أن يكون عاقلا، عالما بفنون السياسة و التدبير، قادرا على التنفيذ، أمينا غير خائن. فاعتبار هذه الصفات في الوالي أمر يحكم به العقلاء بفطرتهم و لا حاجة فيه الى التعبّد، و المتخلّف عن ذلك يستحق الذم و اللوم عندهم.

و ذا فرض أن الذين فوّضوا أمر الحكومة الى شخص خاصّ كانوا يعتقدون بمبدإ خاصّ و ايدئولوجية معيّنة متضمنة لقوانين و مقررات مخصوصة في نظام الحياة، و أرادوا

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 11

حسب اعتقادهم ادارة شئونهم الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية على أساس هذا المبدأ الخاص و هذه المقررات المعيّنة، فلا محالة بحسب الطبع ينتخبون لذلك من يكون معتقدا بهذا المبدأ و مطلعا على مقرراته. الا ترى ان المعتقدين بالمبدإ المادي و الاقتصاد الماركسي يراعون في الحاكم المنتخب لبلادهم مضافا الى ما مرّ من الشروط العامة اعتقاده بالمنهج المادي الماركسي و اطلاعه على موازينه المرتبطة بالسياسة و الاقتصاد؟

فهذا أيضا أمر طبيعي فطري.

6- ولاية الفقيه:

قد

ظهر لك أولا ضرورة الحكومة في حياة البشر و أنها لا تختصّ بعصر دون عصر أو ظرف دون ظرف. و أشرنا ثانيا الى أنحاء الحكومات الدارجة اجمالا. و ثالثا الى جامعية الشريعة الاسلامية و ان الحكومة داخلة في نسج الإسلام و نظامه كما يأتي تفصيل ذلك. و رابعا الى ان العقلاء بفطرتهم يعتبرون في الحاكم كونه عاقلا امينا عالما برموز السياسة و التدبير قادرا على التنفيذ و الاجراء، و انه اذا كانت الأمّة تعتقد بمبدإ خاص و ايدئولوجية خاصة حاوية لمسائل الحياة في جميع مراحلها فلا محالة تراعي في الحاكم- مضافا الى الشروط العامّة- كونه معتقدا بهذا المبدأ و عالما بمقرراته العادلة المرتبطة بشؤون الحياة لكي يقدر على تنفيذها.

و على هذا فالأمّة الاسلامية حسب اعتقادها بالاسلام و قوانينه العادلة الجامعة تتمنّى أن يكون الحاكم عليها و المهيمن على شئونها رجلا عاقلا عادلا عالما برموز السياسة قادرا على التنفيذ معتقدا بالاسلام و عالما بضوابطه و مقرراته بل اعلم فيها من غيره، و لا نريد بولاية الفقيه الّا هذا.

و هذا العنوان كان ينطبق عندنا في عصر ظهور الأئمة «ع» على أئمتنا «ع» عترة النبي «ص» و أبواب علمه، و في عصر الغيبة ينطبق على من تفقه في الكتاب و السنة و عرف أحكامهما.

و بهذا البيان يظهر لك أن ولاية الفقيه الجامع للشرائط التي أشرنا اليها أمر يتمنّاه و يطمح اليه كل من اعتقد بالاسلام و جامعيّته حسب عقله و فطرته، و يراها ضمانا

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 12

لتنفيذ قوانين الإسلام الجامعة للعدالة و صلاح المجتمع. و هذا كلام قابل للعرض على كل عاقل منصف من أيّ ملّة كان. و الأقليّات

غير المسلمة أيضا تحفظ حقوقها في ظل هذه الحكومة حسب رعاية الإسلام اياها.

و ليس معنى ولاية الفقيه تصدّيه لجميع الأمور بنفسه، بل هو يفوّض كل أمر الى أهله من الأشخاص أو المؤسّسات مع رعاية القوّة و التخصّص و الأمانة فيهم، و يكون هو مشرفا عليهم هاديا لهم، مراقبا لهم بعيونه و أياديه و مسئولا عن أعمالهم لو تساهلوا أو قصّروا، و يشاور في كل شعبة من الحوادث و الامور الواقعة المهمة، الخواصّ المضطلعين فيها، حيث ان الأمر لا يرتبط بشخص خاصّ حتى يكون الاشتباه فيه قابلا للإغماض عنه، بل يرتبط بشؤون الإسلام و المسلمين جميعا، و قد قال اللّه- تعالى-: «وَ أَمْرُهُمْ شُورىٰ بَيْنَهُمْ.» «1» و اذا كان عقل الكل و خاتم الرسل خوطب بقوله- تعالى-: «وَ شٰاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ» «2» فتكليف غيره واضح و ان تفوّق و نبغ.

7- على العلماء و الفقهاء ان يتدخّلوا في السياسة:

و ليس عدم اطلاع الفقهاء على المسائل السياسية و عدم ورودهم فيها الى الآن عذرا لهم و لا مبرّرا لقعودهم و انزوائهم عن التصدّي للحكومة و شئونها، بل يجب عليهم الورود و الخوض فيها و تعلّمها، ثم ترشيح أنفسهم لما يتمكنون القيام به من شئونها المختلفة، و يجب على الناس انتخابهم و تقويتهم. اذا الولاية و إدارة أمور المسلمين من أهم الفرائض، فانها الوسيلة الوحيدة لإجراء العدالة و تنفيذ سائر الفرائض الاسلامية، فالانزواء عنها و إحالة شئون المسلمين و إدارة أمورهم و بلادهم الى الطواغيت و عملاء الكفر و الفساد ظلم كبير على الإسلام و المسلمين.

ففي رواية سليم بن قيس الآتية عن أمير المؤمنين «ع» انه قال: «و الواجب في حكم اللّه و حكم الإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل، ضالّا كان أو

مهتديا مظلوما

______________________________

(1)- سورة الشورى (42)، الآية 38.

(2)- سورة آل عمران (3)، الآية 159.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 13

كان أو ظالما حلال الدم أو حرام الدم، أن لا يعملوا عملا و لا يحدثوا حدثا و لا يقدموا يدا و لا رجلا، و لا يبدءوا بشي ء قبل ان يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء و السنة، يجمع أمرهم و يحكم بينهم و يأخذ للمظلوم من الظالم حقّه و يحفظ أطرافهم.» «1»

و في صحيحة زرارة الآتية عن أبي جعفر «ع» قال: «بني الإسلام على خمسة أشياء:

على الصلاة و الزكاة و الحجّ و الصوم و الولاية. قال زرارة: فقلت: و أيّ شي ء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل، لأنها مفتاحهن و الوالي هو الدليل عليهن.» «2»

فأوجب الفرائض تعيين الوالي الذي هو مفتاح سائر الفرائض و بيده اجراؤها و تنفيذها.

كيف؟! و قد ذكر الفقهاء أمورا سمّوها أمورا حسبية و قالوا إن الشارع الحكيم لا يرضى باهمالها و تركها، كحفظ أموال الغيّب و القصّر و نحو ذلك، فيجب على الفقهاء من باب الحسبة التصدّي لها. فنقول: هل الشارع الحكيم لا يرضى باهمال الأموال الجزئية التي تكون للصغار و المجانين مثلا، و يرضى باهمال أمور المسلمين و إحالتها الى الكفار و الصهاينة و عملاء الشرق و الغرب؟! هذا.

8- ما أوجب تنفر المسلمين من اسم الحكومة و السياسة:

و الذي أوجب تنفّر المسلمين و لا سيّما علمائهم و فقهائهم الملتزمين بالدين من اسم الحكومة فضلا عن التدخّل فيها و التصدّي لها، و صار سببا لانزوائهم و انعزالهم عن ميدان السياسة و الحكم هو:

1- ما رأوه و شاهدوه من غلبة الطواغيت و الجبابرة طوال القرون المتمادية على البلاد الاسلامية و قهرهم لأهل الحقّ و

إكثارهم من الظلم و الفساد و الترف و الإسراف و إعمالهم للتزويرات و المكايد الشيطانية و القلب للحقائق و الفضائل باسم الحكومة و السياسة، فصار وجه الحكومة مشوّها بذلك عندهم.

______________________________

(1)- كتاب سليم بن قيس/ 182.

(2)- الكافي 2/ 18، كتاب الإيمان و الكفر، باب دعائم الإسلام، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 14

2- و ما صنعه و ارتكبه علماء السوء و طلّاب الدنيا من التقرب الى بلاط سلاطين الجور، و التبرير لظلمهم و جناياتهم، فكتموا الحقائق و قلّبوها لذلك.

3- و ما روّجته و اصرّت عليه أيادي الاستعمار و عملاؤه من انفكاك الدين عن السياسة، و حصر الدين الاسلامي مع سعته و شموله لجميع شئون الحياة- كما سيظهر لك- في بعض العبادات الصورية و المراسيم و الآداب الشخصية.

فصار كل ذلك سببا لحبس الفقهاء منّا و علماء الدين الأبرار أنفسهم في زوايا المدارس و البيوت، و توهّموا أن الاحتياط في الدين يقتضي الانزواء، و هم قد غفلوا عن هذه الفريضة المهمّة التي هي أساس تنفيذ سائر الفرائض، بحيث صار البحث فيها و في فروعها أيضا متروكا في فقه الشيعة الامامية و خلت منه كتبهم و موسوعاتهم الفقهية الا نادرا أو تطفّلا.

فترى المحقّق النراقي- طاب ثراه- مثلا خصّ عائدة من كتابه المسمّى بالعوائد بالبحث في ولاية الفقيه. و هو مع اختصاره لطيف و زين.

و الشيخ الاعظم الانصاري- طاب ثراه- أيضا تعرض لها اجمالا في كتاب البيع تطفلا لمسألة بيع مال اليتيم.

و ألّف فيها المحقق النائيني- قدّس سرّه- رسالة مختصرة سمّاها تنبيه الأمّة. و هي بالنسبة الى عصره كانت رسالة و زينة فريدة.

و تعرّض للمسألة أيضا بنحو الاجمال السيد الأستاذ المرحوم آية اللّه العظمى

البروجردي- قدّس سرّه- أثناء بحثه في صلاة الجمعة المقرّر المكتوب بقلمي القاصر المطبوع في سنة 1378 من الهجرية القمرية. و اسم الكتاب: «البدر الزاهر في صلاة الجمعة و المسافر».

و لكن كلّ هذه الأبحاث كانت أبحاثا اجمالية الى أن بحث فيها السيد الأستاذ الإمام آية اللّه العظمى الخميني- مدّ ظلّه العالي- بالتفصيل بنحو بديع في منفاه في العراق فانتشرت أبحاثه باسم الحكومة الاسلامية بالعربية و الفارسية، و صارت سببا لالتفات المسلمين في ايران الاسلامية الى أهمية المسألة و وسيلة لرشدهم و وعيهم السياسي فقاموا و ثاروا على طاغوت ايران بقيادته الحكيمة القاطعة حتى نجحوا و ظفروا بحمد اللّه تعالى و منّته مع قلّة الوسائل و كثرة المشاكل. هذا.

و ان كنت ترى بعض النواقص و الاشكالات في ادارة الشؤون فعلا فانما هي من لوازم

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 15

الثورة و التحوّل، و مسبّبة عن بقاء بعض الجذور الفاسدة من نظام الطاغوت في المؤسسات و الدوائر، و عن عدم التوفيق من قبل لتهية المقدمات اللازمة للدولة الإسلامية الجديدة.

و ليست ادارة مثل ايران في هذا العصر المتلاطم مع هجمة الأجانب و عملائهم الداخلية و الخارجية، و طول الحرب المفروضة علينا من قبلهم أمرا مرنا سهلا. كما ان تهية المقدمات و العناصر اللازمة أيضا تحتاج الى فراغ و مرور زمان، و الى التعاضد و التعاون. فعلى العلماء و الفضلاء الملتزمين و الأساتذة و الشبّان المثقفين في المجالات المختلفة ان يقوموا للّه و يصرفوا جميع طاقاتهم في تعلم سياسة البلاد و العباد و الاطلاع على مسائل الزمان و حاجاتها و احكام القضاء و فنون الاقتصاد و احكامها و سائر المسائل اللازمة حتى ترتفع بهممهم

و نشاطاتهم النواقص و المشاكل.

فاللّه- تعالى- لا يقبل اعتذارنا بعدم العلم و الاطلاع بعد ما يحكم العقل و الشرع بأهمية الموضوع، و يحكم العقل بوجوب المقدمة للواجب و أن أهمّيتها بأهميّة ذيها. و ليكن الغرض معالجة مشاكل العصر بنظام الإسلام لا تطبيق نظام الإسلام على مشاكل العصر، و بينهما فرق واضح.

اللهم فوفقنا للاهتمام بمرضاتك و عدم الابتلاء بالتواكل و التخاذل، آمين رب العالمين.

9- سبب تأليف الكتاب و إشارة إجمالية الى أبوابه و فصوله:

لمّا انجرّ بحثنا في سهم العاملين من مباحث الزكاة الى مسألة ولاية الفقيه العادل البصير بالأمور في عصرنا الحاضر، اعني عصر غيبة الامام المنتظر- عجل اللّه تعالى فرجه الشريف- اقترح عليّ بعض الحضّار البحث في هذه المسألة المهمة التي صارت مطرحا للأنظار في المحافل المختلفة بعد نجاح الثورة في ايران. و كان يمنعني من اجابة مسئولهم سعة دائرة الموضوع و كثرة المشاغل اليومية، و لكن رأيت أن الميسور لا يترك بالمعسور، و ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه، فتعرضت للبحث فيها بقدر الوسع. و كان من المناسب جدّا أن أتعرّض في المسائل المطروحة المعنونة، لكلمات العلماء و المصنفين من الشرق و الغرب في هذا المجال، أعني مسألة الحكومة و الدولة، و لكن الوقت لم يساعدني على الرجوع اليها و التعرض لها فقصرت نظري على اصل عنوان المسائل و طرحها و ذكر

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 16

الآيات و الروايات المناسبة لها و ذكر بعض الكلمات من علمائنا محيلا إكمالها و تفصيلها الى ذوي الوسع و الفراغ من أهل الفضل و الكمال.

و كنت على الرسم و العادة أقيّد ما ألقيه في المحاضرات بالكتابة حتى صار بصورة هذا الكتاب الذي بين يديك مع تفاوت ما عن الدروس

في الترتيب و في بعض المطالب و لكن الأساس واحد.

و يشتمل الكتاب على مقدمة و ثمانية أبواب و خاتمة:

1- أشرنا في المقدمة اجمالا الى ضرورة الحكومة و أنحائها الدارجة، و الحكومة الاسلامية و ولاية الفقيه و أبواب الكتاب و فصوله.

2- و بينّا في الباب الأول ما يقتضيه الأصل العملي الفقهي في مسألة الولاية مع قطع النظر عن الأدلّة، و هو باب مختصر جدّا.

3- و في الباب الثاني ثبوت الولاية للنبي الأكرم «ص» و للأئمة المعصومين «ع» عندنا بنحو الإجمال، و ختمناه بتنبيهات نافعة. و لا يخفى ان محل بحثها الكتب الكلامية و بحثنا في الكتاب بحث فقهي و لكن لمّا لم يصحّ خلوّ الكتاب الباحث في الحكومة الإسلامية و ولاية الفقيه عن التعرض لولايتهم- عليهم السلام- التي هي أساس الحكومة الإسلامية تعرضنا لها بنحو الاختصار.

4- و عقدنا الباب الثالث للبحث تفصيلا حول مسألة الحكومة و وجوب اقامة الدولة الاسلامية العادلة في جميع الأعصار، و اشتمل هذا الباب على فصول أربعة:

تعرضنا في الفصل الاول منها لكلمات بعض العلماء المدعين للإجماع في المسألة، و في الفصل الثاني للأبواب المختلفة من الفقه الاسلامي من الأخبار و الفتاوى المشتملة على لفظ الامام أو الوالي أو السلطان أو الحاكم أو بيت المال أو السجن أو السيف أو نحو ذلك مما يدلّ على القدرة و الحكومة و كون تشريع الأحكام في الأبواب المختلفة من فقه الإسلام على أساس وجود الدولة العادلة و الحكومة الاسلامية و أنها داخلة في نسج الإسلام و نظامه. و يشتمل هذا الفصل على أربعة عشر فصلا. هذا. و ذكرنا في الفصل الثالث من هذا الباب عشرة أدلّة لإثبات وجوب إقامة الدولة العادلة في جميع

دراسات في ولاية

الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 17

الأعصار و وجوب الاهتمام بها على كل مسلم، بحيث يرجى ان يقتنع بها كل منصف. ثم تعرضنا في الفصل الرابع للأحاديث الموهمة وجوب السكوت و السكون في عصر الغيبة و عدم جواز التحرك لإقامة الدولة، و أوضحنا المقصود منها.

5- و عقدنا الباب الرابع لبيان ما يشترط في الحاكم الإسلامي من الشرائط و المواصفات بحكم العقل و الكتاب و السنّة، و ذكر ما اختلف في اشتراطه فيه. و يشتمل هذا الباب على اثني عشر فصلا.

6- و تعرضنا في الباب الخامس لما تنعقد به الإمامة و الولاية و كيفية ثبوت الولاية للفقيه في عصر الغيبة و أنها هل تكون بالنصب العامّ من قبل الأئمة «ع» أو بالانتخاب من قبل الأمّة لمن وجد الشرائط. و يشتمل هذا الباب على ستة فصول. و الفصل السادس منها فصل طويل يشتمل على ستّ عشرة مسألة مهمة جدّا ينبغي ملاحظتها.

و الأخيرة منها مسألة الكفاح المسلّح ضد الإمام الفاقد للصلاح، و انه هل يجوز أم لا.

7- و تعرضنا في الباب السادس لحدود ولاية الفقيه و اختياراته و وظائف الإمام، و السلطات الثلاث، و واجبات الحاكم الإسلامي تجاه الإسلام و الأمة و واجبات الأمة تجاهه. و يشتمل هذا الباب على خمسة عشر فصلا. و أطول الفصول و أهمها الفصل الرابع المتعرض للسلطات الثلاث.

8- و ذكرنا في الباب السابع بعض الآيات و الروايات الواردة في سيرة الإمام و أخلاقه في معاشرته و في مطعمه و ملبسه و نحو ذلك. و فيه فصول ثلاثة. و هو باب لطيف ينبغي للأئمة و الحكام ملاحظتها.

9- و ذكرنا في الباب الثامن المنابع المالية للدولة الإسلامية. و قد تعرضنا لها بنحو الإجمال

في فصول.

10- و ذكرنا في الخاتمة كتاب امير المؤمنين «ع» الى مالك حين ولّاه مصر،

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 18

لاشتماله على مطالب مهمّة في الحكومة و ليكون ختام كتابنا مسكا.

10- طريقتنا في البحث و سيرتنا فيه:

اعلم أن الطريق الذي سلكناه في البحث في مسألة ولاية الفقيه يتفاوت مع ما سلكه الأعاظم المتعرضون لها؛ فانهم يفرضون أولا ثبوت الولاية للفقيه الجامع للشرائط، ثم يتفحصون عما يمكن ان يستدل به لهذا المطلوب المفروض؛ فيذكرون مقبولة عمر بن حنظلة مثلا و غيرها من الأخبار و يتعبون أنفسهم في اثبات دلالتها و ردّ المناقشات الواردة عليها. و لو فرض قوة المناقشات و عدم القدرة على ردّها، فلا محالة يتزلزل عندهم بنيان ولاية الفقيه.

و أما نحن فنثبت أولا ضرورة اصل الحكومة و الدولة للمجتمع في جميع الأعصار و أن الحكومة و الإمامة داخلة في نسج الإسلام و نظامه، و ذلك بالتتبع في متون الكتاب و السنة القويمة و فقه الفريقين. و ثانيا نذكر الشروط و المواصفات المعتبرة في الحاكم الإسلامي بحكم العقل و الكتاب و السنة، ثم نلاحظ ان هذه الشروط و المواصفات لا تنطبق الّا على الفقيه العادل الواجد للشرائط- كما سيأتي- فتثبت ولايته اجمالا و أنه المتعين لها قهرا، ثم نبحث في كيفية انعقاد الولاية و طرقه و أنها هل تنحصر في النصب من العالي فقط أو يثبت بالانتخاب أيضا و لكن في صورة عدم النصب؛ فان ثبت الدليل على نصب الفقيه فهو، و الّا وجب على الأمّة انتخابه، و لا يجوز انتخاب غيره و لا تنعقد له الامامة لفقد الشرائط المعتبرة.

فالطريق الذي سلكناه في المسألة يشبه طريق الفيلسوف في المسائل العقلية الدينية، كإثبات الصانع و صفاته.

و طريق الاصحاب فيها يشبه طريق المتكلم في هذه المسائل، كما لا يخفى على أهله.

و قد أشرنا سابقا الى أن البحث في جميع مسائل الحكومة و شئونها بالتفصيل، و التعرض لكلمات الأعلام و المحققين من علماء الإسلام و علماء الشرق و الغرب في هذا المجال مما يحتاج الى فراغ كثير لا يتيسّر لي فعلا.

فالذي اهتممت به في هذا الكتاب هو التعرض لأصل ضرورة الحكومة في جميع

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 19

الأعصار، ثم التعرض لشرائط الحاكم و طرق تعيينه و انتخابه و بيان وظائف الامام و سيرته و السلطات الثلاث و نحو ذلك، و ذكر الآيات و الروايات التي عثرت عليها في هذه المجالات. نعم، ربما أتعرض لبعض كلمات علماء الإسلام بالمناسبة.

و كان بنائي في كل موضوع على جمع الآيات و الروايات الواردة فيه من طرق الفريقين. و لم أكن أتعرض لصحة الروايات و سقمها من جهة السند الّا في بعض الموارد اللازمة. اذ كان الغرض المهم جمع الأحاديث مهما أمكن، ليسهل تناولها للطالبين. و ربّ حامل فقه الى من هو أفقه منه.

و ليست مسألة الحكومة الاسلامية أمرا يختصّ بالشيعة الامامية، بل هي ضرورة لجميع المسلمين، فيجب البحث فيها في إطار فقه الإسلام بسعته الشاملة لجميع المذاهب.

و قد استقرت سيرة كثير من فقهائنا الإمامية في كتبهم الفقهية كالسيد المرتضى في الناصريات و الانتصار، و الشيخ الطوسي في الخلاف، و المحقق في المعتبر، و العلامة في التذكرة و المنتهى على التعرض لفتاوى فقهاء السنة و رواياتهم في المسائل الفقهية و الأصولية، و على ذلك استقرت سيرة أستاذنا المرحوم آية اللّه العظمى البروجردي- أعلى اللّه مقامه- أيضا.

و ربما كانت الأخبار الواردة

عن أئمتنا- عليهم السلام- في المسائل المختلفة ناظرة الى الروايات و الفتاوى المشهورة في أعصارهم من فقهاء السنة، و فيها قرائن على ما هو المغزى و المقصود من رواياتنا.

و في كثير من المسائل المطروحة في بحثنا قد تكثرت الأخبار الى حدّ يحصل العلم العادي اجمالا بصدور بعضها، و نعبّر عن ذلك بالتواتر الإجمالي. و يكفي هذا لا ثبات أصل الموضوع المبحوث فيه، و ان لم يصحّ الاستناد الى كل واحد واحد منها فيما يخصه من المضمون.

و يظهر من شيخ الطائفة جواز العمل بالأخبار الواردة من طرق السنة عن امير المؤمنين «ع» و الأئمة من ولده «ع» اذا لم يكن هنا من طرقنا أخبار تخالفها او اجماع ينافيها. و الظاهر وجود هذا الملاك فيما رووه عن النبي «ص» أيضا.

قال في العدّة:

«فأمّا اذا كان مخالفا في الاعتقاد لأصل المذهب و روى مع ذلك عن الأئمة «ع»

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 20

نظر فيما يرويه، فان كان هناك من طرق الموثوق بهم ما يخالفه، وجب اطراح خبره، و ان لم يكن هناك ما يوجب اطراح خبره و يكون هناك ما يوافقه وجب العمل به.

و ان لم يكن هناك من الفرقة المحقّة خبر يوافق ذلك و لا يخالفه و لا يعرف لهم قول فيه وجب أيضا العمل به، لما روي عن الصادق «ع» انه قال: «اذا أنزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روي عنّا فانظروا الى ما رووه عن عليّ «ع» فاعملوا به.»

و لأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث و غياث بن كلّوب و نوح بن درّاج و السكوني و غيرهم من العامّة عن أئمتنا- عليهم السلام-

فيما لم ينكروه و لم يكن عندهم خلافه.» «1» هذا.

و نذكر في كل مسألة أولا الآيات الشريفة الدالة عليها، ثم الأخبار المروية عن النبي «ص» من طرق الشيعة كانت أو من طرق السنة، ثم ما روي عن أبي الأئمة أمير المؤمنين «ع» ثم ما روي عن الأئمة من ولده «ع». و ربما يتفق التخلف عن هذا الترتيب لنكتة خاصة تظهر لمن تأمّل. و لا أتعرض لتفسير الآيات و شرح الأحاديث إلّا في بعض الموارد اللازمة حذرا من طول الكتاب. و لو كان لسان بعض الروايات شرح بعض الآيات المذكورة كان المناسب لا محالة تقديمه على غيره من الروايات فراعيت هذه النكتة أيضا. و مع ذلك كلّه فلا أدّعي عدم النقص في الترتيب أو في بيان المطالب أو عدم الخطأ و الاشتباه في الاستنباط من الأدلّة، فان الانسان محلّ الخطأ و النسيان.

11- أهمية فقه الدولة و المسائل العامّة الاجتماعية:

و اعلم أن البحوث الفقهية عند المسلمين من الشيعة و السنة قد طرأ عليها في العصور الأخيرة نقصان فاحشان: نقص في كميتها، حيث قلّت الحوزات و المعاهد الإسلامية الدينية و الفقهاء الحذّاق في البلاد بسعي من الاستعمار و عملائه. و نقص في نوعيّتها، حيث تركّزت البحوث على مسائل العبادات و الشؤون الشخصية و انحسرت عن الشؤون

______________________________

(1)- العدّة 1/ 379.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 21

العامّة للأمة الاسلامية تبعا لانحسار حكم الإسلام عن هذه الشؤون.

فنرجو من شبّان المسلمين الملتزمين ممن له قريحة و استعداد ان يقلّوا العرجة على الدنيا و زخارفها و يخلصوا وجوههم للّه، فيقبلوا الى المعاهد الدينية و الحوزات العلمية بنيّات صادقة طاهرة و همم عالية، و لا يقتصر الطّلاب و الفضلاء على تعلّم المسائل الفردية، بل

يبحثوا فقه القضايا العامة أيضا من قبيل إقامة الدولة و حدودها و شرائطها، و فقه الجهاد و الدفاع، و علاقات المسلمين مع المسلمين و مع الكفار و الأقليّات غير المسلمة، و فقه الأنفال و الأراضي و الثروات، و الحدود و التعزيرات و القضاء و الشهادات.

فكم يتفق مسألة عامّة مهمّة لا نجد من يتقنها و يحلّ مشكلتها مع وجود المباني الأساسية لها في الكتاب و السنة و كتب العلماء و الفقهاء الماضين. و هذا نقص و عيب بيّن واضح.

و في الكافي بسند لا بأس به عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «اذا أراد اللّه بعبد خيرا فقّهه في الدين.» «1»

و بسند صحيح عن أبان بن تغلب، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «لوددت ان أصحابي ضربت رءوسهم بالسياط حتّى يتفقهوا.» «2»

و عن أبي حمزة، عن علي بن الحسين «ع» قال: «لو يعلم الناس ما في طلب العلم لطلبوه و لو بسفك المهج و خوض اللجج.» «3»

و لا يخفى ان أفضل العلم بعد معرفة اللّه علم الفقه الذي به يعرف أحكام اللّه- تعالى- في جميع الشؤون. اللّهم فوفقنا للتفقه في دينك و العمل بما يرضيك.

12- البحث العلمي الحرّ لا يضرّ بالوحدة، بل يؤكدها:

و في ختام المقدمة ألفت نظر القارئ الكريم الى نكتة مهمّة، و هي ان البحث

______________________________

(1)- الكافي 1/ 32، كتاب فضل العلم، باب صفة العلم و فضله و فضل العلماء، الحديث 3.

(2)- الكافي 1/ 31، كتاب فضل العلم، باب فرض العلم و وجوب طلبه و الحثّ عليه، الحديث 8.

(3)- الكافي 1/ 35، كتاب فضل العلم، باب ثواب العالم و المتعلّم، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 22

الفقهي و العلمي الأصيل يخدم قضية وحدة المسلمين و لا

يضرّ بها، كما قد يتوهم. فان الواجب على المسلمين الأحرار أن يعرف بعضهم معارف الآخرين و فقههم، لا أن يكتم فقهاء هذا المذهب أو ذاك ما يرونه صحيحا و حقّا، فلا يتوقع من باحث شيعي مثلا أن يكتم في البحث العلمي ما يراه حقّا.

و ليس معنى الوحدة الاسلام ية كتمان الحقائق و العلوم، بل يعنى بها تجلّي المشاركات الأصلية الموجودة بينهم و المبادلات العلمية و تشديد العلاقات السياسية و الاقتصادية و حفظ الآداب و الحرم، و جهادهم معا ضدّ الكفر العالمي المسيطر على بلادنا و شئوننا. فديننا واحد و نبيّنا واحد و كتابنا واحد و قبلتنا و مشاعرنا واحدة، و نشارك في الكتاب و السنة. فيجب المراقبة لأن لا يستفيد العدوّ من إلقاء الخلافات و إيجاد الضغائن. فهذا هو عمدة وسيلتهم للسلطة علينا، كما حكي عن أحد رؤساء دولة بريطانيا أنه قال: «فرّق تسد».

و قد استقرت سيرة السيد الأستاذ المرحوم آية اللّه العظمى البروجردي- طاب ثراه- في بحوثه الفقهية على المقارنة بين فقه المذاهب اجمالا، و نحن أيضا نقفو اثره فنتعرض في بحثنا لفتاوى علماء السنة و رواياتهم. و نرجو من إخواننا السنة أيضا ان يلتفتوا الى فقه الشيعة الذي هو فقه العترة الطاهرة، و لا يلتفتوا الى القاءات الأعداء و ضوضاء الجهال و أهل الشغب.

و بالجملة أوصي أهل البحث و النظر من الفريقين بسعة النظر و حفظ الأدب في الكلام و القلم، و أن لا يقعوا في حبائل الشياطين من الجن و الإنس و النفس الأمّارة بالسوء.

13- تذكار و اعتذار:

و أقول هنا مذكّرا انه قد حصل لنا بالتجربة انه كلّما وقع البحث في هذا السنخ من المسائل الأساسية الموجبة لوعي المسلمين و رشدهم السياسي، و انتشر فيها

مصنّف، سعى عملاء الاستعمار و الأيادي الجاهلة الساذجة أو الأجيرة الخبيثة في إشاعة الدعايات المسمومة في البلاد الاسلامية و المحافل الدينية و العلمية، و في افساد الجوّ

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 23

و البيئة على المصنف و المصنف.

و لكنّي أوصي الإخوان من الفضلاء الكرام و الأعزّة الأعلام أن لا يصدّهم هذا النوع من الضوضاء عن العمل بالوظائف العلمية و التحقيقات الإسلامية، و ان لا يبادروا الى الاعتراض و المناقشة في مطلب أو جملة من هذا الكتاب إلّا بعد الإحاطة بجميع أبوابه و فصوله، فان المباحث و المطالب فيه متشابكة و مرتبطة غاية الارتباط، و ربما أبدينا نظرا في مقام و أقمنا الدليل عليه في باب آخر، و ربما نذكر أمرا ايرادا و احتمالا لا جزما و اعتقادا، و لا ينضج المطالب و لا يبرهن عليها إلّا في خلال الايرادات و الردود، هذا.

و مع ذلك كلّه فالإنسان محل الخطأ و النسيان، و كفى بالمرء نبلا ان تعدّ معايبه.

و أرجو من الفضلاء الكرام أن يصرفوا طاقاتهم في تنقيح هذه المسائل، فانها مما تعم به البلوى. و من اللّه- تعالى- استمدّ و عليه التّكلان.

و أنا العبد المحتاج إلى رحمة ربّه الهادى، حسينعلى المنتظرى النجف آبادى غفر اللّه له و لوالديه و جعل مستقبل أمره خيرا من ماضيه بجاه محمد و آله الطاهرين. 15 جمادى الأولى 1408 ه. ق.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 25

الباب الأوّل فيما يقتضيه الأصل، و حكم العقل في المسألة إجمالا

اشارة

مع قطع النظر عمّا ورد في الكتاب و السنة

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 27

«مقتضى الأصل و حكم العقل في المسألة»

قالوا: إنّ الأصل عدم ولاية أحد على أحد

و عدم نفوذ حكمه فيه، فان أفراد الناس بحسب الطبع خلقوا أحرارا مستقلين. و هم بحسب الخلقة و الفطرة مسلّطون على انفسهم و على ما اكتسبوه من أموالهم بإعمال الفكر و صرف القوى. فالتصرف في شئونهم و أموالهم و التحميل عليهم ظلم و تعدّ عليهم. و كون أفراد الناس بحسب الاستعداد و الفعلية مختلفين في العقل و العلم و الفضائل و الأموال و الطاقات و نحوها لا يوجب ذلك ولاية بعضهم على بعض و تسلطه عليه و لزوم تسليم هذا البعض له.

و في كتاب أمير المؤمنين «ع» لابنه الحسن- عليه السلام: «لا تكن عبد غيرك و قد جعلك اللّه حرّا.» «1»

و قال- عليه السلام- أيضا: «أيها الناس، ان آدم لم يلد عبدا و لا أمة، و ان الناس كلهم أحرار و لكن اللّه خوّل بعضكم بعضا.» «2»

اللهم الّا ان يناقش بان الولاية على الناس تدبير لأمورهم و جبر لنقصهم و هذا

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 929؛ عبده 3/ 57؛ لح/ 401، الكتاب 31.

(2)- الكافي 8/ 69 (الروضة) الحديث 26.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 28

غير الاستعباد، فتأمّل.

هذا ما ذكروه في مقام تأسيس الأصل في مسألة الولاية، و لكن هنا أمور أخر أيضا في قبال ذلك الأصل يحكم بها العقل نشير اليها إجمالا و التفصيل في كل منها يحال الى محله. و لعله يوجد لهذه الأمور نحو حكومة على هذا الأصل:

[الأمور الحاكمة على هذا الأصل]

الاول: [يجب علينا إطاعة الأنبياء بما هم وسائط أمر اللّه]

انه لا شك في ان اللّه- تعالى- خالق لنا و لكل شي ء مادة و صورة، جوهرا و عرضا، و بيده التكوين و التنمية و التربية و الهداية، و له ان يتصرف في جميع شئون خلقه، و هو عليم بما يصلح

خلقه و عباده في دينهم و دنياهم و حالهم و مستقبلهم، حكيم في الخلق و التشريع لا يحكم الّا بما يكون صلاحا لنا و لنظام الوجود. و الانسان في قباله مهما بلغ من العلم و المعرفة عاجز قاصر عن ان يحيط بطبائع الأشياء و لطائف وجوده و مصالح نفسه في النشأتين.

فللّه الخلق و الأمر، و له أن يأمر بما يراه صلاحا و ينهى عمّا يراه ضررا و فسادا، و على الانسان ان يخضع للّه و للشريعة الإلهية بقوانينها العادلة الحكيمة في شتى مراحل حياته، يحكم بذلك العقل و يذمّه على المخالفة، و لا يشارك اللّه في ذلك أحد من خلقه.

قال اللّه- تعالى- في كتابه العزيز: «إِنِ الْحُكْمُ إِلّٰا لِلّٰهِ، يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفٰاصِلِينَ.» «1»

و قال: «ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللّٰهِ مَوْلٰاهُمُ الْحَقِّ، أَلٰا لَهُ الْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحٰاسِبِينَ.» «2»

______________________________

(1)- سورة الأنعام (6)، الآية 57.

(2)- سورة الأنعام (6)، الآية 62.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 29

و قال: «مٰا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لٰا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً.» «1»

و قال: «أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءَ، فَاللّٰهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَ هُوَ يُحْيِ الْمَوْتىٰ وَ هُوَ عَلىٰ كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ* وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللّٰهِ، ذٰلِكُمُ اللّٰهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ.» «2»

و قال: «فَالْحُكْمُ لِلّٰهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ.» «3»

و قال: «وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ ... وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ ... وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ.» «4»

الى غير ذلك من الآيات الشريفة.

و أحكامه- تعالى- انما تصل إلينا بالوحي الى

رسله و انبيائه، فيجب علينا اطاعتهم بما انهم وسائط أمره و مبلّغوا رسالاته، و لكن إطاعتهم من هذه الجهة ليست امرا وراء إطاعة اللّه- تعالى-. و الأوامر الصادرة عنهم في هذا المجال ليست مولوية بل أوامر ارشادية نظير أوامر الفقيه الصادرة عنه في مقام بيان احكام اللّه- تعالى- فكأنها إخبار بصورة الانشاء.

الثاني: [حكم العقل بحسن إرشاد الغير]

ان العقل يحكم بحسن ارشاد الغير و الإحسان اليه، و يحكم أيضا بوجوب الإطاعة لمن يرشد الانسان و يريه صلاحه، بعد ما حصل للإنسان العلم بصدقه و صلاحه. و العقلاء يذمّون الانسان لتركه المصالح المهمة التي أراها غيره و أرشده اليها و ان كان من قبل انسان مثله.

______________________________

(1)- سورة الكهف (18)، الآية 26.

(2)- سورة الشورى (42)، الآية 9 و 10.

(3)- سورة المؤمن (40)، الآية 12.

(4)- سورة المائدة (5)، الآية 44 و 45 و 47.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 30

الثالث: [يجب شكر المنعم و إطاعة الأنبياء و الأئمة شكر لهم]

ان العقل يرى تعظيم المنعم و شكره حسنا و ترك ذلك قبيحا. و لو فرض ان ترك اطاعته صار سببا لعقوقه و اذاه فالعقلاء يذمون الانسان على تركها. اللهم الا ان يزاحمها واجب أهم. و لعل هذا أيضا أحد الملاكات لإلزام العقل بوجوب اطاعة اللّه- تعالى- فيما أمر به أو نهى عنه. بل لعلّ وجوب اطاعة الوالدين أيضا من هذا القبيل، فانهما من أولياء النعم. فالعقلاء مع قطع النظر عن حكم الشرع أيضا يرون حسن اطاعتهما بل لزومها لذلك، فيكون حكم الشرع أيضا بهذا الملاك. و اذا كان هذا حكم الوالد الجسماني فالآباء الروحانيون و أولياء النعم المعنوية التي بها انسانية الانسان هم كذلك بطريق أولى. فيحسن عقلا بل يجب اطاعة الانبياء و أئمة العدل بهذا الملاك.

الرابع: [الانسان مدني بالطبع يحتاج إلى قوانين]

ما مرّ في المقدمة اجمالا و يأتي بالتفصيل من ان الانسان مدني بالطبع و لا يتيسّر له إدامة حياته الّا في ظلّ التعاون و الاجتماع. و لازم الاجتماع غالبا التضادّ في الأهواء و التضارب و الصراع. فلا محالة يحتاج الى نظم و قوانين تحدّد الحريات و تراعي مصالح الجميع، و الى حاكم ينفذ هذه القوانين و يدبّر الأمور و يرفع المظالم.

و واضح ان الحكومة لا تتم و لا تستقر الّا بإطاعة المجتمع للحاكم، فتجب الاطاعة بحكم العقل، و لا سيما اذا باشروا تعيينه و عاهدوه على ذلك، اذ الفطرة حاكمة بلزوم الوفاء بالعهد. هذا.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 31

و يتحصل مما ذكرناه في هذا الباب انه ان اعتبرنا ان الأصل في المسألة عدم ولاية أحد على أحد فيمكن ان يقال في قبال ذلك ان حكم العقل بوجوب إطاعة اللّه، و اطاعة المرشد

الصادق، و تعظيم المنعم المحسن، و اطاعة الحاكم العادل الحافظ لمصالح المجتمع كلها اصول حاكمة على ذلك الاصل. فتثبت الولاية بالاخرة بحكم العقل.

و لأحد ذاق بعض حلاوة المعرفة ان يعتبر الاصل في المسألة بطريق آخر و لعله أوفق بالواقع و الحقيقة، و هو ان الموجودات ما سوى اللّه و منها الانسان بشراشر وجوداتها و هوياتها و ظواهرها و أعماقها و جواهرها و أعراضها أظلال لوجود الحق متدلّيات بذاته و هو مالك لها و ولي عليها تكوينا و ذاتا، فلا نفسية لها في قباله و لا يصحّ اعتبارها كذلك فانه على خلاف الواقع. و مقتضى الولاية الذاتية و الملكية التكوينية وجوب التسليم له و لأوامره و حرمة مخالفته بحكم العقل. و يتفرع على ذلك وجوب التسليم و الانقياد في قبال جميع الولايات المجعولة من قبله بمراتبها و حدودها: من ولاية الانبياء و الأئمة «ع» و الحكّام و الوالدين و المنعم و المرشد، فان الجميع يرجع الى ولاية اللّه و اطاعته، فتدبر.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 33

الباب الثّانى في ثبوت الولاية للنبي الأكرم و للأئمة المعصومين سلام اللّه عليهم اجمعين

اشارة

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 35

«ثبوت الولاية للنبى «ص» و للأئمة المعصومين «ع»»

[ولايتهم تكون من مصاديق الحكومة التي تكون ضرورية للمجتمع]

لا يخفى ان ولايتهم تكون من مصاديق الولاية و الحكومة التي أشرنا في المقدمة الى كونها ضرورية للمجتمع في جميع الأعصار و نتعرض لأدلّتها بالتفصيل في الباب الثالث و لشرائطها في الباب الرابع. و لعله كان المناسب لأجل ذلك تأخير البحث فيها عن البابين. و لكن لمّا كان النبي الأكرم «ص» هو المؤسّس للحكومة الاسلامية و قد فوّضها عندنا الى الأئمة المعصومين «ع» عندنا، و الفقهاء في عصر الغيبة نوّاب عنهم في ذلك اقتضى تقدّمهم في هذا الشأن و كذا شرفهم و حرمتهم تقديم البحث في ولايتهم اجمالا، و التفصيل فيه موكول الى الكتب الكلامية و كتب الاحتجاج:

فنقول: قد أشرنا الى ثبوت الولاية للّه- تعالى- تكوينا و تشريعا، و ان العقل يحكم بوجوب اطاعته و حرمة مخالفته، و لا يشاركه في ذلك احد من خلقه اللّهم الّا ان يفوض هو مرتبة من الولاية التشريعية الى غيره. فنقول: يظهر من الكتاب و السنة انه- تعالى- فوّض مرتبة من الولاية الى رسول اللّه «ص» و الى بعض الرسل السابقين و كذا الى الأئمة المعصومين «ص» عندنا. و لهذه الجهة وجبت اطاعتهم في أوامرهم المولوية السلطانية الصادرة عنهم بإعمال الولاية. و هذه الاطاعة غير وجوب

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 36

اطاعتهم «ع» في مقام بيان احكام اللّه- تعالى-، فان أوامرهم في هذا المقام أوامر ارشادية محضة لا اطاعة لها سوى اطاعة اللّه.

[الآيات الدالة على ولاية بعض الانبياء أو النبي الأكرم أو الأئمة «ع»]

اشارة

فلنذكر بعض الآيات الدالة على ولاية بعض الانبياء أو النبي الأكرم أو الأئمة «ع» بشرح مختصر:

الآية الاولى: [آية الابتلاء]

قال اللّه- تعالى-: «وَ إِذِ ابْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، قٰالَ: إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً. قٰالَ: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي، قٰالَ: لٰا يَنٰالُ عَهْدِي الظّٰالِمِينَ.» «1»

و في اصول الكافي عن الصادق «ع»: «ان اللّه- تبارك و تعالى- اتخذ ابراهيم عبدا قبل ان يتخذه نبيّا، و ان اللّه اتخذه نبيّا قبل ان يتخذه رسولا، و ان اللّه اتخذه رسولا قبل ان يتّخذه خليلا، و ان اللّه اتخذه خليلا قبل ان يجعله اماما. فلما جمع له الأشياء قال: «انّي جاعلك للناس إماما.» قال: فمن عظمها في عين ابراهيم قال: و من ذرّيّتي. الحديث.» «2»

فمن هذا الحديث و من تعبير اللّه- تعالى- عن الامامة بالعهد و اضافته الى نفسه و قوله: «انّي جاعلك» يظهر أهمية مقام الإمامة و انها عهد من اللّه بينه و بين من اصطفاه لذلك. و بجعله- تعالى- ابراهيم إماما صار قدوة مفترض الطاعة بحسب الوجدان و الفطرة و يرجع مخالفته الى مخالفة اللّه- تعالى-.

______________________________

(1)- سورة البقرة (2)، الآية 124.

(2)- الكافي 1/ 175، كتاب الحجة، باب طبقات الأنبياء و الرّسل و الأئمة «ع»، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 37

الآية الثانية: [آية الخلافة]

قال اللّه- تعالى-: «يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ.» «1»

فالمستفاد من الآية ان داود مع انه كان نبيّا لو لم يجعله اللّه خليفة له لم يحقّ له الحكم المولوي و لم يجب التسليم لحكمه، و لكن بعد ما جعله خليفة لنفسه صار وليّا و حقّ له الحكم بين الناس. و لذا فرّعه بالفاء. نعم، نبوته تقتضي وجوب إطاعته فيما يأتي به من اللّه و لكن إطاعته في هذا المقام ليست سوى إطاعة اللّه كما مرّ.

الآية الثالثة: [آية الأولوية للنبيّ ص]

اشارة

و قال في سورة الأحزاب في حق نبيّنا «ص»: «النَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَ أَزْوٰاجُهُ أُمَّهٰاتُهُمْ، وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهٰاجِرِينَ.» «2»

فنبوّته «ص» غير أولويته بالتصرف.

و الآيات الدالة على ولايته «ص» من قبل اللّه- تعالى- كثيرة منها هذه الآية.

و يحتمل في معناها وجوه:
الاول: أولوية النبي و تقدّمه على النفس في جميع الأمور،

بمعنى ان كلّ ما يراه المؤمن لنفسه من الحفظ و المحبّة و الكرامة و إنفاذ الإرادة فالنبي أولى بجميع ذلك من

______________________________

(1)- سورة ص (38)، الآية 26.

(2)- سورة الأحزاب (33)، الآية 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 38

نفسه و عليه ان يرجح جانب النبي على جانب نفسه في جميع المراحل. فلو توجّه شي ء من المخاطر الى نفس النبي فعلى المؤمن ان يقيه بنفسه و ان يكون احبّ اليه من نفسه و اكرم. و لو دعاه النبي الى شي ء و دعته نفسه الى خلافه فعليه أن يقدم ما يريده النبي و يترك هوى نفسه مطلقا. فهو أولى به من نفسه في الأمور الشخصية و الاجتماعية و الدنيوية و الأخروية التكوينية و الاعتبارية، كبيع ماله و طلاق زوجته و نحو ذلك.

الثاني: اولويته و تقدّمه في كل ما يشخّصه من المصلحة للمؤمنين

، لأنه أعلم بمصالحهم و أحقّ بتدبيرهم، فيكون حكمه و ارادته أنفذ عليهم من ارادة انفسهم و يجب عليهم ان يطيعوه في كل ما امر به من الأمور الاجتماعية و الفردية.

و بعبارة أخرى كل ما يكون للإنسان سلطة و ولاية بالنسبة اليه، من شئون النفس و المال، فولاية النبي «ص» بالنسبة اليها أشدّ و أقوى. فكما ان الأب لعقله و رشده جعل وليا على الصغير بحسب السن أو العقل، فكذلك النبي «ص» يكون لجميع المؤمنين بمنزلة الأب المشفق لولده، العالم بما فيه صلاحهم. فله التصرف في جميع شئونهم، و يجب عليهم التسليم له و تقديم حكمه على هوى انفسهم. بل نسبة الأمّة اليه كأنّها نسبة العبيد الى الموالي. فتصرفه في نفوسهم و أموالهم نحو تصرف في مال نفسه.

و لا يخفى اختصاص ذلك على القول به بما يجوز للمؤمن ارتكابه بنفسه، و

له الولاية و السلطة بالنسبة اليه شرعا. فلا يعمّ ما لا يجوز شرعا من التصرفات، كقتل النفس و تبذير المال و اجراء العقود الفاسدة و نحو ذلك. و بالجملة المتبادر من الآية اولوية النبي «ص» في الأمور التي صحّ للمؤمنين التصدّي لها بالنسبة الى أموالهم و نفوسهم. فلا تعم المحرمات الشرعية حتى تجعل الآية مخصصة لأدلة المحرمات و العقود الفاسدة.

الثالث: أولويته بالنسبة الى خصوص الأمور العامة الاجتماعية،

بمعنى

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 39

انه «ص» أحقّ و أولى بالنسبة الى الأمور العامة المطلوبة للشارع غير المأخوذة على شخص خاص من المصالح الاجتماعية التي يرجع فيها كلّ قوم الى رئيسهم و يرونها من وظائف قيّم المجتمع، كإقامة الحدود، و التصرف في أموال الغيّب و القصّر، و حفظ النظام الاجتماعي، و جمع الضرائب و صرفها في المصالح العامة، و عقد المواثيق مع الدول و الملل و نحو ذلك. ففي هذا السنخ من الأمور الاجتماعية المرتبطة بالولاة يكون هو «ص» مبسوط اليد مخلّى السرب و تكون تحت اختياره و يجب على الأمة إطاعته فيها و التسليم له، و لا يجوز لأحد التخلف عن أوامره أو مزاحمته او اتخاذ القرار بخلافه، حيث ان النظام لا يستحكم إلّا بكون الرئيس في الأعمال المرتبطة به مطاعا مخلّى السرب.

و أما الأمور الشخصية الفردية، كبيع مال الشخص و طلاق زوجته و تزويج ابنته مثلا، فليست محطا للنظر في الآية الّا اذا فرض في مورد خاص توقف مصالح المجتمع عليها فتقدم على المصالح الفردية.

و في مجمع البحرين (مادة و لا) في تفسير الآية قال: «روي عن الباقر «ع» انها نزلت في الإمرة، يعني الامارة.» «1» و هذا مؤيّد لإرادة هذا الاحتمال او الاحتمال الرابع.

الرابع: تقدّم ولايته على سائر الولايات الموجودة في المجتمع.

فيصير معنى الآية ان ولايته أقوى و أشدّ من سائر الولايات، و ان حكمه أنفذ من حكم بعضهم على بعض. ففي الموارد التي ينفذ حكم احد في حق غيره بنحو من أنحاء الولاية فحكم النبي «ص» في هذه الموارد أنفذ من حكم سائر الأولياء.

ففي مجمع البيان:

«قد روي ان النبي «ص» لما أراد غزوة تبوك و أمر الناس بالخروج قال قوم: نستأذن

آباءنا و امّهاتنا، فنزلت هذه الآية.» «2»

فوزان قوله: «من أنفسهم» في الآية وزان قوله- تعالى-: «فَإِذٰا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلىٰ

______________________________

(1)- مجمع البحرين/ 92.

(2)- مجمع البيان 4/ 338. (الجزء 8).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 40

أَنْفُسِكُمْ.» «1» أي يسلّم بعضكم على بعض. و قوله لبني اسرائيل: «فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ.» «2»

أي يقتل بعضكم بعضا.

و يشهد لهذا الاحتمال ان كلمة: «أولى» تفضيل من الولاية فيراد به تفضيل ولايته على سائر الولايات، و لا محالة ينحصر مورده أيضا في الأمور التي يتصدّى لها ولاية على الغير.

فهذه اربعة وجوه في الآية. و لا يخفى كون الأول أعم و أشمل من الثاني، و الثاني من الثالث. و قد قال بعض الأعاظم ان اطلاق اللفظ يقتضي اختيار الأول.

و لكن نقول انه يشكل الأخذ بالاطلاق، اذ لا يمكن الالتزام به في مثل الروابط و الحقوق الزوجية الشخصية مثلا، بل و في مثل التصرف في الأموال الشخصية و الزّواج و الطلاق و نحو ذلك، اللهم الّا اذا توقف عليها في مورد خاص مصالح المجتمع، فتدبر.

و يؤيد الوجه الثاني وقوع الآية بعد الآيتين النافيتين لكون الأدعياء أبناء، و الظاهر اشارتهما الى قصة زيد. فيراد بهذه الآية رفع توهم اختصاص زيد بالنبي و اختصاص النبي «ص» به بالبنوّة و الابوّة، بل نسبة النبي «ص» الى جميع المؤمنين نسبة واحدة و له أولوية بالنسبة اليهم جميعا، لكونه بمنزلة الأب لهم كما ان أزواجه امهاتهم.

و في مجمع البيان:

«روي عن أبيّ و ابن مسعود و ابن عباس أنهم كانوا يقرءون: «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم و أزواجه أمهاتهم و هو أب لهم.» و كذلك هو في مصحف أبيّ، و روي ذلك عن أبي جعفر و

أبي عبد اللّه «ع».» «3»

______________________________

(1)- سورة النّور (24)، الآية 61.

(2)- سورة البقرة (2)، الآية 54.

(3)- مجمع البيان 4/ 338. (الجزء 8).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 41

أقول: ليس هذا بمعنى تسليمنا لوقوع النقص في القرآن، لمنع ذلك جدّا، فليحمل- على فرض الصحة- على كون الساقط نحو تفسير للمراد سمعوه من النبي «ص» فأثبته البعض في الكتابة.

و لا يخفى انه على هذا الاحتمال يمكن الخدشة في اطلاق الأولوية، كما انه لا اطلاق لأمومة أزواجه بالنسبة الى جميع آثارها، اللهم إلّا أن يقال بوجوب المحافظة على الاطلاق إلّا فيما ثبت خلافه، فتدبر.

بعض موارد الاستشهاد بالآية:

في الوسائل عن أبي عبد اللّه «ع»: «كان رسول اللّه «ص» يقول: انا أولى بكل مؤمن من نفسه. و من ترك مالا فللوارث. و من ترك دينا أو ضياعا «1» فاليّ و عليّ.» «2»

و في مسند أحمد عنه «ص»: «أنا أولى بكل مؤمن من نفسه. فمن ترك دينا أو ضياعا فاليّ. و من ترك مالا فللوارث.» «3» و هذا المضمون متواتر في كتب السنة.

و في خبر زيد بن ارقم عنه «ص» في قصة الغدير: «أيها الناس، انّي تارك فيكم أمرين لن تضلّوا ان اتبعتموهما، و هما كتاب اللّه و أهل بيتي عترتي. ثم قال: أ تعلمون انّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟- ثلاث مرّات- قالوا: نعم. فقال رسول اللّه «ص»: من كنت مولاه فعلي مولاه.» «4»

و قد روي هذا المضمون متواترا بطرقنا و طرق السنة أيضا، فراجع مظانّه «5».

______________________________

(1)- الضّياع بالفتح: العيال، كما في النهاية 3/ 107.

(2)- الوسائل 17/ 551، الباب 3 من أبواب ولاء ضمان الجريرة و الإمامة، الحديث 14.

(3)- مسند أحمد 2/ 464.

(4)- مستدرك الحاكم 3/ 110. ذكره الحاكم

و قال إنه صحيح على شرط الشيخين.

(5)- راجع «الغدير» للعلّامة الأميني، و بحار الأنوار 37/ 108، تاريخ أمير المؤمنين «ع»، الباب 52 (باب اخبار الغدير).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 42

و في الدر المنثور للسيوطي:

«و اخرج ابن أبي شيبة و احمد و النسائي عن بريدة، قال: غزوت مع عليّ اليمن فرأيت منه جفوة، فلما قدمت على رسول اللّه «ص» ذكرت عليا فتنقصته، فرأيت وجه رسول اللّه «ص» تغيّر و قال: يا بريدة، أ لست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قلت:

بلى يا رسول اللّه. قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه.» «1»

و ذكره الحاكم أيضا في المستدرك «2».

و يظهر من خبر بريدة ان هذا المضمون صدر عن النبي «ص» في غير قصة الغدير أيضا، كما انّ خبر الثقلين أيضا صدر عنه «ص» غير مرّة تثبيتا للكتاب و العترة لئلا تنساهما الأمّة.

و يستفاد من اشارته «ص» الى الآية الشريفة و بيان أولوية نفسه ان المراد بالمولى و الأولى واحد و انه «ص» اراد ان يثبت لعليّ «ع» مثل ما أثبته اللّه له «ص» من الولاية و الأولوية و الّا لم يكن لذكر اولويته بالمؤمنين وجه بل كان لغوا. و سيأتي معنى الولي و المولى عن أهل اللغة، فانتظر.

و قوله «ص»: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» يحتمل فيه بالنظر البدوي الإخبار و الإنشاء: فعلى الاول يريد الإخبار بان اللّه- تعالى- جعل عليّا مولى المؤمنين و أولى بهم، و على الثاني يريد انه «ص» بنفسه جعل المولوية لعليّ «ع». هذا. و لكن الأوفق بمذهبنا و ظاهر آية التبليغ الواردة في هذه القصة هو الاحتمال الأول، كما لا يخفى.

______________________________

(1)- الدّرّ المنثور 5/ 182.

(2)- مستدرك الحاكم 3/ 110،

ذكره و قال: إنه صحيح على شرط الشيخين.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 43

تتمة [في استخلاف رسول الله و أدلّته]
اشارة

اعلم ان اخواننا السنّة يقولون: ان رسول اللّه «ص» لم يوص و لم يستخلف، و لكن الناس اجتمعوا في السقيفة، و بعد منازعة المهاجرين و الأنصار في امر الخلافة و محاجّتهم ابتدر خمسة- و هم عمر بن الخطاب، و ابو عبيدة بن الجراح، و اسيد بن حضير، و بشير بن سعد، و سالم مولى أبي حذيفة- فبايعوا ابا بكر فانعقدت له الامامة بذلك ثم بايعه آخرون، و هم يسمّون هذه البيعة بالشورى.

و في صحيح مسلم عن ابن عمر عن أبيه قبل وفاته:

«انّي لئن لا استخلف فان رسول اللّه «ص» لم يستخلف، و ان استخلف فان ابا بكر قد استخلف.» «1»

و لكنّا نحن الشيعة الامامية نقول: ان رسول اللّه «ص» استخلف عليّا «ع» لا مرّة واحدة بل مرّات من اوائل بعثته «ص» الى حين رحلته و وفاته.

فلنذكر من ذلك نماذج و نحيل التفصيل الى الكتب الكلامية المؤلفة لذلك فنقول:

1- روى الطبري في تاريخه بسنده عن عبد اللّه بن عبّاس،

عن علي بن أبي طالب، قال: لما نزلت هذه الآية على رسول اللّه «ص»: «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ»، دعاني رسول اللّه «ص» فقال لي: يا علي، ان اللّه أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ...، فاصنع لنا صاعا من طعام و اجعل عليه رجل شاة و املأ لنا عسّا من لبن ثم اجمع لي بني عبد المطلب حتى أكلّمهم و أبلغهم ما أمرت به، ففعلت ما أمرني به ثم دعوتهم له و هم يومئذ اربعون رجلا يزيدون رجلا، أو

______________________________

(1)- صحيح مسلم 3/ 1455 (طبعة أخرى 6/ 5)، الباب 2 من كتاب الإمارة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 44

ينقصونه، فيهم أعمامه أبو طالب و حمزة و العباس و أبو لهب ...، فلما أراد

رسول اللّه «ص» ان يكلّمهم بدره أبو لهب الى الكلام فقال: لقدما سحركم صاحبكم، فتفرق القوم و لم يكلمهم رسول اللّه «ص».

فقال الغد: يا عليّ، ان هذا الرجل سبقني الى ما قد سمعت من القول فتفرق القوم قبل ان اكلمهم، فعد لنا من الطعام بمثل ما صنعت ثم اجمعهم إليّ. قال: ففعلت ثم جمعتهم ...، ثم تكلم رسول اللّه «ص» فقال: يا بني عبد المطلب، انّي و اللّه ما أعلم شابّا في العرب جاء قومه بأفضل ممّا قد جئتكم به. انّي قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة، و قد أمرني اللّه- تعالى- ان ادعوكم اليه، فأيّكم يوازرني على هذا الأمر على ان يكون أخي و وصيّي و خليفتي فيكم؟

قال: فأحجم القوم عنها جميعا و قلت- و انّي لأحدثهم سنّا و أرمصهم عينا و أعظمهم بطنا و أحمشهم ساقا- أنا يا نبي اللّه أكون وزيرك عليه، فأخذ برقبتي ثم قال: ان هذا أخي و وصيّي و خليفتي فيكم، فاسمعوا له و اطيعوا.

قال: فقام القوم يضحكون و يقولون لأبي طالب: قد امرك ان تسمع لابنك و تطيع. «1»

و رواه أيضا ابن الأثير في الكامل «2» و ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة. «3»

و صححه هو و كثير من المؤرخين و المحدثين من الشيعة و السنة، فراجع مظانه.

و قد اشتهر الحديث بحديث بدء الدعوة، و رواه العلامة الأميني بأسانيد كثيرة من طرق السنة في «الغدير»، فراجع «4». و رواه في البحار عن العلل و غيره «5».

قال ابن أبي الحديد بعد نقل القصة:

«و يدلّ على انّه وزير رسول اللّه «ص» من نصّ الكتاب و السنة قول اللّه- تعالى-:

«وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي* هٰارُونَ أَخِي* اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي*

وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي.» «6»

و قال النبي «ص» في الخبر المجمع على روايته بين سائر فرق الإسلام: «انت منّي

______________________________

(1)- تاريخ الطبري 3/ 1171.

(2)- الكامل 2/ 62.

(3)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13/ 210 و 244.

(4)- الغدير 2/ 278.

(5)- بحار الأنوار 18/ 178، تاريخ نبيّنا «ص»، باب المبعث، الحديث 7.

(6)- سورة طه (20)، الآية 29- 32.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 45

بمنزلة هارون من موسى الّا انه لا نبي بعدي.» فاثبت له جميع مراتب هارون عن موسى. فإذن هو وزير رسول اللّه «ص» و شادّ أزره. و لو لا انه خاتم النبيين لكان شريكا في أمره.» «1»

فانظر يا أخي المسلم، ان هذه الكلمات اعترافات من عالم سنّي متتبع أودعها في تأليفه المشهور.

2- و في خبر عمران بن حصين عن النبي «ص»:

«ما تريدون من عليّ؟ ما تريدون من عليّ؟ ما تريدون من عليّ؟ ان عليا منّي و أنا منه و هو وليّ كل مؤمن من بعدي.» «2» و سيأتي معنى الولي و انه الأولى بالتصرف. و قوله: «من بعدي» ينفي احتمال كون الولاية بمعنى المحبّة و المودّة، و يعيّن كونها بمعنى المتصرف في الأمور. و في حياة النبي «ص» كان النبي «ص» هو المتصرّف في أمور المسلمين و كان عليّ «ع» في طاعته و منفّذا لأوامره.

3- و قد مرّ خبر بريدة و خبر زيد بن ارقم

و قوله «ص» فيهما: «من كنت مولاه فعليّ مولاه.» و ذكرنا انه يستفاد من قوله «ص» قبل هذه الجملة: «أ لست أولى بالمؤمنين من أنفسهم» انه يريد ان يثبت لعليّ «ع» ما اثبته اللّه له من الولاية و الأولوية، و إلّا كان ذكره لغوا «3». و يأتي مثل ذلك في خبر عمار بن ياسر أيضا في قصّة التصدق بالخاتم في الصلاة و نزول آية الولاية.

4- و في صحيح البخاري بسنده عن ابراهيم بن سعد، عن ابيه،

قال: قال النبي «ص» لعليّ: «أما ترضى ان تكون منّي بمنزلة هارون من موسى؟» «4»

أقول: و كما لم يكن أحد أقرب الى موسى من أخيه هارون «ع» فلذا خلفه في

______________________________

(1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13/ 211.

(2)- سنن الترمذي 5/ 296، باب مناقب علي بن أبي طالب من أبواب المناقب، الحديث 3796.

(3)- راجع ص 41 و 42 من الكتاب.

(4)- صحيح البخاري 2/ 300، باب مناقب علي بن أبي طالب.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 46

قومه، فكذلك لم يكن أحد أقرب الى رسول اللّه «ص» و الى أهدافه من أخيه و وزيره امير المؤمنين «ع».

و يعلم مقام امير المؤمنين «ع» و موقفه من رسول اللّه «ص» من كلامه «ع» في الخطبة القاصعة من نهج البلاغة:

5- قال «ع»: «و قد علمتم موضعي من رسول اللّه «ص»

بالقرابة القريبة و المنزلة الخصيصة، وضعني في حجره و أنا ولد يضمّني الى صدره، و يكنفني في فراشه، و يمسّني جسده، و يشمّني عرفه.

و كان يمضغ الشي ء ثم يلقمنيه. و ما وجد لي كذبة في قول و لا خطلة في فعل.

و لقد قرن اللّه به «ص» من لدن أن كان فطيما أعظم ملك من ملائكته يسلك به طريق المكارم و محاسن أخلاق العالم ليله و نهاره. و لقد كنت اتّبعه اتّباع الفصيل اثر امّه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علما و يأمرني بالاقتداء به.

و لقد كان يجاور في كل سنة بحراء فأراه و لا يراه غيري. و لم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه «ص» و خديجة و أنا ثالثهما، أرى نور الوحي و الرسالة و اشمّ ريح النبوّة، و لقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل الوحي عليه «ص»

فقلت: يا رسول اللّه، ما هذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان آيس من عبادته، انك تسمع ما اسمع و ترى ما أرى الّا انّك لست بنبيّ و لكنّك وزير، و انك لعلى خير.» «1»

توضيح للمطلب:

ثم نقول: توضيحا انّ النبي الأكرم «ص» قد ارسله اللّه- تعالى- الى الناس كافّة، و جعله رحمة للعالمين و خاتما للنبيين، و ارسله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كلّه و لو كره المشركون، كما نطق بذلك كلّه القرآن الكريم. و قد صرف هو «ص» عمره الشريف و جميع طاقاته و طاقات أهله و أصحابه في بثّ الإسلام

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 811؛ عبده 2/ 182؛ لح/ 300، الخطبة 192.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 47

و نشره، و صار كأنّه باخع نفسه حرصا على ذلك، و قدّم في سبيل ذلك مئات من الشهداء من خيرة المسلمين، و لم يغفل عنه ساعة واحدة من عمره الشريف. و كان يعتني و يهتمّ في دعوته و ارشاده حتى بالمسائل الجزئية الفرعية كمال الاهتمام.

و كان «ص» مع ذلك ملتفتا الى ان الإسلام لمّا يستوعب الحجاز بعد فضلا عن سائر البلاد، و ان السلطات الكافرة في ايران و الروم و غيرهما تقف أمام نشر الإسلام، و لا يتيسّر دفعها الّا بالقوة و القدرة و القيادة الجازمة، و كان عالما بأخلاق العرب و تعصباتهم القبائلية و العشائرية، و بقاء بعض الرواسب في عدد من النفوس، و ملتفتا الى وجود منافقين يعلمون لانتهاز الفرص، و ان حبّ الدنيا و المناصب رأس كلّ الخطايا، و ان الارتداد و الانقلاب على الأعقاب مما ينبغي ان يخاف منه و قد قال اللّه- تعالى-: «وَ مٰا مُحَمَّدٌ

إِلّٰا رَسُولٌ، قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ. أَ فَإِنْ مٰاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلىٰ أَعْقٰابِكُمْ؟» «1» و قال الرسول «ص» على ما في البخاري و غيره: «يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال، فأقول: يا ربّ أصيحابي، فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك، فأقول كما قال العبد الصالح: «وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مٰا دُمْتُ فِيهِمْ، فَلَمّٰا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ» «2» فيقال: ان هؤلاء لم يزالوا مرتدّين على أعقابهم منذ فارقتهم.» «3»

فهل يجوّز العقل مع ذلك كلّه ان رسول اللّه «ص» مع عقله و درايته و فراسته، مضافا الى نبوته و رسالته، و مع اهتمامه بانتشار الإسلام أهمل بالكلية أمر الدين و الأمّة و ترك أمر القيادة من بعده و لم يعيّن تكليف المسلمين في ذلك؟!

كيف؟! و لو أراد قيّم قرية صغيرة ان يسافر سفرا موقّتا فهو بطبعه و وجدانه يعيّن مرجعا يرجع اليه حين سفره و غيبته و يوصي بالرجوع اليه في الأمور، و كان هو «ص» أيضا في أسفاره و غزواته يستخلف على المدينة المنورة من يخلفه في أموره الخاصة و العامة مدّة سفره كما ضبط المؤرخون اسماءهم، فكيف ينسب اليه «ص» مع كونه عقل الكل و خاتم الرسل انه ترك الاستخلاف لما بعد وفاته عن عمد أو غفلة؟!

______________________________

(1)- سورة آل عمران (3)، الآية 144.

(2)- سورة المائدة (5)، الآية 117.

(3)- صحيح البخاري 3/ 127، في تفسير سورة المائدة، و في سنن الترمذي 5/ 4، في تفسير سورة الأنبياء.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 48

و هل يمكن ان يقال ان أبا بكر حيث استخلف كان أبصر بمصالح المسلمين و أرأف بهم و أحرص عليهم من رسول

اللّه «ص» و قد قال اللّه- عزّ و جلّ- في رسوله الكريم: «حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ، بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ.» «1» فلا يمكن ان يقال انه «ص» أهمل أمرا يتقوم به نظام أمر المسلمين و قوتهم و شوكتهم.

و قد حكي ان عالما من علماء الشيعة مرّ على جماعة من السنة، فاصرّوا على أن يبيت عندهم ليلا، فأجابهم بشرط ان لا يقع بحث مذهبي. فلمّا تعشّوا قال له أحد علماء السنة: ما رأيك في أبي بكر؟ فقال: كان هو مسلما فاضلا يصلّي و يصوم و يحجّ و يتصدّق و رافق النبي «ص». فقال العالم السنّي: نعم، أضف. فقال العالم الشيعي: و خلاصة الكلام ان أبا بكر كان أفضل و أعقل من رسول اللّه «ص» بمراتب. فاستعجب الحاضرون و قالوا: كيف تقول هذا؟ قال: ان رسول اللّه «ص» ولى المسلمين ثلاث و عشرين سنة و مع ذلك لم يعقل وجوب الاستخلاف و مصالحه، و ابو بكر وليهم أقل من ثلاث سنوات و عقل ذلك و فهمه. فهو لا محالة كان أعقل منه «ص» فالتفت الحاضرون الى عمق المسألة. هذا.

و حين ما طعن الخليفة الثاني قال له ابنه:

«سمعت الناس يقولون مقالة فآليت ان أقولها لك: زعموا انّك غير مستخلف، و انه لو كان لك راعي ابل أو راعي غنم ثم جاءك و تركها رأيت ان قد ضيّع، فرعاية الناس اشدّ. قال: فوافقه قولي.» «2»

فكيف لم يلتفت رسول اللّه «ص» الى هذه النكتة الواضحة التي التفت اليها ابن عمر و وافقه فيها ابوه؟!

و قالت عائشة لعبد اللّه بن عمر:

«يا بنيّ، أبلغ عمر سلامي و قل له: لا تدع أمّة محمّد بلا راع، استخلف عليهم، و لا تدعهم بعدك هملا، فانّي أخشى عليهم

الفتنة.» «3»

______________________________

(1)- سورة التوبة (9)، الآية 128.

(2)- صحيح مسلم 3/ 1455، كتاب الإمارة، الباب 2 (باب الاستخلاف و تركه).

(3)- الإمامة و السياسة 1/ 28.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 49

فعائشة أدركت ضرر الفتنة، و رسول اللّه «ص» لم يدركه؟!

و قال له رجال عادوه قبل موته:

«أوص يا أمير المؤمنين و استخلف.» «1»

فهم قد عرفوا مصلحة الوصية و الاستخلاف، و الرسول «ص» لم يعرف ذلك؟!

و هل لم تكن أهمية حفظ الإسلام و بسطه و تنفيذ مقرراته الى يوم القيامة و حفظ نظام المسلمين في نظر النبي الأكرم «ص» بقدر أهمية الوصايا الشخصية المتعلقة بالأموال الجزئيّة؟!

و قد ورد عنه «ص» انه قال: «من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية.» «2»

و قال «ص»: «ما حقّ امرئ مسلم أن يبيت ليلتين و له شي ء يوصى فيه الّا و وصيّته مكتوبة عنده.» «3»

ثم نقول: ان قوله- تعالى- في سورة المائدة النازلة على النبي «ص» في أواخر عمره الشريف: «يٰا أَيُّهَا الرَّسُولُ، بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ، وَ اللّٰهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّٰاسِ» «4» ينادي بكونه مرتبطا بامر مهمّ متمم للرسالة حافظ لها، بحيث لو لم يبلغه خيف على الرسالة. و يستفاد من ظاهر الآية ان الناس كانوا مخالفين لهذا الأمر و يعارضونه في تبليغه.

و قد ورد من طرق الفريقين ان هذه الآية نزلت في قصّة الغدير:

منها: ما في الدر المنثور للسيوطي:

«اخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه و ابن عساكر عن أبي سعيد الخدري، قال:

نزلت هذه الآية: «يا أيها الرسول بلّغ ما انزل إليك من ربّك» على رسول اللّه «ص»

______________________________

(1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 12/ 189،

و صحيح البخاري 2/ 299.

(2)- الوسائل 13/ 352، الباب 1 من كتاب الوصايا، الحديث 8.

(3)- سنن ابن ماجة 2/ 901، كتاب الوصايا، الباب 2، الحديث 2699.

(4)- سورة المائدة (5)، الآية 67.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 50

يوم غدير خم في علي بن أبي طالب.» «1»

و قد ورد انه كان في حجة الوداع مع رسول اللّه «ص» تسعون ألفا، و قيل مأئة ألف و عشرون ألفا، و قيل نحو ذلك. فلما انصرف راجعا الى المدينة و وصل الى غدير خمّ من الجحفة التي يتشعب فيها طريق المدينة من غيرها نزلت عليه هذه الآية. فأمر ان يردّ من تقدم منهم و يحبس من تأخر، فقام خطيبا و قال في ضمن خطبته: «أ تعلمون انّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟»- ثلاث مرات- قالوا: نعم. فقال رسول اللّه «ص»: «من كنت مولاه فعليّ مولاه.»

و الخبر متواتر إجمالا، رواه كثيرون من الصحابة و ان اختلفوا في بعض ألفاظه.

و قد مرّ خبر زيد بن ارقم أيضا. و ان شئت التفصيل فراجع الكتب المفصّلة.

و قد عدّ العلامة المتتبع آية اللّه الحاج الشيخ عبد الحسين الأميني- طاب ثراه- في أول المجلد الأول من موسوعته المسماة ب «الغدير» مأئة و عشرة من أعاظم الصحابة الرواة لحديث الغدير مع ذكر الموارد و المآخذ من كتب السنة، فراجع.

نعم، ان انعقاد الإمامة بالبيعة و انتخاب الأمّة و ان كان موردا للقبول عندي، و سوف نثبته في محله بأدلة شافية ان شاء اللّه- تعالى-، و لكنه في طول النصّ قطعا.

اذ مع وجود النص من قبل الرسول الذي لا ينطق عن الهوى و يكون خبيرا بالفرد الأصلح لا يبقى مجال للشورى و الانتخاب قطعا،

و لا تكون البيعة للمنصوص عليه إلّا تأكيدا للنصّ، و قد قال اللّه- تعالى-: «وَ مٰا آتٰاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ.» «2»

و في نهج البلاغة: «فلمّا مضى «ص» تنازع المسلمون الأمر من بعده. فو اللّه ما كان يلقى في روعي و لا يخطر ببالي ان العرب تزعج هذا الأمر من بعده عن أهل بيته و لا انّهم منحّوه عني من بعده.» «3»

______________________________

(1)- الدرّ المنثور 2/ 298.

(2)- سورة الحشر (59)، الآية 7.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1048؛ عبده 3/ 130؛ لح/ 451، الكتاب 62.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 51

و فيه أيضا: «فو اللّه ما زلت مدفوعا عن حقّي مستأثرا عليّ منذ قبض اللّه نبيه «ص» حتى يوم الناس هذا.» «1»

الى غير ذلك من كلماته «ع» في خطبه و كتبه و احتجاجاته.

و يعجبني هنا نقل حوار جرى بين هشام بن الحكم من اصحاب الامام الصادق «ع» و بين عمرو بن عبيد المعتزلي البصري:

قال هشام:

«دخلت البصرة يوم الجمعة فأتيت مسجد البصرة، فاذا أنا بحلقة كبيرة فيها عمرو بن عبيد، و عليه شملة سوداء متّزر بها من صوف و شملة مرتد بها، و الناس يسألونه. فاستفرجت الناس فأفرجوا لي، ثم قعدت في آخر القوم على ركبتي ثم قلت: أيها العالم، انّي رجل غريب تأذن لي في مسألة؟ فقال لي: نعم. فقلت له:

أ لك عين؟ فقال: يا بنيّ، أيّ شي ء هذا من السؤال و شي ء تراه كيف تسأل عنه؟! فقلت: هكذا مسألتي. فقال: يا بنيّ، سل و ان كانت مسألتك حمقاء.

قلت: اجبني فيها، قال لي: سل. قلت: أ لك عين؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع بها؟

قال: أرى بها الألوان و الأشخاص. قلت: فلك أنف؟ قال: نعم. قلت:

فما تصنع به؟ قال: أشمّ به الرائحة. قلت: أ لك فم؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع به؟ قال:

أذوق به الطعم. قلت: فلك اذن؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع بها؟ قال: أسمع بها الصوت. قلت: أ لك قلب؟ قال: نعم. قلت: فما تصنع به؟ قال: أميّز به كلما ورد على هذه الجوارح و الحواسّ.

قلت: أ و ليس في هذه الجوارح غنى عن القلب؟ فقال: لا. قلت: و كيف ذلك و هي صحيحة سليمة؟ قال: يا بنيّ، ان الجوارح اذا شكّت في شي ء شمّته أو رأته أو ذاقته أو سمعته ردّته الى القلب، فيستيقن اليقين و يبطل الشك.

قال: هشام: فقلت له: فانما اقام اللّه القلب لشكّ الجوارح؟ قال: نعم. قلت:

لا بدّ من القلب و الّا لم تستيقن الجوارح؟ قال: نعم. فقلت له: يا أبا مروان، فاللّه-

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 59؛ عبده 1/ 37؛ لح/ 53، الخطبة 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 52

تبارك و تعالى- لم يترك جوارحك حتى جعل لهم إماما يصحّح لها الصحيح و يتيقن به ما شك فيه، و يترك هذا الخلق كلهم في حيرتهم و شكّهم و اختلافهم لا يقيم لهم إماما يردّون اليه شكّهم و حيرتهم، و يقيم لك إماما لجوارحك تردّ اليه حيرتك و شكّك؟!

قال: فسكت و لم يقل لي شيئا، ثم التفت إليّ فقال لي: أنت هشام بن الحكم؟

فقلت: لا. قال: أمن جلسائه؟ قلت: لا. قال: فمن أين أنت؟ قال: قلت: من أهل الكوفة. قال: فانت اذا هو. ثم ضمّني اليه و أقعدني في مجلسه و زال عن مجلسه، و ما نطق حتى قمت.» «1» هذا.

و لا أظن احدا من المسلمين يتوقع من أخيه المسلم

ان يكتم ما يعتقده بينه و بين ربّه حقّا و ان لا يبيّنه في البحث العلمي.

و انّما الذي يتوقع من كل مسلم هو حفظ الأدب و صون اللسان و القلم، و البعد عن التشاجر و النزاع، و حفظ اخوّة المسلمين و وحدتهم في مقابل الأجانب و الأعداء. فهذا ما عندنا إجمالا في مسألة الخلافة و الامامة، و التفصيل يطلب من الكتب الكلامية.

و على العالم المنصف تحرّي الحق و قبوله، لا توجيه ما وقع و تبريره. اللهم فاهدنا لما اختلف فيه من الحق.

و أوصى الإخوة المسلمين من السنة و الشيعة أن يراجعوا في مسألة الامامة و الخلافة كتاب «المراجعات» المشتمل على المراجعات الواقعة بين الإمام آية اللّه السيد عبد الحسين شرف الدين الموسوي من علماء الشيعة، و العلامة الاستاذ الشيخ سليم البشري شيخ جامع الأزهر من علماء السنة. فالكتاب باختصاره مما يشفي العليل و يروي الغليل. فللّه درّ مؤلفه الجليل.

______________________________

(1)- الكافي 1/ 169، كتاب الحجة، باب الاضطرار إلى الحجة، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 53

تفسير الولاية و بيان معناها

بقي الكلام في تفسير الولاية و مشتقاتها، فنقول:

قال الراغب في المفردات:

«الولاء و التوالي ان يحصل شيئان فصاعدا حصولا ليس بينهما ما ليس منهما.

و يستعار ذلك للقرب من حيث المكان، و من حيث النسبة، و من حيث الدين، و من حيث الصداقة و النصرة و الاعتقاد. و الولاية: النصرة. و الولاية: تولّى الأمر.

و قيل: الولاية و الولاية نحو الدلالة و الدلالة. و حقيقته: تولّى الامر.

و الوليّ و المولى يستعملان في ذلك، كل واحد منهما يقال في معنى الفاعل اي الموالي، و في معنى المفعول أي الموالى.» «1»

و في نهاية ابن الأثير:

«في أسماء اللّه- تعالى-: «الوليّ»

هو الناصر. و قيل: المتولي لأمور العالم و الخلائق القائم بها. و من اسمائه- عزّ و جلّ-: «الوالي»، و هو مالك الأشياء جميعها، المتصرف فيها. و كأن الولاية تشعر بالتدبير و القدرة و الفعل. و ما لم يجتمع ذلك فيها لم ينطلق عليه اسم الوالي ...

و قد تكرر ذكر المولى في الحديث. و هو اسم يقع على جماعة كثيرة: فهو الربّ، و المالك، و السيّد، و المنعم، و المعتق، و الناصر، و المحبّ، و التابع، و الجار، و ابن العمّ، و الحليف، و العقيد، و الصهر، و العبد، و المعتق، و المنعم عليه ... و كل من ولي أمرا أو قام به فهو مولاه و وليّه ...، و منه الحديث: «من كنت مولاه فعليّ مولاه.» يحمل على أكثر الأسماء المذكورة. قال الشافعي: يعني بذلك ولاء الإسلام، كقوله- تعالى-: «ذلك بان اللّه مولى الذين آمنوا و ان الكافرين لا مولى لهم». و قول عمر

______________________________

(1)- المفردات/ 570.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 54

لعليّ: «أصبحت مولى كلّ مؤمن.» أي وليّ كلّ مؤمن. و قيل: سبب ذلك ان اسامة قال لعليّ «ع» لست مولاي، انّما مولاي رسول اللّه «ص». فقال «ص»:

«من كنت مولاه فعليّ مولاه.» و منه الحديث: «أيما امرأة نكحت بغير اذن مولاها فنكاحها باطل.» و في رواية «وليّها» أي متولي أمرها.» «1»

و في الصحاح:

«الولي: القرب و الدنوّ. يقال: تباعدنا بعد ولي، و كل مما يليك أي مما يقاربك ...

و اوليته الشي ء فوليه، و كذلك ولي الوالي البلد، و ولي الرجل البيع ولاية فيهما ...

و المولى: المعتق و المعتق و ابن العم و الناصر و الجار، و الوليّ: الصهر. و كل من

ولي أمر واحد فهو وليّه.» «2»

و في معجم مقاييس اللغة:

«الواو و اللام و الياء: أصل صحيح يدلّ على قرب. من ذلك الولي: القرب.

يقال: تباعد بعد ولي، أي قرب. و جلس مما يليني، أي يقاربني. و الوليّ: المطر يجي ء بعد الوسميّ، سمي بذلك لأنه يلي الوسميّ. و من الباب، المولى: المعتق، و المعتق، و الصاحب و الحليف، و ابن العمّ، و الناصر، و الجار. كل هؤلاء من الولي و هو القرب. و كل من ولي أمر آخر فهو وليّه ... و الباب كلّه راجع الى القرب.» «3»

و في لسان العرب:

«و الوليّ: وليّ اليتيم الذي يلي أمره و يقوم بكفايته. و وليّ المرأة: الذي يلي عقد النكاح عليها و لا يدعها تستبدّ بعقد النكاح دونه. و في الحديث: أيّما امرأة نكحت بغير اذن مولاها فنكاحها باطل، و في رواية: وليها، أي متولي أمرها ... قال الفراء:

الموالي: ورثة الرجل و بنو عمّه. قال: و الوليّ و المولى واحد في كلام العرب. قال ابو منصور: و من هذا قول سيدنا رسول اللّه «ص»: ايّما امرأة نكحت بغير اذن مولاها.

______________________________

(1)- النهاية لابن الأثير 5/ 227.

(2)- الصحاح 6/ 2528.

(3)- معجم مقاييس اللغة 6/ 141.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 55

و رواه بعضهم: بغير اذن وليّها، لأنهما بمعنى واحد.» «1»

و في اقرب الموارد:

«ولي الشي ء و عليه ولاية و ولاية: ملك امره و قام به.» «2»

الى غير ذلك من كلمات أهل اللغة في معنى الكلمة و اشتقاقاتها و موارد استعمالها، فراجع.

أقول: قد مرّ في كلماتهم: ان وليّ اليتيم هو الذي يلي أمره، و وليّ المرأة من يلي عقد النكاح عليها. و عن النبي «ص»: «أيما امرأة نكحت بغير

اذن وليّها فنكاحها باطل.» «3» و يقال للسلطان: وليّ الأمر، و لمن يلي تجهيز الميت: وليّ الميّت. و عن المبرّد في صفات الباري- تعالى-: «الوليّ هو الأولى و الأحقّ، و كذلك المولى.» فيظهر منه كون العبارات الثلاث بمعنى واحد.

و مرّ عن الفراء ان «الوليّ و المولى واحد في كلام العرب.» و عن المفردات ان «حقيقته: تولّي الأمر. و الولي و المولى يستعملان في ذلك.»

و عن ابن الأثير «انها تشعر بالتدبير و القدرة و الفعل.»

فيظهر من الجميع ان التصرف مأخوذ في مفهوم الكلمة. فما في بعض الكلمات من تفسير الولاية بخصوص المحبة مما لا يمكن المساعدة عليه. و لو اريد بيان مجرد المحبّة التي هي أمر قلبي لاستعمل لفظ الحبّ أو الودّ، و في قبالهما البغض و الكراهة.

و امّا الولاية فهي تفيد التصدّي لشأن من شئون الغير. و في قبالها العداوة، و هي التجاوز و التعدّي على الغير. فالتصرف بمصلحة الغير ولاية و بضرره عداوة، و كلاهما من مقولة الفعل. و ربّما تستعمل الولاية في التصرف في شئون الغير مطلقا.

فتأمّل في قوله- تعالى-: «وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.» «4» و قوله- تعالى-: «اللّٰهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا، يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمٰاتِ إِلَى النُّورِ،

______________________________

(1)- لسان العرب 15/ 407 و ...

(2)- أقرب الموارد 2/ 1487.

(3)- سنن الترمذي 2/ 280، الباب 14 من أبواب النكاح، الحديث 1108.

(4)- سورة التوبة (9)، الآية 71.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 56

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيٰاؤُهُمُ الطّٰاغُوتُ، يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمٰاتِ.» «1»

فحيث ما ذكر لفظ الولاية ذكر بعده سنخ الفعل و التصرف الناشئ منها من الأمر و النهي و العمل

المناسب لها. فيظهر بذلك كون التصرف مأخوذا في مفهومها.

و اصل الكلمة كما قالوا: هو الولي بمعنى القرب، و القريب من غيره لا يخلو من نحو تأثير و تصرّف فيه، كما أنّ المتصرف في أمور الغير لا بدّ ان يقع قريبا منه و الى جانبه حتى يتمكن من التصدّي لأموره و التوليّ لمصالحه.

فالانسان قد لا يقدر منفردا على رفع حاجاته فيحتاج الى من يقع الى جانبه، و بهذا يخرج عن الانفراد و يصبح ذا وليّ يقع في تلوه فيجبر نقصه و يسدّ خلله.

و الوليّ و المولى يطلقان على كل من الوالي و المولّى عليه، لاحتياج كل منهما الى الآخر و تصدّي كل منهما شأنا من شئون الآخر، و لوقوع كل منهما في تلو الآخر و في القرب منه. و اذا أردنا بيان ان زيدا ليس منفردا بل له من يتصدّى لبعض أموره فيصح ان يقال: عمرو في تلوه كما يصحّ ان يقال: هو في تلو عمرو. و يشبه رجوع التلو و الولي الى اصل واحد و أبدلت الواو تاء. و نظائره كثيرة في كلام العرب.

و بهذه العناية يطلق لفظ المولى على كل من المالك و المملوك. و بهذه العناية أيضا يقال: «اللّه وليّ الذى آمنوا.» و يقال أيضا: «المؤمن وليّ اللّه.» بل الظاهر ان المعاني الكثيرة التي ذكروها للمولى كلّها ترجع الى أمر واحد و كلّها مصاديق لمفهوم فارد، و هو كون الشخص واقعا الى جانب الآخر ليتصدى بعض شئونه و يسدّ بعض خلله.

و بما ذكرنا يظهر ان قول النبي «ص» في الخبر المتواتر: «من كنت مولاه فعليّ مولاه» سواء كان بلفظ المولى أو الولي فمراده «ص» ان يثبت لعلي «ع» مثل ما كان لنفسه من

ولاية التصرف و الأولوية المذكورة في الآية الشريفة. و لذا صدّره بقوله:

«أ تعلمون انّي أولى بالمؤمنين من أنفسهم» ثلاث مرات. و ظاهر الكلام ان المولى في الجملتين بمعنى واحد، و هو الأولوية المذكورة في الآية.

______________________________

(1)- سورة البقرة (2)، الآية 257.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 57

و لو كان بصدد بيان المحبة لم يحتج الى بيان أولوية نفسه، بل كان ذكرها لغوا.

كيف؟! و لم يكن بيان المحبة القلبية أمرا مهما يوجب ايقاف مأئة الف و عشرين الف رجلا في المفازة في وسط النهار في الهاجرة الشديدة لبيانها و إعلامها.

و يشهد لذلك أيضا قوله «ص» في خبر عمران بن حصين: «ما تريدون من عليّ؟

ان عليا منّي و أنا منه، و هو وليّ كلّ مؤمن من بعدي.» «1» اذ قوله: «من بعدي» ينفي احتمال كون الكلمة بمعنى المحبة القلبية و يعيّن كونها بمعنى الأولوية و الإمامة، كما هو واضح. هذا. و تفصيل البحث موكول الى الكتب الكلامية المعدّة لهذه الأبحاث، فراجع.

______________________________

(1)- سنن الترمذي 5/ 296، باب مناقب علي بن أبي طالب من أبواب المناقب، الحديث 3796.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 58

حديث الثقلين و التمسك بالعترة

و امّا مسألة التمسك بأهل البيت «ع» و حجية أقوالهم في اصول الدين و فروعه فهي أمر آخر غير مسألة الإمامة و الخلافة. فان مسألة الخلافة مسألة كلامية، و مسألة حجية أقوال العترة و أفعالهم مسألة أصولية، و ان كانت المسألتان عندنا متلازمتين. و الأدلّة الشرعية على الأخذ بمذهب العترة الطاهرة و على رأسهم أمير المؤمنين و باب علم النبي «ص» علي بن أبي طالب «ع» كثيرة. و قد جعلهم رسول اللّه «ص» عدلا للكتاب العزيز

في الحديث المتواتر بين الفريقين الذي تعرّض له ارباب الصحاح و السنن و المسانيد، و رووه عن كثير من الصحابة عن النبي «ص».

ففي صحيح مسلم في حديث الغدير عن زيد بن أرقم، عن النبي «ص»: «أيها الناس، فانما أنا بشر يوشك أن يأتي رسول ربّي فأجيب، و أنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب اللّه فيه الهدى و النور، فخذوا بكتاب اللّه و استمسكوا به- فحثّ على كتاب اللّه و رغّب فيه- ثم قال: و أهل بيتي، أذكركم اللّه في أهل بيتي، اذكركم اللّه في أهل بيتي، اذكركم اللّه في أهل بيتي.» «1»

و روى الترمذي بسنده عن زيد بن ارقم، قال: قال رسول اللّه «ص»: «انّي تارك فيكم ما ان تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء الى الأرض، و عترتي أهل بيتي. و لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني

______________________________

(1)- صحيح مسلم 4/ 1873 (طبعة اخرى 7/ 122)، كتاب فضائل الصحابة، الحديث 2408.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 59

فيهما.» «1»

و واضح ان التمسك بالكتاب هو الأخذ بما فيه، و التمسك بالعترة هو الأخذ بأقوالهم و سنّتهم. فأقوالهم و سنّتهم حجة شرعية إلهية. و قد عرفت ان الحديث متواتر بين الفريقين، و انما ذكرنا ما ذكرناه نموذجا. و قد صدع به رسول اللّه «ص» في مواقف شتّى: تارة في يوم عرفة في حجّة الوداع، و أخرى في غدير خمّ، و ثالثة على منبره في المدينة، و رابعة في حجرته المباركة في مرضه. كل ذلك لتثبيت الكتاب و العترة الطاهرة أساسين للشريعة المطهرة، فراجع مظان نقله.

و يحدس العاقل اللبيب ان امامة

العترة الطاهرة و وجوب التمسك بهم هو الذي رام رسول اللّه «ص» تثبيته بالكتابة، فحالوا بينه و بين ما رامه.

ففي صحيح البخاري بسنده عن ابن عباس، قال:

«لما حضر رسول اللّه «ص» و في البيت رجال فقال النبي «ص»: هلمّوا أكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده. فقال بعضهم ان رسول اللّه «ص» قد غلبه الوجع و عندكم القرآن، حسبنا كتاب اللّه. فاختلف أهل البيت و اختصموا، منهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتابا لا تضلّوا بعده. و منهم من يقول غير ذلك. فلمّا أكثروا اللغو و الاختلاف قال رسول اللّه «ص»: «قوموا.» قال عبيد اللّه: فكان يقول ابن عباس:

ان الرزية كل الرزية ما حال بين رسول اللّه «ص» و بين أن يكتب لهم ذلك الكتاب لاختلافهم و لغطهم.» «2»

فتأمل في تعبيره بقوله: «لا تضلوا بعده» و مشابهته لما في رواية الترمذي.

هذا.

و قد خصّ العلامة البحّاثة الفريد آية اللّه السيد حامد حسين الهندي- قدّس سرّه- مجلدين ضخمين من موسوعته المسماة ب «عبقات الأنوار» بنقل حديث الثقلين و طرقه من كتب السنة، فراجع.

______________________________

(1)- سنن الترمذي 5/ 328، باب مناقب أهل بيت النبي «ص» من أبواب المناقب، الحديث 3876.

(2)- صحيح البخاري 3/ 91 كتاب المغازي، باب مرض النبي «ص» و وفاته.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 60

فعلى الأمة المسلمة التمسك بالعترة الطاهرة في الأعمال و الأقوال. و لا أظن ان يجترئ أحد من العلماء تقديم أئمة المذاهب الأربعة و تفضيلهم على الأئمة من العترة الطاهرة الذين هم سفن نجاة الأمّة و باب حطّتها و أعلام هدايتها، و قد قال النبي «ص» في شأن الكتاب العزيز و فيهم: «فلا تقدموهما لتهلكوا و لا تعلموهما، فانهما

أعلم منكم.» «1»

و في نهج البلاغة: «انظروا أهل بيت نبيّكم، فالزموا سمتهم و اتبعوا أثرهم، فلن يخرجوكم من هدى و لن يعيدوكم في ردى، فان لبدوا فالبدوا، و ان نهضوا فانهضوا، و لا تسبقوهم فتضلوا و لا تتأخروا عنهم فتهلكوا.» «2»

و فيه أيضا: «هم موضع سرّه و لجأ أمره و عيبة علمه و موئل حكمه و كهوف كتبه و جبال دينه، بهم أقام انحناء ظهره و أذهب ارتعاد فرائصه ... لا يقاس بآل محمد «ص» من هذه الأمّة احد و لا يسوّى بهم من جرت نعمتهم عليه أبدا، هم أساس الدين و عماد اليقين، اليهم يفي ء الغالي و بهم يلحق التالي، و لهم خصائص حق الولاية و فيهم الوصية و الوراثة، الآن اذ رجع الحق الى أهله و نقل الى منتقله.» «3»

و في مستدرك الحاكم النيسابوري بسنده عن أبي ذر، قال: سمعت النبي «ص» يقول: «ألا ان مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح من قومه، من ركبها نجا و من تخلّف عنها غرق.» «4»

و فيه أيضا بسنده عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه «ص»: «النجوم أمان لأهل الأرض من الغرق، و أهل بيتي أمان لأمتي من الاختلاف، فاذا خالفتها قبيلة من العرب

______________________________

(1)- الدرّ المنثور 2/ 60.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 286؛ عبده 1/ 189- 190؛ لح/ 143، الخطبة 97.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 44- 45؛ عبده 1/ 24- 25؛ لح/ 47، الخطبة 2.

(4)- مستدرك الحاكم 3/ 151 كتاب معرفة الصحابة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 61

اختلفوا فصاروا حزب إبليس.» «1»

الى غير ذلك مما ورد في أهل البيت من طرق الفريقين و هي كثيرة جدا.

و إنّي أدعو إخواننا من علماء

السنة أن ينظروا الى عقيدتنا في مسألة الإمامة و الخلافة، و في الأخذ بمذهب العترة الطاهرة من أهل بيت النبي «ص» بنظرة علمية و بعين الانصاف، بعيدا عن التأثر بالأجواء السياسية التي نشاهد في أعصارنا كيف تؤثر في الناس و تجعل الحقائق خلف الأستار.

ان التشيع لعليّ و للأئمة من أهل البيت «ع» ليس أحدوثة و لا بدعة بعد هذه الأحاديث النبوية المتواترة عند الفريقين، بل و بعد ورود التسمية بالشيعة في كلام النبي «ص».

ففي الدر المنثور في تفسير سورة البيّنة:

«أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد اللّه، قال: كنّا عند النبي «ص» فاقبل عليّ فقال النبي «ص»: و الذي نفسي بيده ان هذا و شيعته لهم الفائزون يوم القيامة.

و نزلت: «ان الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك هم خير البرية ...» و أخرج ابن عديّ عن ابن عباس، قال: لما نزلت «ان الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك هم خير البرية» قال رسول اللّه «ص» لعليّ: «هو انت و شيعتك يوم القيامة راضين مرضيين.» و أخرج ابن مردويه عن عليّ قال: قال لي رسول اللّه «ص»: «أ لم تسمع قول اللّه: ان الذين آمنوا و عملوا الصالحات أولئك هم خير البرية؟ انت و شيعتك.

و موعدي و موعدكم الحوض، اذا جئت الأمم للحساب تدعون غرّا محجلين.» «2»

و قد طال الكلام في المقام فأعتذر من القراء الكرام.

______________________________

(1)- مستدرك الحاكم 3/ 149 كتاب معرفة الصحابة.

(2)- الدرّ المنثور 6/ 379.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 62

الآية الرابعة من الآيات:

قوله- تعالى- في سورة الأحزاب: «وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَى اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ.» «1»

و قد نزلت في

قصّة زيد بن حارثة عند ما خطب له النبي «ص» بنت عمّته زينب بنت جحش فاستنكرت هي ذلك و كذلك أخوها عبد اللّه، فلما نزلت الآية قالت: رضيت يا رسول اللّه. و جعلت أمرها الى رسول اللّه «ص» و كذلك اخوها.

و ليست القضية قضية شخصية فقط، بل الظاهر انها كانت اجتماعية و لا سيما بعد ما طلقها زيد و تزوّجها رسول اللّه «ص»، فكأنّ الغرض من ذلك كلّه كان نقض عادتين خرافيتين من عادات الجاهلية: إحداهما الاشميزاز و الاستنكاف من تزويج امرأة قرشية لمولى من الموالي، و ثانيتهما اعتبار كون الأدعياء أبناء و كون أزواجهم في حكم أزواج البنين.

و لا يخفى ان الآية و ان نفت الخيرة و لكن المفروض في مورد النزول على ما ورد، هو حصول الرضا عند العقد بعد ما نزلت الآية، اللهم الّا ان يقال: ان المورد لا يخصص، فتدبر.

الآية الخامسة من الآيات:

قوله- تعالى- في سورة المائدة: «إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ

______________________________

(1)- سورة الأحزاب (33)، الآية 36.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 63

وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ رٰاكِعُونَ.» «1»

و قد ورد في روايات مستفيضة بل متواترة من طرق الفريقين في شأن نزول الآية أن أمير المؤمنين «ع» تصدق بخاتمه أو غيره في حال الصلاة، فنزلت.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 1، ص: 63

ففي الدر المنثور في ذيل الآية:

«أخرج الطبراني في الأوسط، و ابن مردويه عن عمار بن ياسر، قال: وقف بعليّ سائل و هو راكع في صلاة

تطوع فنزع خاتمه فاعطاه السائل فأتى رسول اللّه «ص» فاعلمه ذلك فنزلت على النبي «ص» هذه الآية: إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلٰاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكٰاةَ وَ هُمْ رٰاكِعُونَ. فقرأها رسول اللّه «ص» على أصحابه ثم قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللهم وال من والاه و عاد من عاداه.» «2»

و لا يخفى ان هذا مورد ثالث لقوله «ص»: «من كنت مولاه فعليّ مولاه»، و الأول في قصّة الغدير، و الثاني قصة بريدة كما مرّ. هذا.

و قد مرّ تفسير الولاية و انها تشعر بالتدبير و القوة و الفعل.

و في أصول الكافي: «عن أبي عبد اللّه في قول اللّه- عزّ و جلّ-: «إِنَّمٰا وَلِيُّكُمُ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا- قال: انما يعني: أولى بكم، أي أحق بكم و بأموركم و أنفسكم و أموالكم اللّه و رسوله و الذين آمنوا، يعني عليا و أولاده الأئمة «ع» الى يوم القيامة. الحديث.» «3» و فيه ان الصدقة كانت حلّة قيّمة، و لعل الواقعة تكررت.

______________________________

(1)- سورة المائدة (5)، الآية 55.

(2)- الدّرّ المنثور 2/ 293.

(3)- الكافي 1/ 288، كتاب الحجة، باب ما نص اللّه و رسوله على الأئمة «ع»، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 64

الآية السادسة: [آية الإطاعة]

قوله- تعالى- في سورة النساء: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.» «1»

قيل: «أفرد الأمر بطاعة الرسول للمبالغة و لدفع توهم انه لا يجب الالتزام بما ليس في القرآن من أوامره.» و قيل: «معناه أطيعوا اللّه في الفرائض و أطيعوا الرسول في السنن.»

هذا.

و لكن الظاهر بقرينة عطف اولي الأمر على الرسول و عدم فصلهم عنه هو

كون إطاعة الرسول و اطاعة اولي الأمر هنا من سنخ واحد. فيكون الأمر باطاعة اللّه مرتبطا بأحكام اللّه المشرّعة من قبله- تعالى-. و الأمر بإطاعتها أمر إرشادي لا مولوي، و إلّا لتسلسل الأوامر و المثوبات و العقوبات، كما حقق في محله.

و أما الأمر بإطاعة الرسول و أولي الأمر فيكون أمرا مولويا من اللّه- تعالى- متعلقا باطاعتهم في الأوامر الصادرة عنهم بنحو المولوية بما انهم ولاة الأمر في الأمور الاجتماعية و السياسية و القضائية. و ليس المراد إطاعتهم في مقام بيان أحكام اللّه- تعالى-، لأنها ليست امرا آخر وراء اطاعة اللّه، و أوامرهم- عليهم السلام- في هذا المجال إرشادية محضة، نظير أوامر الفقيه في هذا المجال كما مرّ. و لأجل ذلك كرّرت لفظة: «اطيعوا» و فصّلت اطاعتهم عن اطاعة اللّه- تعالى-، و ان كانت ولايتهم من قبل اللّه- تعالى- و اطاعتهم أيضا نحو اطاعة له. هذا.

و المقصود بالأمر في الآية- على الظاهر- هو الحكومة و إدارة شئون الأمة.

و سمّيت به لقوامها بالأمر من طرف و الاطاعة من طرف آخر.

و في الحديث عن النبي «ص»: «ما ولّت أمّة قط أمرها رجلا و فيهم أعلم منه الّا لم يزل

______________________________

(1)- سورة النساء (4)، الآية 59.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 65

أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا الى ما تركوا.» «1»

و عنه «ص» أيضا: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة.» «2»

و في نهج البلاغة: «فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة. الحديث.» «3»

و فيه أيضا: «و لعليّ أسمعكم و أطوعكم لمن ولّيتموه أمركم.» «4»

و فيه أيضا: «ان أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه و أعلمه بأمر اللّه فيه.» «5»

و في كتاب الإمام المجتبى «ع» الى معاوية: «ان

عليّا لما مضى لسبيله ... و لأني المسلمون الأمر بعده ... فانك تعلم انّي أحق بهذا الأمر منك.» «6»

و في خطاب السبط الشهيد «ع» لأصحاب الحرّ: «و نحن أهل بيت محمد و أولى بولاية هذا الأمر عليكم.» «7»

الى غير ذلك من موارد استعمال لفظ الأمر المراد به الإمارة و الحكومة بشعبها المختلفة.

و هذا المعنى أيضا هو المتبادر من قوله- تعالى-: «وَ شٰاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ.» «8» و قوله:

«وَ أَمْرُهُمْ شُورىٰ بَيْنَهُمْ.» «9»

و على هذا فيكون معنى «أولي الأمر» الرجال المتصدين لأمر الحكومة و إدارة الشؤون العامة بشعبها المختلفة و في رأسهم الإمام الأعظم.

______________________________

(1)- كتاب سليم بن قيس/ 118.

(2)- صحيح البخاري 3/ 91، كتاب المغازي، باب كتاب النبي إلى كسرى و قيصر.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 51؛ عبده 1/ 31؛ لح/ 49، الخطبة 3.

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 271؛ عبده 1/ 182؛ لح/ 136، الخطبة 92.

(5)- نهج البلاغة، فيض/ 558؛ عبده 2/ 104؛ لح/ 247، الخطبة 173.

(6)- مقاتل الطالبيين/ 35- 36.

(7)- إرشاد المفيد/ 207 (طبعة اخرى/ 225).

(8)- سورة آل عمران (3)، الآية 159.

(9)- سورة الشورى (42)، الآية 38.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 66

قال الشيخ الاعظم في مكاسبه في معنى أولي الأمر:

«الظاهر من هذا العنوان عرفا من يجب الرجوع اليه في الأمور العامة التي لم تحمل في الشرع على شخص خاص.» «1» هذا.

و في الدر المنثور:

عن أبي هريرة: «هم الأمراء منكم.» و في لفظ: «هم أمراء السرايا.» و فيه أيضا عن البخاري و مسلم و غير هما بسندهم عن ابن عباس، قال: «نزلت في عبد اللّه بن حذافة بن قيس اذ بعثه النبي «ص» في سريّة.» «2»

و لكن وردت من طرق أصحابنا الإمامية أخبار

مستفيضة تدلّ على كون المراد بأولي الأمر في الآية الشريفة خصوص الأئمة الاثنى عشر من أهل البيت. منها:

ما في الكافي بسنده عن بريد العجلي، عن أبي جعفر «ع» قال: «إيانا عنى خاصة. امر جميع المؤمنين الى يوم القيامة بطاعتنا.» «3»

أقول: لا إشكال عندنا في أنّ الأئمة الاثنى عشر هم المستحقون للإمامة بعد النبي «ص» بالنصّ و الأفضلية. و هم القدر المتيقن من اولي الأمر في الآية و المصاديق البارزة لهذا العنوان، و كان على الامّة بيعتهم و اطاعتهم. و لكن من المحتمل ان يكون الحصر في الأخبار المشار اليها حصرا اضافيا بالنسبة الى حكام الجور المتصدين للحكومة في اعصار الأئمة «ع» فارادوا- عليهم السلام- بيان ان الحق لهم و ان هؤلاء المتصدين ليسوا أهلا لهذا الأمر. و الّا فولاية الأمر اذا كانت عن حقّ بأن كانت بجعل الأئمة- عليهم السلام- اياها لشخص أو عنوان، أو بتولية المسلمين احدا على أنفسهم مع كونه واجدا للشرائط المعتبرة ان قلنا بصحة ذلك

______________________________

(1)- المكاسب/ 153.

(2)- الدرّ المنثور 2/ 176.

(3)- الكافي 1/ 276 كتاب الحجة، باب أن الإمام «ع» يعرف الإمام الذي يكون من بعده ...، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 67

كما يأتي في محلّه، فان طبعها لا محالة يقتضي لزوم الاطاعة و التسليم، ليتمّ الأمر و يدفع الهرج و المرج. فهو من قبيل تعليق الحكم على الوصف المشعر بالعليّة و دوران الحكم مداره. فعلّة وجوب الاطاعة له هي كونه صاحب الأمر و ان له حقّ الأمر شرعا. و لا محالة لا يشمل صورة أمره بمعصية اللّه، اذ ليس له حق الأمر بالمعصية. و بالجملة فاطاعته واجبة في حدود ولايته المشروعة. و

لا يطلق صاحب الأمر الّا على من ثبت له حق الأمر و الحكم شرعا، كما لا يطلق صاحب الدار الّا على من ملكها شرعا دون من تسلط عليها غصبا.

و الحصر لا ينحصر في الحقيقي فقط، فكم قد شاع الاضافي منه في كلماتهم.

و مضامين القرآن الكريم لا تتقيد بموارد النزول و المصاديق الخاصة. و الجري و التطبيق في بعض الروايات على بعض الموارد لا يمنع من التمسك بالاطلاق و العموم.

و كيف يمكن الالتزام بولاية شخص أو اشخاص شرعا بالنصب من قبل اللّه أو بانتخاب الأمة على فرض صحته و لو في شعبة خاصة أو ظرف خاص و مع ذلك لا تفرض طاعتهم، مع انّ الأمر لا يتمّ و الغرض لا يحصل الّا بالإطاعة و التسليم؟

و لا ينحصر ذلك في الامامة الكبرى، فعمّال الوالي أيضا تجب اطاعتهم فيما فوّض اليهم.

و في صحيح مسلم عن رسول اللّه «ص» انه قال: «من أطاعني فقد أطاع اللّه، و من عصاني فقد عصى اللّه، و من أطاع أميري فقد أطاعني، و من عصى أميري فقد عصاني.» «1»

و فيه أيضا عنه «ص» انه قال في خطبته في حجة الوداع: «لو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب اللّه فاسمعوا له و اطيعوا.» «2»

نعم، فيه أيضا عنه «ص» انه قال: «على المرء المسلم السمع و الطاعة فيما احبّ و كره

______________________________

(1)- صحيح مسلم 3/ 1466 (طبعة أخرى 6/ 13)، كتاب الإمارة، الباب 8 (باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية).

(2)- صحيح مسلم 3/ 1468 (طبعة أخرى 6/ 15)، كتاب الإمارة، الباب 8، الحديث 1838.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 68

الّا ان يؤمر بمعصية، فان أمر بمعصية فلا سمع و لا

طاعة.» «1» هذا.

و لا يمكن الالتزام بلزوم كون الوالي المفترض طاعته مطلقا معصوما، و الا لا شكل الأمر في العمّال المنصوبين من قبل النبي «ص» و امير المؤمنين «ع» امثال مالك الاشتر و محمد بن ابي بكر و غيرهما، اذ لا اشكال في وجوب إطاعتهم في نطاق ولايتهم. و ان شئت قلت: ان اطاعة المنصوب من قبلهم أو المنتخب باذنهم و على أساس الموازين المبيّنة من قبلهم أيضا هي في الحقيقة اطاعة لهم فتعمه الآية، فتأمل.

و الحاصل ان المحتملات في «اولي الأمر» في الآية الشريفة ثلاثة:

الأول: ان يراد بهم الأمراء و الحكام مطلقا كيف ما كانوا، كما هو الظاهر ممّا مرّ عن أبي هريرة.

الثاني: ان يراد بهم خصوص الأئمة الاثنى عشر المعصومين- سلام اللّه عليهم- كما دلّ عليه ظاهر بعض الأخبار المروية عنهم «ع». و يقرّبه ان الأمر بطاعة أحد على الاطلاق لا يجوز الّا اذا كان معصوما، اذ يقبح على اللّه- تعالى- ان يأمر على الاطلاق بطاعة من يمكن ان يخطئ أو يأمر بالمعصية.

الثالث: ان يقال ان المراد بهم بمناسبة الحكم و الموضوع من له حقّ الأمر و الحكم شرعا. فمن ثبت له هذا الحقّ وجب قهرا اطاعته في ذلك و الّا لصار جعل الحقّ له لغوا. و حقّ الأمر شرعا لا ينحصر في المعصوم، بل يثبت لكل من كانت حكومته مشروعة بالنصب أو بالانتخاب الممضى شرعا، و لكن في حدود حكومته.

فالحكام المنصوبون من قبل النبي «ص» أو أمير المؤمنين «ع» كان لهم حقّ الأمر في

______________________________

(1)- صحيح مسلم 3/ 1469 (طبعة أخرى 6/ 15)، كتاب الإمارة، الباب 8، الحديث 1839.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 69

حدود حكومتهم و

فيما يرتبط بها، و لا محالة وجب على من كان تحت حكومتهم ان يطيعوهم في هذا السنخ من الأوامر. و أما ما يكون معصية للّه- تعالى- فلا تجوز اطاعتهم فيه، كما لا يكون لهم حق الأمر به، بل ليس لهم الأمر في الأمور المباحة غير المرتبطة بشؤون الحكومة أيضا.

و عن ابن عباس في قوله: «و أولي الأمر منكم»:

يعني أهل الفقه و الدين و أهل طاعة اللّه الذين يعلمون الناس معاني دينهم و يأمرونهم بالمعروف و ينهونهم عن المنكر. و عن جابر في قوله: «و أولي الأمر منكم» قال: «أولي الفقه و أولي الخير.» و عن مجاهد قال: «هم الفقهاء و العلماء.» «1»

و على هذا فلا تشمل الآية ولاة الجور و عمّالهم فان ولايتهم ساقطة عند اللّه و عند رسوله بل عند العقل أيضا و ليس لهم حق الأمر لما سيجي ء من اعتبار شروط ثمانية في الوالي بحكم العقل و الشرع سواء كانت الولاية بالنصب أو بالانتخاب.

فالانتخاب أيضا على القول به يتقيد بالشروط المذكورة، فلا تنعقد الامامة و الولاية لمن فقدها. و عن أمير المؤمنين «ع»: «اعرفوا اللّه باللّه و الرسول بالرسالة و أولي الأمر بالمعروف و العدل و الاحسان.» «2» كما ان رتبة الانتخاب أيضا على القول به تأتي بعد رتبة النصب، فلا مجال له معه. و التفصيل يأتي في الباب الخامس فانتظر. و نعود الى تفسير الآية بتمامها أيضا في ذلك الباب عند التعرّض لمقبولة عمر بن حنظلة و الاستدلال بها لولاية الفقيه.

الآية السابعة: [آية تحكيم النبيّ ص فيما شجر بينهم]

قوله- تعالى- في سورة النساء أيضا: «فَلٰا وَ رَبِّكَ لٰا يُؤْمِنُونَ حَتّٰى يُحَكِّمُوكَ فِيمٰا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ

______________________________

(1)- الدرّ المنثور 2/ 176.

(2)- التوحيد/ 285، باب أنه- عزّ و جلّ- لا يعرف إلّا

به، الحديث 3. و الكافي 1/ 85 كتاب التوحيد، باب أنه لا يعرف إلّا به، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 70

لٰا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمّٰا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً.» «1»

و المخاطب هو الرسول «ص» فيجب التسليم له و لأوامره.

و لكن يمكن الخدشة في اطلاقها لظهورها في خصوص القضاء الذي هو شعبة من شعب الولاية.

و مورد النزول أيضا على ما في المجمع قضاؤه «ص» في خصام وقع بين الزبير و بين رجل من الأنصار، فراجع «2».

اللهم الّا ان يمنع ظهور الآية في خصوص القضاء، اذ الموصول بعمومه يشمل كل ما يشجر بين المسلمين حتى في مثل الصراعات و الحروب بين فئاتهم و أقوامهم، نظير قوله- تعالى-: «وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا.» «3»

فالآية نصّ في ولاية النبي «ص» في جميع خلافاتهم الداخلية العامّة و الشخصية، و لا نعني بالحكومة الّا هذا. و موردها و ان كان خصوص القضاء و لكن المورد لا يخصّص.

الآية الثامنة: [آية تحكيم النبيّ بين الناس]

قوله- تعالى- في سورة النساء أيضا: «إِنّٰا أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النّٰاسِ بِمٰا أَرٰاكَ اللّٰهُ وَ لٰا تَكُنْ لِلْخٰائِنِينَ خَصِيماً.» «4»

بتقريب ان اطلاق الحكم بين الناس يشمل جميع الشؤون و يعم المسلمين و غيرهم أيضا. الّا ان يدّعى ظهور الحكم في خصوص القضاء. و سيأتي البحث في ذلك في الباب الخامس.

______________________________

(1)- سورة النساء (4)، الآية 65.

(2)- مجمع البيان 2/ 69. (الجزء 3).

(3)- سورة الحجرات (49)، الآية 9.

(4)- سورة النساء (4)، الآية 105.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 71

الآية التاسعة: [آية الاستيذان من النبيّ و حرمة المخالفة]

قوله- تعالى- في سورة النور: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللّٰهِ وَ رَسُولِهِ، وَ إِذٰا كٰانُوا مَعَهُ عَلىٰ أَمْرٍ جٰامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتّٰى يَسْتَأْذِنُوهُ ... لٰا تَجْعَلُوا دُعٰاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعٰاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً، قَدْ يَعْلَمُ اللّٰهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوٰاذاً، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخٰالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذٰابٌ أَلِيمٌ.» «1»

فالآية الأولى دلّت على ان لرسول اللّه «ص» مضافا الى منصب الرسالة منصب القيادة و الامامة في الأمور الاجتماعية و السياسية أيضا، و ان الواجب على الأمّة رعاية هذه الجهة أيضا. و الآية الثانية دلّت على وجوب اطاعته في اوامره و حرمة مخالفته. و الظاهر منها ارادة أوامره المولوية الصادرة عنه «ص» بولايته، لا الأوامر الارشادية الصادرة عنه في مقام بيان أحكام اللّه- تعالى-. فانها في الحقيقة أوامر اللّه- تعالى- لا أوامره «ص».

و احتملوا في صدر هذه الآية وجوها:

منها: وجوب تفخيم النبي «ص» في المخاطبة بأن يقولوا مثلا: «يا رسول اللّه» و لا يقولوا: «يا محمد».

و منها: النهي عن التعرض لدعائه عليهم بان يسخطوه فيدعو عليهم، حيث ان دعاءه حق يستجاب بلا شك.

و منها: وجوب اجابة دعوته «ص» الى

الجهاد أو غيره من الشؤون، اذ ليس

______________________________

(1)- سورة النور (24)، الآية 62 و 63.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 72

دعوته لنا كدعوة بعضنا بعضا. فان في القعود عن أمره قعودا عن أمر اللّه- تعالى-، حيث أوجب علينا طاعته «ص».

و لعل الأنسب بالسياق هو الوجه الثالث، كما يشهد بذلك قوله: «قد يعلم اللّه الذين يتسللون منكم لواذا»، أي يفرّون و يخفون أنفسهم. فتدل الآية على ان الامور التي يتطلب فيها التعاون و الاجتماع لا يجوز تركها بدون الاستيذان من القائد، فتدبر.

فهذه تسع آيات يستفاد منها ولاية النبي أو الأئمة أو بعض الأنبياء الأخر.

و كيف كان فالولاية ثابتة للنبي «ص» و للأئمة «ع» بالكتاب و بالسنة المتواترة.

و النبي «ص» كما كان رسول اللّه و خاتم النبيين كان أيضا حاكما على المسلمين و وليّا لهم و أولى بهم من أنفسهم و وجبت عليهم اطاعته في أوامره الصادرة عنه من هذه الجهة امرا مولويا، مضافا الى الأوامر الارشادية الصادرة عنه «ص» في مقام بيان أحكام اللّه- تعالى-، كما مرّ بيانه.

و الأخبار في افتراض طاعة الأئمة «ع» و كون معصيتهم كمعصية اللّه- تعالى- في غاية الكثرة. و يكفيك في ذلك مقبولة عمر بن حنظلة و خبر أبي خديجة و التوقيع المشهورات، حيث علل فيها حكومة الفقيه الراوي و وجوب الرجوع اليه بانّي قد جعلته حاكما أو قاضيا أو انهم حجّتي عليكم، فتأمل.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 73

التنبيه على أمور

اشارة

و ينبغي التنبيه هنا على امور بنحو الإجمال، فان للتفصيل محلا آخر:

الأول- في بيان مفهوم الإمامة

قد مرّ بالتفصيل تفسير الولاية عن بعض أهل اللغة، و ان حقيقتها ترجع الى تولّي الأمر و التصرف و التدبير، و يشتق منها لفظ الوالي بمعنى الحاكم و الأمير.

و أما الإمامة، ففي المفردات:

«الامام: المؤتمّ به، انسانا كأن يقتدى بقوله او فعله، أو كتابا أو غير ذلك، محقّا كان أو مبطلا، و جمعه أئمة.» «1»

و في الصحاح:

«الامام: الذي يقتدى به، و جمعه أئمة.» «2»

و في لسان العرب:

______________________________

(1)- المفردات/ 20.

(2)- الصحاح 5/ 1865.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 74

«يقال: امام القوم معناه هو المتقدم لهم. و يكون الامام رئيسا كقولك: امام المسلمين.» «1»

و في المنجد:

«أمّ القوم و بالقوم: تقدمهم و كان لهم اماما. إاتمّ به: اقتدى به .. الامام للمذكر و المؤنث، الجمع: ائمّة و ايمّة: من يؤتمّ به.» «2»

أقول: و يشبه ان يكون اللفظ بفعله مأخوذا من لفظ الإمام بفتح الهمزة بمعنى القدام ضد الخلف، و يحتمل ان يكون مأخوذا من الأمّ- و أمّ الشي ء اصله- فكأن امام القوم اصلهم و هم تبع له. و يمكن ان يكون مأخوذا من الامّ بمعنى القصد، لكونه يقصد.

و كيف كان فيطلق على قائد القوم و زعيمهم الوالي و الامام و السلطان و الحاكم و الامير بعنايات مختلفة، فهو وال بحق تصرفه، و امام بوقوعه في الإمام، و سلطان بسلطته، و حاكم بحكمه، و أمير بأمره، فتدبّر.

الثاني- في تقسيم الولاية:

الولاية- بمعنى التصرف و الاستيلاء على الشخص أو الأمر- إما تكوينية و إمّا تشريعية. و لا يخفى ثبوت كلتيهما بمرتبتهما الكاملة للّه- تعالى.

و يوجد لرسول اللّه «ص»، بل لجميع الأنبياء أو أكثرهم و كذا للأئمة المعصومين- سلام اللّه عليهم اجمعين- بل لبعض الأولياء الكرام أيضا مرتبة من الولاية

التكوينية، بحسب ارتقاء وجودهم و تكاملهم في العلم و القدرة النفسانية و الارادة

______________________________

(1)- لسان العرب 12/ 26.

(2)- المنجد/ 17.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 75

و المشيّة و الارتباط باللّه- تعالى- و عناية اللّه بهم. اذ جميع معجزات الأنبياء و الأئمة و كرامات الأولياء نحو تصرف منهم في التكوين، و ان كانت مشيّتهم في طول مشية اللّه و باذنه.

قال اللّه- تعالى- خطابا للخليل «ع»: «فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ، ثُمَّ اجْعَلْ عَلىٰ كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً، ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً، وَ اعْلَمْ أَنَّ اللّٰهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.» «1»

و قال حكاية عن موسى «ع»: «فَأَلْقىٰ عَصٰاهُ، فَإِذٰا هِيَ ثُعْبٰانٌ مُبِينٌ* وَ نَزَعَ يَدَهُ، فَإِذٰا هِيَ بَيْضٰاءُ لِلنّٰاظِرِينَ.»* «2»

و عن المسيح «ع»: «أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ، أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ، فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللّٰهِ، وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ، وَ أُحْيِ الْمَوْتىٰ بِإِذْنِ اللّٰهِ.» «3»

و في قصة آصف و عرش بلقيس: «قٰالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتٰابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ. فَلَمّٰا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قٰالَ: هٰذٰا مِنْ فَضْلِ رَبِّي.» «4»

و في نهج البلاغة في آخر الخطبة القاصعة ان رسول اللّه «ص» أمر الشجرة ان تنقلع بعروقها و تأتي رسول اللّه «ص» و تقف بين يديه، فانقلعت بعروقها و جاءت و لها دويّ شديد و قصف كقصف أجنحة الطير. «5»

الى غير ذلك من المعجزات و خوارق العادات.

هذا مضافا الى ان النبي «ص» و الأئمة الطاهرين «ع» خلاصة العالم و ثمرته في قوس الصعود و علّته الغائية. و العلة الغائية احدى العلل.

______________________________

(1)- سورة البقرة (2)، الآية 260.

(2)- سورة الأعراف (7)، الآية 107

و 108.

(3)- سورة آل عمران (3)، الآية 49.

(4)- سورة نمل (27)، الآية 40.

(5)- راجع نهج البلاغة، فيض/ 815- 816؛ عبده 2/ 183- 184؛ لح/ 301- 302، الخطبة 192.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 76

فمثل عالم الطبيعة بمراحله كمثل اشجار مثمرة غرسها غارسها و سقاها و ربّاها لتثمر له أثمارا حلوة جيّدة. فالثمرة العالية غاية وجود الشجرة و من عللها. فالنبي الأكرم و الأئمة المعصومون ثمرة العالم في قوس الصعود و غايته و ان كان غاية الغايات هو اللّه- تعالى- بذاته المقدسة، كما حقق في محله.

و قد ورد: «لولاك ما خلقت الأفلاك.» «1»

و في الزيارة الجامعة الكبيرة خطابا للأئمة- عليهم السلام-: «بكم فتح اللّه و بكم يختم، و بكم ينزل الغيث و بكم يمسك السماء ان تقع على الأرض الّا باذنه، و بكم ينفس الهم و يكشف الضر.» «2»

و امّا ما نسب إلينا من الاعتقاد بكون العالم مخلوقا للأئمة- عليهم السلام- لا للّه- تعالى- فبهتان عظيم.

و امّا ما في نهج البلاغة من قوله «ع»: «فانّا صنائع ربّنا و الناس بعد صنائع لنا» «3» فلا يراد به الخلقة، بل الهداية و التربية. و لذا ذكر الناس فقط لا جميع الخلق. و منه قولهم: «المرأة صنيعة الرجل»، أي مربّاته.

و كيف كان فأصل الولاية التكوينية بنحو الاجمال ثابتة لهم بلا اشكال و ان لم نحط بحدودها. و لكن محط البحث هنا هو الولاية التشريعية المستتبعة لوجوب الطاعة لهم في أوامرهم المولوية الصادرة عنهم من هذه الجهة مضافا الى الأوامر الارشادية الصادرة عنهم في مقام بيان أحكام اللّه- تعالى-. و للبحث في الولاية التكوينية لهم و كيفية صدور المعجزات و الكرامات محل آخر.

______________________________

(1)- بحار الأنوار

15/ 28، تاريخ نبيّنا «ص»، باب بدء خلقه «ص» و ما يتعلق بذلك، الحديث 48.

(2)- الفقيه 2/ 615، كتاب الحجّ- الزيارة الجامعة- الحديث 3213، و عيون أخبار الرضا 2/ 276، الباب 68.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 894؛ عبده 3/ 36؛ لح/ 386، الكتاب 28.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 77

الثالث- في مراتب الولاية:

لا يخفى ان الولاية التشريعية بمعنى حق التصرف و الأمر حقيقة ذات مراتب:

فمرتبتها الكاملة ثابتة للّه- تعالى-.

و مرتبة منها ثابتة لبعض الأنبياء و للنبي الأكرم «ص» و الأئمة- عليهم السلام- و في عصر الغيبة للفقيه العادل العالم بالحوادث و بمسائل زمانه البصير بها القويّ على حلّها على ما يأتي من إثباتها. و يعبر عن واجد هذه المرتبة بالامام و الوالي و الأمير و السلطان و نحو ذلك.

و مرتبة منها أيضا ثابتة للأب و الجد بالنسبة الى الصغير و المجنون و البنت الباكر، و لعدول المؤمنين أيضا في بعض الموارد.

و لعله يوجد مرتبة منها للوالدين مطلقا بنحو تحسن عقلا و شرعا بل تلزم اطاعتهما و عدم التخلف عن أوامرهما ما لم تزاحم أمرا أهم، لكونهما من أولياء النعم.

و مرتبة منها ثابتة لكل مؤمن و مؤمنة، كما قال اللّه- عزّ و جلّ-: «وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.» «1» اذ ظاهر الآية ان كلّ واحد من المؤمنين و المؤمنات جعل له من قبل اللّه- تعالى- مرتبة من الولاية بالنسبة الى كلّ احد، بحيث يحقّ له اجمالا أمره و نهيه، غاية الأمر ضيق نطاق ولايته. و في الحديث عن رسول اللّه «ص»: «كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيّته.» «2»

______________________________

(1)- سورة التوبة (9)، الآية 71.

(2)- صحيح البخاري

1/ 160، كتاب الجمعة باب الجمعة في القرى و المدن.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 78

الرابع- ان الولاية المساوقة للإمامة أيضا لها مراتب بحسب التحقق الخارجي:

الأولى: مرتبة الاستعداد و الصلاحية،

أعني واجدية الشخص للصفات و الملكات الذاتية أو الاكتسابية التي بها يصير عند العقلاء صالحا لأن يجعل واليا و بدونها يكون الجعل عندهم جزافا. و هكذا منصب النبوة و الرسالة. فالحكيم المطلق لا يرسل الى الخلق لغرض الارشاد و الهداية، و كذلك لا يجعل إماما لإدارة شئون الناس و التصرف فيما يتعلق بهم الّا من له لياقة ذاتية و أهلية لهذا المنصب. كما ان العقلاء يقضي عقلهم بان لا يؤمّروا على أنفسهم الّا من ثبتت له فضائل نفسانية معينة.

و هذه المرتبة من الولاية كمال ذاتي في الشخص و حقيقة خارجية، و لكنها في الحقيقة ليست هي الولاية و الامامة الاصطلاحية، بل تكون مقدمة لها و من شرائطها.

الثانية من المراتب: المنصب المجعول للشخص اعتبارا

من قبل من له ذلك و ان فرض عدم ترتب الأثر المترقب منها عليه. مثل الولاية التي جعلها النبي الاكرم «ص» من قبل اللّه- تعالى- لأمير المؤمنين في غدير خمّ، و ان لم ترتّب الأمّة عليها الأثر و تخلّفوا عنها. و نظير ذلك ثبوت منصب الولاية شرعا للأب بالنسبة الى مال الصغير، و ان منعه المانعون من إعمالها.

الثالثة: الولاية و السلطة الفعلية الحاصلة بمبايعة الناس

و تسليم السلطة و القوة له فعلا. مثل ما حصل لأمير المؤمنين «ع» بعد عثمان بالبيعة له.

[تقويم المراتب]

و لا يخفى ان المرتبة الأولى- كما عرفت- كمال ذاتي للوالي، سواء جعل واليا أم لا، و سواء تحققت له سلطة و استيلاء فعليّ أم لا.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 79

و أمّا المرتبة الثانية فهي أمر اعتباري، بل المناصب كلّها أمور اعتبارية ليس بازائها شي ء في الخارج، سواء جعلت من قبل اللّه- تعالى- أو من قبل الأمّة. غاية الأمر ان اعتبار منصب خاص لشخص خاص لا محالة يكون مشروطا بكونه لائقا له واجدا للفضائل النفسانية او الخارجية و الّا كان جزافا. و الشروط أمور و صفات خارجية تكوينية. فالنبي الأكرم «ص» مثلا كان واجدا لفضائل ذاتية و كسبية و بلغ من القرب الى اللّه- تعالى- مقاما لم يصل اليه ملك مقرب و لا نبي مرسل، و لكن هذه الفضائل غير مأموريته بتبليغ احكام اللّه- تعالى- أو كونه أولى بالمؤمنين من أنفسهم. هذا.

و امّا المرتبة الثالثة فهي خارجية الولاية و عينيتها بلحاظ تحقق آثارها في الخارج، حيث يتسلط الوالي بقواه و تنقاد له الأمّة و ينبعثون عن أوامره و نواهيه طوعا أو كرها. و هذه المرتبة لها وجهتان: وجهة كونها مقاما و سلطة يتنافس فيها المتنافسون، و وجهة كونها أمانة من اللّه و من الناس و لا تستعقب إلّا مسئولية و كلفة. و انّما ينظر اليها أولياء اللّه بالوجهة الثانية، كما في كتاب امير المؤمنين «ع» الى الأشعث عامله على آذربيجان: «ان عملك ليس لك بطعمة، و لكنه في عنقك أمانة.» «1»

و قول أمير المؤمنين «ع» مشيرا الى نعله: «و اللّه لهي أحبّ

إليّ من إمرتكم، إلّا أن أقيم حقّا أو ادفع باطلا» «2»، لا يراد به الّا هذه المرتبة من الولاية. اذ لا يريد «ع» كون النعل احبّ اليه من علومه و فضائله و كراماته التي بها فاق الأقران و صار لائقا للخلافة و الولاية، و لا يريد به المنصب المجعول له في غدير خمّ أيضا. و إنّما يريد به السلطة و الإمارة الفعلية التي لا توجب الّا كلفة و مسئولية، و ان كان الناس مولعين بها بما هي رئاسة و مقام. فالنعل التي بها ترفع حاجاته و لا توجب مسئولية أفضل عنده و أحبّ من المقام المستعقب للمسئولية و الكلفة إلّا أن يقيم به حقا أو يدفع به باطلا و يحصّل به لنفسه قربا و أجرا.

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 839؛ عبده 3/ 7؛ لح/ 366، الكتاب 5.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 111؛ عبده 1/ 76؛ لح/ 76، الخطبة 33.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 80

و كذلك قوله في الخطبة الشقشقية: «لألقيت حبلها على غاربها و لسقيت آخرها بكأس أوّلها، و لألفيتم دنياكم هذه أزهد عندي من عفطة عنز» «1»، و قوله: «و اللّه ما كانت لي في الخلافة رغبة و لا في الولاية إربة، و لكنكم دعوتموني اليها و حملتموني عليها» «2»، لا يراد بهما الّا هذه المرتبة.

و كذلك قوله «ع»: «سلبوني سلطان ابن أمّي.» «3» فان هذه المرتبة من الولاية هي القابلة للسلب. و المراد بابن امّه نفسه كما قيل، أو رسول اللّه «ص» لأن أبويهما عبد اللّه و أبا طالب من أمّ واحدة، و هي فاطمة بنت عمرو.

و هكذا قول الامام السجّاد «ع»: «اللهم ان هذا المقام لخلفائك و أصفيائك

و مواضع أمنائك في الدرجة الرفيعة التي اختصصتهم بها قد ابتزّوها» «4» يراد به هذه المرتبة من الولاية، و الّا ففضائل الأئمة «ع» و علومهم و كمالاتهم النفسانية، التي ثبتت لهم تكوينا و بسببها استحقوا الامامة، مما لا تصل اليها أيدي الغاصبين و لا يتطرق اليها الابتزاز.

و هذا واضح لا سترة عليه.

الخامس- في معنى الإمام اصطلاحا:

لا يخفى ان إمامة الأئمة الاثنى عشر لما كانت ثابتة عندنا بالنصّ و بوجدانهم شرائط الإمامة الحقّة، صار هذا سببا لانصراف لفظ الإمام عندنا اليهم- عليهم السلام-، حتّى كأنّ لفظ الإمام وضع لهم. و لكن يجب ان يعلم ان اللفظ كما مرّ في التنبيه الأول قد وضع للقائد الذي يؤتمّ به، إما في الصلاة أو في الجهاد أو في اعمال الحجّ أو في جميع الشؤون السياسية و الاجتماعية، سواء كان بحق أو بباطل.

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 52؛ عبده 1/ 32؛ لح/ 50، الخطبة 3.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 656؛ عبده 2/ 210؛ لح/ 322، الخطبة 205.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 947؛ عبده 3/ 68؛ لح/ 409، الكتاب 36.

(4)- الصحيفة السجادية، الدعاء 48.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 81

ففي الكافي عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «ان الأئمة في كتاب اللّه- عزّ و جلّ- إمامان:

قال اللّه- تبارك و تعالى-: «وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنٰا» «1» لا بأمر الناس يقدمون أمر اللّه قبل أمرهم و حكم اللّه قبل حكمهم. قال: «وَ جَعَلْنٰاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النّٰارِ» «2» يقدّمون أمرهم قبل أمر اللّه و حكمهم قبل حكم اللّه و يأخذون بأهوائهم خلاف ما في كتاب اللّه- عزّ و جلّ.» «3»

و في سورة التوبة: «فَقٰاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ.» «4» و الأئمة جمع الإمام.

و لا ينحصر

إطلاق لفظ الإمام على القائد الأعظم و السلطان فقط، بل يطلق على القائد و لو في قسمة خاصة أيضا. فالامام الصادق «ع» أطلق على أمير الحاج المنصوب من قبل سلطان وقته لفظ الإمام، حين سقط هو- عليه السلام- عن بغلته حين الإفاضة من عرفات، فوقف عليه أمير الحاج إسماعيل بن علي، فقال له ابو عبد اللّه «ع»: «سر، فان الإمام لا يقف.» «5»

و في رسالة الحقوق لعليّ بن الحسين- عليهما السلام-: «فحقوق أئمتك ثلاثة: أوجبها عليك حق سائسك بالسلطان، ثم حق سائسك بالعلم، ثم حق سائسك بالملك. و كل سائس إمام.» «6»

و بالجملة فأنس الذهن بإمامة الأئمة الاثنى عشر- سلام اللّه عليهم اجمعين- و علوّ مقام إمامتهم و كونهم أحقّ بها من غيرهم لا ينبغي أن يوجب غفلتك و اغترارك في مفهوم الكلمة. و قد شاع استعمال الكلمة في مفهومها العام في الكتاب و السنّة و كلمات الأصحاب، يقف عليها المتتبع. فلتكن هذه النكتة في ذهنك، فانها تفيدك في المباحث الآتية.

______________________________

(1)- سورة الأنبياء (21)، الآية 73.

(2)- سورة القصص (28)، الآية 41.

(3)- الكافي 1/ 216، كتاب الحجة، باب أن الأئمة في كتاب اللّه إمامان، الحديث 2.

(4)- سورة التوبة (9)، الآية 12.

(5)- الوسائل 8/ 290، الباب 26 من أبواب آداب السفر من كتاب الحج.

(6)- الخصال/ 565 (الجزء 2)، أبواب الخمسين، الحديث 1، و تحف العقول/ 255.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 83

] الباب الثّالث في بيان لزوم الحكومة و ضرورتها في جميع الأعصار

اشارة

و لو في عصر الغيبة، بل كونها من ضروريات الإسلام و مما أوجب اللّه- تعالى- تأسيسها و الحفاظ عليها مع الإمكان.

و يشتمل هذا الباب على فصول أربعة:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 85

الفصل الأول في ذكر كلمات بعض العلماء و الأعاظم المدعين للإجماع في المسألة

1- ففي الجواهر عن المحقق الكركي

في رسالته التي ألّفها في صلاة الجمعة:

«اتفق أصحابنا على ان الفقيه العادل الأمين الجامع لشرائط الفتوى المعبّر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب من قبل أئمة الهدى- عليهم السلام- في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل، و ربما استثنى الأصحاب القتل و الحدود.» «1»

2- و قال العلّامة في أوائل الألفين:

«الحق عندنا أن وجوب نصب الإمام عام في كل وقت.» «2»

و لكن الظاهر انه- طاب ثراه- يريد الإمام المعصوم.

3- و قال المحقق النراقي- طاب ثراه- في العوائد:

«كلّيّة ما للفقيه العادل تولّيه و له الولاية فيه أمران:

أحدهما: كلّ ما كان للنبي «ص» و الإمام، الذين هم سلاطين الأنام و حصون الإسلام، فيه الولاية و كان لهم فللفقيه أيضا ذلك إلّا ما أخرجه الدليل من اجماع أو نصّ أو غيرهما.

______________________________

(1)- الجواهر 21/ 396.

(2)- الألفين/ 18.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 86

و ثانيهما: ان كلّ فعل متعلق بأمور العباد في دينهم أو دنياهم، و لا بدّ من الإتيان به و لا مفرّ منه إمّا عقلا أو عادة من جهة توقف أمور المعاد أو المعاش لواحد أو جماعة عليه، و اناطة انتظام أمور الدين أو الدنيا به، أو شرعا من جهة ورود أمر به أو اجماع أو نفي ضرر أو إضرار أو عسر أو حرج أو فساد على مسلم أو دليل آخر، أو ورد الإذن فيه من الشارع و لم يجعل وظيفة لمعيّن واحد أو جماعة و لا لغير معيّن أي واحد لا بعينه، بل علم لابدّية الإتيان به أو الإذن فيه و لم يعلم المأمور به و لا المأذون فيه، فهو وظيفة الفقيه و له التصرف فيه و الإتيان به.

اما الأول فالدليل عليه بعد ظاهر الاجماع، حيث نصّ به كثير من الأصحاب بحيث يظهر منهم كونه من المسلمات، ما صرّح به الأخبار المتقدمة ...

و امّا الثاني فيدلّ عليه بعد الإجماع أيضا أمران.» «1»

و الظاهر ان مراده بالقسم الثاني هي الأمور المهمة المعبر عنها في كلماتهم بالأمور الحسبية التي لا يرضى الشارع بإهمالها في أيّ ظرف من الظروف.

4- و قال السيد الاستاذ، المرحوم آية اللّه العظمى البروجردي- طاب ثراه-

(على ما كتبت من تقريرات بحثه الشريف):

«اتّفق الخاصة و العامة على انه يلزم في محيط الإسلام وجود سائس و زعيم يدبّر أمور

المسلمين، بل هو من ضروريات الإسلام و ان اختلفوا في شرائطه و خصوصياته و ان تعيينه من قبل رسول اللّه «ص» أو بالانتخاب العمومي.» «2»

5- و قال الماوردي في الأحكام السلطانية:

«الإمامة موضوعة لخلافة النبوّة في حراسة الدين و سياسة الدنيا. و عقدها لمن يقوم بها في الأمة واجب بالإجماع و إن شذّ عنهم الأصمّ.» «3»

6- و قال ابو محمد ابن حزم الأندلسي في الفِصَل:

«اتفق جميع أهل السنة و جميع المرجئة و جميع الشيعة و جميع الخوارج على وجوب

______________________________

(1)- العوائد/ 187- 188.

(2)- البدر الزاهر/ 52.

(3)- الأحكام السلطانية/ 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 87

الامامة، و ان الأمة واجب عليها الانقياد لإمام عادل يقيم فيهم أحكام اللّه و يسوسهم بأحكام الشريعة التي أتى بها رسول اللّه «ص»، حاشا النجدات من الخوارج، فانهم قالوا: لا يلزم الناس فرض الإمامة، و انّما عليهم ان يتعاطوا الحق بينهم. و هذه فرقة ما نرى بقي منهم أحد. و هم المنسوبون الى نجدة بن عمير الحنفى القائم باليمامة. قال أبو محمد: و قول هذه الفرقة ساقط يكفي من الرد عليه و إبطاله إجماع كل من ذكرنا على بطلانه. و القرآن و السنّة قد ورد بايجاب الإمام، من ذلك قول اللّه- تعالى-: «أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.» «1»، مع أحاديث كثيرة صحاح في طاعة الأئمة و إيجاب الإمامة.» «2»

7- و في مقدمة ابن خلدون:

«ثم إن نصب الإمام واجب، قد عرف وجوبه في الشرع بإجماع الصحابة و التابعين، لان أصحاب رسول اللّه «ص» عند وفاته بادروا الى بيعة أبي بكر و تسليم النظر اليه. و كذا في كل عصر من بعد ذلك. و لم يترك الناس فوضى في عصر من الأعصار، و استقر ذلك إجماعا دالا على وجوب نصب الامام.» «3»

8- و في شرح الخطبة الأربعين من نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي:

«قال المتكلمون: الإمامة واجبة إلّا ما يحكى عن أبي بكر الأصمّ من قدماء أصحابنا أنها غير واجبة اذا تناصفت الأمة و لم تتظالم ... فأما طريق وجوب الإمامة ما هي؟ فان مشايخنا البصريين يقولون: طريق وجوبها الشرع و ليس في العقل ما يدلّ على وجوبها. و قال البغداديون و أبو عثمان الجاحظ من البصريين و شيخنا أبو الحسين: إن العقل يدل على وجوب الرئاسة، و هو قول الإمامية.» «4»

9- و في الفقه على المذاهب الأربعة:

«اتفق الأئمة على أن الإمامة فرض و أنه لا بدّ للمسلمين من إمام يقيم شعائر الدين

______________________________

(1)- سورة النساء (4)، الآية 59.

(2)- الفصل في الملل و الأهواء و النحل 4/ 87.

(3)- مقدمة ابن خلدون/ 134 (طبعة اخرى/ 191)، الفصل 26 من الفصل 3 من الكتاب الأول.

(4)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2/ 308.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 88

و ينصف المظلومين من الظالمين، و على انه لا يجوز أن يكون على المسلمين في وقت واحد في جميع الدنيا إمامان لا متفقان و لا مفترقان.» «1»

الى غير ذلك من كلماتهم في المقام الظاهر منها كون المسألة اجماعية، فراجع مظانها.

______________________________

(1)- الفقه على المذاهب الأربعة 5/ 416.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 89

الفصل الثاني في سير إجمالي في روايات الفقه الإسلامي و فتاوى الأصحاب

اشارة

التي يظهر منها إجمالا سعة دائرة الإسلام و جامعيته لجميع شئون الإنسان و أن الحكومة داخلة في نسجه و نظامه، و لا يجوز تعطيلها في عصر و لا مكان

أقول:

للبحث في ولاية الفقيه في عصر الغيبة طريقان:

الاول: ما سلكه الأصحاب و في مقدمتهم المحقق النراقي- طاب ثراه

- في العوائد، حيث يفرضون اولا ولاية الفقيه ثم يتعقبون و يتفحصون عمّا يمكن ان يستدل به لذلك، و تراهم يعنونون الأخبار المستفيضة الواردة في شأن العلماء و الفقهاء و يستدلون بها لذلك.

الثاني: ان نبحث أولا عن لزوم الحكومة في نطاق الإسلام

و وجوب الاهتمام بشأنها و كونها من برامج الإسلام أم لا؟ و على فرض إثبات اللزوم نبحث عن شرائط الحاكم في نظر شارع الإسلام، و بعد استقصائها ننظر على أيّ عنوان تنطبق هذه الشرائط ثم نبحث عن كيفية تعيينه و عن وظائفه.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 90

و الظاهر ان الطريق الثاني أمتن و أوثق. فالطريقان نظير المشي الكلامي و الفلسفي في المسائل العقلية. فالمتكلم يفرض اولا حدوث العالم مثلا ثم يتصدى للاستدلال عليه من هنا و هناك. امّا الفيلسوف فيتوجه اولا الى حقيقة الوجود و نظام العالم فيجعله موضوعا لبحثه ثم يتصدّى لتحقيق خواصّه و عوارضه، من الوجوب و الإمكان و القدم و الحدوث و نحو ذلك من الانقسامات اللاحقة للوجود، و لا محالة ينتهي بحثه بالأخرة الى إحراز وجود الخالق و وجوبه و حدوث الخلق و امكانه.

اذا عرفت هذا فنقول: قبل الورود في اصل المسألة و ذكر الأدلة الدالة على لزوم الحكومة و كونها من برامج الإسلام و وجوب إقامتها و الاهتمام بها ينبغي أن نقوم بسير إجمالي في الروايات و الفتاوى المذكور فيها لفظ الامام، أو الوالي، أو السلطان، أو الحاكم أو بيت المال، أو السجن، أو نحو ذلك في الأبواب المختلفة، من أول الفقه الى آخره، و تفتيش إجمالي عن قوانين الإسلام و مقرراته.

فهذه النظرة الإجمالية، مضافا الى أنها تعرّفنا طبيعة فقه الإسلام و ماهيته، فهي تدلّنا أيضا على كون قوانين الإسلام و

مقرراته مبنية على أساس الولاية و الحكومة الإسلامية أو واقعة في طريقها. و بتعبير آخر تدلنا على كون الدولة داخلة في نسج الإسلام و نظامه، و تعرّفنا أيضا على واجبات الدولة و صلاحياتها.

و سبر الروايات و الفتاوى و إن أوجب التطويل، بل الملال لبعض القرّاء الكرام، و لكنه يشتمل على فوائد كثيرة أيضا. و ليس الغرض الاستقصاء، بل ذكر نماذج من الأبواب المختلفة.

تصوّر الإسلام على نحوين:

اشارة

و اعلم أن تصور الإسلام و النظرة اليه على نحوين:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 91

الأول: أن يتصور أن الإسلام يستهدف تأمين الآخرة للمسلمين فقط،

و لم يكلفهم الّا أمورا عبادية و آدابا شخصية يقوم بها كلّ فرد في بيته و معبده، و لا مساس له بالسياسة و المسائل الاقتصادية و الاجتماعية إلّا تبعا، و أن الورود في تلك المسائل و الالتفات اليها يوجب سقوط مكانة الانسان المتدين، لأن لها أهلا و رجالا غير رجال الدين، فالدين منفكّ عن السياسة بالكلية.

فهذا نحو تصور و فهم للإسلام، ابتلي به أكثر المسلمين في أعصارنا، كما ابتلي رجال الكنيسة أيضا.

و قد ابرزت هذا التصور و روّجته الدعايات المشؤومة من قبل الأجانب و عمّالهم و ألقته في أذهان عامة المسلمين غير الواعين، بل و في أذهان كثير من علماء الدين أيضا.

الثاني: أن دين الإسلام قد التفت الى جميع حاجات الإنسان في حياته و مماته، [و نذكر ذلك من أبواب الفقه ضمن فصول]
اشارة

من حين انعقاد نطفته الى وضعه في اللحد، و ما بعد ذلك من نشآته، و بيّن له ما يوجب سعادته في جميع مراحله مما ينبغي رعايته من قبل الوالدين قبل انعقاد نطفته و حينه و حين الحمل و الرضاع و الطفولة، ثم ما يلزمه من تحصيل المعارف الحقة و الأخلاق الفاضلة، و واجباته في قبال خالقه و عائلته و بيئته، و علاقاته الاجتماعية و الاقتصادية و السياسية، و روابط الحاكم و الرعية و الحقوق المدنية و الجزائية، و علاقته مع سائر الامم و نحو ذلك. فالاسلام دين واسع قد شرعت مقرراته على أساس الدولة و الحكومة الحقة. فهو دين و دولة، و عقيدة و نظام، و عبادة و أخلاق و تشريع، و اقتصاد و سياسة و حكم، و الواجب على المسلمين الالتفات الى جميع هذه المراحل و الاهتمام بها.

و هذا هو الفهم الصحيح للإسلام، فلنشر الى أبواب الفقه بالإجمال، فانها خير شاهد يدلك على هذا. و نذكر ذلك في فصول:

دراسات في ولاية الفقيه

و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 92

الفصل الأول في الصلاة

فالصلاة التي هي عمود الدين و قربان كلّ تقي، و تشريعها لارتباط المخلوق بخالقه قد نرى مع ذلك تأكيد الإسلام فيها على الجماعة، حتى ان رسول اللّه «ص» في أول تشريعها أقامها جماعة مع أمير المؤمنين «ع» و خديجة المكرّمة، كما نقله أرباب السير.

و قد أكّد فيها على الجماعة حتى في صفّ القتال و في الظروف الاضطرارية:

1- قال اللّه- تعالى- في سورة النساء: «وَ إِذٰا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلٰاةَ فَلْتَقُمْ طٰائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ، فَإِذٰا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرٰائِكُمْ وَ لْتَأْتِ طٰائِفَةٌ أُخْرىٰ لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ. وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وٰاحِدَةً. وَ لٰا جُنٰاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كٰانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضىٰ أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّٰهَ أَعَدَّ لِلْكٰافِرِينَ عَذٰاباً مُهِيناً.» «1»

فانظر الى اهتمام الإسلام بالجماعة التي يتعقبها قهرا التفاهم و التعاون و التشكل، و شاهد كيف امتزجت العبادة بالسياسة!

2- و عن نفلية الشهيد عن النبي «ص»: «لا صلاة لمن لم يصل في المسجد مع المسلمين الّا من علّة.» «2»

______________________________

(1)- سورة النساء (4)، الآية 102.

(2)- مستدرك الوسائل 1/ 489، الباب 2 من أبواب صلاة الجماعة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 93

3- و عنه أيضا: «الصلاة جماعة و لو على رأس زجّ.» «1»

أقول: الزج بالضم: الحديدة التي في أسفل الرمح، و قد يطلق على الرمح كلّه.

4- و عن الصادق «ع» قال: «هم رسول اللّه «ص» بإحراق قوم في منازلهم كانوا يصلّون في منازلهم و لا يصلّون الجماعة.» «2»

5- و في رواية

العلل عن الفضل بن شاذان، عن الرضا «ع»: «إنما جعلت الجماعة لئلا يكون الإخلاص و التوحيد و الإسلام و العبادة للّه إلّا ظاهرا مكشوفا مشهودا، لأن في إظهاره حجة على أهل الشرق و الغرب للّه وحده، و ليكون المنافق و المستخفّ مؤديا لما أقرّ به يظهر الإسلام و المراقبة، و ليكون شهادات الناس بالإسلام بعضهم لبعض جائزة ممكنة، مع ما فيه من المساعدة على البر و التقوى و الزجر عن كثير من معاصي اللّه- عزّ و جلّ.» «3»

فالمصالح الاجتماعية ملحوظة في الصلاة بطبعها الغالب و ليست الصلاة عبادة محض شخصية، بل كأنّ الأصل الأوّلي فيها هي الجماعة، و الفرادى إنّما هي في صورة الاضطرار.

و أما صلاة الجمعة فقبل الهجرة لم يتيسّر لرسول اللّه «ص» إقامتها بنفسه، و لكن بعد ما آمن به جمع كثير من أهل المدينة أقاموا بأمره صلاة الجمعة بإمامة مصعب بن عمير أو اسعد بن زرارة أو بهما على التناوب. و هي الحجر الأساس الأول للتجمع و تشكيل دولة اسلامية في المدينة. و قد أقامها رسول اللّه «ص» بنفسه في أول جمعة أدركها في المدينة في محلّة بني سالم بمائة من المسلمين. و أقامها بعده من تصدّى لزعامة الأمّة و تنظيم أمورهم. فكان الخلفاء و الأمراء يقيمونها، و كان على الناس حضورها إلّا ذووا الأعذار.

______________________________

(1)- مستدرك الوسائل 1/ 488، الباب 1 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 13.

(2)- الوسائل 5/ 377، الباب 2 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 9.

(3)- الوسائل 5/ 372، الباب 1 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 9.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 94

و قد شرّع فيها خطبتان يلقيهما الأمير بنفسه و يذكر فيهما، مضافا الى

الحمد و الصلاة و الارشاد و الوعظ، المسائل الاجتماعية و السياسية.

6- ففي خبر الفضل بن شاذان، عن الرضا «ع»: «فإن قيل: فلم جعلت الخطبة؟

قيل: لأن الجمعة مشهد عامّ، فأراد أن يكون للأمير سبب الى موعظتهم و ترغيبهم في الطاعة و ترهيبهم من المعصية، و توقيفهم على ما أراد من مصلحة دينهم و دنياهم، و يخبرهم بما ورد عليهم من الآفاق (الآفات- العلل و العيون) من الأهوال التي لهم فيها المضرة و المنفعة.» «1»

فالمتصدّي لإقامتها هو أمير القوم. و لم يجب حضورها على النساء و الشيوخ و الزمنى و نحوهم، بل يجب على الشبان من الرجال المتمكنين. فكأنّ الغرض كان تهيؤ المسلمين و انتقالهم من صف الجمعة الى صف القتال أو الى صفوف المرابطين الحافظين للثغور.

و بالجملة، فإن إقامة الجمعة من شئون الحكومة، و هي الحجر الأساس لتأسيسها و الحافظ عليها. و قد غلب فيها الجهات الاجتماعية و السياسية، بل العسكرية.

7- و في رواية عبد الرحمن بن سيابة، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «إن على الإمام أن يخرج المحبسين في الدين يوم الجمعة، و يوم العيد الى العيد، و يرسل معهم. فإذا قضوا الصلاة و العيد ردّهم الى السجن.» «2»

فيظهر من الحديث أن صلاة الجمعة مما يغلب عليها الوجهة السياسية، حتى انه يجب ان يحضرها المسجونون و الضباط، بل لعلها بنفسها من شئون من بيده اختيار السجون و المسجونين، فهي من شئون الحكومة المسلمة.

8- و في خبر محمد بن مسلم عن ابى جعفر «ع» قال: «تجب الجمعة على سبعة نفر من المسلمين و لا تجب على أقل منهم: الإمام و قاضيه و المدعي حقا و المدعى عليه و الشاهدان و الذي

______________________________

(1)- الوسائل 5/ 39،

الباب 25 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 6.

(2)- الوسائل 5/ 36، الباب 21 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 95

يضرب الحدود بين يدي الامام.» «1»

و ظهوره في كون إقامتها من شئون الحكومة و إمام المسلمين واضح.

9- و كذلك صلاة العيدين. ففي موثقة سماعة، عن أبي عبد اللّه «ع» قال:

«لا صلاة في العيدين الّا مع الامام.» و نحوها أخبار أخر «2» اللهم الّا أن يحمل الإمام فيها على إمام الجماعة.

______________________________

(1)- الوسائل 5/ 9 الباب 2 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 9.

(2)- الوسائل 5/ 96، الباب 2 من أبواب صلاة العبد، الحديث 5 و نحوه غيره في هذا الباب.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 96

الفصل الثاني في الصوم و الاعتكاف

1- ففي صحيحة محمد بن قيس، عن أبي جعفر «ع»: «اذا شهد عند الإمام شاهدان أنهما رأيا الهلال منذ ثلاثين أمر الإمام بالإفطار. الحديث.» «1»

2- و في خبر عيسى بن أبي منصور انه قال: «كنت عند أبي عبد اللّه «ع» في اليوم الذي يشك فيه، فقال: «يا غلام اذهب فانظر أ صام السلطان أم لا» فذهب ثم عاد فقال: لا، فدعا بالغداء فتغدينا معه.» «2»

3- و عن الصادق «ع»: قال: «دخلت على أبي العباس بالحيرة فقال: يا با عبد اللّه، ما تقول في الصيام اليوم؟ فقال: ذاك الى الإمام: إن صمت صمنا، و إن أفطرت أفطرنا.

الحديث.» «3» و نحو ذلك من الأخبار.

4- و في صحيحة بريد العجلي، قال: «سئل أبو جعفر «ع» عن رجل شهد عليه شهود أنه أفطر من شهر رمضان ثلاثة أيام. قال: يسأل هل عليك في إفطارك إثم، فان قال: لا، فان على الامام

ان يقتله، و ان قال: نعم، فان على الإمام أن ينهكه ضربا.» «4»

5- و في صحيحة عمر بن يزيد، قال: «قلت لأبي عبد اللّه «ع»: ما تقول في

______________________________

(1)- الوسائل 5/ 104، الباب 9 من أبواب صلاة العيد، الحديث 1.

(2)- الوسائل 7/ 94، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، الحديث 1.

(3)- الوسائل 7/ 95، الباب 57 من أبواب ما يمسك عنه الصائم، الحديث 5.

(4)- الوسائل 7/ 178، الباب 2 من أبواب أحكام شهر رمضان، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 97

الاعتكاف ببغداد في بعض مساجدها؟ فقال: لا اعتكاف إلّا في مسجد جماعة قد صلّى فيه إمام عدل صلاة جماعة. الحديث.» «1»

قال في الوسائل:

«هذا أيضا شامل للمسجد الجامع، لان الإمام العدل أعم من المعصوم، كالشاهد العدل.» «2»

______________________________

(1)- الوسائل 7/ 401، الباب 3 من كتاب الاعتكاف، الحديث 8.

(2)- الوسائل 7/ 402، ذيل الحديث 9 من الباب 3 من كتاب الاعتكاف

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 98

الفصل الثالث في الزكاة

و أما الزكاة فيستفاد من الكتاب العزيز و من أخبار كثيرة أنها من ضرائب الحكومة الاسلامية، و أن المتصدّي لأخذها و ضبطها و تقسيمها هو الحاكم بعمّاله.

1- قال اللّه- تعالى-: «خُذْ مِنْ أَمْوٰالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِهٰا، وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلٰاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ.» «1»

و نفس جعل السهم للعاملين عليها و المؤلفة قلوبهم دليل على كونها في تصرف الحكومة. و لو كانت بحسب التشريع الأولى بتصرف المالك لم نحتج الى عامل يجمعها و يوصلها الى من يقسمها. و النبي «ص» كان يرسل العمال و المصدقين لجمعها، و كذلك الخلفاء بعده، و هكذا كانت سيرة عليّ «ع».

2- و

في صحيحة زرارة و محمد بن مسلم انهما قالا لأبي عبد اللّه «ع»: «أ رأيت قول اللّه- تبارك و تعالى-: «إِنَّمَا الصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ وَ الْمَسٰاكِينِ.» الآية «2»، أ كل هؤلاء يعطى و إن كان لا يعرف؟ فقال: ان الإمام يعطي هؤلاء جميعا، لأنهم يقرّون له بالطاعة.

قال زرارة: قلت: فان كانوا لا يعرفون؟ فقال: يا زرارة، لو كان يعطى من يعرف دون من لا يعرف لم يوجد لها موضع، و انما يعطى من لا يعرف ليرغب في الدين فيثبت عليه. فامّا اليوم فلا تعطها أنت و أصحابك إلّا من يعرف. الحديث.» «3»

______________________________

(1)- سورة التوبة (9)، الآية 103.

(2)- سورة التوبة (9)، الآية 60.

(3)- الوسائل 6/ 143، الباب 1 من أبواب المستحقين للزكاة، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 99

فيعلم من هذه الصحيحة ان الزكاة بحسب التشريع الأوّلي تكون في تصرف الإمام، و هو يسدّ بها خلّات من يكون تحت لوائه و حكومته، عارفا كان أو غير عارف. و لكن لما تصدّى للحكومة غير أهلها و كانت الزكوات تصرف في غير مصارفها و يبقى الشيعة محرومين أمر الإمام بإعطاء الشيعة زكواتهم الى العارفين بحقهم. فهذا حكم موقت على خلاف طبع الجعل الاوّلي.

3- و في صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «قلت له: ما يعطى المصدق؟ قال: ما يرى الإمام و لا يقدر له شي ء.» «1»

4- و في خبر علي بن ابراهيم المرويّ عن تفسيره عن العالم «ع»: «و الغارمين قوم قد وقعت عليهم ديون أنفقوها في طاعة اللّه من غير إسراف، فيجب على الإمام أن يقضي عنهم و يفكّهم من مال الصدقات. و في سبيل اللّه قوم يخرجون في الجهاد

و ليس عندهم ما يتقوون به، أو قوم من المؤمنين ليس عندهم ما يحجّون به، أو في جميع سبل الخير. فعلى الامام أن يعطيهم من مال الصدقات حتى يقووا على الحج و الجهاد. و ابن السبيل أبناء الطريق الذين يكونون في الأسفار في طاعة اللّه فيقطع عليهم و يذهب مالهم. فعلى الإمام أن يردّهم الى أوطانهم من مال الصدقات.» «2»

و بالجملة يعرف مما ذكر و أمثاله أن الزكاة شرّعت على أساس الحكومة الإسلامية، و أنها إحدى ضرائبها و تكون الحكومة هي المتصدية لأخذها و ضبطها و وضعها في مواضعها. كل ذلك بواسطة العاملين المنصوبين من قبلها.

5- و في خبر موسى بن بكر قال: «قال لي أبو الحسن «ع»: من طلب هذا الرزق من حلّه ليعود به على نفسه و عياله كان كالمجاهد في سبيل اللّه. فان غلب عليه فليستدن على اللّه و على رسوله ما يقوت به عياله. فان مات و لم يقضه كان على الإمام قضاؤه. فإن لم يقضه كان عليه وزره. ان اللّه- عزّ و جلّ- يقول: «إِنَّمَا الصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ وَ الْمَسٰاكِينِ وَ الْعٰامِلِينَ عَلَيْهٰا» الى قوله:

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 144، الباب 1 من أبواب المستحقين للزكاة، الحديث 4.

(2)- الوسائل 6/ 145، الباب 1 من أبواب المستحقين للزكاة، الحديث 7.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 100

«و الغارمين.» فهو فقير مسكين مغرم.» «1»

6- و في خبر مرسل: «سأل الرضا «ع» رجل و أنا اسمع، فقال: جعلت فداك ان اللّه- عزّ و جلّ- يقول: «وَ إِنْ كٰانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلىٰ مَيْسَرَةٍ.» «2» أخبرني عن هذه النظرة التي ذكر اللّه- عزّ و جلّ- في كتابه لها حدّ يعرف؟ ... قال: نعم،

ينتظر بقدر ما ينتهي خبره الى الإمام فيقضى عنه ما عليه من الدين من سهم الغارمين اذا كان أنفقه في طاعة اللّه، فان كان أنفقه في معصية اللّه فلا شي ء له على الإمام.» «3»

7- و في خبر مرسل عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «الإمام يقضي عن المؤمنين الديون ما خلا مهور النساء.» «4»

8- و في خبر صباح بن سيّابة، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «قال رسول اللّه «ص»:

أيما مؤمن أو مسلم مات و ترك دينا لم يكن في فساد و لا إسراف فعلى الإمام ان يقضيه، فان لم يقضه فعليه إثم ذلك. ان اللّه- تبارك و تعالى- يقول: «إِنَّمَا الصَّدَقٰاتُ لِلْفُقَرٰاءِ وَ الْمَسٰاكِينِ» الآية. فهو من الغارمين و له سهم عند الامام. فإن حبسه فإثمه عليه.» «5»

9- و في خبر عن علي بن موسى الرضا: «المغرم اذا تديّن أو استدان في حقّ أجّل سنة، فإن اتّسع و إلّا قضى عنه الإمام من بيت المال.» «6»

10- و في خبر علي بن أبي حمزة، عن أبي الحسن موسى «ع» قال: «قلت له:

جعلت فداك، رجل قتل رجلا متعمدا أو خطأ و عليه دين و ليس له مال و أراد أولياؤه أن يهبوا دمه للقاتل؟ قال: إن وهبوا دمه ضمنوا ديته. فقلت: إن هم أرادوا

______________________________

(1)- الوسائل 13/ 91، الباب 9 من أبواب الدين، الحديث 2.

(2)- سورة البقرة (2)، الآية 280.

(3)- الوسائل 13/ 91، الباب 9 من أبواب الدين، الحديث 3.

(4)- الوسائل 13/ 92، الباب 9 من أبواب الدين، الحديث 4.

(5)- الكافي 1/ 407، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام على الرعية ...، الحديث 7.

(6)- الكافي 1/ 407، كتاب الحجة باب ما يجب من حق

الإمام على الرعية ...، الحديث 9.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 101

قتله؟ قال: إن قتل عمدا قتل قاتله و أدّى عنه الإمام الدين من سهم الغارمين. الحديث.» «1»

11- و في رواية أبي علي بن راشد، قال: «سألته عن الفطرة لمن هي؟ قال:

للإمام. قال: قلت له: فأخبر أصحابي؟ قال: نعم، من أردت أن تطهره منهم.» «2»

يظهر من هذه الأخبار المستفيضة أن الزكاة شرعت في الإسلام لسدّ خلّات المسلمين بأجمعها، و أن أمرها يكون بيد الإمام فهو الذي يصرفها في مصارفها.

و حينئذ فهل يمكن القول بأن المراد بالإمام فيها خصوص الإمام المعصوم، فيكون الحكم مقصورا على عصر النبي «ص» و خلافة أمير المؤمنين و عصر ظهور المهدي «ع» ثم تصير معطلة في سائر الأعصار؟!

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 92، الباب 59 من أبواب القصاص، الحديث 2.

(2)- الوسائل 6/ 240، الباب 9 من أبواب زكاة الفطرة، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 102

الفصل الرابع في الخمس و الأنفال

و أما الخمس و الأنفال فكونهما للإمام بما أنه إمام مما لا إشكال فيه. و قد حققنا في كتاب الخمس أن حيثية الإمامة فيهما حيثية تقييدية لا تعليلية، بمعنى أن الحيثية بنفسها هي الموضوع للملك، لا انها علّة و واسطة في الثبوت لملكية الامام الصادق «ع» مثلا، و الّا لانتقل الى ورثته، لا الى الإمام بعده.

1- و في خبر أبي علي بن راشد، عن أبي الحسن الثالث «ع»: «ما كان لأبي بسبب الإمامة فهو لي، و ما كان غير ذلك فهو ميراث.» «1»

2- و عبّر في خبر المحكم و المتشابه عن علي «ع» عن الخمس بأجمعه بوجه الإمارة، فقال: «فأما وجه الإمارة فقوله: وَ اعْلَمُوا أَنَّمٰا

غَنِمْتُمْ. الآية.» «2»

و يظهر من الأخبار كون الخمس بأجمعه حقا وحدانيا للإمام- عليه السلام- غاية الأمر أنه يتكفل فقراء بنى هاشم و لذا لم يدخل لام الملك على الأصناف الثلاثة في الآية الشريفة.

3- و في خبر ابن شجاع النيشابوري، عن أبي الحسن الثالث «ع»: «لي منه الخمس مما يفضل من مئونته.» «3»

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 374، الباب 2 من أبواب الأنفال، الحديث 6.

(2)- الوسائل 6/ 341، الباب 2 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 12.

(3)- الوسائل 6/ 348، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 103

فنسب جميع الخمس الى نفسه.

4- و في خبر أبي علي بن راشد: «قلت له أمرتني بالقيام بأمرك و أخذ حقّك فأعلمت مواليك بذلك، فقال لي بعضهم: و أي شي ء حقّه فلم أدر ما أجيبه؟

فقال «ع»: يجب عليهم الخمس. فقلت: ففي أيّ شي ء؟ فقال: في أمتعتهم و صنائعهم.

الحديث.» «1»

و ليس الخمس لمصارف شخص الإمام فقط، بل لمنصب الإمامة ليصرفه فيما يراه من مصالح المسلمين، و من أهمّها مصارف شخصه و مصارف السادة.

5- ففي تفسير القمي في ذيل آية الخمس:

«و إنّما صارت للإمام وحده من الخمس ثلاثة أسهم، لأن اللّه قد ألزمه ما ألزم النبي «ص» من تربية الأيتام و مؤن المسلمين و قضاء ديونهم، و حملهم في الحج و الجهاد. و ذلك قول رسول اللّه «ص» لما أنزل اللّه عليه: «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم و أزواجه أمهاتهم» و هو أب لهم. فلما جعله اللّه أبا للمؤمنين لزمه ما يلزم الوالد للولد، فقال عند ذلك: «من ترك مالا فلورثته و من ترك دينا أو ضياعا فعلى الوالي.»

فلزم

الإمام ما لزم الرسول. فلذلك صار له من الخمس ثلاثة أسهم.» «2»

و بالجملة يستفاد من مجموع الأدلة ان الخمس ضريبة اسلامية مقررة لمنصب إمامة المسلمين. و نحوه الأنفال، أعني مجموع الأموال العامّة التي ليس لها مالك شخصي كأرض الموات و الجبال و الآجام و الأودية و البحار و المعادن و نحوها. و قد صرّح بكونها للإمام في أخبار كثيرة، فراجع الباب الأول من أبواب الأنفال من الوسائل. «3».

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 348، الباب 8 من أبواب ما يجب فيه الخمس، الحديث 3.

(2)- تفسير علي بن إبراهيم (القمي)/ 254 (طبعة أخرى 1/ 278).

(3)- الوسائل 6/ 364.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 104

6- و منها خبر المحكم و المتشابه عن أمير المؤمنين «ع» حيث قال: «ان للقائم بأمور المسلمين بعد ذلك الأنفال التي كانت لرسول اللّه «ص». الحديث.» «1»

و لا يخفى على من له أدنى التفات الى مذاق الشرع ان اللّه- تعالى- لا يجعل جميع الأموال و العقارات التي خلقها لرفع حاجات البشر و خمس جميع أموال الناس ملكا طلقا لشخص الرسول أو الإمام. بل المراد من آية الأنفال و من الروايات الكثيرة الواردة فيها ان اللّه- تعالى- جعلها لمنصب الإمامة و في اختيار الرسول أو الإمام بما أنه زعيم المسلمين و سائسهم، ليصرفها في مصالحهم و يأذن لهم في الاستفادة منها على نظام صحيح عادل.

و بعبارة أخرى، الأنفال أموال عامة خلقها اللّه للأنام، و لكن الإمام وليّ أمرها و بيده زمام اختيارها، ليصرفها و يقسمها على ما يقتضيه مصالح المسلمين.

نعم، من المصالح المهمة أيضا إدارة شئون شخص الإمام و رفع حاجاته الشخصية.

و هذا هو المتعارف و المتداول في جميع الأعصار و البلاد

من جعل الأموال التي لا ترتبط بشخص خاص- لعدم كونه منتجا لها أو وارثا ايّاها ممن انتجها- في اختيار الحاكم الممثل للمجتمع المتبلور فيه جميع من يكون تحت لوائه و حكومته.

و قد أوضحنا ذلك كله في كتاب الخمس و الأنفال، فراجع.

و أنت ترى ان المحدّث الفذّ، ثقة الإسلام الكليني لم يعقد في فروع الكافي بابا للخمس و الأنفال، بل تعرّض لرواياتهما في مبحث الإمامة من الأصول. فيظهر من ذلك أنه- قدّس سرّه- كان يراهما من شئون الإمامة.

و الغرض من بيان ذلك كله في المقام هو الإلفات الى أن تشريع الزكاة و الخمس و الأنفال كان على أساس الحكومة الاسلامية، و أن زمام أمرها بيد الحاكم الصالح المعبّر عنه بالإمام.

و مما يدلّ على هذا الأمر أيضا في هذه الثلاثة مرسلة حماد الطويلة التي يستدل

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 370، الباب 1 من أبواب الأنفال، الحديث 19.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 105

بها في أبواب مختلفة:

7- فروى حماد، عن بعض أصحابنا، عن العبد الصالح «ع» قال: «الخمس من خمسة أشياء: من الغنائم و الغوص و من الكنوز و من المعادن و الملاحة. يؤخذ من كلّ من هذه الصنوف الخمس فيجعل لمن جعله اللّه- تعالى- ... يقسم بينهم على الكتاب و السنة ما يستغنون به في سنتهم، فإن فضل عنهم شي ء فهو للوالي، و إن عجز أو نقص عن استغنائهم كان على الوالي أن ينفق من عنده بقدر ما يستغنون به ...

و للإمام صفو المال، أن يأخذ من هذه الأموال صفوها ...

و الأرضون التي أخذت عنوة بخيل و رجال فهي موقوفة متروكة في يد من يعمرها و يحييها، و يقوم عليها على ما يصالحهم

الوالي، على قدر طاقتهم من الحق: النصف أو الثلث أو الثلثين و على قدر ما يكون لهم صلاحا و لا يضرهم، فاذا أخرج منها ما أخرج بدأ فأخرج منه العشر من الجميع مما سقت السماء أو سقي سيحا، و نصف العشر مما سقي بالدوالى و النواضح، فأخذه الوالي فوجّهه في الجهة التي وجّهها اللّه على ثمانية أسهم ... فإن فضل من ذلك شي ء ردّ الى الوالي، و ان نقص من ذلك شي ء و لم يكتفوا به كان على الوالي أن يمونهم من عنده بقدر سعتهم حتى يستغنوا.

و يؤخذ بعد ما بقي من العشر فيقسم بين الوالي و بين شركائه الذين هم عمّال الأرض و أكرتها، فيدفع اليهم أنصباءهم على ما صالحهم عليه، و يؤخذ الباقي فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين اللّه و في مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام و تقوية الدين في وجوه الجهاد و غير ذلك مما فيه مصلحة العامة ليس لنفسه من ذلك قليل و لا كثير.

و له بعد الخمس الأنفال. و الأنفال كل أرض خربة قد باد أهلها. و كل أرض لم يوجف عليها بخيل و لا ركاب و لكن صالحوا صلحا و أعطوا بأيديهم على غير قتال. و له رءوس الجبال و بطون الأودية و الآجام و كلّ أرض ميتة لا رب لها. و له صوافي الملوك ما كان في أيديهم من غير وجه الغصب، لأن الغصب كله مردود. و هو وارث من لا وارث له ...

و كان رسول اللّه «ص» يقسم صدقات البوادي في البوادي و صدقات أهل الحضر في أهل الحضر. و لا يقسم بينهم بالسوية على ثمانية حتى يعطي أهل كل سهم ثمنا، و لكن

يقسمها على قدر من يحضره من أصناف الثمانية على قدر ما يقيم كل صنف منهم يقدر لسنته. ليس في ذلك شي ء

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 106

موقوت و لا مسمّى و لا مؤلف، إنما يصنع ذلك على قدر ما يرى و ما يحضره حتى يسدّ فاقة كل قوم منهم. و إن فضل من ذلك فضل عرضوا المال جملة الى غيرهم. و الأنفال الى الوالي و كل أرض فتحت في أيام النبي «ص» الى آخر الأبد ...

و ليس في مال الخمس زكاة، لأن فقراء الناس جعل أرزاقهم في أموال الناس ... و لذلك لم يكن على مال النبي «ص» و الوالي زكاة، لأنه لم يبق فقير محتاج و لكن عليهم أشياء تنوبهم من وجوه، و لهم من تلك الوجوه كما عليهم.» «1»

و السند صحيح الى حمّاد و هو من أصحاب الإجماع. و تعبيره عن المروي عنه ببعض أصحابنا يوجب نحو اعتماد عليه. مضافا الى اعتماد الأصحاب على الخبر في الأبواب المختلفة. هذا.

و دلالة الخبر على كون تشريع الزكاة و الخمس و الأنفال على أساس الولاية و الحكومة الإسلامية المبسوطة اليد، و ان الحاكم هو المتصدّي لأخذها و تقسيمها واضحة، كدلالته على كونه المتصدّي للتصرف في الأراضي المفتوحة عنوة.

و قد بيّن هذه الأحكام الإمام موسى بن جعفر حينما لم يكن هو مبسوط اليد و لم يكن له سلطة و ولاية فعلية بحيث يباشر الأمور المذكورة. فغرضه «ع» كان بيان حكم الزكاة و الخمس و الأنفال و الأراضي بحسب التشريع الأوّلي في الإسلام.

و بالجملة، فنفس تشريع أحكام الإسلام أدل دليل على كون الحكومة و الولاية كالحجر الأساس لبناء الإسلام.

______________________________

(1)- الكافي 1/ 539

كتاب الحجة، باب الفي ء و الأنفال و تفسير الخمس ...، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 107

الفصل الخامس في الحج و المزار
[أمّا الآيات]

و أما الحج فلا شك في أن الجهات الاجتماعية و السياسية بل الاقتصادية منظورة في تشريعه جدّا.

قال اللّه- تعالى-: «جَعَلَ اللّٰهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرٰامَ قِيٰاماً لِلنّٰاسِ.» «1»

قال الراغب في المفردات: «القيام و القوام اسم لما يقوم به الشي ء.» «2»

فمقتضى الآية أن الناس يتقوّمون في معاشهم و معادهم بالكعبة، كما انهم يتقومون في حياتهم بالمال، كما قال اللّه- تعالى-: «وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّٰهُ لَكُمْ قِيٰاماً.» «3»

فيعلم من ذلك أن الغرض من تشريع الحج ليس إتيان صورة الأعمال فقط.

إذ كيف يكون مجرد ذلك مما يقوم به الناس؟! بل الغرض اجتماع المتمكنين من المسلمين و ذوي الطاقات منهم من البلاد و الأصقاع المختلفة و تعارفهم و تفاهمهم ليتعاونوا و يتعاضدوا و يوجدوا بينهم العلاقات السياسية و الاقتصادية و الثقافية و غيرها، فيكون الحج لهم مؤتمرا كبيرا عالميا في مركز الوحي و النبوة، و بمثل ذلك يقوم الناس و الأمم.

______________________________

(1)- سورة المائدة (5)، الآية 97.

(2)- المفردات/ 432.

(3)- سورة النساء (4)، الآية 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 108

و أما الأخبار

1- ففي خبر الفضل بن شاذان، عن الرضا «ع» قال: «إنّما أمروا بالحج لعلّة الوفادة الى اللّه- عزّ و جلّ ... مع ما في ذلك لجميع الخلق من المنافع لجميع من في شرق الأرض و غربها، و من في البر و البحر، ممن يحج و ممن لم يحج من بين تاجر و جالب و بائع و مشتري و كاسب و مسكين و مكار و فقير، و قضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه، مع ما فيه من التفقه و نقل أخبار الأئمة «ع» الى كل صقع و ناحية.» «1»

2-

و في خبر هشام بن الحكم، عن أبي عبد اللّه «ع»: «و أمرهم بما يكون من أمر الطاعة في الدين و مصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من الشرق و الغرب ليتعارفوا، و لينزع كل قوم من التجارات من بلد الى بلد، و لينتفع بذلك المكاري و الجمّال، و لتعرف آثار رسول اللّه «ص» و تعرف أخباره و يذكر و لا ينسى. و لو كان كلّ قوم انما يتكلمون على بلادهم و ما فيها هلكوا و خربت البلاد، و سقطت الجلب و الأرباح، و عميت الأخبار و لم تقفوا على ذلك. فذلك علّة الحج.» «2»

فعليك بالدقة في الخبرين و لا سيما قوله: «ممن يحج و ممن لم يحج»، و قوله: «و قضاء حوائج أهل الأطراف في المواضع الممكن لهم الاجتماع فيه»، و قوله: «ليتعارفوا». فانظر كيف غفل المسلمون و أغفلوا عن بركات و فوائد هذا الاجتماع المهم في مركز الوحي الذي سهّل اللّه تحققه لهم في كل سنة. و لو كان لهم وعي سياسي أمكن لهم حلّ كثير من المسائل و المشاكل بتبادل الأفكار و التفاهم، و لم يتسلط عليهم الغرب و عميلتهم اسرائيل مع كثرة عدد المسلمين و قدرتهم المعنوية و طاقاتهم الاقتصادية بحيث يحتاج اليهم الغرب و الشرق. اللهم فأيقظ المسلمين من نومهم و هجعتهم.

______________________________

(1)- الوسائل 8/ 7، الباب 1 من أبواب وجوب الحج، الحديث 15.

(2)- الوسائل 8/ 8، الباب 1 من أبواب وجوب الحج، الحديث 18.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 109

3- و في خبر عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «لو عطّل الناس الحج لوجب على الإمام أن يجبرهم على الحج.»

«1»

4- و في خبر آخر عنه «ع»: «لو أن الناس تركوا الحج لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك و على المقام عنده. و لو تركوا زيارة النبي «ص» لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك و على المقام عنده. فإن لم يكن لهم أموال أنفق عليهم من بيت مال المسلمين.» «2»

و لا يخفى أن الإجبار لا يتحقق إلّا من ناحية الإمام المبسوط اليد الذي له ولاية فعلية. كما ان بيت مال المسلمين أيضا لا يكون إلّا في تصرفه. و الإمام الصادق «ع» بنفسه لم يكن كذلك و كذلك آباؤه و أبناؤه غير أمير المؤمنين «ع». فهل هو- عليه السلام- في هذه الاخبار و نحوها في مقام تعيين الوظيفة للقائم- عليه السلام- فقط، او لكل وال مسلم وجد شرائط الولاية و انتخبه المسلمون حاكما عليهم؟

5- و في خبر حفص، قال: «حج اسماعيل بن علي بالناس سنة أربعين و مأئة، فسقط ابو عبد اللّه «ع» عن بغلته، فوقف عليه اسماعيل، فقال له أبو عبد اللّه «ع»:

سر، فان الإمام لا يقف.» «3»

6- و في خبر آخر له، قال: «رأيت أبا عبد اللّه «ع» و قد حجّ فوقف الموقف، فلما دفع الناس منصرفين سقط ابو عبد اللّه «ع» عن بغلة كان عليها، فعرفه الوالي الذي وقف بالناس تلك السنة- و هي سنة أربعين و مأئة- فوقف على أبي عبد اللّه «ع» فقال له أبو عبد اللّه «ع»: لا تقف، فان الإمام اذا دفع بالناس لم يكن له أن يقف.

الحديث.» «4»

و لعل غرضه «ع» أن قائد الجماعة و أميرهم يجب عليه رعاية مصلحة الجماعة،

______________________________

(1)- الوسائل 8/ 15، الباب 5 من أبواب وجوب الحج، الحديث 1.

(2)- الوسائل 8/ 16، الباب

5 من أبواب وجوب الحج، الحديث 2.

(3)- الوسائل 8/ 290، الباب 26 من أبواب آداب السفر، الحديث 1.

(4)- الوسائل 8/ 290، الباب 26 من أبواب آداب السفر، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 110

و لا يفدي مصالح الجماعة لمصلحة شخص و ان كان شخصية معروفة.

و قد أطلق لفظ الإمام في الخبرين على أمير الحاج، مع كونه منصوبا من قبل سلطان وقته.

و يظهر من الخبرين و بعض الأخبار الآتية تعارف تعيين أمير الحاج في تلك الأعصار و كون أداء الأعمال من الوقوف و الإفاضة و نحوهما تحت نظره، و لا محالة كان الأئمة «ع» و أصحابهم أيضا يتابعونه. و لو فرض تخلفهم عنه مرّة أو مرّات لبان و ظهر و ضبطه التاريخ. و بذلك يظهر كفاية الأعمال المأتية بحكم حاكمهم. نعم، كفايتها في صورة العلم بالخلاف مشكل، و لكن الغالب هو الشك لا العلم بالخلاف.

و كيف كان فانه يعلم من الأخبار و التواريخ ان إدارة الحج كانت بيد الحكام و الولاة، و كانوا يباشرونها او ينصبون لها اميرا يحج بالناس و يراقبهم في جميع مواقف الحج. و قد ذكر المسعودي في آخر تاريخه: «مروج الذهب» أسامي أمراء الحج من حين فتح مكة، أعني سنة ثمان من الهجرة الى سنة خمس و ثلاثين و ثلاثمائة، فراجع.

و الحج و ان كان عبادة اللّه- تعالى- و لكن الفوائد الاجتماعية و السياسية ملحوظة فيه جدّا، كما مرّ. و التجمع و التشكّل مطلوب فيه، و الأمير الواحد حافظ للتشكل و التكتل، فليس لأحد التخلف عن ذلك. و الأئمة- عليهم السلام- كانوا يعاملون حكّام الجور معاملة الحاكم الحق، حفظا لمصالح الإسلام و المسلمين. و لذا أنفذوا

الخراج و الزكوات و الأخماس المؤداة اليهم و أخذ الجوائز منهم.

و لا ينافي هذا وجوب القيام في قبال سلاطين الجور مع القدرة و وجود العدّة و العدّة، لما سيجي ء من وجوب إقامة الدولة العادلة مع القدرة و لكن مع عدم القدرة عليها يجب رعاية النظام و لا يجوز الهرج و المرج. و التفصيل موكول الى محله.

7- و في صحيحة محمد بن مسلم، عن أحدهما «ع» قال: «لا ينبغي للإمام ان

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 111

يصلّي الظهر يوم التروية إلّا بمنى، و يبيت بها الى طلوع الشمس.» و نحوها أخبار اخر «1».

8- و في صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «يصلي الإمام الظهر يوم النفر بمكة.» «2»

و المراد بالإمام في الصحيحتين من كان يحج بالناس من الحاكم نفسه أو أمير الحاج المنصوب من قبله.

9- و في أبواب المزار باب استحباب زيارة النبي «ص» و الأئمة «ع» صحيحة زرارة، عن أبي جعفر «ع» قال: «انّما أمر الناس ان يأتوا هذه الأحجار فيطوفوا بها ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم و يعرضوا علينا نصرهم.» «3»

10- و في خبر جابر، عن أبي جعفر «ع» قال: «تمام الحج لقاء الإمام.» «4»

و يستفاد من الخبر الأول ان الناس كانوا مكلّفين بعرض حمايتهم و نصرهم على الإمام حتى تستحكم إمامته، و لكن الناس تركوا الأنهار العظيمة و مصّوا الثماد، فلم يقدر الإمام الحق أن يقيم الحكومة الحقة. و لو كان للأئمة «ع» قوة لما قعدوا، كما يظهر من خبر سدير الآتي. «5»

______________________________

(1)- الوسائل 10/ 5، الباب 4 من أبواب إحرام الحج، الحديث 1 و نحوه غيره في هذا الباب.

(2)- الوسائل 10/ 227، الباب 12 من

أبواب العود الى منى، الحديث 1.

(3)- الوسائل 10/ 252، الباب 2 من أبواب المزار، الحديث 1.

(4)- الوسائل 10/ 254، الباب 2 من أبواب المزار، الحديث 8.

(5)- الكافي 2/ 242 كتاب الإيمان و الكفر، باب في قلّة عدد المؤمنين، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 112

الفصل السادس في الجهاد
و وجوبه اجمالا من ضروريات الإسلام

. و الآيات الواردة فيه في غاية الكثرة، بل لعلك لا تجد موضوعا مثله في كثرة الآيات الواردة فيه. و الأخبار في وجوبه و فضله و حدوده و شرائطه و أحكامه مستفيضة، بل متواترة إجمالا من طرق الفريقين:

1- قال اللّه- تعالى-: «يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ جٰاهِدِ الْكُفّٰارَ وَ الْمُنٰافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ.»* «1»

2- و قال: «انْفِرُوا خِفٰافاً وَ ثِقٰالًا، وَ جٰاهِدُوا بِأَمْوٰالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ. ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ.» «2»

3- و قال: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قٰاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفّٰارِ، وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً.» «3»

4- و قال: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مٰا لَكُمْ إِذٰا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ اثّٰاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ؟» «4»

5- و قال: «يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتٰالِ.» «5»

______________________________

(1)- سورة التوبة (9)، الآية 73.

(2)- سورة التوبة (9)، الآية 41.

(3)- سورة التوبة (9)، الآية 123.

(4)- سورة التوبة (9)، الآية 38.

(5)- سورة الأنفال (8)، الآية 65.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 113

6- و قال: «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ، وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ.» «1»

7- و قال: «وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمٰانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقٰاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ، إِنَّهُمْ لٰا أَيْمٰانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ* أَ لٰا تُقٰاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمٰانَهُمْ وَ هَمُّوا

بِإِخْرٰاجِ الرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ؟» «2»

8- و قال: «قٰاتِلُوا الَّذِينَ لٰا يُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ لٰا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ، وَ لٰا يُحَرِّمُونَ مٰا حَرَّمَ اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ، وَ لٰا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ حَتّٰى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صٰاغِرُونَ.» «3»

9- و قال: «وَ قٰاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً، كَمٰا يُقٰاتِلُونَكُمْ كَافَّةً. وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللّٰهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ.» «4»

10- و قال: «إِنَّ اللّٰهَ اشْتَرىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوٰالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ. وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرٰاةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ. وَ مَنْ أَوْفىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللّٰهِ؟» «5»

الى غير ذلك من الآيات التي سيأتي بعضها.

11- و عن الكافي بسنده عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «قال رسول اللّه «ص»: «الخير كله في السيف و تحت ظلّ السيف. و لا يقيم الناس إلّا السيف. و السيوف مقاليد الجنة و النار.» «6»

12- و عنه أيضا بسنده عن أبي عبد اللّه «ع» قال: قال رسول اللّه «ص»: «للجنة باب يقال له باب المجاهدين، يمضون اليه فاذا هو مفتوح و هم متقلدون بسيوفهم. و الجمع في الموقف و الملائكة ترحّب بهم.» قال: «فمن ترك الجهاد ألبسه اللّه ذلّا و فقرا في معيشته و محقا في

______________________________

(1)- سورة التوبة (9)، الآية 5.

(2)- سورة التوبة (9)، الآية 12 و 13.

(3)- سورة التوبة (9)، الآية 29.

(4)- سورة التوبة (9)، الآية 36.

(5)- سورة التوبة (9)، الآية 111.

(6)- الوسائل 11/ 5، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 114

دينه، ان اللّه أغنى (أعزّ) أمّتي بسنابك خيلها و مراكز رماحها.» «1»

13- و عنه أيضا بسنده

قال أمير المؤمنين «ع»: «ان اللّه فرض الجهاد و عظمه و جعله نصره و ناصره. و اللّه ما صلحت دنيا و لا دين إلّا به.» «2»

14- و في نهج البلاغة: «أما بعد، فان الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه اللّه لخاصّة أوليائه، و هو لباس التقوى و درع اللّه الحصينة و جنّته الوثيقة. فمن تركه رغبة عنه ألبسه اللّه ثوب الذلّ و شملة البلاء، و ديّث بالصغار و القماء، و ضرب على قلبه بالأسداد، و أديل الحق منه بتضييع الجهاد، و سيم الخسف و منع النصف.

ألا و إنّي قد دعوتكم الى قتال هؤلاء القوم ليلا و نهارا و سرّا و اعلانا، و قلت لكم اغزوهم قبل ان يغزوكم، فو اللّه ما غزي قوم في عقر دارهم إلّا ذلّوا، فتواكلتم و تخاذلتم حتى شنّت الغارات عليكم و ملكت عليكم الأوطان.

و هذا أخو غامد و قد وردت خيله الأنبار، و قد قتل حسّان بن حسّان البكري و أزال خيلكم عن مسالحها. و لقد بلغني ان الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة و الأخرى المعاهدة فينتزع حجلها و قلبها و قلائدها و رعاثها، ما تمنع منه إلّا بالاسترجاع و الاسترحام، ثم انصرفوا وافرين، ما نال رجلا منهم كلم و لا أريق لهم دم. فلو ان امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما بل كان به عندي جديرا.

فيا عجبا! و اللّه يميت القلب و يجلب الهمّ اجتماع هؤلاء القوم على باطلهم و تفرقكم عن حقّكم.

فقبحا لكم و ترحا حين صرتم غرضا يرمى، يغار عليكم و لا تغيرون، و تغزون و لا تغزون، و يعصى اللّه و ترضون. الحديث.» «3»

الى غير ذلك من الأخبار و

الروايات الواردة في هذا المجال، فراجع مظانّها.

هذا.

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 5، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.

(2)- الوسائل 11/ 9، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 15.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 94؛ عبده 1/ 63؛ لح/ 69، الخطبة 27.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 115

الجهاد على قسمين:

و قسّم الفقهاء الجهاد الى قسمين: الجهاد الابتدائي، و الجهاد الدفاعي. و أرادوا من الأول قتال المشركين و الكفار لدعائهم الى الإسلام و التوحيد و العدالة. و من الثاني قتال من دهم المسلمين منهم للدفاع عن حوزة الإسلام و أراضي المسلمين و نفوسهم و أعراضهم و أموالهم و ثقافتهم.

أقول: و يمكن بوجه من العناية ادراج الابتدائي أيضا في الدفاعي، فإنه في الحقيقة دفاع عن حقوق اللّه و حقوق الإنسان، فإن اللّه- تعالى- ما خلق الجنّ و الإنس الّا ليعبدوه فيرتقوا بذلك ارتقاء روحيا و يحصل بذلك الغرض من الخلقة، و أرسل رسوله رحمة للعالمين و أرسله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كلّه و لو كره المشركون، و الدين و إن كان أمرا قلبيّا لا يقبل الإكراه، و لكن عامّة الناس بفطرتهم التي فطر اللّه الناس عليها متمايلون الى الحق و القسط، فإذا وقفت سلطات كافرة أو ظالمة في البلاد أمام بسط التوحيد و القسط و تسلطوا على المجتمع و جعلوا مال اللّه دولا و عباده خولا و أفسدوا في الأرض وجب بحكم العقل من باب اللطف رفع شرّهم حتى يعرض الحق و يظهر و ينتشر الدين بطبعه.

فالجهاد الابتدائي في الحقيقة دفاع عن التوحيد و عن القسط و العدالة، و إن شئت قلت: دفاع عن الانسانية.

و بالجملة غرض الإسلام من تشريع الجهاد هو

الدفاع عن العدالة و التوحيد، لا التسلّط على البلاد و استثمار العباد على ما هو دأب المستعمرين في أعصارنا.

ففي خبر الحسن بن محبوب، عن بعض اصحابه، عن أبي جعفر «ع» في بيان

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 116

حدود الجهاد قال: «و أول ذلك الدعاء الى طاعة اللّه من طاعة العباد، و الى عبادة اللّه من عبادة العباد، و الى ولاية اللّه من ولاية العباد ... و ليس الدعاء من طاعة عبد الى طاعة عبد مثله.» «1» هذا.

و قد قال اللّه- تعالى-: «وَ قٰاتِلُوهُمْ حَتّٰى لٰا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلّٰهِ، فَإِنِ انْتَهَوْا فَلٰا عُدْوٰانَ إِلّٰا عَلَى الظّٰالِمِينَ.» «2»

يعني ان الغرض من القتال هو رفع الفتنة و بسط التوحيد. و لعل الأول هو الدفاعي المصطلح، و الثاني هو الابتدائي، و اذا تحقق الغرض فلا عدوان بالاستعباد و الاستثمار، إلّا ان يكون القوم ظالمين فيراد رفع ظلمهم و شرّهم، و رفع الظلم أيضا دفاع لا محالة.

و قال أيضا في سورة الأنفال: «وَ قٰاتِلُوهُمْ حَتّٰى لٰا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّٰهِ.» «3»

و قال في سورة النساء: «وَ مٰا لَكُمْ لٰا تُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجٰالِ وَ النِّسٰاءِ وَ الْوِلْدٰانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنٰا أَخْرِجْنٰا مِنْ هٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظّٰالِمِ أَهْلُهٰا.» «4»

و ظاهر الآية التوبيخ على ترك القتال و الإشعار بان لزومه مرتكز في عقولهم و فطرهم. و لعل قوله: «في سبيل اللّه» يراد به بسط التوحيد و إعلاء كلمة الإسلام و قوله: «و المستضعفين» يراد به الدفاع عن القسط و العدالة عند الهجوم، فاشتملت الآية أيضا على الجهاد الابتدائي و الدفاعي معا، فتدبّر.

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 7، الباب 1

من أبواب جهاد العدو، الحديث 8.

(2)- سورة البقرة (2)، الآية 193.

(3)- سورة الأنفال (8)، الآية 39.

(4)- سورة النساء (4)، الآية 75.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 117

هل يعتبر في الجهاد الابتدائي إذن الإمام؟

و قد دلّت الأخبار و فتاوى أصحابنا على اشتراط الجهاد الابتدائي بوجود الإمام العادل أو من نصبه لذلك:

1- فعن الرضا «ع» في كتابه الى المأمون: «و الجهاد واجب مع الإمام العادل (العدل خ. ل).» «1»

2- و في خبر بشير عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «قلت له: إنّي رأيت في المنام أنّي قلت لك: ان القتال مع غير الإمام المفترض طاعته حرام مثل الميتة و الدم و لحم الخنزير، فقلت لي: نعم، هو كذلك؟ فقال ابو عبد اللّه «ع»: هو كذلك، هو كذلك.» «2»

3- و في خبر أبي بصير عن أبي عبد اللّه «ع» عن آبائه، قال: «قال أمير المؤمنين «ع»:

لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم و لا ينفذ في الفي ء أمر اللّه- عزّ و جلّ، فانه إن مات في ذلك المكان كان معينا لعدوّنا في حبس حقّنا و الإشاطة بدمائنا و ميتته ميتة جاهلية.» «3»

4- و في خبر سماعة عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «لقى عباد البصري عليّ بن الحسين «ع» في طريق مكة فقال له: يا عليّ بن الحسين، تركت الجهاد و صعوبته، و أقبلت على الحج و لينه، ان اللّه- عزّ و جلّ- يقول: «إِنَّ اللّٰهَ اشْتَرىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوٰالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ، يُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ.» الآية. فقال علي بن الحسين «ع»: اتمّ الآية، فقال: «التّٰائِبُونَ الْعٰابِدُونَ» الآية. فقال علي بن الحسين «ع»: اذا رأينا هؤلاء الذين هذه

______________________________

(1)- الوسائل 11/

11، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 24.

(2)- الوسائل 11/ 32، الباب 12 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.

(3)- الوسائل 11/ 34، الباب 12 من أبواب جهاد العدو، الحديث 8.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 118

صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحج.» «1»

الى غير ذلك من الأخبار الكثيرة التي مقتضاها- كصريح الفتاوى- عدم مشروعية الجهاد مع الجائر.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 1، ص: 118

قال في الجواهر:

«بل في المسالك و غيرها عدم الاكتفاء بنائب الغيبة، فلا يجوز له توليه. بل في الرياض نفي علم الخلاف فيه حاكيا له عن ظاهر المنتهى و صريح الغنية إلّا من أحمد في الأول. قال: و ظاهرهما الإجماع، مضافا الى ما سمعته من النصوص المعتبرة وجود الإمام. لكن إن تمّ الإجماع المزبور فذاك، و إلّا أمكن المناقشة فيه بعموم ولاية الفقيه في زمن الغيبة الشاملة لذلك المعتضدة بعموم أدلّة الجهاد.» «2»

أقول: ليس في الأخبار و لا في كلمات الأصحاب لفظ الإمام المعصوم، بل الإمام العادل في مقابل الإمام الجائر. و لفظ الإمام في اللغة و كلمات الأئمة «ع» لم ينحصر إطلاقه على الأئمة الاثنى عشر، بل هو موضوع للقائد الذي يؤتمّ به في الجماعة أو الجمعة أو الحج أو سياسة البلاد، كما مرّ في التنبيه الخامس من الباب الثاني. و العدالة أعم من العصمة، و مصداق قوله- تعالى-: «التائبون العابدون» الى قوله: «الحافظون لحدود اللّه» أيضا أعم من الإمام المعصوم. و كذا الإمام المفترض طاعته، و من يؤمن على الحكم

و ينفذ في الفي ء أمر اللّه، لصدق ذلك كله على المنصوبين من قبل النبي «ص» و أمير المؤمنين «ع» أمثال مالك الأشتر و نحوه أيضا.

نعم، كان مصداق الإمام العادل في عصر ظهور الأئمة- عليهم السلام- عندنا هو الإمام المعصوم أو المنصوب من قبله. و لكن الشرط في الجهاد الابتدائي على ما في الأخبار و الكلمات هو عنوان الإمام العادل في قبال الإمام الجائر، لا الإمام المعصوم في قبال غير المعصوم.

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 32، الباب 12 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.

(2)- الجواهر 21/ 13.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 119

و في الغنية أيضا لم يذكر الّا الإمام العادل «1».

و في المنتهى:

«الجهاد قد يكون للدعاء الى الإسلام، و قد يكون للدفع بأن يدهم المسلمين عدوّ.

فالأول لا يجوز إلّا بإذن الإمام العادل و من يأمره الإمام، و الثاني يجب مطلقا. و قال أحمد: يجب الأول مع كل إمام برّ أو فاجر.» «2»

و في التذكرة:

«لا يجوز إلّا بإذن الإمام العادل أو من نصبه لذلك عند علمائنا أجمع ... و قال أحمد: يجب مع كل إمام: برّ و فاجر.» «3» هذا.

و في سنن أبي داود عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه «ص»: «الجهاد واجب عليكم مع كلّ أمير، برّا كان أو فاجرا. و الصلاة واجبة عليكم خلف كل مسلم، برّا كان أو فاجرا و إن عمل الكبائر.» «4»

و لا يخفى أنه كان في أعصار الأئمة «ع» يتصدى للجهاد أئمة الجور من الأموية و العباسية، ففي قبال هذا العمل الرائج و هذه الرواية المفتى بها عندهم أراد أئمتنا «ع» بيان أن أمر الجهاد عظيم، لكونه للدعاء الى الإسلام و لارتباطه بنفوس الناس و أعراضهم

و أموالهم، فلا يفوّض الى الجاهلين بموازين الإسلام أو الى الجائرين. و قد مرّ في خبر أبي بصير: «لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم و لا ينفذ في الفي ء أمر اللّه.» «5» و العقل السليم أيضا يقضى بعدم جواز تسليط الجائرين على نفوس الناس و أموالهم.

و أما العصمة فلا تشترط قطعا و الّا لم يكن للمنصوبين من قبل النبي «ص»

______________________________

(1)- الجوامع الفقهية/ 521.

(2)- المنتهى 2/ 899.

(3)- التذكرة 1/ 406.

(4)- سنن أبي داود 2/ 17 كتاب الجهاد، باب في الغزو مع أئمة الجور.

(5)- الوسائل 11/ 34، الباب 12 من أبواب جهاد العدو، الحديث 8.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 120

و أمير المؤمنين «ع» كمالك الأشتر و غيره أيضا الجهاد. و مثل الفقيه العادل العالم بالحوادث و المشاكل في عصر الغيبة كمثل أمراء الجيوش و العمّال المنصوبين من قبلهما «ع» في عدم وجود العصمة لهم و مع ذلك يفترض طاعتهم لولايتهم، كما سيأتي بيانه.

فلا ينحصر الإمام المفترض طاعته في الإمام المعصوم. و إجماع الغنية و التذكرة أيضا على عنوان الإمام العادل في قبال الإمام الجائر الذي أجازه أحمد تبعا لرواية أبي هريرة.

نعم، في الرياض هنا أضاف لفظ المعصوم، كما لعله كان هو المتبادر في أذهان غيره أيضا و ربّما صرّحوا به أيضا. و لكن فهمهم و أنس ذهنهم ليس من الحجج الشرعية.

و لو قيل في وجهه أن الإمام المعصوم يجبر اشتباه عمّا له و تخلفاتهم، قلنا إن الفقيه العادل أيضا بمقتضى عدالته يجبر التخلفات و الاشتباهات بعد انكشافها.

و الجهاد قد شرّع لرفع الفتنة و كون الدين كلّه للّه، كما في الآية، و حينئذ فهل يمكن الالتزام

بأن اللّه- تعالى- لا يريد رفع الفتنة و ان يكون الدين للّه في عصر غيبة الإمام المعصوم و ان طالت آلاف سنة؟! و قد مرّ عن النبي «ص» أن «الخير كله في السيف و تحت ظل السيف. و لا يقيم الناس إلّا السيف.» «1» و عن أمير المؤمنين «ع» أنّه «ما صلحت دنيا و لا دين إلّا به» «2» أى بالجهاد.

فهل يمكن الالتزام بأن اللّه لا يريد الخير و صلاح الدنيا و الدين للبشر و للمسلمين في عصر غيبة الإمام الثاني عشر؟! و هل يجوّز العقل أن يترك الناس في عصر الغيبة بلا تكليف في قبال الجنايات و الفساد و الكفر و الإلحاد الى أن يظهر صاحب الأمر؟!

نعم، كون الأمر مهما مرتبطا بالدماء و الأعراض و الأموال يقتضي أن يكون

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 5، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.

(2)- الوسائل 11/ 9، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 15.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 121

مقيدا بملاك و ضابطة، و أن لا يتصدّى له الجاهل بالموازين الشرعية أو الجائر الذي لا التزام له. و هذا ما يقال من كون الوجوب في الجهاد الابتدائي مشروطا بإذن الإمام العادل و تفصيل المسألة موكول الى محله. هذا.

لا يعتبر في الجهاد الدفاعي إذن الإمام، بل يجب مطلقا

و أما الجهاد الدفاعي بأنواعه التي أشرنا اليها فلا يشترط وجوبه بوجود الإمام قطعا.

و العجب من غفلة بعض المسلمين، حتى بعض علماء الدين، حيث توهموا عدم التكليف لنا حتّى في قبال هجوم الكفار و الصهاينة على بلاد المسلمين، و قتلهم للشيوخ و الشبّان و الأطفال و النسوان، و الاستيلاء على أموالهم و الهتك لنواميسهم و معابدهم مع أن الجهاد الدفاعي لا يشترط في

وجوبه إذن الإمام قطعا، و الدفاع واجب بضرورة من العقل و الشرع.

1- و قد قال اللّه- تعالى- في سورة البقرة في قصة طالوت و قتل داود لجالوت:

«وَ لَوْ لٰا دَفْعُ اللّٰهِ النّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعٰالَمِينَ.» «1»

و دفعه الفساد عنهم ليس إلّا بقيام أهل الحق و دفاعهم.

2- و في سورة الحج: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقٰاتَلُونَ، بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللّٰهَ عَلىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ* الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيٰارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلّٰا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللّٰهُ. وَ لَوْ لٰا دَفْعُ اللّٰهِ النّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوٰامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَوٰاتٌ وَ مَسٰاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّٰهِ كَثِيراً، وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللّٰهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّٰاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ آتَوُا الزَّكٰاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ،

______________________________

(1)- سورة البقرة (2)، الآية 251.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 122

وَ لِلّٰهِ عٰاقِبَةُ الْأُمُورِ.» «1»

فما أدري، ألا يقرء المسلمون هذه الآيات الكريمة من القرآن، أو يقرءونها و لكن لا يتدبرونها؟!

و هل يمكن الالتزام بأن اللّه- تعالى- في عصر غيبة الإمام الثاني عشر لا يبغض الفساد في الأرض و لا هدم المساجد و المعابد، و لا يحبّ إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر؟! لا و اللّه، بل يجب على المسلمين الدفاع عن مراكز التوحيد، و دفع الفساد و المفسدين، و إقامة دعائم الإسلام، و اللّه ينصر من نصره.

نعم، النصر غير الظفر المحتوم على العدوّ، فاللّه- تعالى- ينصر أولياءه بإيمانهم و الربط على قلوبهم و القاء الرعب في قلوب أعدائهم، و كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن

اللّه، و لكن العالم عالم الأسباب و التضادّ و التزاحم، فيمكن ان يتهيأ سبب فوز العدوّ و ظفره بحيله و مكره، و لكن يجب على المسلمين الدفاع عن الإسلام و المسلمين و جهاد المفسدين و الجائرين بعد أن يهيئوا الأسباب المتعارفة، متوكلين على اللّه- تعالى-.

3- و في الحديث عن الصادق «ع» بعد ذكر قوله- تعالى-: «أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقٰاتَلُونَ، بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا.» قال «ع»: «و بحجّة هذه الآية يقاتل مؤمنو كل زمان.» فراجع «2». هذا.

4- و قد مرّ ان امير المؤمنين- عليه السلام- بلغه أن الرجل من أهل الشام كان يدخل على المرأة المسلمة و الأخرى المعاهدة، فينتزع حجلها و قلبها و قلائدها و رعاثها، ما تمنع منه إلّا بالاسترجاع و الاسترحام ثم انصرفوا وافرين ما نال رجلا منهم كلم و لا أريق لهم دم، فقال: «لو أن امرأ مسلما مات من بعد هذا أسفا ما كان به ملوما، بل كان به عندي جديرا.» و قال: «فقبحا لكم و ترحا حين صرتم غرضا يرمى، يغار

______________________________

(1)- سورة الحج (22)، الآية 39 و 40 و 41.

(2)- الوسائل 11/ 27، الباب 9 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 123

عليكم و لا تغيرون، و تغزون و لا تغزون، و يعصى اللّه و ترضون.» «1»

فيا أخي المسلم، أو ليس الواحد منا- أنا و أنت- بإنسان؟! أو ليس فينا عواطف الإنسانية و حميّتها فضلا عن الالتزام الاسلامي؟! فكيف يبلغنا مجازر المسلمين و تخريب بلادهم و معابدهم و هتك نواميسهم بأيدي الكفار و الصهاينة في فلسطين و لبنان و أفغانستان و الهند و سائر البلدان و لا نتحرك و لا نحامي، بل و

لا نعترض بكلام و قول، بل و لا نؤيد من يعترض، بل ربّما نؤيد الكفار عمليا؟!

5- و قد روى الطبري في تاريخه عن أبي مخنف، عن عقبة بن أبي العيزار أن الحسين «ع» خطب أصحابه و أصحاب الحرّ بالبيضة، فحمد اللّه و أثنى عليه، ثم قال: «أيها الناس، إن رسول اللّه «ص» قال: من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم اللّه ناكثا لعهد اللّه مخالفا لسنة رسول اللّه «ص» يعمل في عباد اللّه بالإثم و العدوان، فلم يغير عليه بفعل و لا قول، كان حقّا على اللّه أن يدخله مدخله. ألا و إن هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان و تركوا طاعة الرحمن و أظهروا الفساد و عطّلوا الحدود و استأثروا بالفي ء و أحلّوا حرام اللّه و حرّموا حلاله و أنا أحق من غيّر.» «2»

و كلام رسول اللّه «ص» لا يختصّ بالسبط الشهيد و بزيد بن علي و بشهيد فخّ و أمثالهم، بل هو تكليف عام لجميع المسلمين في قبال الكفّار و سلاطين الجور و طواغيت الزمان، كما يدلّ على ذلك عموم الموصول.

و كيف كان فالجهاد الدفاعي في قبال هجوم الأجانب و الكفار و التسلط على بلاد المسلمين و شئونهم و ثقافتهم و اقتصادهم من أوجب الواجبات. و التشكيك في ذلك تشكيك فيما يحكم به الكتاب و السنة، بل العقل و الفطرة، فان اللّه- سبحانه- جهّز الإنسان بل الحيوانات أيضا بأجهزة الدفاع و خلق فيه القوة الغضبية لذلك، كما خلق في الدم الكريات البيض للدفاع عن مملكة البدن في قبال الجراثيم

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 95؛ عبده 1/ 65؛ لح/ 70، الخطبة 27.

(2)- تاريخ الطبري 7/ 300.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 124

المفسدة الخارجية المهاجمة، فتدبّر.

بل الدفاع عن بيضة الإسلام و حوزة المسلمين واجب و لو في ظلّ راية الباطل أيضا بشرط عدم تأييده.

6- ففي خبر يونس قال: «سأل أبا الحسن «ع» رجل و أنا حاضر، فقال له:

جعلت فداك، ان رجلا من مواليك بلغه أن رجلا يعطي سيفا و قوسا في سبيل اللّه، فأتاه فأخذهما منه و هو جاهل بوجه السبيل، ثم لقيه أصحابه فأخبروه ان السبيل مع هؤلاء لا يجوز، و أمروه بردّهما. قال: فليفعل. قال: قد طلب الرجل فلم يجده و قيل له قد قضى الرجل. قال: فليرابط و لا يقاتل. قال: مثل قزوين و عسقلان و الديلم و ما أشبه هذه الثغور؟ فقال: نعم. قال: فإن جاء العدوّ الى الموضع الذي هو فيه مرابط كيف يصنع؟ قال: يقاتل عن بيضة الإسلام. قال: يجاهد؟ قال: لا إلا أن يخاف على دار المسلمين. أ رأيتك لو أن الروم دخلوا على المسلمين لم ينبغ (يسع خ. ل) لهم أن يمنعوهم؟ قال: يرابط و لا يقاتل، و ان خاف على بيضة الإسلام و المسلمين قاتل فيكون قتاله لنفسه ليس للسلطان، لأن في دروس الإسلام دروس ذكر محمد «ص».» «1»

و سند الحديث لا بأس به.

فانظر يا أخي المسلم، كيف غفل المسلمون و أغفلوا بتسويل المستعمرين و أياديهم الجاهلة أو الخبيثة و علماء السوء، فحصروا دين اللّه في بعض المراسم الظاهرية و الآداب الشخصية، و استولى الكفار على بلاد المسلمين و معابدهم و جميع شئونهم و شتتوهم و مزّقوهم كل ممزّق، و استضعفوهم بأنحاء الاستضعاف من حيث لا يشعرون. اللهم فبدّد شمل الكفار و فرّق جمعهم و اردد كيدهم الى انفسهم، و أيقظ المسلمين من سباتهم و هجعتهم. آمين ربّ

العالمين. هذا.

و اعلم أن الدفاع لا يمكن و لا يتحصل إلّا بإعداد المقدمات و الوسائل و التسلّح بسلاح العصر، و التدرّب عليه. فيجب ذلك لا محالة، و قد قال اللّه- تعالى- في كتابه

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 19، الباب 6 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 125

العزيز: «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِبٰاطِ الْخَيْلِ، تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّٰهِ وَ عَدُوَّكُمْ.

الآية.» «1»

و لعله لا يتيسّر أيضا في بعض الأحيان إلّا بالتكتل و التشكل و لو خفية، و لا محالة يتوقف ذلك على أن يؤمّروا على أنفسهم رجلا عالما عادلا بصيرا بالأمور، و يلتزموا بإطاعته حتى ينصرهم اللّه بتأييده و نصره، كما اتفق ذلك في أكثر الثورات الناجحة في العالم. و في القرآن الكريم ان بني اسرائيل قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل اللّه، فبعث اللّه لهم طالوت ملكا «2». فيعلم بذلك ان القتال يتوقف على وجود القائد الجامع للشتات. و ان شئت فسمّ هذا القائد أيضا إماما، و لكن وجوده شرط لتحقق القتال لا شرط لوجوبه، بخلافه في الجهاد الابتدائي فإن الإمام شرط لوجوبه، كما مرّ. بل يمكن أن يقال: إنّ الإمام في كلا القسمين شرط للوجود لا للوجوب، كما يأتى نظيره في الأمر بالمعروف و النهى عن المنكر المتوقفين على الضرب و الجراح، فانتظر.

و قد تحصّل مما ذكرنا أن الجهاد من أهم الواجبات و أنه ينقسم عندهم الى قسمين:

ابتدائى و دفاعي. و الأول على ما قالوا وجوبه مشروط بالإمام، و لكن الإمام لا ينحصر في الإمام المعصوم على الأقوى، فيشمل الفقيه الجامع للشرائط أيضا، و أما الجهاد الدفاعي فلا

يتوقف وجوبه على الإمام. نعم، ربما يتوقف وجوده على التجمع و التشكل، و هو لا محالة يتوقف على وجود القائد و الإمام. فهو شرط للوجود لا للوجوب، كما لا يخفى، فيجب تحصيله.

و كيف كان فالجهاد الدفاعي واجب و لو في عصر الغيبة بلا إشكال.

نعم، هنا أخبار ربما تمسك بها بعض من يوجب السكون و السكوت في قبال الجنايات و هجوم الأعداء في عصر الغيبة، و يصرّون على عدم التدخل في الشؤون السياسية و إقامة الدولة. و قد تعرض لهذه الأخبار صاحب الوسائل في الباب

______________________________

(1)- سورة الأنفال (8)، الآية 60.

(2)- راجع سورة البقرة (2)، الآية 246 و 247.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 126

الثالث عشر من الجهاد «1»، و نحن نوردها مع الجواب عنها في آخر هذا الباب في الفصل الرابع منه بعد ذكر الأدلة العشر لضرورة الحكومة و وجوب السعي في إقامة الدولة العادلة. و هو بحث لطيف ينبغي الالتفات اليه. و سنعود الى بحث ما في ضرورة الدفاع و تقوية النظام العسكري و الجنود في الفصل الرابع عشر من الباب السادس أيضا، فانتظر.

______________________________

(1)- الوسائل ج 11 ص 35 و ما بعدها، باب حكم الخروج بالسيف قبل قيام القائم «ع».

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 127

الفصل السابع في قتال البغاة على الإمام
[كلمات الأصحاب]

قال في الخلاف (المسألة 1 من كتاب الباغي):

«الباغي من خرج على إمام عادل و قاتله و منع تسليم الحق اليه، و هو اسم ذمّ. و في أصحابنا من يقول: انه كافر. و وافقنا على أنه اسم ذمّ جماعة من العلماء المعتزلة بأسرهم، و يسمّونهم فسّاقا، و كذلك جماعة من أصحاب أبي حنيفة و الشافعي.

و قال أبو حنيفة هم

فسّاق على وجه التديّن. و قال أصحاب الشافعي ليس باسم ذمّ عند الشافعي، بل هو اسم من اجتهد فأخطأ، بمنزلة من خالف من الفقهاء في بعض مسائل الاجتهاد. دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم ...» «1»

و قال في النهاية:

«كل من خرج على إمام عادل و نكث بيعته و خالفه في أحكامه فهو باغ، و جاز للإمام قتاله و مجاهدته ... و من خرج على إمام جائر لم يجز قتالهم على حال. و لا يجوز لأحد قتال أهل البغي إلّا بأمر الإمام.» «2»

و في الشرائع:

«يجب قتال من خرج على امام عادل اذا ندب اليه الإمام عموما أو خصوصا أو من نصبه الإمام.» «3»

و في الجواهر:

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 164.

(2)- النهاية للشيخ/ 296- 297.

(3)- الشرائع 1/ 336.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 128

«لا خلاف فيه بين المسلمين فضلا عن المؤمنين، بل الإجماع بقسميه عليه، بل المحكى منهما مستفيض، كالنصوص من طرق العامة و الخاصة.» «1»

أقول: مسألة قتال البغاة من المسائل المهتم بها في فقه الفريقين. و قد رأيت تفسيره بالخارج على الإمام العادل في قبال الإمام الجائر.

و هل يراد به خصوص الإمام المعصوم أو مطلق العادل بعد تحقق امامته؟

وجهان. و لعل الثاني أظهر.

و يدلّ على الحكم، مضافا الى الإجماع و عدم الخلاف، الكتاب و الأخبار من طرق الفريقين.

امّا الكتاب

فقوله- تعالى-: «وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا، فَإِنْ بَغَتْ إِحْدٰاهُمٰا عَلَى الْأُخْرىٰ فَقٰاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّٰى تَفِي ءَ إِلىٰ أَمْرِ اللّٰهِ.» «2»

بل الظاهر ان تسمية الخارج على الإمام بالباغي أخذت من هذه الآية.

و الخدشة في الاستدلال بها بأنها في اقتتال طائفتين من المؤمنين لأمر ما لا في خروج طائفة على الإمام، مدفوعة. أولا بصدق

الطائفتين على جند الإمام و الباغي بلا اشكال، و ثانيا بالأولوية القطعية. إذ لو وجب دفع الباغي على بعض المؤمنين فدفعه عن إمام المؤمنين يجب بطريق أولى.

و لا يخفى أن في تسمية الباغي و جنده بالمؤمن عندنا لا يخلو عن نحو عناية و تجوز، و كأنه باعتبار حاله قبل البغي. هذا.

و أما الأخبار

في المسألة فكثيرة، و منها خبر ابن المغيرة، عن جعفر، عن أبيه قال:

«ذكرت الحرورية عند علي «ع» فقال: إن خرجوا على إمام عادل او جماعة فقاتلوهم، و إن خرجوا

______________________________

(1)- الجواهر 21/ 324.

(2)- سورة الحجرات (49)، الآية 9.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 129

على إمام جائر فلا تقاتلوهم، فان لهم في ذلك مقالا.» «1»

و في الوسائل المطبوع: «عقالا» بدل «مقالا»، و لكن في الكافي و العلل: «مقالا».

و المذكور في الحديث التفصيل بين الإمام العادل و الجائر، لا المعصوم و غير المعصوم.

و المراد بالحرورية الخوارج، سمّوا بذلك لاجتماعهم في موضع بظهر الكوفة كان يسمّى بحروراء.

و في مسلم عن عرفجة، قال: سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «من أتاكم و أمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشقّ عصاكم أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه.» «2» هذا و تفصيل المسألة موكول الى محله.

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 60، الباب 26 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.

(2)- صحيح مسلم 3/ 1480 (طبعة أخرى 6/ 23)، كتاب الإمارة، الباب 14 (باب حكم من فرق أمر المسلمين و هو مجتمع).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 130

الفصل الثامن فيما دلّ على أن أمر الجزية و الغنائم و الأسارى و الأراضي إلى الإمام

1- صحيحة زرارة، قال: «قلت لأبي عبد اللّه «ع»: ما حدّ الجزية على أهل الكتاب، و هل عليهم في ذلك شي ء موظّف لا ينبغي أن يجوز الى غيره؟ فقال:

ذلك الى الامام، يأخذ من كل إنسان منهم ما شاء على قدر ماله و ما يطيق. الحديث.» «1»

2- رواية محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه «ع» أنه سأله عن خراج أهل الذمة و جزيتهم اذا أدّوها من ثمن خمورهم و خنازيرهم و ميتهم، أ يحلّ للإمام أن يأخذها و يطيب

ذلك للمسلمين؟ فقال: «ذلك للإمام و المسلمين حلال و هي على أهل الذمة حرام و هم المحتملون لوزره.» «2»

3- صحيحة معاوية بن وهب، قال: «قلت لأبي عبد اللّه «ع»: السرية يبعثها الإمام فيصيبون غنائم، كيف تقسم؟ قال: إن قاتلوا عليها مع أمير أمّره الإمام عليهم أخرج منها الخمس للّه و للرسول، و قسم بينهم أربعة أخماس، و إن لم يكونوا قاتلوا عليها المشركين كان كل ما غنموا للإمام، يجعله حيث أحبّ.» «3»

4- و في رواية طلحة بن زيد، عن أبي عبد اللّه «ع»: «فكل أسير أخذ في تلك الحال فإن الإمام فيه بالخيار: إن شاء ضرب عنقه، و إن شاء قطع يده و رجله من خلاف ... فكل أسير أخذ على

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 113، الباب 68 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.

(2)- الوسائل 11/ 118، الباب 70 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.

(3)- الوسائل 11/ 84، الباب 41 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 131

تلك الحال فكان في أيديهم فالإمام فيه بالخيار: إن شاء منّ عليهم فأرسلهم، و إن شاء فاداهم أنفسهم، و إن شاء استعبدهم فصاروا عبيدا.» «1»

5- و في حديث الزهري، عن علي بن الحسين «ع»: «إذا أخذت أسيرا فعجز عن المشي و لم يكن معك محمل فأرسله و لا تقتله، فانك لا تدري ما حكم الإمام فيه. الحديث.» «2»

6- رواية صفوان و البزنطي جميعا، قالا: «ذكرنا له الكوفة ... فقال: من أسلم طوعا تركت أرضه في يده و أخذ منه العشر ... و ما لم يعمروه منها أخذه الإمام فقبّله ممن يعمره و كان للمسلمين ... و ما أخذ بالسيف فذلك

الى الإمام يقبّله بالذي يرى. الحديث.» «3»

7- رواية البزنطي قال: ذكرت لأبي الحسن الرضا «ع» الخراج و ما سار به أهل بيته، فقال: العشر و نصف العشر على من أسلم طوعا، تركت أرضه في يده ... و ما لم يعمر منها أخذه الوالي فقبّله ممن يعمره و كان للمسلمين ... و ما أخذ بالسيف فذلك الى الإمام يقبّله بالذي يرى. الحديث.» «4»

و رواية البزنطي صحيحة. و الراوي عنه هو أحمد بن محمد بن عيسى. و في رواية صفوان و البزنطي توسط بينهما و بين أحمد بن محمد بن عيسى، علي بن أحمد بن أشيم.

و عن الشيخ انه مجهول، و عن بعض تضعيفه، و لكن نقل ابن عيسى عنه لعله يدل على اعتماده عليه. ثم ان الراوي في الخبرين هو البزنطي و المروي عنه فيهما هو الرضا «ع»، و يقرب مضمونها، فيحتمل وحدتهما و وجود ابن اشيم في سند الثانية أيضا و سقوطه منه.

و كيف كان فيستفاد من الخبرين أن أرض الموات و المفتوحة عنوة أمرهما الى الإمام، و قد مرّ كون الأنفال الى الإمام و منها أرض الموات و ما لا ربّ له، و كذا الجبال و الأودية و الآجام و غير ذلك.

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 53، الباب 23 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.

(2)- الوسائل 11/ 53، الباب 23 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.

(3)- الوسائل 11/ 119، الباب 72 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.

(4)- الوسائل 11/ 120، الباب 72 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 132

8- و في صحيحة عمر بن يزيد، قال: «سمعت رجلا من أهل الجبل يسأل أبا عبد اللّه «ع»

عن رجل أخذ أرضا مواتا تركها أهلها، فعمرها و كرى أنهارها و بنى فيها بيوتا و غرس فيها نخلا و شجرا. قال: فقال ابو عبد اللّه «ع»: كان أمير المؤمنين «ع» يقول:

من أحيا أرضا من المؤمنين فهي له، و عليه طسقها يؤديه الى الإمام في حال الهدنة، فإذا ظهر القائم «ع» فليوطن نفسه على أن تؤخذ منه.» «1»

الى غير ذلك من الأخبار الواردة في الغنائم و الأراضي.

______________________________

(1)- الوسائل 6/ 382، الباب 4 من أبواب الأنفال، الحديث 13.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 133

الفصل التاسع في الحجر و الوصية

1- خبر غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه أن عليا «ع» كان يفلّس الرجل اذا التوى على غرمائه، ثم يأمر به فيقسم ماله بينهم بالحصص، فإن أبى باعه فقسم بينهم، يعني ماله. «1»

2- خبر السكوني، عن جعفر، عن أبيه أن عليّا «ع» كان يحبس في الدين، ثم ينظر فإن كان له مال أعطى الغرماء، و إن لم يكن له مال دفعه الى الغرماء. الحديث. «2»

3- خبر اسماعيل بن سعد، قال: «سألت الرضا «ع» ... و عن الرجل يصحب الرجل في سفر فيحدث به حدث الموت و لا يدرك الوصية، كيف يصنع بمتاعه و له أولاد صغار و كبار، أ يجوز أن يدفع متاعه و دوابّه الى ولده الأكابر أو إلى القاضي، و إن كان في بلدة ليس فيها قاض كيف يصنع؟ و إن كان دفع المتاع الى الأكابر و لم يعلم، فذهب فلم يقدر على ردّه كيف يصنع؟ قال: إذا أدرك الصغار و طلبوا لم يجد بدّا من إخراجه، إلّا أن يكون بأمر السلطان.» «3»

4- خبر صفوان، قال: «سألت أبا الحسن «ع» عن رجل كان لرجل

عليه مال، فهلك و له وصيان، فهل يجوز أن يدفع الى أحد الوصيين دون صاحبه؟ قال:

لا يستقيم إلّا أن يكون السلطان قد قسّم بينهما المال فوضع على يد هذا النصف و على يد هذا النصف، أو يجتمعان بأمر السلطان.» «4»

______________________________

(1)- الوسائل 13/ 146، الباب 6 من كتاب الحجر، الحديث 1.

(2)- الوسائل 13/ 148، الباب 7 من كتاب الحجر، الحديث 3.

(3)- الوسائل 13/ 475، الباب 88 من كتاب الوصايا، الحديث 3.

(4)- الوسائل 13/ 440، الباب 51 من كتاب الوصايا، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 134

الفصل العاشر فيما ورد في النكاح و الطلاق و ملحقاته

1- ما روته عائشة ان رسول اللّه «ص» قال: «أيما امرأة نكحت بغير إذن وليها فنكاحها باطل، فنكاحها باطل. فنكاحها باطل. فان دخل بها فلها المهر بما استحل من فرجها.

فان اشتجروا فالسلطان ولي من لا ولي له.» «1»

و قد مرّ أن المراد بالإمام و السلطان و الوالي معنى واحد.

2- صحيحة أبي حمزة الثمالي في العنين، قال: «سمعت أبا جعفر «ع» يقول: ...

فإن تزوجت و هي بكر فزعمت أنه لم يصل اليها فإن مثل هذا تعرف النساء، فلينظر اليها من يوثق به منهن، فإذا ذكرت أنها عذراء فعلى الإمام أن يؤجّله سنة، فان وصل اليها و إلّا فرّق بينهما.

الحديث.» «2»

3- صحيحة أبي بصير، قال: «سمعت أبا جعفر «ع» يقول: «من كانت عنده امرأة فلم يكسها ما يواري عورتها و يطعمها ما يقيم صلبها كان حقّا على الإمام ان يفرق بينهما.» «3»

4- خبر معمر بن و شيكة، قال: «سمعت أبا جعفر «ع» يقول: «لا يصلح الناس في الطلاق إلّا بالسيف. و لو وليتهم لرددتهم فيه الى كتاب اللّه- عزّ و جلّ.» «4»

______________________________

(1)- سنن الترمذي 2/ 280،

الباب 14 من أبواب النكاح، الحديث 1108.

(2)- الوسائل 14/ 613، الباب 15 من أبواب العيوب و التدليس من كتاب النكاح، الحديث 1.

(3)- الوسائل 15/ 223، الباب 1 من أبواب النفقات من كتاب النكاح، الحديث 2.

(4)- الوسائل 15/ 272، الباب 6 من أبواب مقدمات الطلاق، الحديث 2. و نحوه غيره في هذا الباب.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 135

5- و في خبر أبي بصير، عنه «ع»: «لو ولّيت الناس لعلّمتهم كيف ينبغي لهم أن يطلقوا، ثم لم أوت برجل قد خالف إلّا أوجعت ظهره.» «1» و نحوهما غيرهما.

6- صحيحة بريد، قال: «سألت أبا عبد اللّه «ع» عن المفقود كيف تصنع امرأته؟ فقال: ما سكتت عنه و صبرت فخلّ عنها، و إن هي رفعت أمرها الى الوالي أجّلها أربع سنين، ثم يكتب الى الصقع الذي فقد فيه، فليسأل عنه ... و إن لم يكن له مال قيل للوليّ: أنفق عليها، فان فعل فلا سبيل لها الى أن تتزوج ما أنفق عليها، و إن أبى أن ينفق عليها أجبره الوالي على أن يطلق تطليقة. الحديث.» «2»

7- قال الصدوق: «و في رواية أخرى انه إن لم يكن للزوج وليّ طلقها الوالي.» «3»

أقول: و في خبر الكناني: «و ان لم يكن له وليّ طلقها السلطان.» «4»

8- صحيحة محمد بن مسلم، قال: «سألت أبا جعفر «ع» عن الملاعن و الملاعنة كيف يصنعان؟ قال: يجلس الإمام مستدبر القبلة يقيمهما بين يديه مستقبل القبلة بحذائه.

الحديث.» و نحوها صحيحة البزنطي، عن الرضا «ع». «5»

9- خبر بريد الكناسي، عن أبي جعفر «ع» في الظهار، و فيه: «فإن كان يقدر على أن يعتق فإن على الامام أن يجبره على العتق أو

الصدقة من قبل ان يمسّها و من بعد ما يمسّها.» «6»

و الغرض من سرد هذه الأخبار من الأبواب المختلفة بيان أن الإمامة بمعنى الحكومة داخلة في نظام قوانين الإسلام و نسجها و أنها تبقى ببقائها، و ان عدم الاهتمام بها مساوق لعدم الاهتمام بالإسلام و قوانينه.

______________________________

(1)- الوسائل 15/ 272، الباب 6 من أبواب مقدمات الطلاق، الحديث 3. و نحوه غيره في هذا الباب.

(2)- الوسائل 15/ 389، الباب 23 من أبواب أقسام الطلاق، الحديث 1.

(3)- الوسائل 15/ 390، الباب 23 من أبواب أقسام الطلاق، الحديث 2.

(4)- الوسائل 15/ 390، الباب 23 من أبواب أقسام الطلاق، الحديث 5.

(5)- الوسائل 15/ 587، الباب 1 من أبواب كتاب اللعان، الحديث 4 و 2.

(6)- الوسائل 15/ 533، الباب 17 من كتاب الظهار، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 136

الفصل الحادي عشر في المواريث

1- خبر عبد الملك بن أعين و مالك بن أعين، عن أبي جعفر «ع» قال: «سألته عن نصراني مات و له ابن أخ مسلم و ابن أخت مسلم، و له أولاد و زوجة نصارى ... قيل له: فإن أسلم أولاده و هم صغار؟ فقال: يدفع ما ترك أبوهم الى الإمام حتى يدركوا، فإن أتمّوا على الإسلام إذا أدركوا دفع الإمام ميراثه إليهم، و إن لم يتموا على الإسلام إذا أدركوا دفع الإمام ميراثه إلى ابن أخيه و ابن أخته المسلمين. الحديث.» «1»

2- صحيحة أبي بصير، قال: «سألت أبا عبد اللّه «ع» عن رجل مسلم مات و له أم نصرانية ... فإن لم يسلم أحد من قرابته فإن ميراثه للإمام.» «2»

3- الأخبار الكثيرة الواردة في حكم ميراث من لا وارث له، فراجع الباب 3 و 4

من أبواب ولاء ضمان الجريرة و الإمامة من الوسائل. «3» ففي بعضها أنه من الأنفال، و في بعضها أنه للإمام، و في بعضها أنه يجعل في بيت مال المسلمين.

و الظاهر رجوع الجميع إلى أمر واحد، لما مرّ من أن الأنفال للإمام و لكن لا لشخصه بل لحيثية الإمامة و منصبها، فيصرف في مصالح المسلمين و ان كان من أعلى مصالحهم إدارة شئون شخص الإمام، فراجع ما حررناه في كتاب الخمس، و أشرنا اليه هنا في الفصل الرابع. و يأتي في الباب الثامن من هذا الكتاب أيضا.

______________________________

(1)- الوسائل 17/ 379، الباب 2 من أبواب موانع الإرث، الحديث 1.

(2)- الوسائل 17/ 381، الباب 3 من أبواب موانع الإرث، الحديث 1.

(3)- الوسائل 17/ 547 و 551، باب أن من مات و لا وارث له ... و باب حكم ما لو تعذر ....

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 137

4- صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «لا يستقيم الناس على الفرائض و الطلاق إلّا بالسيف.» «1» و نحوها غيرها.

فيستفاد من هذه الرواية أن دين الإسلام ليس كما توهمه بعض من لا خبرة له من كونه مشرّعا للقوانين و الآداب فقط من دون أن يلتفت الى القوة المجرية لها، بل إن اقامة الحكومة الحقة المقتدرة لإجراء المقررات و القوانين المشرّعة من أعظم أهدافه و تشريعاته، فانتظر لبيان ذلك و توضيحه.

______________________________

(1)- الوسائل 17/ 419، الباب 3 من أبواب موجبات الإرث، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 138

الفصل الثاني عشر فيما ورد في القضاء و الحدود

1- خبر اسحاق بن عمار، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «قال أمير المؤمنين «ع» لشريح: يا شريح، قد جلست

مجلسا لا يجلسه (ما جلسه) إلّا نبي أو وصيّ نبي أو شقيّ.» «1»

2- و خبر سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «اتقوا الحكومة، فان الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين: لنبيّ (كنبيّ) أو وصي نبي.» «2»

أقول: هل المراد بالحكومة في الحديث خصوص القضاء أو مطلق الولاية التي من شئونها القضاء؟ وجهان. و لعل الأول أظهر. و قوله: «لنبي»، هكذا في الكافي و التهذيب. و في الفقيه: «كنبي»، و لا يخفى وجود الفرق بينهما. اذ على الأول ينحصر في النبي و الوصي، دون الثاني.

و في مرآة العقول:

«لا يخفى أن هذه الأخبار تدلّ بظواهرها على عدم جواز القضاء لغير المعصوم، و لا ريب أنهم- عليهم السلام- كانوا يبعثون القضاة الى البلاد، فلا بد من حملها على أن القضاء بالأصالة لهم و لا يجوز لغيرهم تصدّي ذلك إلّا بإذنهم. و كذا في قوله «ع»: لا يجلسه الّا نبيّ، أي بالأصالة. و الحاصل ان الحصر إضافي بالنسبة الى

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.

(2)- الوسائل 18/ 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 139

من جلس فيها بغير إذنهم و نصبهم «ع».» «1»

أقول: ما ذكره من الظهور مبني على كون المراد بالوصي و بالإمام خصوص الإمام المعصوم. و حينئذ فوجوب حملها على من له القضاء بالأصالة أو على الحصر الإضافي واضح، إذ لا يمكن الالتزام بتعطّل القضاء الشرعي في عصر الغيبة و إن طالت آلاف سنة.

و أما ما قال من أنهم «ع» كانوا يبعثون القضاة الى البلاد فإثباته بالنسبة الى غير النبي «ص» و أمير المؤمنين

«ع» بحسب التاريخ مشكل. نعم، كان لهم «ع» وكلاء في بعض البلاد سرّا لرجوع شيعتهم اليهم في المسائل الشرعية و الحقوق الشرعية.

و أما بعث القضاة فلم يثبت، اللهم إلّا أن يريد بذلك جعل منصب القضاء للفقيه بنحو العموم، كما ربما يستفاد من مقبولة عمر بن حنظلة و مشهورة أبي خديجة.

3- خبر الأصبغ بن نباتة، قال: «قضى أمير المؤمنين «ع» أن ما أخطأت القضاة في دم أو قطع فهو على بيت مال المسلمين.» «2»

و مثله خبر أبي مريم، عن أبي جعفر «ع» «3».

فهذا السنخ من الأخبار يدلّ على أن من تشريعات الإسلام وجود الحكومة و الرئاسة و بيت المال العام.

4- خبر البرقي، عن أبيه، عن علي «ع» قال: «يجب على الإمام أن يحبس الفساق من العلماء و الجهّال من الأطبّاء و المفاليس من الأكرياء. قال: و قال «ع»: حبس الإمام بعد الحد ظلم.» «4»

5- صحيحة عمر بن يزيد، قال: «سألت أبا عبد اللّه «ع» عن رجل مات

______________________________

(1)- مرآة العقول 4/ 231 من ط. القديم، (أوّل كتاب القضاء).

(2)- الوسائل 18/ 165، الباب 10 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.

(3)- الوسائل 19/ 111، الباب 7 من أبواب دعوى القتل من كتاب القصاص، الحديث 1.

(4)- الوسائل 18/ 221، الباب 32 من أبواب كيفية الحكم، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 140

و ترك امرأته و هي حامل، فوضعت بعد موته غلاما، ثم مات الغلام بعد ما وقع الى الأرض، فشهدت المرأة التي قبلتها أنه استهل و صاح حين وقع الى الأرض ثم مات.

قال: على الإمام أن يجيز شهادتها في ربع ميراث الغلام.» «1»

6- خبر حفص بن غياث قال: «سألت أبا عبد اللّه «ع»:

من يقيم الحدود؟

السلطان، أو القاضي؟ فقال: إقامة الحدود إلى من إليه الحكم.» «2»

و هل يراد بقوله: «من اليه الحكم»، القاضي أو الوالي الناصب له؟ وجهان.

و لعل الأول أظهر، فيراد أن القاضي بنفسه يجري و ينفّذ ما حكم به من الحدّ، فتأمّل.

7- قال المفيد في المقنعة:

«فأمّا إقامة الحدود فهو إلى سلطان الإسلام المنصوب من قبل اللّه، و هم أئمة الهدى من آل محمد «ص» و من نصبوه لذلك من الأمراء و الحكّام. و قد فوّضوا النظر فيه إلى فقهاء شيعتهم مع الإمكان.» «3»

8- و في المستدرك عن الجعفريات بسنده، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه علي بن الحسين، عن أبيه أن عليا «ع» قال: «لا يصلح الحكم و لا الحدود و لا الجمعة إلّا بإمام.» و رواه في الدعائم عنه «ع» مثله و فيه: «بإمام عدل.» «4»

9- خبر حفص بن عون رفعه، قال: قال رسول اللّه «ص»: «ساعة إمام عدل أفضل من عبادة سبعين سنة. و حدّ يقام للّه في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحا.» «5»

10- ما عن القطب الراوندي في لبّ اللباب عن النبي «ص» قال: «يوم واحد

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 259، الباب 24 من أبواب الشهادات، الحديث 6.

(2)- الوسائل 18/ 338، الباب 28 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.

(3)- الوسائل 18/ 338، الباب 28 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 2. المقنعة/ 129.

(4)- مستدرك الوسائل 3/ 220، الباب 25 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.

(5)- الوسائل 18/ 308، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 141

من سلطان عادل خير من مطر أربعين يوما. و حدّ يقام في الأرض أزكى من عبادة

ستين سنة.» «1»

أقول: فاللّه- تعالى- الذي لا يقطع بركاته و قطر السماء عن خلقه في عصر من الأعصار كيف يقطع الإمامة و إقامة الحدود في عصر الغيبة و ان طالت ما طالت بسبب سوء نية الخليفة العباسي و غيره من الأمور؟!

11- خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه «ع»- في رجل أقيمت عليه البينة بأنه زنى ثم هرب قبل أن يضرب؟ قال: إن تاب فما عليه شي ء، و إن وقع في يد الإمام أقام عليه الحد، و إن علم مكانه بعث إليه.» «2»

12- صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر «ع» قال: «قلت له: رجل جنى إليّ، أعفو عنه أو أرفعه الى السلطان؟ قال: هو حقّك، إن عفوت عنه فحسن، و إن رفعته الى الإمام فإنما طلبت حقك، و كيف لك بالإمام؟» «3»

13- موثقة سماعة بن مهران، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «من أخذ سارقا فعفا عنه فذلك له، فإذا رفع إلى الإمام قطعه. الحديث.» «4»

14- و في الفقيه: «قال رسول اللّه «ص»: لا يحلّ لوال يؤمن باللّه و اليوم الآخر أن يجلد أكثر من عشرة أسواط إلّا في حدّ. و أذن في أدب المملوك من ثلاثة إلى خمسة.» «5»

15- مرسلة البرقي، عن بعض أصحابه، عن بعض الصادقين «ع» عن أمير المؤمنين «ع»: «إذا قامت البينة فليس للإمام ان يعفو، و اذا أقرّ الرجل على نفسه فذاك إلى

______________________________

(1)- مستدرك الوسائل 3/ 216، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 10.

(2)- الوسائل 18/ 328، الباب 16 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 4.

(3)- الوسائل 18/ 329، الباب 17 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.

(4)- الوسائل 18/ 330، الباب 17 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 3.

(5)-

الفقيه 4/ 73، باب نوادر الحدود، الحديث 5143.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 142

الإمام: إن شاء عفا و إن شاء قطع.» «1»

16- صحيحة الفضيل، قال: «سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: من أقرّ على نفسه عند الإمام بحق من حدود اللّه مرة واحدة، حرّا كان أو عبدا، أو حرّة كانت أو أمة فعلى الإمام أن يقيم الحد عليه للذي أقرّ به على نفسه، كائنا من كان إلّا الزاني المحصن. الحديث.» «2»

17- خبر الحسين بن خالد، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: سمعته يقول: «الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجل يزني أو يشرب الخمر أن يقيم عليه الحد و لا يحتاج الى بينة مع نظره، لأنه أمين اللّه في خلقه. الحديث.» «3»

18- و قال الصادق «ع» في رجل قال لامرأته يا زانية، قالت: أنت أزنى منّي، فقال: «عليها الحد فيما قذفت به، و أما إقرارها على نفسها فلا تحد حتى تقر بذلك عند الإمام أربع مرات.» «4»

19- خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «يقطع رجل السارق بعد قطع اليد ثم لا يقطع بعد، فإن عاد حبس في السجن و أنفق عليه من بيت مال المسلمين.» «5» و نحوه روايات اخر.

20- خبر عيسى بن عبد اللّه قال: «قلت لأبي عبد اللّه «ع»: السارق يسرق العام فيقدم الى الوالي ليقطع فيوهب، ثم يؤخذ في قابل و قد سرق الثانية و يقدم الى السلطان فبأيّ السرقتين يقطع؟ قال: يقطع بالأخير. الحديث.» «6»

21- خبر حمزة بن حمران، قال: «سألت أبا عبد اللّه «ع» (الى قوله): و إن كان

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 331، الباب 18 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 3.

(2)- الوسائل

18/ 343، الباب 32 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 1.

(3)- الوسائل 18/ 344، الباب 32 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 3.

(4)- الوسائل 18/ 447، الباب 13 من أبواب حد القذف، الحديث 3.

(5)- الوسائل 18/ 493، الباب 5 من أبواب حد السرقة، الحديث 6.

(6)- الوسائل 18/ 500، الباب 9 من أبواب حد السرقة، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 143

الميت لم يتوال الى أحد حتى مات فإن ميراثه لإمام المسلمين. فقلت: فما حال الغاصب؟

فقال: اذا هو أوصل المال الى امام المسلمين فقد سلم. الحديث.» «1»

22- خبر الفقيه و فيه: «فجرت السنة في الحدّ أنه إذا رفع الى الإمام و قامت عليه البيّنة أن لا يعطل و يقام.» «2»

23- خبر المفضل بن صالح، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «إذا سرق السارق من البيدر من إمام جائر فلا قطع عليه انّما أخذ حقّه، فاذا كان من إمام عادل عليه القتل.» «3»

24- صحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر «ع» قال: «من شهر السلاح في مصر ... فجزاؤه جزاء المحارب و أمره الى الإمام: إن شاء قتله و صلبه، و ان شاء قطع يده و رجله.

الحديث.» «4»

25- صحيحة بريد، قال: «سألت أبا عبد اللّه «ع» عن قول اللّه- عزّ و جلّ-:

«إنما جزاء الذين يحاربون اللّه و رسوله»، قال: ذلك الى الإمام، يفعل ما شاء. قلت:

فمفوّض ذلك اليه؟ قال: لا و لكن نحو الجناية.» «5»

26- خبر عبد اللّه بن طلحة، عن أبي عبد اللّه «ع» في قول اللّه- عزّ و جلّ-: «إنما جزاء الذين يحاربون اللّه و رسوله» الآية، «هذا نفي المحارب (المحاربة- كا.) غير هذا النفي. قال:

يحكم عليه الحاكم بقدر ما عمل

و ينفي و يحمل في البحر ثم يقذف به. الحديث.» «6»

27- خبر عمّار الساباطي، قال: «سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: كل مسلم بين

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 501، الباب 10 من أبواب حد السرقة، الحديث 5.

(2)- الوسائل 18/ 509، الباب 18 من أبواب حد السرقة، الحديث 4.

(3)- الوسائل 18/ 519، الباب 24 من أبواب حد السرقة، الحديث 5.

(4)- الوسائل 18/ 532، الباب 1 من أبواب حد المحارب، الحديث 1.

(5)- الوسائل 18/ 533، الباب 1 من أبواب حد المحارب، الحديث 2.

(6)- الوسائل 18/ 540، الباب 4 من أبواب حد المحارب، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 144

مسلمين ارتد عن الإسلام ... و على الإمام أن يقتله و لا يستتيبه.» «1»

28- صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه «ع» انه سئل عمن شتم رسول اللّه «ص» فقال: «يقتله الأدنى فالأدنى قبل أن يرفع الى الإمام.» «2»

29- روى الترمذي بسنده عن رسول اللّه «ص» انه قال: «ادرءوا الحدود عن المسلمين ما استطعتم، فإن كان له مخرج فخلّوا سبيله فإن الإمام ان يخطئ في العفو خير من أن يخطئ في العقوبة.» «3»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 545، الباب 1 من أبواب حد المرتد، الحديث 3.

(2)- الوسائل 18/ 554، الباب 7 من أبواب حد المرتد، الحديث 1.

(3)- سنن الترمذي 2/ 438، الباب 2 من أبواب الحدود، الحديث 1447.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 145

الفصل الثالث عشر فيما ورد في القصاص و الديات

1- خبر الفضيل، قال: «قلت لأبي جعفر «ع»: عشرة قتلوا رجلا؟ قال: إن شاء أولياؤه قتلوهم جميعا و غرموا تسع ديات، و إن شاءوا تخيّروا رجلا فقتلوه ... ثم الوالي بعد يلي أدبهم و حبسهم.» «1»

2-

خبر أبي العباس و غيره، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «اذا اجتمع العدة على قتل رجل واحد حكم الوالي أن يقتل أيهم شاءوا. الحديث.» «2» و نحوه غيره.

3- صحيحة حريز، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: سألته عن رجل قتل رجلا عمدا، فرفع الى الوالي فدفعه الوالي الى أولياء المقتول ليقتلوه، فوثب عليه قوم فخلّصوا القاتل من أيدي الأولياء؟ قال: «أرى أن يحبس الذين خلصوا القاتل.

الحديث.» «3»

4- صحيحة الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «قضى عليّ «ع» في رجلين أمسك أحدهما و قتل الآخر، قال: «يقتل القاتل و يحبس الآخر حتى يموت غما. الحديث.» «4»

و نحوها غيرها، حيث ان الحبس انّما يقع بيد الحكام و الولاة.

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 30، الباب 12 من أبواب القصاص، الحديث 6.

(2)- الوسائل 19/ 30، الباب 12 من أبواب القصاص، الحديث 7.

(3)- الوسائل 19/ 34، الباب 16 من أبواب القصاص، الحديث 1.

(4)- الوسائل 19/ 35، الباب 17 من أبواب القصاص، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 146

5- صحيحة زرارة، عن أبي جعفر «ع» في عبد جرح رجلين ... قيل له: فان جرح رجلا في اول النهار و جرح آخر في آخر النهار؟ قال: «هو بينهما ما لم يحكم الوالي في المجروح الأول.» «1»

6- صحيحة ابن سنان، قال: «سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول في رجل أراد امرأة على نفسها حراما فرمته بحجر فأصابت منه مقتلا، قال: «ليس عليها شي ء فيما بينها و بين اللّه- عزّ و جلّ-، و إن قدمت الى إمام عادل أهدر دمه.» «2»

7- خبر محمد بن مسلم، عن أبي جعفر «ع» قال: «من قتله القصاص بأمر الإمام فلا دية له

في قتل و لا جراحة.» «3»

8- صحيحة ابي بصير، قال: «سألت أبا جعفر «ع» عن رجل قتل رجلا مجنونا فقال: «إن كان المجنون أراده فدفعه عن نفسه (فقتله) فلا شي ء عليه من قود و لا دية، و يعطي ورثته ديته من بيت مال المسلمين. الحديث.» «4»

9- خبر أبي الورد، قال: «قلت لأبي عبد اللّه «ع» أو لأبي جعفر: أصلحك اللّه، رجل حمل عليه رجل مجنون فضربه المجنون ضربة فتناول الرجل السيف من المجنون فضربه فقتله؟ فقال: «أرى ان لا يقتل به و لا يغرم ديته، و تكون ديته على الإمام و لا يبطل دمه.» «5»

10- خبر أبي عبيدة، قال: «سألت أبا جعفر «ع» عن أعمى فقأ عين صحيح؟ فقال: «إن عمد الأعمى مثل الخطأ، هذا فيه الدية في ماله، فإن لم يكن له مال

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 77، الباب 45 من أبواب القصاص، الحديث 1.

(2)- الوسائل 19/ 44، الباب 23 من أبواب القصاص، الحديث 1.

(3)- الوسائل 19/ 47، الباب 24 من أبواب القصاص، الحديث 8.

(4)- الوسائل 19/ 51- 52، الباب 28 من أبواب القصاص، الحديث 1.

(5)- الوسائل 19/ 52، الباب 28 من أبواب القصاص، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 147

فالدية على الإمام و لا يبطل حق امرئ مسلم.» «1»

11- صحيحة أبي ولاد الحناط، قال: «سألت أبا عبد اللّه «ع» عن رجل مسلم قتل رجلا مسلما (عمدا) فلم يكن للمقتول أولياء من المسلمين إلّا أولياء من أهل الذمة من قرابته، فقال: «على الإمام أن يعرض على قرابته من أهل بيته (دينه) الإسلام، فمن أسلم منهم فهو وليه يدفع القاتل اليه، فإن شاء قتل و إن شاء عفا و إن

شاء أخذ الدية. فإن لم يسلم أحد كان الإمام وليّ أمره، فإن شاء قتل و إن شاء أخذ الدية فجعلها في بيت مال المسلمين، لأن جناية المقتول كانت على الإمام فكذلك تكون ديته لإمام المسلمين. قلت: فإن عفا عنه الإمام؟ قال: فقال: إنّما هو حق جميع المسلمين، و إنّما على الإمام أن يقتل أو يأخذ الدية و ليس له أن يعفو.» «2»

12- و صحيحته الاخرى، قال: «قال أبو عبد اللّه «ع» في الرجل يقتل و ليس له وليّ إلّا الإمام: «انه ليس للإمام أن يعفو، له أن يقتل أو يأخذ الدية فيجعلها في بيت مال المسلمين، لأن جناية المقتول كانت على الإمام و كذلك تكون ديته لإمام المسلمين.» «3»

أقول: لا يخفى أن الصحيحتين من أقوى الشواهد على ما ذكرناه مرارا من أن كون الشي ء للإمام عبارة أخرى عن كونه للمسلمين، فيراد به كونه لمنصب الإمامة و تحت اختيار الإمام لا لشخص الإمام، و لو كان لشخصه لكان له العفو قطعا. و قد مرّ في ميراث من لا وارث له أن المذكور في بعض الأخبار كونه من الأنفال، و في بعضها أنه للإمام، و في بعضها أنه يجعل في بيت مال المسلمين، و عرفت أن الجميع يرجع الى أمر واحد. و المراد كونه للمسلمين و لكنه في تصرف الإمام و اختياره. و يبعد جدّا في مقام التشريع جعل جميع الأنفال، أي الأموال

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 65، الباب 35 من أبواب القصاص، الحديث 1.

(2)- الوسائل 19/ 93، الباب 60 من أبواب القصاص، الحديث 1.

(3)- الوسائل 19/ 93، الباب 60 من أبواب القصاص، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 148

العامّة التي جعلها

اللّه لكافّة البشر و خمس جميع ما يملكه الناس ملكا لشخص واحد، فراجع ما حررناه في كتاب الخمس، و في الباب الثامن من هذا الكتاب.

13- رواية عبد اللّه بن سنان و عبد اللّه بن بكير، عن أبي عبد اللّه «ع» قال:

«قضى أمير المؤمنين «ع» في رجل وجد مقتولا لا يدرى من قتله، قال: «إن كان عرف له أولياء يطلبون ديته أعطوا ديته من بيت مال المسلمين و لا يبطل دم امرئ مسلم، لأن ميراثه للإمام فكذلك تكون ديته على الإمام، و يصلّون عليه و يدفنونه. قال: و قضى في رجل زحمه الناس يوم الجمعة في زحام الناس فمات أن ديته من بيت مال المسلمين.» «1»

و نحوها غيرها، فراجع.

14- خبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «إن وجد قتيل بأرض فلاة أدّيت ديته من بيت المال، فإن أمير المؤمنين «ع» كان يقول: لا يبطل دم امرئ مسلم.» «2»

و نحوه غيره، فراجع الباب 9 و 10 من ابواب دعوى القتل. «3»

15- خبر إسحاق بن عمار، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «قلت: ميت قطع رأسه؟ قال: عليه الدية. قلت: فمن يأخذ ديته؟ قال: الإمام، هذا للّه. و ان قطعت يمينه أو شي ء من جوارحه فعليه الأرش للإمام.» «4»

16- صحيحة أبي ولاد، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «ليس فيما بين أهل الذمة معاقلة فيما يجنون من قتل أو جراحة، إنما يؤخذ ذلك من أموالهم، فإن لم يكن لهم مال رجعت الجناية على إمام المسلمين لأنهم يؤدّون إليه الجزية، كما يؤدي العبد الضريبة الى سيّده. قال: و هم مماليك للإمام، فمن أسلم منهم فهو حرّ.» «5»

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 109، الباب 6 من أبواب دعوى القتل، الحديث

1.

(2)- الوسائل 19/ 112، الباب 8 من أبواب دعوى القتل، الحديث 3.

(3)- الوسائل 19/ 114 و 116، باب ثبوت القسامة ... و باب كيفية القسامة.

(4)- الوسائل 19/ 248، الباب 24 من أبواب ديات الأعضاء، الحديث 3.

(5)- الوسائل 19/ 300، الباب 1 من أبواب العاقلة، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 149

17- خبر أبي بصير، قال: «سألت أبا عبد اللّه «ع» عن رجل قتل رجلا متعمدا ثم هرب القاتل فلم يقدر عليه؟ قال: «إن كان له مال أخذت الدية من ماله و إلّا فمن الأقرب فالأقرب، و إن لم يكن له قرابة أدّاه الإمام، فإنه لا يبطل دم امرئ مسلم.» و في رواية أخرى: «ثم للوالي بعد أدبه و حبسه.» «1»

18- مرسلة يونس، عن أحدهما انه قال في الرجل إذا قتل رجلا خطأ فمات قبل أن يخرج الى أولياء المقتول من الدية: «ان الدية على ورثته، فإن لم يكن له عاقلة فعلى الوالي من بيت المال.» «2»

19- خبر عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه «ع» قال في مكاتب قتل رجلا خطأ ... فإن عجز المكاتب فلا عاقلة له، إنما ذلك على إمام المسلمين.» «3»

20- ما عن كتاب ظريف، عن أمير المؤمنين «ع» فيمن لم يكن له من يحلف معه و لم يوثق به على ما ذهب من بصره: «انه يضاعف عليه اليمين ... و الوالي يستعين في ذلك بالسؤال و النظر و التثبت في القصاص و الحدود و القود.» «4»

اعلم انا الى هنا مررنا على أبواب كتاب الوسائل مرورا إجماليا، فضبطنا منها كثيرا من الأخبار التي ذكر فيها لفظ الإمام، أو الوالي، أو السلطان، أو الحاكم، أو الأمير،

أو بيت المال، أو الجبر بالسيف، أو السجن أو نحو ذلك مما يستفاد منه إجمالا أن تشريع القوانين و الأحكام في الإسلام في الأبواب المختلفة كان على أساس حكومة إسلامية تكون وظيفتها إجراء هذه القوانين المختلفة و تنفيذها و لو بالقوة القاهرة.

و بالجملة فكما شرعت في الإسلام القوانين و الأحكام، شرّع فيه نظام الإجراء

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 302- 303، الباب 4 من أبواب العاقلة، الحديث 1 و 2.

(2)- الوسائل 19/ 302- 304، الباب 6 من أبواب العاقلة، الحديث 1.

(3)- الوسائل 19/ 308، الباب 12 من أبواب العاقلة، الحديث 1.

(4)- الوسائل 19/ 220، الباب 3 من أبواب ديات الأعضاء، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 150

و التنفيذ أيضا. فالحكومة داخلة في نسج الإسلام و نظامه. و قد ذكرنا ما ذكرناه في ثلاثة عشر فصلا، و لم نكن بصدد الاستقصاء، بل بصدد ذكر نماذج من الأبواب المختلفة. و الأولى ذكر نماذج من الفقه الإسلامي و فتاوى الأصحاب أيضا، و نكتفي فيها بالموارد التي لم نعثر فيها على رواية، و نجعل المرجع كتاب النهاية لشيخ الطائفة و كتاب الشرائع للمحقق الحلّي- طاب ثراهما- و نجعل هذا فصلا مستقلا، فنقول:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 151

الفصل الرابع عشر في التعرض لبعض عبارات الفقهاء و فتاواهم التي علّق فيها الحكم على الإمام،

أو الوالي، أو السلطان، أو الحاكم أو نحو ذلك مما يشكل حمله على خصوص الإمام المعصوم

1- قال في النهاية:

«و قد يكون الأمر بالمعروف باليد، بأن يحمل الناس على ذلك بالتأديب و الردع و قتل النفوس و ضرب من الجراحات، إلّا أن هذا الضرب لا يجب فعله إلّا بإذن سلطان الوقت المنصوب للرئاسة ... و إنكار المنكر يكون بالأنواع الثلاثة التي ذكرناها،

فأمّا باليد فهو أن يؤدّب فاعله بضرب من التأديب: إما الجراح أو الألم أو الضرب، غير أن ذلك مشروط بالإذن من جهة السلطان حسب ما قدّمناه.» «1»

2- و في كتاب الأمر بالمعروف من الشرائع:

«و لو افتقر الى الجراح أو القتل هل يجب؟ قيل: نعم، و قيل: لا إلّا بإذن الإمام، و هو الأظهر.» «2»

أقول: لو توقف إجراء المعروف و الردع عن المنكر على الجراح و الضرب فهل يجبان مطلقا، أو يشترطان بالإذن من الإمام؟ وجهان، بل قولان: من إطلاق الأدلّة، و من أن الجواز بنحو الإطلاق لكل أحد يوجب الهرج و المرج بل و اختلال

______________________________

(1)- النهاية للشيخ/ 300.

(2)- الشرائع 1/ 343.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 152

النظام في بعض المراحل.

و في خبر جابر، عن أبي جعفر «ع»: «فأنكروا بقلوبكم و ألفظوا بألسنتكم و صكّوا بها جباههم.».

و في خبر يحيى الطويل، عن أبي عبد اللّه «ع»: «ما جعل اللّه بسط اللسان و كفّ اليد و لكن جعلهما يبسطان معا و يكفان معا.»

فإطلاق هذين الخبرين و بعض الأخبار الأخر يقتضي عدم الاشتراط، فراجع الوسائل الباب 3 من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر «1». هذا.

و لو قيل بعدم اشتراط الوجوب و لكن الوجود يشترط غالبا بإذن الإمام و الحاكم- اذ الضرب و الجراح لا يحصلان إلّا على أساس القدرة، فيجب تحصيل الحكومة الحقة لتحصل القدرة على التنفيذ مع النظم- كان ذلك موافقا للتحقيق. فالإمام شرط للوجود، لا للوجوب. و تكون أدلة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بكثرتها و تعاضدها و إطلاقها من أقوى الأدلة على وجوب إقامة الدولة الحقة، و الى ذلك اشار خبر يحيى الطويل. اذ المستفاد منه

ان المقصود من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر لا يحصل إلّا بتحصيل القدرة و بسط اليد، اذ لا أثر غالبا للأمر و النهي المجردين اذا لم يتعقبهما إعمال القدرة مع التخلف، و اللّه- تعالى- أجلّ من أن يجعل حكما لا يترتب عليه خاصية و أثر. و التفصيل موكول الى محله.

و سيأتي البحث في مسألة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و إدارة الحسبة في الفصل الخامس من الباب السادس، فانتظر.

3- و في كتاب التجارة من الشرائع:

«و أن يكون البائع مالكا أو ممن له أن يبيع عن المالك، كالأب و الجد للأب و الوكيل و الوصي و الحاكم و أمينه.» «2»

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 403- 407، باب وجوب الأمر و النهي بالقلب ثم ...، الحديث 1 و 2 و ...

(2)- الشرائع 2/ 14.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 153

4- و فيه أيضا:

«و يجبر المحتكر على البيع و لا يسعّر عليه، و قيل: يسعّر. و الأول أظهر.» «1»

5- و في المتاجر من النهاية:

«و متى ضاق على الناس الطعام و لم يوجد إلّا عند من احتكره كان على السلطان أن يجبره على بيعه و يكرهه عليه.» «2»

6- و في كتاب الديون من النهاية:

«و من وجب عليه الدين لا يجوز له مطله و دفعه مع قدرته على قضائه، فإن مطل و دفع كان على الحاكم حبسه و إلزامه الخروج مما وجب عليه، فان حبسه ثم ظهر له بعد ذلك إعساره وجب تخليته، و إن لم يكن معسرا غير انه يدفع به جاز للحاكم أن يبيع عليه متاعه و عقاره و يقضي عنه ما وجب عليه. و ان كان من وجب عليه الدين و ثبت

غائبا وجب أيضا على الحاكم سماع البينة عليه و يجوز له أن يبيع عليه شيئا من أملاكه.» «3»

7- و في المكاسب من النهاية:

«تولّى الأمر من قبل السلطان العادل الآمر بالمعروف و الناهي عن المنكر الواضع الأشياء مواضعها جائز مرغب فيه، و ربما بلغ حد الوجوب.» «4»

8- و فيها أيضا:

«و متى تولى شيئا من أمور السلطان من الإمارة و الجباية و القضاء و غير ذلك من أنواع الولايات فلا بأس أن يقبل على ذلك الأرزاق و الجوائز و الصلات، فإن كان ذلك من جهة سلطان عادل كان ذلك حلالا له طلقا، و إن كان من جهة

______________________________

(1)- الشرائع 2/ 21.

(2)- النهاية للشيخ/ 374.

(3)- النهاية للشيخ/ 305- 306.

(4)- النهاية للشيخ/ 356.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 154

سلطان الجور فقد رخّص له في قبول ذلك من جهتهم لأن له حظّا في بيت المال.» «1»

9- و فيها أيضا:

«و لا بأس بأخذ الأجر و الرزق على الحكم و القضاء بين الناس من جهة السلطان العادل حسب ما قدمناه، فأما من جهة سلطان الجور فلا يجوز إلّا عند الضرورة أو الخوف.» «2»

10- و في كتاب الرهن من الشرائع:

«و إذا وضعاه على يد عدل فللعدل ردّه عليهما أو تسليمه الى من يرتضيانه ...

و لو استترا قبضه الحاكم. و لو كانا غائبين و أراد تسليمه إلى الحاكم أو عدل آخر من غير ضرورة لم يجز و يضمن لو سلّم، و كذا لو كان أحدهما غائبا. و إن كان هناك عذر سلّمه الى الحاكم ... و لو خان العدل نقله الحاكم الى أمين غيره ... و إذا حلّ الأجل و تعذّر الأداء كان للمرتهن البيع إن كان وكيلا و

إلّا رفع أمره الى الحاكم ليلزمه بالبيع، فان امتنع كان له حبسه و له أن يبيع عليه ... اذا رهن مشاعا و تشاحّ الشريك و المرتهن في إمساكه انتزعه الحاكم و آجره إن كان له أجرة ...

و لو طلب كل واحد منهما نقدا غير النقد الغالب و تعاسرا ردّهما الحاكم الى الغالب.» «3»

11- و في كتاب الحجر من الشرائع:

«لا يثبت حجر المفلس إلّا بحكم الحاكم، و هل يثبت في السفيه بظهور سفهه؟ فيه تردد، و الوجه أنه لا يثبت. و كذا لا يزول إلّا بحكمه.» «4»

12- و في الشركة من الشرائع:

______________________________

(1)- النهاية للشيخ/ 357.

(2)- النهاية للشيخ/ 367.

(3)- الشرائع 2/ 80- 82، و 84- 85.

(4)- الشرائع 2/ 102.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 155

«فكل ما لا ضرر في قسمته يجبر الممتنع مع التماس الشريك للقسمة.» «1»

13- و في الوديعة منه:

«لا يبرأ المودع إلّا بردّها إلى المالك أو وكيله، فان فقدهما فإلى الحاكم مع العذر.» «2»

14- و في الوكالة منه:

«و ينبغي للحاكم أن يوكل عن السفهاء من يتولى الحكومة عنهم.» «3»

15- و في الوكالة من النهاية:

«و للناظر في أمور المسلمين و لحاكمهم أن يوكل على سفهائهم و أيتامهم و نواقص عقولهم من يطالب بحقوقهم و يحتج عنهم و لهم.» «4»

16- و في الوصايا من الشرائع:

«لو أوصى الى العدل ففسق بعد موت الموصى أمكن القول ببطلان وصيته، لان الوثوق ربما كان باعتبار صلاحه فلم يتحقق عند زواله، فحينئذ يعز له الحاكم و يستنيب مكانه ... و لو أوصى الى اثنين ... و للحاكم جبرهما على الاجتماع فإن تعاسرا جاز له الاستبدال بهما ... و لو مرض أحدهما أو عجز ضم اليه الحاكم من

يقويه ... و لو ظهر للوصي عجز ضم اليه مساعد و ان ظهر منه خيانة وجب على الحاكم عزله و يقيم مكانه أمينا ... و كذا لو مات إنسان و لا وصي له كان للحاكم النظر في تركته.» «5»

______________________________

(1)- الشرائع 2/ 132.

(2)- الشرائع 2/ 167.

(3)- الشرائع 2/ 198.

(4)- النهاية للشيخ/ 317.

(5)- الشرائع 2/ 256- 257.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 156

17- و في النهاية:

«فإن ظهر من الوصي بعده خيانة كان على الناظر في أمر المسلمين أن يعزله و يقيم أمينا مقامه، و إن لم تظهر منه خيانة إلّا أنه ظهر منه ضعف و عجز عن القيام بالوصية كان للناظر في أمر المسلمين أن يقيم معه أمينا ضابطا يعينه.» «1»

18- و في النكاح من الشرائع:

«لا ولاية في عقد النكاح لغير الأب و الجد للأب و ان علا و المولى و الوصي و الحاكم.» «2»

19- و في النكاح من النهاية:

«و متى لم يقم الرجل بنفقة زوجته و بكسوتها و كان متمكنا من ذلك ألزمه الإمام النفقة أو الطلاق.» «3»

20- و فيه أيضا:

«و إن تزوجت المرأة برجل على أنه صحيح فوجدته خصيا كانت بالخيار ... و على الإمام أن يعزّره لئلا يعود الى مثل ذلك.» «4»

21- و في النكاح من الشرائع:

«فإذا كان النشوز منهما و خشي الشقاق بعث الحاكم حكما من أهل الزوج و آخر من أهل المرأة.» «5»

______________________________

(1)- النهاية للشيخ/ 607.

(2)- الشرائع 2/ 276.

(3)- النهاية للشيخ/ 475.

(4)- النهاية للشيخ/ 487- 488.

(5)- الشرائع 2/ 339.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 157

22- و في الطلاق من الشرائع:

«و لو لم يكن له (المجنون) وليّ طلق عنه السلطان أو من نصبه

للنظر في ذلك.» «1»

23- و في الطلاق من النهاية:

«فإن طلق الرجل امرأته و هو زائل العقل بالسكر أو الجنون أو المرّة أو ما أشبهها كان طلاقه غير واقع ... فإن لم يكن له وليّ طلق عنه الإمام أو من نصبه الإمام.» «2»

24- و في الظهار من الشرائع:

«العاشرة: إن صبرت المظاهرة فلا اعتراض، و ان رفعت أمرها الى الحاكم خيّره بين التكفير و الرجعة أو الطلاق.» «3»

25- و في الطلاق من النهاية في حكم الإيلاء:

«فإذا فعل ذلك كانت المرأة بالخيار: إن شاءت صبرت عليه أبدا، و إن شاءت خاصمته الى الحاكم، فإن استعدت عليه أنظره الحاكم بعد رفعها إليه أربعة أشهر ... و إن أقام على عضلها و الامتناع من وطيها خيّره الحاكم ...، فإن أبى الرجوع و الطلاق جميعا و أقام على الإضرار بها حبسه الحاكم في حظيرة من قصب و ضيّق عليه في المطعم و المشرب ...» «4»

26- و في إحياء الموات من الشرائع:

«و لو اقتصر على التحجير و أهمل العمارة أجبره الإمام على أحد الأمرين: إما الإحياء، و إما التخلية بينهما و بين غيره. و لو امتنع أخرجها السلطان من يده

______________________________

(1)- الشرائع 3/ 12.

(2)- النهاية للشيخ/ 509.

(3)- الشرائع 3/ 66.

(4)- النهاية للشيخ/ 527- 528.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 158

لئلا يعطلها.» «1»

27- و في المتاجر من النهاية (باب المزارعة و المساقاة):

«و من أخذ أرضا ميتة فأحياها كانت له و هو أولى بالتصرف فيها إذا لم يعرف لها ربّ، و كان للسلطان طسق الأرض.» «2»

28- و في اللقطة من الشرائع:

«و إذا وجد الملتقط سلطانا ينفق عليه استعان به، و إلّا استعان بالمسلمين ...

الرابعة: اذا كان للمنبوذ ما افتقر

الملتقط في الإنفاق عليه الى إذن الحاكم ...

السادسة: عاقلة اللقيط الإمام اذا لم يظهر له نسب ... و في خطأه الدية على الإمام ... و يبرأ لو سلمه (البعير) الى صاحبه و لو فقده سلمه الى الحاكم ... و إن شاء دفعها (الشاة) الى الحاكم ليحفظها أو يبيعها و يوصل ثمنها الى المالك ...

الأولى: اذا لم يجد الآخذ سلطانا ينفق على الضالة أنفق من نفسه و رجع به ...

و لو كانت (اللقطة) مما لا يبقى كالطعام قوّمه على نفسه و انتفع به، و إن شاء دفعه الى الحاكم ... و إن رأى الحاكم الحظ في بيعه و تعريف ثمنه جاز.» «3»

29- و في شهادات النهاية:

«و ينبغي للإمام أن يعزّر شهود الزور و يشهّرهم في أهل محلتهم لكي يرتدع غيرهم عن مثله في مستقبل الأوقات.» «4»

30- و في حدود النهاية:

«و إذا زنا اليهودي أو النصراني بأهل ملّته كان الإمام مخيرا بين إقامة الحدّ عليه بما تقتضيه شريعة الإسلام و بين تسليمه الى أهل دينه أو دين المرأة ليقيموا عليهم

______________________________

(1)- الشرائع 3/ 275.

(2)- النهاية للشيخ/ 442- 443.

(3)- الشرائع 3/ 284- 286، و 289- 290، و 292.

(4)- النهاية للشيخ/ 336.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 159

الحدود على ما يعتقدونه.» «1»

31- و فيها أيضا:

«و اذا كان الذي وجب عليه الرجم قد قامت عليه به بيّنة كان أول من يرجمه الشهود ثم الإمام ثم الناس. و إن كان قد وجب عليه ذلك بالإقرار كان أول من يرجمه الإمام ثم الناس.» «2»

32- و فيها أيضا:

«من وطئ امرأة ميتة ... و إن كانت الموطوءة زوجته وجب عليه التعزير دون الحد الكامل حسب ما يراه الإمام في

الحال ... و من نكح بهيمة كان عليه التعزير بما دون الحد حسب ما يراه الإمام في الحال.» «3»

33- و فيها أيضا:

«و من بنّج غيره أو أسكره بشي ء احتال عليه في شربه أو أكله ثم أخذ ماله عوقب على فعله ذلك بما يراه الإمام و استرجع عنه ما أخذ ... و المحتال على أموال الناس بالمكر و الخديعة و تزوير الكتب و الشهادات الزور و الرسالات الكاذبة و غير ذلك يجب عليه التأديب و العقاب و أن يغرم ما أخذ بذلك على الكمال، و ينبغي للسلطان أن يشهّره بالعقوبة لكي يرتدع غيره عن فعل مثله.» «4»

34- و في الديات من النهاية:

«و إذا أمر إنسان حرّا بقتل رجل فقتله المأمور وجب القود على القاتل دون الآمر، و كان على الإمام حبسه ما دام حيّا.» «5»

______________________________

(1)- النهاية للشيخ/ 696.

(2)- النهاية للشيخ/ 700.

(3)- النهاية للشيخ/ 708.

(4)- النهاية للشيخ/ 721- 722.

(5)- النهاية للشيخ/ 747.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 160

35- و فيها أيضا:

«و إذا قتل الذميّ مسلما عمدا دفع برمّته هو و جميع ما يملكه الى أولياء المقتول، فإن أرادوا قتله كان لهم ذلك و يتولّى ذلك عنهم السلطان، و إن أرادوا استرقاقه كان رقا لهم.» «1»

36- و فيها أيضا:

«من قلّب على رأس إنسان ماء حارّا فامتعط شعره فلم ينبت كان عليه الدية كاملة، فان نبت و رجع الى ما كان كان عليه أرشه حسب ما يراه الإمام.» «2»

فهذه بعض المسائل التي استخرجناها من كتابي النهاية و الشرائع التي أرجع فيها الحكم الى الحاكم، أو الوالي، أو الإمام، أو السلطان أو نحو ذلك، و كان بناؤنا في ذكر الفتاوى على الاقتصار على الموارد التي

لم نتعرض في الفصول السابقة لرواياتها، و إلّا لزادت على ذلك بكثير.

و أنت اذا تتبعت مصنفات الفريقين في الفقه أو في الحديث لا تجد مصنفا إلّا و يوجد فيه هذا السنخ من الأحاديث أو الفتاوى في غاية الكثرة. كما انك لا تجد فقيها من الفقهاء في عصر من الأعصار أو مصر من الأمصار لم يكن مرجعا لهذا السنخ من المسائل العامّة المرتبطة بقائد المسلمين و إمامهم.

و لم يكن غرضنا استقصاء الروايات و الفتاوى، فإنه يتوقف على فراغ واسع لا يتيسّر لي فعلا، بل كان الغرض ذكر نماذج من الأبواب المختلفة، فتدبر.

______________________________

(1)- النهاية للشيخ/ 748.

(2)- النهاية للشيخ/ 764.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 161

الفصل الثالث من الباب الثالث فيما يستدل به لضرورة الحكومة في جميع الأعصار

اشارة

اعلم أنا قد عقدنا الباب الأول من الكتاب فيما يقتضيه الأصل في مسألة الولاية، و الباب الثاني في بيان ولاية النبي «ص» و الأئمة المعصومين «ع»، و الباب الثالث لبيان لزوم الولاية و ضرورتها و وجوب الاهتمام بها في جميع الأعصار، و فصلنا هذا الباب بفصول اربعة:

تعرضنا في الفصل الأول منها لبعض الكلمات المشتملة على ادعاء الإجماع أو الاتفاق في المسألة.

و في الفصل الثاني مررنا مرورا اجماليا على الروايات و الفتاوى المعلقة فيها الأحكام على الإمام أو السلطان أو الوالي أو الحاكم أو نحو ذلك مما يستفاد منها اجمالا كون الولاية و الحكومة داخلة في نسج الإسلام و نظامه. و قد اشتمل هذا الفصل على اربعة عشر فصلا، كما مرّ.

فالآن نعقد الفصل الثالث من الباب لبيان ما يستدل به على لزوم الحكومة و ضرورتها في جميع الأعصار و نذكر لذلك عشرة أدلة:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 162

الدليل الأول: [تشريعات الإسلام و قوانينه تشهد على لزوم الحكومة]

انه قد حصلت لنا من السبر الإجمالي للأخبار و الفتاوى نتيجتان:

الأولى: ان دين الإسلام ليس كما يزعمه بعض البسطاء السذّج من المسلمين، بل و بعض السذّج من علماء الدين أيضا- نتيجة لإلقاءات المستعمرين و عملائهم- ليس منحصرا في عدّة أعمال عبادية و آداب و مراسيم شخصية فقط، بل هو نظام واسع كافل لجميع ما يحتاج اليه الإنسان و يواجهه في معاشه و معاده من بدو تكوّنه الى آخر مراحل حياته من المصالح الفردية و الاجتماعية، و ما يجب أو ينبغي أن يكون عليه الإنسان في قبال خالقه و عائلته و بيئته، و علاقاته الاقتصادية و السياسية و روابط الحاكم و الرعية و علاقته مع سائر الأمم و نحو ذلك.

الثانية: ان الإسلام ليس

ينحصر في التقنين و التشريع فقط من دون التفات الى القوّة المنفّذة و شرائطها، بل شرّعت أحكامه و مقرراته على أساس الحكومة الصالحة العادلة التي تقدر على إجراء المقررات و تنفيذها. فاشتبك فيه التقنين و التنفيذ معا و كانت الحكومة الصالحة المنفذة للقوانين من أهم برامجه و داخلة في نسجه و نظامه، بنحو يوجب تعطيل الحكومة تعطيل الأحكام و إهمالها. فيجب على المسلمين الاهتمام بأمر الحكومة. و قد تحصّلت لك هاتان النتيجتان من سبر الأخبار و الفتاوى و الدقة فيها، كما مرّ.

و لو فرض المناقشة في استفادة تعيّن الحكومة من الفتاوى المذكورة فيها ألفاظ الإمام و الحاكم و نحوهما باحتمال ان يكون كلام الفقهاء من باب رعاية الاحتياط و الأخذ بالمتيقن، اذ الموارد من الأمور الحسبية المطلوبة على كل حال و يجوز لكل مؤمن التصدّي لها و إعمالها، فلا تسري المناقشة الى الأخبار الكثيرة التي تعرضنا

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 163

لبعضها، اذ دلالتها على تعيّن الإمام و الحاكم بشرائطه و كونه المرجع في الأمور مما لا اشكال فيه.

و يشهد لذلك أيضا جميع الآيات القرآنية المشتملة على أحكام سياسية عامّة خوطب بها الجميع مع احتياج تنفيذها الى القدرة و بسط اليد، كقوله- تعالى-:

«إِنَّمٰا جَزٰاءُ الَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلٰافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ. الآية.» «1»

و قوله: «وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا جَزٰاءً بِمٰا كَسَبٰا نَكٰالًا مِنَ اللّٰهِ.» «2»

و قوله: «الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ.» «3»

و قوله: «وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا، فَإِنْ بَغَتْ إِحْدٰاهُمٰا عَلَى

الْأُخْرىٰ فَقٰاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّٰى تَفِي ءَ إِلىٰ أَمْرِ اللّٰهِ، فَإِنْ فٰاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا.» «4»

و قوله: «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِبٰاطِ الْخَيْلِ، تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّٰهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لٰا تَعْلَمُونَهُمُ، اللّٰهُ يَعْلَمُهُمْ.» «5»

و قوله: «وَ قٰاتِلُوهُمْ حَتّٰى لٰا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّٰهِ.» «6»

الى غير ذلك من الآيات الكثيرة الواردة في القتال و الدفاع.

إذ هذه الأحكام التي لا ترتبط بشخص خاصّ و يكون المطلوب أصل وجودها و تحققها، و إن كانت خوطب بها جميع المسلمين، و لكن حيث يتوقف تنفيذها على بسط اليد و القدرة فلا محالة يكون المأمور بها و المنفذ لها هو الحاكم الذي يتبلور فيه جميع الأمّة، و يكون ممثلا لهم و بيده القيادة و الزعامة.

و يشير الى هذا المعنى قوله «ص»: «الخير كلّه في السيف و تحت ظل السيف و لا يقيم

______________________________

(1)- سورة المائدة (5)، الآية 33.

(2)- سورة المائدة (5)، الآية 38.

(3)- سورة النور (24)، الآية 2.

(4)- سورة الحجرات (49)، الآية 9.

(5)- سورة الأنفال (8)، الآية 60.

(6)- سورة الأنفال (8)، الآية 39.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 164

الناس الّا السيف.» «1»

اذ السيف كناية عن القوة و القدرة.

و النبي الأكرم «ص» أيضا بعد ما هاجر الى المدينة قد باشر بنفسه إقامة الدولة الإسلامية و عقد بين الطوائف و القبائل من المسلمين و بينهم و بين يهود المدينة اتفاقيات و معاهدات، كما شهدت بذلك التواريخ. و بعث العمّال و القضاة و الجباة لأخذ الزكوات و جنّد الجنود و قاتل المشركين و الناقضين للعهود من اليهود و غيرهم.

و قد ضبط المؤرخون و أرباب الحديث عنه

«ص» أكثر من سبعين غزوة و سرية.

و راسل الأمراء و الملوك و دعاهم الى قبول الإسلام و الدخول تحت لوائه. و استمرّت هذه السيرة بعد أيضا، كما هو واضح.

و بالجملة نفس تشريعات الإسلام و قوانينه تشهد على لزوم دولة و حكومة إسلامية تحفظها و تنفذها و عليه كان العمل في عصر النبي «ص» و كذا بعده. اللهم إلّا أن يدعى إهمال القوانين و نسخها في عصر الغيبة و ان طالت ما طالت، و ان اللّه ترك عنايته بالإسلام و المسلمين جميعا بسبب غيبة إمام العصر- عجل اللّه تعالى فرجه الشريف، فليتعطل الإسلام و ليترك المسلمون مغلوبين مقهورين تحت سلطات الكفار و الجائرين بلا حكومة صالحة حتى يظهر صاحب الأمر «ع» فيجدد الإسلام من رأس. فهل يمكن الالتزام بأن هذا حكم اللّه و التكليف الشرعي؟!

قال السيد الأستاذ، الإمام الخميني- مدّ ظلّه العالي- في محاضراته في الحكومة الإسلامية:

«مجموعة القوانين لا تكفي لإصلاح المجتمع. و لكي يكون القانون مادة لإصلاح و إسعاد البشر فانه يحتاج الى السلطة التنفيذية. لذا فان اللّه- عزّ و جلّ- قد جعل في الأرض الى جانب مجموعة القوانين حكومة و جهاز تنفيذ و إدارة. الرسول الأعظم «ص» كان يترأس جميع أجهزة التنفيذ في إدارة المجتمع الإسلامي ... و في

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 5، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 165

الحق ان القوانين و الأنظمة الاجتماعية بحاجة الى منفّذ. في كل دول العالم لا ينفع التشريع وحده، و لا يضمن سعادة البشر، بل ينبغي أن تعقب سلطة التشريع سلطة التنفيذ. فهي وحدها التي تنيل الناس ثمرات التشريع العادل. لهذا قرر الإسلام إيجاد سلطة

التنفيذ الى جانب سلطة التشريع، فجعل للأمر وليا للتنفيذ الى جانب تصدّيه للتعليم و النشر و البيان.» «1»

أقول: و قد بلغ اهتمام الإسلام بالإمامة و الحكومة حدّا ورد أنه لو لم يكن في الأرض إلّا اثنان لكان الإمام أحدهما. «2»

و لا يخفى أن الدولة المعتمدة على الفطرة و الاعتقاد الديني الثابت في أعماق القلب أتقن الحكومات و أحكمها، فان الاعتقاد القلبي ضامن لحفظها و احترام مقرراتها و ليس كذلك الحكومات الدارجة المعتمدة على التغلب و القهر، فتدبر.

و اعلم أن استيحاش أكثر الناس و تنفرهم من ألفاظ الملك و الحكومة و السلطنة و نحوها إنّما هو أمر عارض ناشئ عن ابتلائهم في أكثر الأعصار و الأمصار بالحكومات الظالمة المستبدّة أو غير اللائقة لإدارة شئون الأمة، و إلّا فأصل الملك أمر ممدوح مرغوب فيه عقلا و شرعا، كتابا و سنة إذا كانت الحكومة صالحة عادلة حائزة لرضا الأمة حافظة لحقوقها ملتزمة بتنفيذ القوانين المقبولة لدى الأمّة.

قال اللّه- تعالى: «الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّٰاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ آتَوُا الزَّكٰاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَ لِلّٰهِ عٰاقِبَةُ الْأُمُورِ.» «3»

و قال في قصة بني اسرائيل: «إِنَّ اللّٰهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طٰالُوتَ مَلِكاً.» «4»

______________________________

(1)- الحكومة الإسلامية/ 23.

(2)- الكافي 1/ 180، كتاب الحجة، باب أنه لو لم يبق في الأرض إلّا رجلان ...، الحديث 5.

(3)- سورة الحج (22)، الآية 41.

(4)- سورة البقرة (2)، الآية 247.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 166

و قال: «وَ قَتَلَ دٰاوُدُ جٰالُوتَ وَ آتٰاهُ الهُٰ ل الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ.» «1»

و قال حكاية عن يوسف: «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحٰادِيثِ.» «2»

و قال: «فَقَدْ آتَيْنٰا آلَ إِبْرٰاهِيمَ

الْكِتٰابَ وَ الْحِكْمَةَ، وَ آتَيْنٰاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً.» «3»

و قال حكاية عن سليمان: «رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لٰا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي.» «4»

و في داود: «وَ شَدَدْنٰا مُلْكَهُ وَ آتَيْنٰاهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطٰابِ.» «5»

و قال: «وَ إِذْ قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ: يٰا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّٰهِ عَلَيْكُمْ، إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيٰاءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً.» «6»

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 1، ص: 166

الى غير ذلك من الآيات الدالة على فضل الملك و كونه من أعظم نعم اللّه على عباده.

و الأخبار في ذلك كثيرة يصعب إحصاؤها. و يكفيك في ذلك ما عن أمير المؤمنين «ع»: «إمام عادل خير من مطر وابل.» «7»

و عنه أيضا: «أفضل ما منّ اللّه سبحانه به على عباده علم و عقل و ملك و عدل.» «8»

و عنه أيضا: «ليس ثواب عند اللّه- سبحانه- أعظم من ثواب السلطان العادل و الرجل المحسن.» «9»

______________________________

(1)- سورة البقرة (2)، الآية 251.

(2)- سورة يوسف (12)، الآية 101.

(3)- سورة النساء (4)، الآية 54.

(4)- سورة ص (38)، الآية 35.

(5)- سورة ص (38)، الآية 20.

(6)- سورة المائدة (5)، الآية 20.

(7)- الغرر و الدرر 1/ 386، الحديث 1491.

(8)- الغرر و الدرر 2/ 439، الحديث 3205.

(9)- الغرر و الدرر 5/ 90، الحديث 7526.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 167

و عن حفص بن عون رفعه، قال: قال رسول اللّه «ص»: «ساعة إمام عدل (عادل:

خ. ل) أفضل من عبادة سبعين سنة، و حدّ يقام للّه في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحا.»

«1»

الى غير ذلك من الأخبار المروية في كتب الفريقين، فراجع.

و في مقدمة ابن خلدون:

«و اعلم ان الشرع لم يذم الملك لذاته و لا حظر القيام به، و إنما ذمّ المفاسد الناشئة عنه من القهر و الظلم و التمتع باللذات، و لا شك ان في هذه مفاسد محظورة.» «2»

الدليل الثاني: ان النظام و الحكومة امر ضروري للبشر،

و ان حياتهم في جميع مراحلها و أدوارها حتى في العصور الحجرية و في الغابات لم تخل من قانون و حكومة ما، فإن الإنسان مدني بالطبع و لا تتم حياته و معيشته إلّا في ظلّ الاجتماع و التعاون و المبادلات، و له شهوات و غرائز و ميول مختلفة من حبّ الذات و المال و الجاه و الحرية المطلقة في جميع ما يريده و يهواه، و لا محالة يقع التزاحم و الصراع و التضارب بين الأفكار و الأهواء فلا بدّ له من قوانين و مقررات، و من قوة و قدرة نافذة محدّدة منفذة للمقررات حافظة للنظام و مانعة من التعدّي و التكالب و حافظة للثغور و الأطراف.

و لا نعني بالحكومة و الولاية إلّا هذه. بل الحيوانات أيضا تحتاج الى نحو من هذا النظم و القدرة، كما نشاهد ذلك في أنواع النمل و النحل و نحوهما.

و لو فرض محالا أو نادرا تحقق الرشد الأخلاقي و الثقافة الكاملة في جميع أفراد البشر و التناصف و الإيثار بينهم، فالاحتياج الى نظام يدبر أمورهم الاجتماعية و يؤمّن حاجاتهم من جلب الأرزاق و تأمين الأمور الصحية و التعليم و التربية

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 308، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.

(2)- مقدمة ابن خلدون/ 135 (طبعة أخرى/ 192)، الفصل 26 من الفصل 3 من الكتاب الأول.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة

الإسلامية، ج 1، ص: 168

و المواصلات و المخابرات و إيجاد الطرق و الشوارع و سائر المؤسّسات الرفاهية و جباية الضرائب لتأمينها ممّا لا يقبل الإنكار. و لا يختص هذا بمصر دون مصر أو عصر دون عصر أو ظرف دون ظرف.

فما عن أبي بكر الأصم من عدم الاحتياج الى الحكومة اذا تناصفت الأمة و لم تتظالم، و ما عن ماركس من عدم الاحتياج اليها بعد تحقق الكمون المترقي للبشر و ارتفاع الاختلاف الطبقي بينهم واضح الفساد.

قال ابن أبي الحديد في شرح الخطبة الأربعين من نهج البلاغة:

«قال المتكلمون: الإمامة واجبة إلّا ما يحكى عن أبي بكر الأصم من قدماء أصحابنا انها غير واجبة اذا تناصفت الأمة و لم تتظالم ... فأما طريق وجوب الإمامة ما هي فإن مشايخنا البصريين يقولون: طريق وجوبها الشرع و ليس في العقل ما يدلّ على وجوبها. و قال البغداديون و أبو عثمان الجاحظ من البصريين و شيخنا أبو الحسين ان العقل يدلّ على وجوب الرئاسة. و هو قول الامامية.» «1»

و كيف كان فالإمامة بالمعنى الأعم ضرورة للبشر في جميع الأعصار، و بقاء الأمة ببقاء الإمامة. فلا يجوز للشارع الحكيم اللطيف بالأمة الإسلامية إهمال هذه المهمة و عدم تعيين وظيفة المسلمين بالنسبة الى أصلها و شرائطها و حدودها حتّى بالنسبة الى عصر الغيبة، لعدم تفاوت الأزمنة في ذلك.

و في موثقة أبي حمزة الثمالي، عن أبي جعفر «ع» قال: «خطب رسول اللّه «ص» في حجة الوداع فقال: «يا أيها الناس، و اللّه ما من شي ء يقرّبكم من الجنة و يباعدكم من النار إلا و قد أمرتكم به. و ما من شي ء يقرّبكم من النار و يباعدكم من الجنة إلّا و قد نهيتكم عنه. الحديث.»

«2»

و في صحيحة محمد بن مسلم عن أبي عبد اللّه «ع» قال: قال أمير المؤمنين «ع»:

______________________________

(1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2/ 308.

(2)- الكافي 2/ 74، كتاب الإيمان و الكفر باب الطاعة و التقوى، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 169

«الحمد للّه الذي لم يخرجني من الدنيا حتى بيّنت للأمة جميع ما تحتاج اليه.» «1»

و قد عقد الكليني في أصول الكافي بابا سمّاه: «باب الردّ الى الكتاب و السنة، و انه ليس شي ء من الحلال و الحرام و جميع ما يحتاج الناس اليه إلّا و قد جاء فيه كتاب أو سنّة»، و ذكر في هذا الباب روايات كثيرة:

منها: خبر مرازم، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «ان اللّه- تبارك و تعالى- أنزل في القرآن تبيان كل شي ء، حتى و اللّه ما ترك اللّه شيئا يحتاج اليه العباد، حتى لا يستطيع عبد يقول: لو كان هذا أنزل في القرآن، إلّا و قد أنزله اللّه فيه.» «2»

و منها: خبر عمر بن قيس، عن أبي جعفر «ع» قال: سمعته يقول: «ان اللّه- تبارك و تعالى- لم يدع شيئا يحتاج اليه الأمة إلّا أنزله في كتابه و بينه لرسوله «ص» و جعل لكل شي ء حدّا و جعل عليه دليلا يدلّ عليه و جعل على من تعدّى ذلك الحد حدّا.» «3»

فعليك بالدقة في لفظ الأمة، و هل تبقى الأمة بلا دولة و إمامة؟

و منها: خبر سليمان، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «ما خلق اللّه حلالا و لا حراما إلّا و له حدّ كحدّ الدار، فما كان من الطريق فهو من الطريق، و ما كان من الدار فهو من الدار حتى أرش

الخدش فما سواه، و الجلدة و نصف الجلدة.» «4»

و منها: خبر حماد، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: سمعته يقول: «ما من شي ء إلّا و فيه كتاب أو سنّة.» «5»

و منها: خبر معلى بن خنيس، قال: قال أبو عبد اللّه: «ما من أمر يختلف فيه اثنان إلّا

______________________________

(1)- التهذيب 6/ 319، باب في الزيادات في القضايا و الأحكام، الحديث 86.

(2)- الكافي 1/ 59، الحديث 1.

(3)- الكافي 1/ 59، الحديث 2.

(4)- الكافي 1/ 59، الحديث 3.

(5)- الكافي 1/ 59، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 170

و له أصل في كتاب اللّه- عزّ و جلّ- و لكن لا تبلغه عقول الرجال.» «1» الى غير ذلك من الأخبار.

فإذا فرض أن الإسلام لم يهمل مثل أرش الخدش و الجلدة و نصف الجلدة فكيف يهمل ما فيه نظام أمر الأمّة بعد النبي «ص» أو في عصر الغيبة؟!

إن قيّم قرية صغيرة إذا أراد أن يسافر سفرا موقّتا فهو بطبعه و وجدانه يعيّن مرجعا للأمور يرجع اليه في غيابه، فهل كان النبي «ص» و هو عقل الكل أقل التفاتا و حرصا على حفظ الإسلام الذي صرف فيه طاقاته و طاقات المسلمين مدى عمره الشريف؟!

و قد ورد عنه «ص» في أهمية الوصايا الشخصية بالنسبة الى أموال و أمور جزئية انه قال: «من مات بغير وصية مات ميتة جاهلية.» «2»

و قال: «ما حق امرئ مسلم أن يبيت ليلتين و له شي ء يوصى فيه إلّا و وصيته مكتوبة عنده.» «3»

فهل لم يكن أهمية حفظ الإسلام و بسطه و تنفيذ مقرراته الى يوم القيامة في نظر النبي «ص» بمقدار أهمية الوصايا الشخصية في الأمور الجزئية؟!

و قد ورد من طرق الفريقين

أن قوله- تعالى-: «يٰا أَيُّهَا الرَّسُولُ، بَلِّغْ مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمٰا بَلَّغْتَ رِسٰالَتَهُ، وَ اللّٰهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النّٰاسِ» «4» قد نزلت في قصّة الغدير و نصب أمير المؤمنين «ع»:

منها: ما في الدر المنثور:

«أخرج ابن أبي حاتم و ابن مردويه و ابن عساكر عن أبي سعيد الخدري، قال:

نزلت هذه الآية: «يا أيها الرسول، بلّغ ما انزل إليك من ربك» على رسول اللّه «ص»

______________________________

(1)- الكافي 1/ 60، الحديث 6.

(2)- الوسائل 13/ 352، الباب 1 من أبواب أحكام الوصايا، الحديث 8.

(3)- سنن ابن ماجة 2/ 901، كتاب الوصايا، الباب 2، الحديث 2699.

(4)- سورة المائدة (5)، الآية 47.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 171

يوم غدير خم في علي بن أبي طالب.» «1»

و في خبر عمران بن حصين عنه «ص»: «ما تريدون من عليّ، ما تريدون من عليّ، ما تريدون من عليّ؟ إن عليّا منّي و أنا منه، و هو وليّ كلّ مؤمن من بعدي.» «2»

و لا يخفى ان قوله «ص»: «من بعدي» ينفي احتمال كون الولاية بمعنى المحبة، و يعين كونها بمعنى الإمامة. و قد مرّ تفصيل ذلك في الباب الثاني.

و قد تواتر عنه «ص» من طرق الفريقين حديث الثقلين المشتمل على إرجاع الأمة بعده الى الكتاب و العترة و إيجاب التمسك بهما، فراجع مظانه. و يظهر بذلك الحديث كون العترة أعلم الناس و أفقههم، و سيجي ء بيان أن الأعلم متعين للإمامة.

و بالجملة، الحكومة و الإمامة و حفظ النظام ضرورة للبشر في جميع الأعصار.

فلا يظن بالشارع الحكيم إهمالها و عدم التعرض لها و لحدودها و شروطها. و ما ذكرناه الى هنا يكفي لإثبات المطلوب، فليجعل الأخبار و

الأدلة الآتية مؤيدات أو مؤكدات فلا يضرنا ضعف بعضها من جهة السند، فتدبر.

الدليل الثالث: [حكمة وجود الإمام]

ما رواه الصدوق في العيون و العلل عن عبد الواحد بن محمد بن عبدوس النيسابوري، عن أبي الحسن علي بن محمد بن قتيبة النيسابوري، عن الفضل بن شاذان و رواه أيضا عن أبي محمد جعفر بن نعيم بن شاذان، عن عمّه أبي عبد اللّه محمد بن شاذان، عن الفضل بن شاذان في حديث طويل في العلل و فيه: «فان

______________________________

(1)- الدرّ المنثور 2/ 298.

(2)- سنن الترمذي 5/ 296، باب مناقب علي بن أبي طالب من أبواب المناقب، الحديث 3796.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 172

قال: فلم جعل أولي الأمر و أمر بطاعتهم؟ قيل: لعلل كثيرة:

منها: ان الخلق لما وقفوا على حد محدود و أمروا أن لا يتعدوا ذلك الحد لما فيه من فسادهم لم يكن يثبت ذلك و لا يقوم إلّا بأن يجعل عليهم فيه أمينا يمنعهم من التعدّي و الدخول فيها حظر عليهم. لأنه لو لم يكن ذلك كذلك لكان أحد لا يترك لذّته و منفعته لفساد غيره. فجعل عليهم قيّما يمنعهم من الفساد و يقيم فيهم الحدود و الأحكام.

و منها: أنا لا نجد فرقة من الفرق و لا ملّة من الملل بقوا و عاشوا الّا بقيّم و رئيس لما لا بدّ لهم منه في أمر الدين و الدنيا فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم انه لا بدّ لهم منه و لا قوام لهم إلّا به فيقاتلون به عدوهم و يقسمون به فيئهم و يقيم لهم جمعتهم و جماعتهم و يمنع ظالمهم من مظلومهم.

و منها: انه لو لم يجعل لهم إماما قيما

أمينا حافظا مستودعا لدرست الملّة و ذهب الدين و غيرت السنة (السنن- العلل) و الأحكام، و لزاد فيه المبتدعون و نقص منه الملحدون و شبّهوا ذلك على المسلمين. لأنا قد وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين مع اختلافهم و اختلاف أهوائهم و تشتت أنحائهم (حالاتهم- العلل.) فلو لم يجعل لهم قيما حافظا لما جاء به الرسول «ص» لفسدوا على نحو ما بيّنا و غيرت الشرائع و السنن و الأحكام و الايمان و كان في ذلك فساد الخلق اجمعين.

الحديث.» «1»

و في آخر الحديث ان علي بن محمد بن قتيبة قال للفضل بن شاذان:

«أخبرني عن هذه العلل ذكرتها عن الاستنباط و الاستخراج و هي من نتائج العقل أو هي مما سمعته و رويته؟ فقال لي: ما كنت لأعلم مراد اللّه- عزّ و جلّ- بما فرض و لا مراد رسوله «ص» بما شرّع و سنّ و لا أعلل ذلك من ذات نفسي، بل سمعتها من مولاي أبي الحسن علي بن موسى الرضا «ع» المرة بعد المرة و الشي ء بعد الشي ء فجمعتها. فقلت: فأحدّث بها عنك عن الرضا «ع»؟ قال: نعم.» و قال لمحمد بن شاذان: «سمعت هذه العلل من مولاي أبي الحسن علي بن موسى الرضا «ع» متفرقة فجمعتها و ألّفتها.» «2»

______________________________

(1)- عيون اخبار الرضا (من نسخة مخطوطة مصححة)، الباب 34، الحديث 1، و علل الشرائع 1/ 95 (طبعة أخرى 1/ 253)، الباب 182، الحديث 9.

(2)- عيون أخبار الرضا 2/ 121، الحديث 2 و 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 173

أقول: قال الشيخ في الفهرست:

«الفضل بن شاذان النيشابوري فقيه متكلم جليل القدر، له كتب و مصنفات.» «1»

و عدّه في رجاله من أصحاب الهادي

و العسكري- عليها السلام- و أباه شاذان من أصحاب الجواد «ع» «2».

و في تنقيح المقال عن النجاشي:

«له جلالة في هذه الطائفة، و هو في قدره أشهر من أن نصفه.»

و عن الكشي:

انه صنف مأئة و ثمانين كتابا «3».

و بالجملة التشكيك في الفضل بلا وجه مع ما فيه من كثرة الفضل.

و امّا عبد الواحد و ابن قتيبة فمختلف فيهما:

وثّقهما بعض و مدحهما آخرون و ضعّفهما بعض «4».

و يظهر من الصدوق الاعتماد عليهما. و كذا جعفر بن نعيم «5»، فانه يروى عنه مترضيا عليه.

و أما محمد بن شاذان فعدّه ابن طاوس من وكلاء الناحية المقدسة. قالوا:

و كفى هذا في وثاقته «6».

نعم، هنا شي ء و هو أن الفضل على ما ذكره الشيخ في رجاله من أصحاب الهادي و العسكري «ع» فكيف روى عن الرضا «ع»؟! اللهم الا ان يقال: ان اشتهاره كان في عصرهما، و لا ينافي ذلك كونه مدركا للرضا «ع» في عهد شبابه و كان ممن يحضر مجلسه «ع» في خراسان و يستفيد من كلماته الشريفة.

و عن الكشي:

______________________________

(1)- الفهرست للشيخ/ 124. (ط. اخرى/ 150).

(2)- رجال الشيخ/ 420 و 434 و 402.

(3)- تنقيح المقال 2/ 9 من باب الفاء.

(4)- تنقيح المقال 2/ 233 و 2/ 308.

(5)- تنقيح المقال 1/ 228.

(6)- تنقيح المقال 3/ 130.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 174

انه يروي عن جماعة، و عدّ منهم ابن أبي عمير و صفوان و ابن محبوب و ابن بزيع من الطبقة السادسة أصحاب الرضا «ع» «1».

فلا مانع من روايته عنه «ع» أيضا. و قد توفي هو في سنة 260، و الإمام الثامن- عليه السلام- في سنة اثنتين او ثلاث او ست بعد المائتين. هذا

ما يرتبط بسند الحديث إجمالا.

و أما فقه الحديث فالظاهر أن موضوع سؤال السائل هو إمامة الأئمة الاثنى عشر، و لكن عموم التعليلات الواقعة في كلام الإمام «ع» يشمل جميع الأعصار. فيدل الحديث الشريف على لزوم الحكومة في عصر الغيبة أيضا.

فحكمة وجود الامام و فائدته على ما ذكره الإمام «ع» كثيرة، ذكر منها ثلاثة:

الأولى: إجراء أحكام الإسلام و المنع عن التعدّي عنها. الثانية: كون وجود الإمام ضروريّا للناس في حياتهم و عيشتهم الدينية و الدنيوية. الثالثة: كونه حافظا للأحكام عن التغيير و التحريف و الاندراس.

فنقول: هل لا توجد هذه العلل الثلاث في عصر الغيبة؟ و هل يصير الناس في عصر الغيبة ملائكة لا يحتاجون الى قيّم ينظّم أمورهم و يمنع ظالمهم من مظلومهم و يقاتلون به عدوّهم و يمنعهم من التعدّي و الدخول فيما حظر عليهم؟!

الدليل الرابع: [دلالة حديث التحكيم]

ما في نهج البلاغة، قال: و من كلام له- عليه السلام- في الخوارج لما سمع قولهم: «لا حكم الّا للّه»، قال- عليه السلام-: «كلمة حقّ يراد بها الباطل. نعم، انه لا حكم إلّا للّه و لكن هؤلاء يقولون: لا إمرة الّا للّه و انه لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر،

______________________________

(1)- تنقيح المقال 2/ 11 من باب الفاء، و اختيار معرفة الرجال/ 543.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 175

يعمل في إمرته المؤمن و يستمتع فيها الكافر و يبلغ اللّه فيها الأجل و يجمع به الفي ء و يقاتل به العدوّ و تأمن به السبل و يؤخذ به للضعيف من القويّ حتى يستريح برّ و يستراح من فاجر.»

و في رواية أخرى: انه- عليه السلام- لما سمع تحكيمهم قال: «حكم اللّه انتظر فيكم»، و قال: «أمّا

الإمرة البرّة فيعمل فيها التقيّ، و أمّا الإمرة الفاجرة فيتمتّع فيها الشقيّ الى ان تنقطع مدّته و تدركه منيّته.» «1» انتهى ما في نهج البلاغة.

و قال المبرّد في الكامل: «و لما سمع عليّ «ع» نداءهم لا حكم إلّا للّه، قال:

كلمة عادلة يراد بها جور. إنما يقولون لا إمارة، و لا بدّ من إمارة برّة أو فاجرة.» «2»

و في كنز العمال عن البيهقي، عن عليّ «ع» قال: «لا يصلح الناس الا أمير برّ أو فاجر. قالوا: يا أمير المؤمنين، هذا البرّ فكيف بالفاجر؟ قال: ان الفاجر يؤمن اللّه به السبيل و يجاهد به العدوّ و يجبى به الفي ء و يقام به الحدود و يحجّ به البيت و يعبد اللّه فيه المسلم آمنا حتى يأتيه أجله.» «3»

و في مصنف ابن أبي شيبة بسنده عن أبي البختري، قال: دخل رجل المسجد فقال: لا حكم إلّا للّه، فقال عليّ «ع»: لا حكم الا للّه، ان وعد اللّه حق و لا يستخفنّك الذين لا يوقنون. فما تدرون ما يقول هؤلاء؟ يقولون: لا إمارة. أيها الناس، انه لا يصلحكم الّا أمير برّ أو فاجر. قالوا: هذا البر قد عرفناه فما بال الفاجر؟ فقال: يعمل المؤمن و يملى للفاجر و يبلغ اللّه الأجل و تأمن سبلكم و تقوم اسواقكم و يقسم فيئكم و يجاهد عدوّكم و يؤخذ للضعيف من القوى أو قال من الشديد منكم.» «4»

و رواه عنه في كنز العمّال «5».

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 125؛ عبده 1/ 87؛ لح/ 82، الخطبة 40.

(2)- الكامل في اللغة و الأدب للمبرد 2/ 131.

(3)- كنز العمال 5/ 751، الباب الثاني من كتاب الخلافة، الحديث 14286.

(4)- المصنف 15/ 328، كتاب الجمل، الحديث 19777.

(5)- كنز العمال 11/

319، كتاب الفتن من قسم الأفعال، الحديث 31618.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 176

أقول: قول الخوارج: «لا حكم إلّا للّه» كان شعارا اتخذوه في صفين و استمرّ منهم بعد ذلك. و حقّية ذلك من جهة ان اللّه- تعالى- اذا أراد شيئا وقع لا محالة لا رادّ لحكمه و لا دافع لقضائه، فيراد بالحكم الحكم التكويني، أو من جهة ان اللّه- تعالى- هو شارع الأحكام و جاعلها و أن حكم الأمير الحق أيضا يرجع الى حكم اللّه لتطبيقه الأحكام الكلية على الموارد أو لإيجاب اللّه- تعالى- إطاعته.

و أما إرادتهم الباطل فلقصدهم إبطال جعل الحكمين و تفويض الأمر اليهما شرعا، و إنكار إمارة أمير المؤمنين «ع» و لذا قالوا له في صفين: «الحكم للّه يا عليّ لا لك». «1»

و قوله «ع»: «أو فاجر» لا يريد به شرعية إمارة الفاجر، بل بيان تقدمها عقلا على الهرج و المرج.

و في شرح ابن ميثم البحراني عن رسول اللّه «ص»: «الإمام الجائر خير من الفتنة.»

و عنه «ص» أيضا: «ان اللّه ليؤيد هذا الدين بقوم لا خلاق لهم في الآخرة.» و روي:

«بالرجل الفاسق.» «2»

و في الغرر و الدرر للآمدي عن أمير المؤمنين «ع»: «وال ظلوم غشوم خير من فتنة تدوم.» «3»

و في البحار عن كنز الكراجكي، عن أمير المؤمنين «ع»: «أسد حطوم خير من سلطان ظلوم، و سلطان ظلوم خير من فتن تدوم.» «4»

و قوله «ع»: «يعمل في إمرته المؤمن و يستمتع فيها الكافر» يحتمل فيه اللف و النشر المرتّب، و يحتمل رجوع الجميع الى الإمرة الفاجرة، و يحتمل رجوع الجميع الى مطلق الإمرة، و يحتمل أن يراد بقوله: «يعمل في إمرته المؤمن» صيرورة المؤمن عاملا

من قبله

______________________________

(1)- وقعة صفين/ 513.

(2)- شرح نهج البلاغة لابن ميثم 2/ 103.

(3)- الغرر و الدرر 6/ 236، الحديث 10109.

(4)- بحار الأنوار 72/ 359 (طبعة إيران 75/ 359)، الباب 81 من كتاب العشرة، الحديث 74.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 177

فيعدل في الرعية، كما اتفق لعليّ بن يقطين في إمارة هارون.

و قوله: «يستريح برّ» أي بما ذكر من الأمور أو بموته. و قوله: «يستراح من فاجر» أي بما ذكر أو بموت الفاجر أو عزله.

و الظاهر ان كلمة «تحكيمهم» مصدر جعليّ يراد به قولهم: «لا حكم الّا للّه» كلفظ التهليل مثلا.

و كيف كان فدلالة الحديث على لزوم الدولة و ضرورتها في جميع الأعصار و الأمصار واضحة لا ريب فيها. و لا يجوز الناس ترك الاهتمام بها، بل يجب تحقيقها و إطاعتها و تأييدها بشرائطها، فتدبر.

الدليل الخامس: [دلالة رواية النعماني على لزوم إمام]

ما في المحكم و المتشابه، عن تفسير النعماني، عن أمير المؤمنين «ع» قال: «و الأمر و النهي وجه واحد، لا يكون معنى من معاني الأمر إلّا و يكون بعد ذلك نهي، و لا يكون وجه من وجوه النهي إلّا و مقرون به الأمر. قال اللّه- تعالى-: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، اسْتَجِيبُوا لِلّٰهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذٰا دَعٰاكُمْ لِمٰا يُحْيِيكُمْ.» «1» فاخبر- سبحانه- ان العباد لا يحيون إلّا بالأمر و النهي، كقوله- تعالى-: «وَ لَكُمْ فِي الْقِصٰاصِ حَيٰاةٌ يٰا أُولِي الْأَلْبٰابِ.» «2» و مثله قوله- تعالى-: «ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ.» «3» فالخير هو سبب البقاء و الحياة.

و في هذا أوضح دليل على انه لا بدّ للأمة من إمام يقوم بأمرهم فيأمرهم و ينهاهم و يقيم فيهم الحدود و يجاهد فيهم العدوّ و يقسم

الغنائم و يفرض الفرائض و يعرفهم أبواب ما فيه صلاحهم و يحذّرهم ما فيه مضارّهم، اذ كان الأمر و النهي أحد أسباب بقاء الخلق و إلّا سقطت الرّغبة

______________________________

(1)- سورة الأنفال (8)، الآية 24.

(2)- سورة البقرة (2)، الآية 179.

(3)- سورة الحج (22)، الآية 77.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 178

و الرهبة و لم يرتدع، و لفسد التدبير و كان ذلك سببا لهلاك العباد. فتمام أمر البقاء و الحياة في الطعام و الشراب و المساكن و الملابس و المناكح من النساء و الحلال و الحرام الأمر و النهي، اذ كان- سبحانه- لم يخلقهم بحيث يستغنون عن جميع ذلك و وجدنا أول المخلوقين و هو آدم- عليه السلام- لم يتم له البقاء و الحياة الا بالأمر و النهي. الحديث.» «1»

و دلالة الرواية على لزوم إمام و حاكم متصد للأمر و النهي و إجراء الأحكام في جميع الأعصار، و أن بقاء الخلق متوقف على ذلك واضحة.

و اعلم ان المحدث المجلسي- طاب ثراه- نقل جميع الكتاب في كتاب القرآن من البحار «2». و ظاهره كون جميع الكتاب رواية عن أمير المؤمنين «ع» و ذكر ذلك في أول البحار أيضا. و قال في كتاب القرآن بعد نقل الكتاب انه وجد رسالة قديمة منسوبة في أولها الى سعد الأشعري، ذكر فيها مطالب هذا الكتاب مروية عن أمير المؤمنين «ع» و لكنه غير فيها الترتيب و زيد فيها بعض الأخبار «3».

هذا و لكن سبك الكتاب ربما يشهد بكونه من مؤلفات أحد علمائنا مازجا كلامه بالروايات. و يشتمل الكتاب على أمور لا يمكن الأخذ بها، فراجع و تأمّل جيدا.

الدليل السادس: ما في كتاب سليم بن قيس الهلالي

في جواب كتاب معاوية حيث طلب من أمير المؤمنين

«ع» قتلة عثمان ليقتلهم «فلما قرأ عليّ «ع» كتاب معاوية و بلّغه أبو الدرداء و أبو هريرة رسالته و مقالته قال عليّ- عليه السلام- لأبي الدرداء:

______________________________

(1)- المحكم و المتشابه/ 50، و بحار الأنوار 90/ 40 (طبعة إيران 93/ 40). و اعتمدنا في النقل على البحار، لأنه أصح ظاهرا، فراجع. و في نسخة البحار «يجاهد العدو» بدل «يجاهد فيهم العدو» و «في امر» بدل «فتمام امر» و «و الامر و النهى اذ كان» بدل «الامر و النهى اذ كان».

(2)- بحار الأنوار 90/ 1- 97 (طبعة إيران 93/ 1- 97)، الباب 128 من كتاب القرآن

(3)- بحار الأنوار 90/ 97 (طبعة إيران 93/ 97.).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 179

قد بلغتماني ما أرسلكما به معاوية، فاسمعا منّي ثم أبلغاه عنّي و قولا له: ان عثمان بن عفان لا يعدو أن يكون أحد رجلين: إما إمام هدى حرام الدم واجب النصرة لا تحل معصيته و لا يسع الأمّة خذلانه، أو إمام ضلالة حلال الدم لا تحل ولايته و لا نصرته، فلا يخلو من احدى الخصلتين.

و الواجب في حكم اللّه و حكم الإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل، ضالا كان أو مهتديا، مظلوما كان أو ظالما، حلال الدم أو حرام الدم، أن لا يعملوا عملا و لا يحدثوا حدثا و لا يقدّموا يدا و لا رجلا و لا يبدءوا بشي ء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء و السنة يجمع أمرهم و يحكم بينهم و يأخذ للمظلوم من الظالم حقه و يحفظ أطرافهم و يجبى فيئهم و يقيم حجّتهم (حجهم و جمعتهم- البحار) و يجبى صدقاتهم ثم يحتكمون اليه

في إمامهم المقتول ظلما ليحكم بينهم بالحق. فإن كان إمامهم قتل مظلوما حكم لأوليائه بدمه، و ان كان قتل ظالما نظر كيف الحكم في ذلك.

هذا أول ما ينبغي «1» أن يفعلوه ان يختاروا إماما يجمع أمرهم إن كانت الخيرة لهم و يتابعوه و يطيعوه، و إن كانت الخيرة الى اللّه- عزّ و جلّ- و الى رسوله فان اللّه قد كفاهم النظر في ذلك و الاختيار، و رسول اللّه «ص» قد رضي لهم إماما و أمرهم بطاعته و اتباعه، و قد بايعني الناس بعد قتل عثمان و بايعني المهاجرون و الأنصار بعد ما تشاوروا فيّ ثلاثة أيام، و هم الذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان و عقدوا إمامتهم. و لي ذلك أهل بدر و السابقة من المهاجرين و الأنصار، غير أنهم بايعوهم قبلي على غير مشورة من العامة و إن بيعتي كانت بمشورة من العامة، فان كان اللّه- جلّ اسمه- جعل الاختيار الى الأمة و هم الذين يختارون و ينظرون لأنفسهم، و اختيارهم لأنفسهم و نظرهم لها خير لهم من اختيار اللّه و رسوله لهم، و كان من اختاروه و بايعوه بيعته بيعة هدى و كان اماما واجبا على الناس طاعته و نصرته، فقد تشاوروا فيّ و اختاروني بإجماع منهم. و ان كان اللّه- عزّ و جلّ- الذي يختار و له الخيرة فقد اختارني للأمّة و استخلفني عليهم و أمرهم بطاعتي و نصرتي في كتابه المنزل و سنة نبيّه «ص». فذلك أقوى لحجّتي و أوجب لحقّي. الحديث.» «2»

و دلالة الخبر على لزوم الامامة و ضرورتها في كل عصر، و وجوب اهتمام الناس

______________________________

(1)- و في البحار: ... كيف الحكم في هذا. و إن أول

ما ينبغي ...

(2)- كتاب سليم بن قيس/ 182، و بحار الأنوار 8/ 555 من ط. القديم، الباب 49 من كتاب ما وقع من الجور ....

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 180

بها و تقديمها على كل أمر واضحة. غاية الأمر انه ان كان الامام معينا من قبل اللّه- تعالى- كما هو معتقدنا بالنسبة الى الأئمة الاثني عشر، وجب التسليم له و تأييده، و إلّا وجب على الناس اختياره و تعيينه ليجمع أمرهم و يحكم بينهم الى آخر ما ذكره. و تعطيلها في عصر الغيبة مساوق لتعطيل ما رتّبه عليها من الآثار، و هو عبارة أخرى عن تعطيل الإسلام، و لا يرضى به اللّه- تعالى- قطعا.

و في الخبر دلالة على ما سنذكره في الباب الخامس من أن الإمامة لا تنعقد إلّا بوجهين: إما النصب من طرف العالي، أو الانتخاب من قبل الأمة، و ان الأول مقدم بحسب الرتبة على الثاني.

نعم، هنا كلام في صحة الكتاب المنسوب الى سليم.

ففي فهرست الشيخ الطوسي «ره»:

«سليم بن قيس الهلالي يكنى أبا صادق، له كتاب أخبرنا به ابن أبي جيد، عن محمد بن الحسن بن الوليد، عن محمد بن أبي القاسم الملقب ما جيلويه، عن محمد بن علي الصيرفي، عن حماد بن عيسى و عثمان بن عيسى، عن ابان بن أبي عياش، عنه.

و رواه حماد بن عيسى، عن ابراهيم بن عمر اليماني، عنه.» «1»

و يظهر منه ان حمادا قد يروي الكتاب عن أبان بلا واسطة، و قد يروى عنه بواسطة ابراهيم بن عمر اليماني.

و في فهرست ابن النديم:

«قال محمد بن اسحاق: من أصحاب أمير المؤمنين «ع» سليم بن قيس الهلالي. و كان هاربا من الحجاج، لأنه طلبه

ليقتله فلجأ الى أبان بن أبي عياش فآواه، فلما حضرته الوفاة قال لأبان: ان لك عليّ حقا و قد حضرتني الوفاة. يا ابن أخي، انه كان من أمر رسول اللّه «ص» كيت و كيت، و اعطاه كتابا و هو كتاب سليم بن قيس الهلالي المشهور. رواه عنه أبان بن أبي عياش. لم يروه عنه غيره.» «2»

______________________________

(1)- الفهرست للشيخ/ 81 (طبعة أخرى/ 107).

(2)- الفهرست لابن النديم/ 321 (طبعة أخرى/ 275)، الفن الخامس من المقالة السادسة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 181

و روى الكشي أن أبانا زعم أنه قرأ الكتاب على عليّ بن الحسين فقال «ع»:

«صدق سليم. رحمة اللّه عليه. هذا حديث نعرفه.» و في رواية أخرى: «قال أبان فقدّر لي بعد موت علي بن الحسين انّي حججت فلقيت أبا جعفر محمد بن علي «ع» فحدثت بهذا الحديث كله ... قال: «صدق سليم ...» «1»

و في غيبة النعماني:

«ليس بين جميع الشيعة ممن حمل العلم و رواه عن الأئمة «ع» خلاف في أن كتاب سليم بن قيس الهلالي أصل من أكبر كتب الأصول التي رواها أهل العلم و حملة حديث أهل البيت «ع» و أقدمها، لأن جميع ما اشتمل عليه هذا الأصل انما هو عن رسول اللّه «ص» و أمير المؤمنين و المقداد و سلمان الفارسي و أبي ذر و من جرى مجراهم ممن شهد رسول اللّه «ص» و أمير المؤمنين و سمع منهما، و هو من الأصول التي ترجع الشيعة اليها و يعول عليها.» «2»

و يظهر من الكليني أيضا الاعتماد على الكتاب، حيث روى في الكافي روايات كثيرة منه، و قال في ديباجة الكافي: «بالآثار الصحيحة عن الصادقين «ع».»

و في مسند

احمد بن حنبل أيضا ذكر لهذا الكتاب و لكن فيه: «سليمان بن قيس» فروى احمد حديثا عن أبي عوانة، عن أبي بشر، عن سليمان بن قيس، عن جابر ثم قال:

«قال أبو عوانة فحدثت ان ابا بشر قال: كان في كتاب سليمان بن قيس.» «3» هذا.

و لكن قد عرفت ان الراوي للكتاب هو أبان فقط، و في رجال الشيخ:

«أبان بن أبي عياش فيروز، تابعي ضعيف.» «4»

______________________________

(1)- اختيار معرفة الرجال/ 104- 105.

(2)- الغيبة للنعماني/ 61، (طبعة أخرى/ 101)، الباب 4 (باب ما روي في أن الأئمة اثنا عشر إماما)، ذيل الحديث 30.

(3)- مسند أحمد 3/ 332.

(4)- رجال الشيخ/ 106.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 182

و قال المفيد في آخر تصحيح الاعتقاد:

«و أما ما تعلق به أبو جعفر «ره» من حديث سليم الذي رجع فيه الى الكتاب المضاف اليه برواية أبان بن أبي عياش فالمعنى فيه صحيح غير ان هذا الكتاب غير موثوق به، و لا يجوز العمل على أكثره. و قد حصل فيه تخليط و تدليس، فينبغي للمتدين ان يجتنب العمل بكل ما فيه و لا يعول على جملته.» «1»

و عن ابن الغضائري:

«الكتاب موضوع لا مرية فيه، و على ذلك علامات شافية تدلّ على ما ذكرناه: منها ما ذكر أن محمد بن أبي بكر وعظ أباه عند الموت، و منها أن الأئمة «ع» ثلاثة عشر، و غير ذلك.» «2»

و غرض ابن الغضائري ان محمدا ولد في حجة الوداع و مدة خلافة ابيه سنتان و أشهر، فلا يعقل وعظه له. هذا.

و لكن عن الشهيد الثاني:

«ان الذي رأيت من نسخة الكتاب ان عبد اللّه بن عمر وعظ أباه، و ان الأئمة من ولد إسماعيل

ثلاثة عشر، و هم رسول اللّه «ص» و الأئمة الاثنا عشر. فلا محذور في هذين.»

فهذا بعض الكلام في هذا الكتاب. و على أيّ حال فالاعتماد عليه في إثبات الحكم الشرعي مشكل، اللهم الّا للتأييد، فتدبّر.

الدليل السابع: [حفظ النظام من أوجب الواجبات]

نتيجة صغرى و كبرى كلية يستفاد كل منهما من نصوص كثيرة:

______________________________

(1)- تصحيح الاعتقاد/ 126.

(2)- تنقيح المقال 2/ 52.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 183

فالصغرى هي أن الإسلام يدعو المسلمين الى التجمع و المرابطة و التشكل و توحيد الكلمة، و ينهى عن الرهبنة و العزلة و عن التشتت و الفرقة.

و الكبرى أن الإمامة هي نظام الأمة و جامعة شتاتها و حافظة وحدتها.

امّا الصغرى فيدلّ عليها آيات و أخبار كثيرة بل متواترة اجمالا:

منها قوله- تعالى-: «وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللّٰهِ جَمِيعاً وَ لٰا تَفَرَّقُوا، وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللّٰهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدٰاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوٰاناً.» «1»

و منها قوله: «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ.» «2»

و منها قوله: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، اصْبِرُوا وَ صٰابِرُوا وَ رٰابِطُوا.» «3»

و منها قوله- تعالى-: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا، ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَ لٰا تَتَّبِعُوا خُطُوٰاتِ الشَّيْطٰانِ.» «4»

الى غير ذلك من الآيات الداعية الى وحدة الأمّة.

و من الأخبار ما رواه ابن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّه «ع» أن رسول اللّه «ص» قال:

«ثلاث لا يغلّ عليهن قلب امرئ مسلم: إخلاص العمل للّه و النصيحة لأئمة المسلمين و اللزوم لجماعتهم، فان دعوتهم محيطة من ورائهم. المسلمون إخوة تتكافأ دماؤهم و يسعى بذمتهم أدناهم.» «5»

و ما رواه الحلبي، عن ابي عبد اللّه «ع»، قال: «من فارق جماعة المسلمين قيد شبر فقد

______________________________

(1)- سورة آل عمران (3)، الآية 103.

(2)- سورة الحجرات (49)، الآية 10.

(3)-

سورة آل عمران (3)، الآية 200.

(4)- سورة البقرة (2)، الآية 208.

(5)- الكافي 1/ 403، كتاب الحجة، باب ما أمر النبيّ «ص» بالنصيحة ...، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 184

خلع ربقة الإسلام من عنقه.» «1»

و عنه عن أبي عبد اللّه «ع» أيضا قال: «من فارق جماعة المسلمين و نكث صفقة الإمام جاء الى اللّه أجذم.» «2»

و في نهج البلاغة: «و الزموا السواد الأعظم، فان يد اللّه على الجماعة. و إياكم و الفرقة، فان الشاذّ من الناس للشيطان، كما ان الشاذ من الغنم للذئب. ألا من دعا الى هذا الشعار فاقتلوه و لو كان تحت عمامتي هذه.» «3»

و فيه أيضا: «إن هؤلاء قد تمالؤوا على سخطة إمارتي، و سأصبر ما لم أخف على جماعتكم، فانهم ان تمموا على فيالة هذا الرأي انقطع نظام المسلمين.» «4»

و في مسند احمد عن أبي موسى، قال: قال رسول اللّه «ص»: «المؤمن للمؤمن كالبنيان: يشدّ بعضه بعضا.» «5»

و في صحيح مسلم بإسناده عن عرفجة: «قال: سمعت رسول اللّه «ص» يقول:

من أتاكم و أمركم جميع على رجل واحد يريد أن يشق عصاكم أو يفرّق جماعتكم فاقتلوه.» «6»

الى غير ذلك من الأخبار.

و امّا ما يدلّ على الكبرى: 1- ففي نهج البلاغة: «فرض اللّه الإيمان تطهيرا من الشرك ... و الإمامة نظاما للأمّة، و الطاعة تعظيما للإمامة.» «7»

و اعلم ان نسخ نهج البلاغة هنا مختلفة، ففي بعضها: «و الإمامة»، و في بعضها:

______________________________

(1)- الكافي 1/ 404، كتاب الحجة، باب ما أمر النبي «ص» بالنصيحة ...، الحديث 4.

(2)- الكافي 1/ 405، كتاب الحجة، باب ما أمر النبي «ص» بالنصيحة ...، الحديث 5.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 392؛ عبده 2/ 11؛ لح/

184، الخطبة 127.

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 549؛ عبده 2/ 100؛ لح/ 244، الخطبة 169.

(5)- مسند أحمد 4/ 405.

(6) صحيح مسلم 3/ 1480 (طبعة أخرى 6/ 23) كتاب الإمارة، باب حكم من فرق أمر المسلمين و هو مجتمع.

(7) نهج البلاغة، فيض/ 1197؛ عبده 3/ 208؛ لح/ 512، الحكمة 252.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 185

«و الأمانات.» و لكن في النهج المكتوب في سنة 494: «و الإمامة نظاما على الأمة.»

و في موضع من الغرر و الدرر للآمدي: «و الإمامة نظاما للأمة.» «1» و في موضع آخر منه:

«الإمامة نظام الأمّة.» «2» و في خطبة الزهراء- سلام اللّه عليها-: «و طاعتنا نظاما للملّة و إمامتنا لمّا للفرقة.» «3»

هذا مضافا الى ان تقارن الجملتين يشهد على صحة: «الإمامة»، فالجملتان في مقام بيان وظيفة الإمام بالنسبة الى الأمة و وظيفة الأمة بالنسبة الى الإمام. هذا.

2- و روى المفيد في الأمالي بسنده عن ابن عباس، قال: قال رسول اللّه «ص»: «اسمعوا و أطيعوا لمن ولّاه اللّه الأمر، فانه نظام الإسلام.» «4»

3- و في الكافي في كلام طويل للرضا «ع» في الإمامة: «إن الإمامة زمام الدين و نظام المسلمين و صلاح الدنيا و عزّ المؤمنين ان الإمامة أسّ الإسلام النامي و فرعه السامي. بالإمام تمام الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج و الجهاد و توفير الفي ء و الصدقات و إمضاء الحدود و الأحكام و منع الثغور و الأطراف. الإمام يحل حلال اللّه و يحرّم حرام اللّه و يقيم حدود اللّه و يذبّ عن دين اللّه. الحديث.» «5»

و كلامه- عليه السلام- و إن كان لبيان التركيز على إمامة الأئمة الاثنى عشر «ع» و نحن نعتقد بان الإمامة

في عصر ظهورهم كانت حقّا لهم بالنص و بكونهم أكمل من جميع الجهات، و لكن في عصر الغيبة هل يمكن الالتزام بتعطيل جميع الآثار و الأحكام التي ذكرت في الحديث للإمامة؟

و هل يمكن أن يقال: ان اللّه- تعالى- في عصر الغيبة لا يريد نظام المسلمين و صلاح الدنيا و عزّ المؤمنين و تنفيذ الأحكام العبادية و الاقتصادية و الجزائية و حفظ

______________________________

(1)- الغرر و الدرر 4/ 457، الحديث 6608.

(2)- الغرر و الدرر 1/ 274، الحديث 1095.

(3)- كشف الغمة 2/ 109.

(4)- الأمالي للمفيد 1/ 14، المجلس 2، الحديث 2.

(5)- الكافي 1/ 200، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام و صفاته.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 186

الثغور و الأطراف و نحو ذلك مما رتب على الإمامة؟

4- و في نهج البلاغة: «و مكان القيّم بالأمر مكان النظام من الخرز يجمعه و يضمّه، فاذا انقطع النظام تفرق الخرز و ذهب ثم لم يجتمع بحذافيره أبدا.» «1»

5- و فيه أيضا: «و أعظم ما افترض اللّه- سبحانه- من تلك الحقوق حق الوالي على الرعية و حق الرعية على الوالي، فريضة فرضها اللّه- سبحانه- لكل على كل، فجعلها نظاما لألفتهم و عزّا لدينهم، فليست تصلح الرعية إلّا بصلاح الولاة، و لا يصلح الولاة إلّا باستقامة الرعية، فإذا أدّت الرعية الى الوالي حقّه و أدّى الوالي اليها حقّها عزّ الحق بينهم و قامت مناهج الدين و اعتدلت معالم العدل و جرت على أذلالها السنن، فصلح بذلك الزمان و طمع في بقاء الدولة و يئست مطامع الأعداء، و إذا غلبت الرعية و اليها او أجحف الوالي برعيته اختلفت هنالك الكلمة و ظهرت معالم الجور و كثر الإدغال

في الدين و تركت محاج السنن فعمل بالهوى و عطلت الأحكام و كثرت علل النفوس فلا يستوحش لعظيم حق عطّل و لا لعظيم باطل فعل، فهنالك تذل الأبرار و تعزّ الأشرار و تعظم تبعات اللّه عند العباد.» «2»

و الإذلال جمع الذل بالكسر، و ذل الطريق: محجّته.

6- و في سنن أبي داود، عن أبي سعيد الخدري ان رسول اللّه «ص» قال: «اذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمّروا أحدهم.» «3»

و نحوه عن أبي هريرة عنه «ص».

7- و في مسند أحمد عن عبد اللّه بن عمر أن رسول اللّه «ص» قال: «لا يحلّ لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلّا أمّروا عليهم أحدهم.» «4»

فيعلم بذلك أن المجتمع لا ينتظم إلّا بأمير حافظ له، و إذا كان قوام نظام الثلاثة بأمير فكيف ينتظم مجتمع المسلمين بلا أمير و إمام؟!

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 442؛ عبده 2/ 39؛ لح/ 203، الخطبة 146.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 683؛ عبده 2/ 224؛ لح/ 333، الخطبة 216.

(3)- سنن أبي داود 2/ 34، كتاب الجهاد، باب في القوم يسافرون يؤمّرون أحدهم.

(4)- مسند احمد 2/ 177.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 187

8- و يدل أيضا على أهميّة الحكومة في صلاح الأمّة و حفظ نظامها ما رواه في الخصال عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه «ع» قال: قال رسول اللّه «ص»: «صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمتي و إذا فسدا فسدت أمتي. قيل: يا رسول اللّه، و من هما؟ قال:

الفقهاء و الأمراء.» «1»

و بالجملة حفظ النظام من أوجب الواجبات، و الهرج و المرج و اختلال أمور المسلمين من أبغض الأشياء للّه- تعالى-، و لا يتم حفظ النظام إلّا بالحكومة. ألا ترى أن بني

إسرائيل لما كتب عليهم القتال و علموا أن القتال لا يتيسّر إلّا بالتجمع و التكتل قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل اللّه، فكان مرتكزا في أذهانهم أن التشكّل لا يحصل إلّا بملك حافظ للنظام و التشكل.

و يظهر شدّة اهتمام الإسلام بجمع المسلمين و وحدتهم من الأخبار الكثيرة الواردة في الترغيب في الجماعة و التحذير من تركها أيضا:

ففي الوسائل بسند صحيح عن ابن سنان، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: سمعته يقول: «إن أناسا كانوا على عهد رسول اللّه «ص» أبطئوا عن الصلاة في المسجد، فقال رسول اللّه:

«ليوشك قوم يدعون الصلاة في المسجد ان نأمر بحطب فيوضع على أبوابهم فيوقد عليهم نار فتحرق عليهم بيوتهم.» «2»

و في البحار عن مجالس ابن الشيخ باسناده عن زريق، عن أبي عبد اللّه «ع» عن أمير المؤمنين «ع» بلغه أن قوما لا يحضرون الصلاة في المسجد فخطب فقال: «إن قوما لا يحضرون الصلاة معنا في مساجدنا، فلا يؤاكلونا و لا يشاربونا و لا يشاورونا و لا يناكحونا و لا يأخذوا من فيئنا شيئا أو يحضروا معنا صلاتنا جماعة، و إني لأوشك أن آمر لهم بنار تشعل في دورهم فأحرقها عليهم أو ينتهون.» قال: فامتنع المسلمون عن مؤاكلتهم و مشاربتهم و مناكحتهم حتى

______________________________

(1)- الخصال 1/ 36، باب الاثنين، الحديث 12.

(2)- الوسائل 5/ 377، الباب 2 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 10.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 188

حضروا الجماعة مع المسلمين «1». إلى غير ذلك من الأخبار.

فانظر كيف اهتم الإسلام بتجمع المسلمين و تشكلهم و اراد كونهم كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضا، فجعل الإمامة في الجماعة و الجمعة و الأعياد و الحج و

الإمامة الكبرى سببا لنظامهم و وحدتهم. و لو كان لأمرائهم و لهم غيرة و حمية لبقيت عزّتهم و شوكتهم مع مالهم من كثرة النفوس و الأراضي و الذخائر. و لكن شياطين الغرب و الشرق مزّقوهم كل ممزق و ألقوا فيهم الخلافات و مني المسلمون بأمراء خونة عملاء للشياطين و علماء سوء باعوا آخرتهم بدنياهم و دنيا غيرهم.

اللهم، فخلص المسلمين من شرورهم.

الدليل الثامن: ما رواه في اصول الكافي

عن عليّ بن ابراهيم، عن أبيه و عبد اللّه بن الصلت جميعا عن حماد بن عيسى، عن حريز بن عبد اللّه، عن زرارة، عن أبي جعفر «ع» قال:

«بني الإسلام على خمسة أشياء: على الصلاة و الزكاة و الحج و الصوم و الولاية. قال زرارة: فقلت:

و أي شي ء من ذلك أفضل؟ فقال: الولاية أفضل، لأنها مفتاحهن و الوالي هو الدليل عليهن ... ثم قال: ذروة الأمر و سنامه و مفتاحه و باب الأشياء و رضا الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته، إن اللّه- عزّ و جلّ- يقول: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطٰاعَ اللّٰهَ وَ مَنْ تَوَلّٰى فَمٰا أَرْسَلْنٰاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً. «2»

و الرواية صحيحة من حيث السند. و يظهر من هذه الصحيحة و أمثالها أنها ليست بصدد بيان الأمور الاعتقادية في الإسلام، و لذا لم يذكر فيها التوحيد و النبوة

______________________________

(1)- بحار الأنوار 85/ 14 (طبعة إيران 88/ 14)، الباب 83 (باب فضل الجماعة و عللها)، الحديث 25.

(2)- الكافي 2/ 18- 19، كتاب الإيمان و الكفر، باب دعائم الإسلام، الحديث 5. و الآية المذكورة من سورة النساء (4)، رقمها 80.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 189

و المعاد من أصول الدين و أركانه، بل هي بصدد بيان الأعمال الإجرائية و الفرائض العملية للإسلام،

فالمراد بالولاية في هذه الرواية أمر إجرائي عملي ضامن لإجراء البقية، و هي تحقيق الحكومة الإسلامية و الإمامة الحقة. إذ تحت راية هذه الحكومة تقام سائر الفرائض بحدودها و أركانها، كما نخاطب الإمام الشهيد «ع» في زيارته بقولنا: «أشهد انك قد أقمت الصلاة و آتيت الزكاة».

و العجب من بعض من لا خبرة لهم، حيث يفسرون الولاية في هذا السنخ من الأخبار بالمودة، و يريدون بها محبة أهل البيت- عليهم السلام- التي هي أمر قلبي، مع وضوح أن المراد بها الإمامة و ولاية التصرف، و لذا قال «ع» في مقام بيان أفضليتها: «لأنها مفتاحهن، و الوالي هو الدليل عليهن.» اذ لا شبهة في ان لفظ الوالي يستعمل بمعنى الإمام و الحاكم، فالمراد إمام المسلمين المبيّن للأحكام و الحافظ لها بحدودها و المجري لها. و قال في ذيل الحديث أيضا: «ذروة الأمر و سنامه و مفتاحه و باب الأشياء و رضا الرحمن الطاعة للإمام بعد معرفته.»

و في رواية صحيحة عن ابي جعفر «ع»: «و كانت الفريضة تنزل بعد الفريضة الأخرى، و كانت الولاية آخر الفرائض، فأنزل اللّه- تعالى-: «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي.» «1» قال أبو جعفر «ع»: يقول اللّه- عزّ و جلّ-: لا أنزل عليكم بعد هذه فريضة، قد أكملت الفرائض.» «2»

و لفظ الفريضة يستعمل في الواجبات العملية لا الأمور الاعتقادية، و الإمامة الحافظة للإسلام و المجرية لأحكامه هي الفريضة المتممة التي لو لم تنزل لما بلغ رسول اللّه «ص» رسالته، فان قوة الإجراء هي الضامنة لبقاء الأحكام.

و مرّ في الخبر الذي رويناه في الدليل السابق عن الرضا «ع» قوله: «بالإمام تمام الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج و الجهاد و

توفير الفي ء و الصدقات و إمضاء الحدود و الأحكام و منع

______________________________

(1)- سورة المائدة (5)، الآية 3.

(2)- الكافي 1/ 289، كتاب الحجة، باب ما نص اللّه- عزّ و جلّ- و رسوله على الأئمة «ع» ...، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 190

الثغور و الأطراف.» «1»

و بالجملة المراد بالولاية هي الإمامة، و قد مرّ في أوائل الكتاب في ذيل قوله- تعالى-: «النّبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم» أقوال أهل اللغة في معنى الولاية و ان حقيقتها تولّي الأمر، و تشعر بالتدبير و القدرة و الفعل، فراجع.

و في كلام أمير المؤمنين «ع» في نهج البلاغة: «و اللّه ما كانت لي في الخلافة رغبة و لا في الولاية إربة.» «2»

و في بعض أخبار الدعائم الخمسة: «فأخذ الناس بأربع و تركوا هذه، يعني الولاية.» «3»

و ما تركه الناس هي حكومة أهل البيت لا مودّتهم، كما لا يخفى.

و أظن ان تفسير الولاية بالمودة و المحبة تفسير انحرافي ألقي من قبل غاصبي حكومة أهل البيت بين شيعتهم أيضا، تبريرا و توجيها لعملهم.

و كيف كان فالمقصود بالصحيحة ان عمدة الفرائض التي هي أسّ الإسلام و عليها بني الدين هي الفرائض الخمس و أفضلها الدولة الحقة الحافظة و المجرية للبقية، اذ لا يبقى الإسلام بأساسه بلا حكومة حقة، فيجب على المسلم المهتمّ بالإسلام الاهتمام بها في جميع الأعصار، غاية الأمر أن الأئمة الاثنى عشر عندنا مع حضورهم و ظهورهم أحقّ من غيرهم بالنص و بالأكملية، فوجب تأييدهم و إطاعتهم، و أمّا إذا لم يمكن الوصول اليهم بأيّ دليل كان، كما في عصر الغيبة، فلا تعطيل للإسلام، فلا محالة وجب تعيين حاكم بالحق يحفظ مقررات الإسلام و يجربها، و

سيأتي في الباب الآتي شرائط الحاكم الحق، فانتظر.

و قد روى مضمون الصحيحة بنحو يظهر منه ما بيناه أيضا في كتاب المحكم

______________________________

(1)- الكافي 1/ 200، كتاب الحجة باب نادر جامع في فضل الإمام و صفاته.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 656؛ عبده 2/ 210؛ لح/ 322، الخطبة 205.

(3)- الكافي 2/ 18، كتاب الإيمان و الكفر باب دعائم الإسلام، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 191

و المتشابه نقلا عن تفسير النعماني، قال: «فدعائم الإسلام و هي خمس دعائم و على هذه الفرائض الخمسة بني الإسلام فجعل- سبحانه- لكل فريضة من هذه الفرائض أربعة حدود لا يسع أحدا جهلها: اولها الصلاة ثم الزكاة ثم الصيام ثم الحج ثم الولاية، و هي خاتمتها و الحافظة لجميع الفرائض و السنن.» «1»

و قد عرفت ان مطالب الكتاب عند الأصحاب منسوبة الى أمير المؤمنين «ع» و لكن لا يخلو ذلك من مناقشة، و لعل المؤلف مزج كلام نفسه بالروايات، فراجع ما ذكرناه في الدليل الخامس.

الدليل التاسع: ما في نهج البلاغة:

«أما و الذي فلق الحبة و برأ النسمة لو لا حضور الحاضر و قيام الحجة بوجود الناصر و ما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم و لا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ...» «2»

و فيه أيضا: «سمعت رسول اللّه «ص» يقول في غير موطن: لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقه من القوي غير متتعتع.» «3»

و في سنن ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري عن النبي «ص»: «انه لا قدست أمة لا يأخذ الضعيف فيها حقه غير متعتع.» «4»

يظهر من الحديثين الشريفين أنه لا يحق و لا يجوز للإنسان المسلم و لا سيما العالم أن يقعد

في بيته و لا يهتمّ و لا يبالي بما يشاهده من ظلم المستكبرين الطغاة بالنسبة الى

______________________________

(1)- المحكم و المتشابه/ 77، و بحار الأنوار 90/ 62 (طبعة إيران 93/ 62.)

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 52؛ عبده 1/ 31؛ لح/ 50، الخطبة 3.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1021؛ عبده 3/ 113؛ لح/ 439، الكتاب 53.

(4)- سنن ابن ماجة 2/ 810، كتاب الصدقات، الباب 17، الحديث 2426.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 192

الضعفة و المستضعفين، بل يجب عليه حماية الضعفاء و إحقاق حقوقهم، و لا يخفى انه لا يتيسر ذلك غالبا إلّا بالتجمع و التشكل و تحصيل القوة و القدرة بقدر الإمكان، و لا نعني بالحكومة الّا هذا، غاية الأمر أن لها مراتب.

بل قد مرّ في خلال الفصول السابقة أنه لا يجوز للإنسان المسلم أن يقعد في بيته و لا يبالي بما يقع في محيطه و بيئته من الفحشاء و الفساد و إراقة دماء المسلمين و هتك نواميسهم و هضم الكفار و الطواغيت للمسلمين و المستضعفين و تسخيرهم و احتلال بلادهم.

فأدلّة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و أدلة الجهاد الدفاعي بأجمعها أيضا من أقوى الأدلة على لزوم تشكل المسلمين و تأسيس الدولة الحقة و تحصيل القدرة مهما أمكن و بقدر الإمكان. و الميسور منها لا يترك بالمعسور.

و الأصحاب و إن ظهر منهم كون وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر اذا توقفا على الضرب و الجراح مشروطين بإذن الإمام، و مقتضاه عدم التكليف على المسلمين في مواجهة الفساد و ان بلغ ما بلغ، و لكن نحن قد قوّينا سابقا عدم اشتراط الوجوب بذلك. نعم، وجود الفعل خارجا، بحيث يؤثر في رفع الفساد و

لا يترتب عليه ضرر، مشروط بالإمام لتحصل القدرة و النظم و لا يحصل الهرج و المرج. فتجب إقامة الحكومة الحقة و تأسيس الدولة بالوجوب المقدمي. و قد مرّ خبر يحيى الطويل عن أبي عبد اللّه «ع»: «ما جعل اللّه بسط اللسان و كف اليد، و لكن جعلهما يبسطان معا و يكفّان معا.» «1»

و نحو ذلك الدفاع عن حوزة الإسلام و كيان المسلمين، فإنه واجب مطلق و لكن وجود بعض مراتبه متوقف على التشكل و تحصيل القدرة، و لا محالة يتوقف ذلك على ان يؤمّروا على أنفسهم أميرا ينظّم أمرهم و يجمع شملهم.

فالجهاد بقسميه يحتاج الى الإمام، و لكن في الجهاد الابتدائي الوجوب على ما قالوا مشروط بالإمام و إذنه بخلاف الجهاد الدفاعي، فان الوجوب مطلق و لكن الوجود مشروط

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 404، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي و ما يناسبهما، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 193

به و متوقف عليه، و قد مرّ تفصيل الكلام في الجهاد في الفصل السادس، و يأتي الجواب عن الأخبار التي تمسك بها أهل السكوت و السكون في الفصل الرابع من هذا الباب بعد ذكر الأدلة العشرة لوجوب إقامة الدولة الحقة في كل عصر و مكان.

و أئمتنا- عليهم السلام- كانوا في ضيق و شدّة، و لم يكن لهم مساعد على القيام و الثورة ضدّ الحكومات الجائرة. و يأتي كلام الامام الصادق «ع» لسدير الصيرفي:

«يا سدير، لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود.» «1» و كان مجموع الجداء سبعة عشر.

و ليس المراد بالتقية الواردة في أخبارنا ترك الدفاع و الأمر بالمعروف، بل المراد هو التحفّظ في حال العمل بالتكليف.

و يشهد بذلك قوله «ع»: «التقية ترس المؤمن.» «2» و قوله: «إنّ التقية جنة المؤمن.» «3» فان الترس إنّما يستعمل في ميدان الجهاد لا في حال الاستراحة و العزلة، فتدبر.

و هنا شي ء آخر يجب أن ينبه عليه، و هو ان فقهاءنا- رضوان اللّه عليهم- ذكروا أمورا سموها الأمور الحسبية و قالوا إنّها أمور لا ترتبط بأشخاص خاصّين و لا يرضى الشارع بإهمالها و تركها، كالتصرف في أموال اليتامى و الغيّب و القصر و نحو ذلك.

و حينئذ فإن كان هنا فقيه عادل فهو المتيقن للتصدّي لها و إلّا فيتصدى لها عدول المؤمنين بل و فسّاقهم أيضا اذا لم يوجد العدول.

إذا عرفت هذا فنقول: هل يكون حفظ مال جزئي لصغير أو مجنون خاص من الأمور المهمة التي لا يرضى الشارع بإهمالها فيجب التصدّي لها على أي حال و أما حفظ كيان الإسلام و نظام المسلمين و حفظ دمائهم و نواميسهم و أموالهم فلا أهمية لها ولايتهم الشارع بها و يجوز للمسلمين إهمالها و عدم الاهتمام بها حتى يظهر صاحب

______________________________

(1)- الكافي 2/ 242- 243، كتاب الإيمان و الكفر باب في قلة عدد المؤمنين، الحديث 4.

(2)- الوسائل 11/ 460، الباب 24 من أبواب الأمر و النهي و ما يناسبهما، الحديث 6.

(3)- الوسائل 11/ 460، الباب 24 من أبواب الأمر و النهي و ما يناسبهما، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 194

الأمر «ع»؟! ان هذا الأمر لعجيب.

و عدم عصمة العلماء و الفقهاء و احتمال خطأهم في مقام العمل لا يوجب جواز إهمال ذلك، فإن النبي «ص» أيضا و ان كان بنفسه معصوما و لكن عمّاله الغائبين عنه لم يكونوا معصومين عن الخطأ و

الزلل، و كذلك عمّال أمير المؤمنين «ع»، بل و كذلك عمّال صاحب العصر و الزمان- عجل اللّه فرجه-.

و على أي حال فاحتمال ضياع الحقوق مع النظارة و التصدّي للحفظ و الحراسة أضعف بمراتب من الترك و الإهمال بالكلية، فتدبر جيدا. هذا.

و نعيد الإشارة الى أن نفرة بعض الناس و انزجارهم من ألفاظ الحكومة و السلطنة و نحوهما ليس إلّا لابتلائهم غالبا بالحكومات الجائرة الظالمة أو غير اللائقة. ففي الحقيقة يكون التنفر من الجور و عدم اللياقة، و لكنه سرى الى نفس الحكومة و إلّا فالحكومة و إدارة شئون المسلمين و حفظ نظامهم بالنحو المعقول أمر يستحسنه العقل و الشرع، كما يدلّ عليه كثير من الآيات و الروايات و قد مرّ بعض الآيات في ذيل الدليل الأول، فراجع.

الدليل العاشر: أخبار متفرقة أخرى من طرق الفريقين يظهر منها إجمالا لزوم الحكومة و الدولة

في جميع الأعصار أو كونها مرغوبا فيها شرعا نذكرها و نسردها. فعليك بالدقة في مفادها:

1- ما رواه المفيد في الاختصاص، قال: «و قد روى بعضهم عن أحدهم أنه قال:

الدين و السلطان أخوان توأمان لا بدّ لكل واحد منهما من صاحبه، و الدين أسّ و السلطان حارس، و ما لا أسّ له منهدم و ما لا حارس له ضائع.» «1»

______________________________

(1)- الاختصاص/ 263.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 195

و الظاهر أن مراده بقوله: «احدهم» أحد الأئمة «ع» و ان كان يحتمل غير ذلك أيضا، ففي رسائل إخوان الصفا:

«قال ملك الفرس أردشير في وصيته: إن الملك و الدين أخوان توأمان لا قوام لأحدهما إلّا بالآخر و ذلك أن الدين أسّ الملك و الملك حارسه فما لا أسّ له مهدوم و ما لا حافظ له ضائع، و لا بدّ للملك من أسّ و لا بدّ للدين من

حارس.» «1» هذا.

و لكن في كنز العمّال أيضا: «الإسلام و السلطان أخوان توأمان لا يصلح واحد منهما إلّا بصاحبه، فالإسلام أسّ و السلطان حارث، و ما لا أسّ له يهدم و ما لا حارث له ضائع.» (الديلمي، عن ابن عباس) «2».

و لعلّ كلمة «حارث» غلط و الصحيح: «حارس»، كما في الاختصاص.

و ظاهره كون الحديث عن النبي «ص».

2- ما في دعائم الإسلام: «و عن علي «ع» انه قال: لا بدّ من إمارة و رزق للأمير، و لا بدّ من عريف و رزق للعريف، و لا بد من حاسب و رزق للحاسب، و لا بد من قاض و رزق للقاضي. و كره أن يكون رزق القاضي على الناس الذين يقضى لهم و لكن من بيت المال.» «3»

3- ما في تحف العقول عن الصادق «ع»: «لا يستغني أهل كل بلد عن ثلاثة يفزع اليهم في أمر دنياهم و آخرتهم، فإن عدموا ذلك كانوا همجا: فقيه عالم ورع، و أمير خيّر مطاع، و طبيب بصير ثقة.» «4»

و الهمج بالتحريك: السفلة و الحمقى و من لا خير فيهم.

4- صحيحة محمد بن مسلم، قال: سمعت أبا جعفر «ع» يقول: «كل من دان اللّه- عزّ و جلّ- بعبادة يجهد فيها نفسه و لا إمام له من اللّه فسعيه غير مقبول و هو ضالّ متحيّر ... و اللّه يا محمّد، من أصبح من هذه الأمّة لا إمام له من اللّه- عزّ و جلّ- ظاهر عادل أصبح ضالّا تائها. و ان

______________________________

(1)- رسائل إخوان الصفا 3/ 495.

(2)- كنز العمال 6/ 10، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14613.

(3)- دعائم الإسلام 2/ 538، كتاب آداب القضاة، الحديث 1912.

(4)- تحف العقول/ 321.

دراسات في

ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 196

مات على هذه الحالة مات ميتة كفر و نفاق. و اعلم يا محمد، ان ائمة الجور و أتباعهم لمعزولون عن دين اللّه قد ضلّوا و أضلوا.» «1»

5- ما في الاختصاص عن محمد بن علي الحلبي، قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «من مات و ليس عليه إمام حيّ ظاهر مات ميتة جاهلية.» «2»

6- ما في الاختصاص أيضا عن أبي الجارود، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «من مات و ليس عليه إمام حي ظاهر مات ميتة جاهلية.» قال: قلت: «إمام حيّ» جعلت فداك؟ قال: «إمام حيّ.» «3»

أقول: قد مرّ منّا في أواخر الباب الثاني أن أنس أذهاننا بإمامة الأئمة الاثنى عشر «ع» و أحقّيتهم أوجب انصراف لفظ الإمام عندنا اليهم «ع» و كأن اللفظ وضع لهم، و لكن اللفظ وضع للقائد الذي يؤتم به إما في الصلاة أو في الحج أو في الشؤون السياسية و نحو ذلك، سواء كان بحق أو بباطل. و لذا قال اللّه- تعالى-:

«فَقٰاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ.» «4» و أطلق الإمام الصادق «ع» لفظ الإمام على أمير الحج إسماعيل بن علي حين وقف عليه «ع» فقال له: «سر فإن الإمام لا يقف.» «5» و في رسالة الحقوق لعلي بن الحسين «ع»: «كل سائس إمام.» «6» فراجع ما حررناه هناك.

و لا تستغرب أن يكون موت من ليس عليه إمام حي ظاهر ميتة جاهلية أو ميتة كفر و نفاق، فإن الإمام الحق هو الحارس للدين و المجري للإسلام. و هل يكون وجود الإمام أهون من الوصية بالنسبة الى مال جزئي و قد ورد عن النبي «ص»: «من

______________________________

(1)- الكافي 1/ 183- 184، كتاب الحجة، باب

معرفة الإمام و الردّ اليه، الحديث 8.

(2)- الاختصاص/ 269.

(3)- الاختصاص/ 269.

(4)- سورة التوبة (9)، الآية 12.

(5)- الوسائل 8/ 290، الباب 26 من أبواب آداب السفر، الحديث 1.

(6)- الخصال/ 565 (الجزء 2)، ابواب الخمسين، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 197

مات بغير وصية مات ميتة جاهلية» «1»؟

7- ما في دعائم الإسلام: «عن جعفر بن محمد «ع» انه قال: ولاية أهل العدل الذين أمر اللّه بولايتهم، و توليتهم و قبولها و العمل لهم فرض من اللّه- عزّ و جلّ- و طاعتهم واجبة، و لا يحل لمن أمروه بالعمل لهم أن يتخلف عن أمرهم. و (ولاية- ظ.) ولاة أهل الجور و اتباعهم، و العاملون لهم في معصية اللّه غير جائزة لمن دعوه الى خدمتهم و العمل لهم و عونهم و لا القبول منهم.» «2»

8- ما رواه حفص بن عون، رفعه، قال: قال رسول اللّه «ص»: «ساعة إمام عدل (عادل خ. ل) أفضل من عبادة سبعين سنة. وحد يقام للّه في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحا.» «3»

9- ما عن القطب الراوندي في لبّ اللباب عن النبي «ص» قال: «يوم واحد من سلطان عادل خير من مطر أربعين يوما. وحد يقام في الأرض أزكى من عبادة ستين سنة.» «4»

فاللّه الفياض الذي لا يقطع بركاته و قطر السماء عن خلقه مع كثرة المعاصي كيف يقطع عنهم بركات الإمامة و إقامة الحدود في عصر الغيبة بطولها بسبب غيبة وليّ العصر- عجل اللّه فرجه، و يترك خلقه بلا نظام و حكومة؟!

10- ما في نهج البلاغة خطابا لعثمان: «فاعلم ان أفضل عباد اللّه عند اللّه إمام عادل هدى و هدى، فأقام سنة معلومة و أمات بدعة مجهولة

... و إن شرّ الناس عند اللّه إمام جائر ضل و ضلّ به، فأمات سنة مأخوذة و أحيا بدعة متروكة.» «5»

11- ما في جامع الأصول: «أبو سعيد الخدري «رض» قال: قال

______________________________

(1)- الوسائل 13/ 352، الباب 1 من كتاب الوصايا، الحديث 8.

(2)- دعائم الإسلام 2/ 527، كتاب آداب القضاة، الحديث 1876.

(3)- الوسائل 18/ 308، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.

(4)- مستدرك الوسائل 3/ 216، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 10.

(5)- نهج البلاغة، فيض/ 526؛ عبده 2/ 85؛ لح/ 234، الخطبة 164.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 198

رسول اللّه «ص»: أحب الناس الى اللّه يوم القيمة و أدناهم منه مجلسا إمام عادل. و أبغض الناس الى اللّه- تعالى- و أبعدهم منه مجلسا إمام جائر. أخرجه الترمذي.» «1»

12- ما رواه في تحف العقول عن الصادق «ع»: «فوجه الحلال من الولاية ولاية الوالي العادل الذي أمر اللّه بمعرفته و ولايته و العمل له في ولايته، و ولاية ولاته و ولاة ولاته، بجهة ما أمر اللّه به الوالي العادل بلا زيادة فيما أنزل اللّه به و لا نقصان منه و لا تحريف لقوله و لا تعدّ لأمره الى غيره، فإذا صار الوالي والي عدل بهذه الجهة فالولاية له و العمل معه و معونته في ولايته و تقويته حلال محلل، و حلال الكسب معهم. و ذلك ان في ولاية والي العدل و ولاته إحياء كل حق وكل عدل و إماتة كل ظلم و جور و فساد، فلذلك كان الساعي في تقوية سلطانه و المعين له على ولايته ساعيا الى طاعة اللّه مقويا لدينه.» «2»

و لا يخفى ان هذه الجملات مرويّة عن

الإمام الصادق الذي لم يكن واليا بالفعل مبسوط اليد حتى يترتب على ولايته إحياء الحق و العدل و إماتة الظلم و الجور و الفساد، فتدبّر.

13- ما رواه الآمدي في الغرر و الدرر عن أمير المؤمنين «ع»: «إن السلطان لأمين اللّه في الأرض و مقيم العدل في البلاد و العباد و وزعته في الأرض.» «3»

و في نهج البلاغة: «السلطان وزعة اللّه في أرضه.» «4»

و الوزعة: المانعون عن محارم اللّه، جمع وازع. و الجمع باعتبار أن السلطان أريد به الجنس.

14- ما رواه الآمدي أيضا عنه «ع»: «ليس ثواب عند اللّه- سبحانه- أعظم من ثواب السلطان العادل و الرجل المحسن.»

______________________________

(1)- جامع الأصول 4/ 447، الباب 1 من كتاب الخلافة، الحديث 2035.

(2)- تحف العقول/ 332.

(3)- الغرر و الدرر 2/ 604، الحديث 3634.

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 1243؛ عبده 3/ 232؛ لح/ 533، الحكمة 332.

- الغرر و الدرر 5/ 90، الحديث 7526.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 199

15- ما رواه عنه: «العلماء حكّام على الناس.» «1»

16- ما رواه عنه «ع»: «دولة العادل من الواجبات.» «2»

17- ما رواه عنه «ع»: «من حسنت سياسته وجبت طاعته.» «3»

18- ما رواه عنه «ع»: «أجلّ الملوك من ملك نفسه و بسط العدل.» «4»

19- ما رواه عنه «ع»: «أفضل الملوك من حسن فعله و نيته و عدل في جنده و رعيّته.» «5»

20- ما رواه عنه «ع»: «خير الملوك من أمات الجور و أحيا العدل.» «6»

21- ما رواه عنه «ع»: «من أعود الغنائم دولة الأكارم.» «7»

22- ما رواه عنه «ع»: «إمام عادل خير من مطر وابل.» «8»

23- ما رواه عنه «ع»: «أفضل ما منّ اللّه سبحانه به على عباده علم و عقل

و ملك و عدل.» «9»

24- ما رواه عنه «ع»: «إذا بنى الملك على قواعد العدل و دعم بدعائم العقل نصر اللّه مواليه و خذل معاديه.» «10»

25- ما رواه في البحار عن كنز الكراجكي: «قال الصادق: الملوك حكام على

______________________________

(1)- الغرر و الدرر 1/ 137، الحديث 506.

(2)- الغرر و الدرر 4/ 10، الحديث 5110.

(3)- الغرر و الدرر 5/ 211، الحديث 8025.

(4)- الغرر و الدرر 2/ 439، الحديث 3206.

(5)- الغرر و الدرر 2/ 445، الحديث 3234.

(6)- الغرر و الدرر 3/ 431، الحديث 5005.

(7)- الغرر و الدرر 6/ 34، الحديث 9381.

(8)- الغرر و الدرر 1/ 386، الحديث 1491.

(9)- الغرر و الدرر 2/ 439، الحديث 3205.

(10)- الغرر و الدرر 3/ 168، الحديث 4118.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 200

الناس و العلماء حكّام على الملوك.» «1»

26- ما رواه في الخصال عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه قال: قال رسول اللّه «ص»: «صنفان من أمتي إذا صلحا صلحت أمّتي و إذا فسدا فسدت أمّتي. قيل:

يا رسول اللّه، و من هما؟ قال: الفقهاء و الأمراء.» «2»

27- ما رواه في الكافي عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «ان اللّه أجلّ و أعظم من أن يترك الأرض بغير إمام عادل.» «3»

28- ما رواه في إثبات الهداة عن عبد اللّه بن سنان، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنٰاسٍ بِإِمٰامِهِمْ» «4» قال: «إمامهم الذي بين أظهرهم و هو قائم أهل زمانه.» «5»

أقول: الأخبار المتواترة الصادرة عن الأئمة المعصومين و الاحتجاجات المروية عن أصحابهم «ع» كهشام و غيره الدالة على لزوم الإمام و الهادي و الحجة و العالم الحافظ للدين عن التحريف و التغيير، و

ان كان النظر فيها الى إثبات إمامة الأئمة الاثنى عشر- عليهم السلام- في قبال أئمة الجور، و لكن التعليلات و الملاكات المذكورة فيها تشمل جميع الأعصار حتى عصر الغيبة. و لا يمكن أن يقال إن اللّه اللطيف بعباده أهمل أمور المسلمين في عصر الغيبة بسبب غيبة الإمام المنتظر «ع» فراجع الأخبار و تأمّل فيها.

29- ما رواه في إثبات الهداة، عن الزمخشري في ربيع الأبرار، عن عبد الملك أن

______________________________

(1)- بحار الأنوار 1/ 183، كتاب العلم، الباب 1 (باب فرض العلم ...)، الحديث 92.

(2)- الخصال 1/ 36، باب الاثنين، الحديث 12.

(3)- الكافي 1/ 178، كتاب الحجة، باب أن الأرض لا تخلو من حجة، الحديث 6.

(4)- سورة الإسراء (17)، الآية 71.

(5)- إثبات الهداة 1/ 89.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 201

رسول اللّه «ص» قال: «من مات و ليس في عنقه لإمام المسلمين بيعة فميتته ميتة جاهلية.»

قال: و روي في هذا المعنى عدة أحاديث «1».

و لا يخفى انه ليس مفاد الرواية وجوب البيعة بالفعل، بل وجوب وجود الإمام و تعيينه حتى يستحق في عنق كل مسلم بيعة بوجوده، و ان شئت قلت: ظاهر الرواية انّ الواجب هو الالتزام بالبيعة و التسليم، لا فعلية البيعة، فتأمل.

30- ما رواه الصدوق في الخصال بسنده عن عجلان، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «ثلاثة يدخلهم اللّه الجنة بغير حساب، و ثلاثة يدخلهم اللّه النار بغير حساب: فأما الذين يدخلهم اللّه الجنة بغير حساب فإمام عادل و تاجر صدوق، و شيخ أفنى عمره في طاعة اللّه- عزّ و جلّ-. و أما الثلاثة الذين يدخلهم اللّه النار بغير حساب فإمام جائر، و تاجر كذوب، و شيخ زان.» «2»

31-

ما رواه في البحار و الوسائل عن أمالي الصدوق بسنده عن الشحّام، عن الصادق «ع» قال: «من تولّى أمرا من أمور الناس فعدل و فتح بابه و رفع شرّه (الوسائل:

ستره) و نظر في أمور الناس كان حقا على اللّه- عزّ و جلّ- ان يؤمن روعته يوم القيامة و يدخله الجنة.» «3»

32- ما رواه في التاج الجامع للأصول عن النبي «ص» قال: «سبعة يظلهم اللّه في ظله يوم لا ظلّ إلّا ظلّه: الإمام العادل، و شابّ نشأ بعبادة اللّه. الحديث.» رواه الخمسة إلّا أبا داود «4».

33- ما رواه مسلم في صحيحه عن النبي «ص»: «من خلع يدا من طاعة لقي اللّه

______________________________

(1)- إثبات الهداة 1/ 143.

(2)- الخصال 1/ 80، باب الثلاثة، الحديث 1.

(3)- بحار الأنوار 72/ 340 (طبعة إيران 75/ 340)، كتاب العشرة، الباب 81 (باب أحوال الملوك و الأمراء)، الحديث 18. و الوسائل 12/ 140، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7.

(4)- التاج الجامع للأصول 3/ 49، كتاب الإمارة، الفصل 3 (فيما يجب على الأمير).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 202

يوم القيامة لا حجة له. و من مات و ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية.» «1»

34- ما رواه مسلم أيضا عن يحيى بن الحصين، قال: سمعت جدّتي تحدّث أنها سمعت النبي «ص» يخطب في حجة الوداع و هو يقول: «لو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب اللّه فاسمعوا له و أطيعوا.» «2»

35- ما رواه البخاري في صحيحه و رواه غيره أيضا عن رسول اللّه «ص»:

«كلكم راع و كلكم مسئول عن رعيّته. الإمام راع و مسئول عن رعيته. الحديث.» «3»

36- و في كنز العمّال: «لا بدّ للناس من إمارة

برّة أو فاجرة. فأما البرّة فتعدل في القسم و تقسم بينكم فيئكم بالسوية، و أما الفاجرة فيبتلى فيها المؤمن. و الإمارة خير من الهرج. قيل:

يا رسول اللّه، و ما الهرج؟ قال: القتل و الكذب.» (طب، عن ابن مسعود) «4»

و قد مرّ نظير ذلك في الأمر الرابع عن نهج البلاغة، فراجع.

37- و في كنز العمّال أيضا: «ما من أحد أفضل منزلة من إمام إن قال صدق و إن حكم عدل، و ان استرحم رحم.» «5» (ابن النجار، عن أنس)

38- و فيه أيضا: «أحب الناس الى اللّه يوم القيامة و أدناهم مجلسا إمام عادل. و أبغض الناس الى اللّه و أبعدهم منه إمام جائر.» (حم ت، عن أبي سعيد) «6»

39- و فيه أيضا: «نعم الشي ء الإمارة لمن أخذها بحقها و حلّها، و بئس الشي ء الإمارة لمن

______________________________

(1)- صحيح مسلم 3/ 1478 (طبعة أخرى 6/ 22)، كتاب الإمارة، باب وجوب ملازمة جماعة المسلمين ...، الحديث 1851.

(2)- صحيح مسلم 3/ 1468 (طبعة اخرى 6/ 14)، كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية ...

(3)- صحيح البخاري 1/ 160، كتاب الجمعة، باب الجمعة في القرى و المدن.

(4)- كنز العمال 6/ 39، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14755.

(5)- كنز العمال 6/ 7، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14593.

(6)- كنز العمال 6/ 9، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14604.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 203

أخذها بغير حقّها فتكون عليه حسرة يوم القيامة.» (طب، عن زيد بن ثابت) «1»

40- و فيه أيضا: «من استطاع منكم أن لا ينام نوما و لا يصبح صبحا إلّا و

عليه إمام فليفعل.» (ابن عساكر، عن أبي سعيد و ابن عمر) «2»

41- و فيه أيضا: «من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية. و من نزع يدا من طاعة جاء يوم القيمة لا حجة له.» (ط حل، عن ابن عمر) «3»

42- و فيه أيضا: «إذا أراد اللّه بقوم خيرا ولّى عليهم حلماءهم و قضى عليهم علماؤهم، و جعل المال في سمحائهم. و إذا أراد اللّه بقوم شرّا ولّى عليهم سفهاءهم، و قضى بينهم جهّالهم، و جعل المال في بخلائهم.» (فر، عن مهران) «4»

43- و عن النبي «ص» قال: «لعمل الإمام العادل في رعيته يوما واحدا أفضل من عبادة العابد في أهله مأئة عام أو خمسين عاما.» «5»

الى غير ذلك من الأخبار و الروايات، فان الروايات التي يستفاد منها لزوم الإمارة و الملك أو كونه مرغوبا فيه شرعا اذا تحققت العدالة و سائر الشرائط، كثيرة في كتب الفريقين.

و قد مضى في ذيل الأمر الأول أيضا بعض الآيات الدالة على حسن الملك و الدولة و كونه من نعم اللّه- تعالى- على عباده الصالحين، فراجع.

فهذه أدلة عشرة ذكرناها دليلا على لزوم الملك و الدولة في جميع الأعصار، و كفاك ما ذكرناه في الأمرين الأولين، فراجع و تأمّل.

______________________________

(1)- كنز العمال 6/ 39، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14753.

(2)- كنز العمال 6/ 64، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14855.

(3)- كنز العمّال 6/ 65، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14863.

(4)- كنز العمّال 6/ 7، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14595.

(5)- الأموال/ 13، باب حق الإمام على الرعيّة ...، الحديث 14.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة

الإسلامية، ج 1، ص: 204

و اعلم ان الصحاح و السنن و مسانيد إخواننا السنة ملاء من الأخبار الواردة في الإمارة و السلطنة، ففي بعضها مدح الإمارة و الترغيب فيها، و في بعضها التحذير و التخويف منها و ذمّ أئمة الجور و أنهم من أهل النار، و في بعضها وجوب الإطاعة للأمير و إن كان عبدا حبشيا مجدّع الأطراف، و في بعضها أنه «لا طاعة لمن لم يطع اللّه» او «لا طاعة في معصية اللّه، إنّما الطاعة في المعروف»، و في بعضها أن السلطان ظل اللّه في الأرض، و في بعضها أن السلطان العادل المتواضع ظلّ اللّه و رمحه في الأرض.

و الجمع بين هذه الروايات بحسب الصناعة الفقهية واضح، لوضوح أنّ الوالي الحق العادل يجب اطاعته دون الظالم الجائر، و لا سيما في ظلمه و جوره، و انه اذا أمّر من قبل الوالي العادل عبد مجدّع يقود الناس بكتاب اللّه- كما في متن الحديث- فالواجب اطاعته و لو كان حبشيا أسود. فان هذا من مزايا الإسلام، حيث الغى الامتيازات اللونية و الجغرافية و الطائفية و الطبقية و قال في القرآن الكريم: «إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّٰهِ أَتْقٰاكُمْ.» «1» أ لا ترى ان النبي «ص» أمّر أسامة بن زيد قبيل وفاته و أمر الصحابة الكبار أيضا بان يكونوا تحت لوائه؟

و المطلق في قوله: «السلطان ظل اللّه» يجب أن يحمل على المقيد في الحديث الآخر.

فالسلطان العادل الحق ظل اللّه دون الجائر الظالم، فانه ظل الشيطان و طاغوت، و قد أمروا أن يكفروا به.

و يحتمل إرادة الإنشاء أيضا لا الاخبار، فيراد أن السلطان يجب أن يكون ظل اللّه و مظهر رحمته.

نعم، السلطان و لو كان جائرا خير من فتنة تدوم

و من الهرج و المرج، لا بمعنى مشروعية سلطنته بل بمعنى الرجحان العقلي إذا دار الأمر بينهما و لم يمكن تأسيس الحكومة العادلة. و قد مرّ بيان ذلك في ذيل كلام أمير المؤمنين «ع» في الدليل الرابع، فراجع. و يأتي بيان الشرائط للحاكم الحق الذي يجب إطاعته في الباب الرابع، فانتظر.

______________________________

(1)- سورة الحجرات (49)، الآية 13.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 205

الفصل الرابع من الباب الثالث في ذكر الأخبار التي ربما توهم وجوب السكوت

اشارة

في قبال الجنايات و مظالم الأعداء في عصر الغيبة و عدم التدخل في الشؤون السياسية و إقامة الدولة العادلة و قد ذكر كثيرا منها في الوسائل في الباب 13 من كتاب الجهاد، و في الحقيقة تعدّ هذه الأخبار معارضة لما ذكرناها دليلا على وجوب السعى في إقامة الدولة العادلة.

فلنتعرض لها و نبين المراد منها:

فالأولى: صحيحة عيص بن القاسم،

[توضيح الصحيحة]

قال: «سمعت أبا عبد اللّه يقول: «عليكم بتقوى اللّه وحده لا شريك له. و انظروا لأنفسكم. فو اللّه ان الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فاذا وجد رجلا هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه و يجي ء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها. و اللّه لو كانت لأحدكم نفسان يقاتل بواحدة يجرّب بها ثم كانت الأخرى باقية يعمل على ما قد استبان لها، و لكن له نفس واحدة اذا ذهبت فقد و اللّه ذهبت التوبة. فأنتم أحق ان تختاروا لأنفسكم. إن أتاكم آت منّا فانظروا على أيّ شي ء تخرجون.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 206

و لا تقولوا: خرج زيد، فان زيدا كان عالما و كان صدوقا، و لم يدعكم الى نفسه و انما دعاكم الى الرضا من آل محمد «ص». و لو ظفر لوفى بما دعاكم إليه. انّما خرج الى سلطان مجتمع لينقضه.

فالخارج منّا اليوم الى أيّ شي ء يدعوكم؟ الى الرضا من آل محمد «ص»؟ فنحن نشهدكم انا لسنا نرضى به و هو يعصينا اليوم و ليس معه احد، و هو اذا كانت الرايات و الألوية أجدر ألّا يسمع منّا، إلّا من اجتمعت بنو فاطمة معه، فو اللّه ما صاحبكم إلّا من اجتمعوا عليه. اذا كان رجب فاقبلوا على اسم اللّه،

و ان أحببتم ان تتأخروا الى شعبان فلا ضير، و ان أحببتم ان تصوموا في أهاليكم فلعل ذلك يكون أقوى لكم. و كفاكم بالسفياني علامة.» «1»

أقول: الصحيحة لا تدل على عدم وجوب الدفاع و عدم جواز الخروج، بل تدل على ان الداعي الى الخروج قد تكون دعوته باطلة، بأن يدعو الى نفسه مثلا مع عدم استحقاقه لما يدّعيه كمن يدعى المهدوية مثلا كذبا. و قد تكون دعوته حقه، كدعوة زيد بن علي بن الحسين مثلا، حيث دعا الناس لنقض السلطنة الجائرة و تسليم الحق الى أهله، أعني المرضى من آل محمد، يعني الامام الصادق «ع» فيجب على الأشخاص المدعوّين أن ينظروا لأنفسهم و يعملوا الدقة في ذلك و لا يتأثروا بالأحاسيس و العواطف الآنية.

فان الإنسان اذا كان بحسب فطرته بحيث يعمل الدقة في احراز ما هو صلاح لغنمه فهو بإعمال الدقة لنفسه أحق و أولى. و هذا حكم عقلي فطري، اذ على الإنسان أن يحكم العقل في الأمور المهمة و لا يقع تحت تأثير الإحساس الآني.

و جعل المجلسي «ره» في المرآة قوله: «انّما خرج الى سلطان مجتمع لينقضه» بيانا لعلة عدم ظفر زيد، قال في شرح العبارة: «أي فلذلك لم يظفر.» «2»

و كيف كان فالصحيحة تمضي قيام زيد و تدل على جواز القيام للدفاع عن الحقّ.

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 35، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.

(2)- مرآة العقول 4/ 365، (من ط. القديم).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 207

و الأخبار في فضائل زيد و علمه و زهده و إمضاء قيامه كثيرة مستفيضة.

و قوله «ع»: «كان عالما و كان صدوقا» إشارة الى صلاحيته لان يكون أميرا في الثورة الحقة بحسب

علمه و عمله.

و لا خصوصية لزيد قطعا، و انما الملاك هدفه في قيامه و صلاحيته لذلك. فالقيام لنقض الحكومة الفاسدة الجائرة مع إعداد مقدماته جائز بل واجب. و لو ظفر زيد لوفى بما دعا اليه من إرجاع الحكومة الى المرضيّ من آل محمد، كما نطق به الخبر.

و عدم تسميته لشخص الامام الصادق «ع» لعله كان لوجهين:

الاول: انه أراد أن ينجذب اليه و يساعده كل من كان مخالفا للحكومة الفاسدة من أيّ فرقة من فرق المسلمين كان، و لذا اعانه حتى بعض من لم يكن من الخاصة، و قد حكى ان أبا حنيفة مثلا أعانه بثلاثين ألف درهم لذلك.

الثاني: انه أراد ان يبقى الإمام الصادق «ع» محفوظا من شرّ الحكومة الفاسدة على فرض عدم الظفر ليبقى ركنا و أساسا للحقّ، يجدّد بناء الإسلام ببيان معارفه و أخلاقياته و أحكامه بعد أن أخفتها حجب التأويلات و التحريفات و استار الجهل و الكتمان. و حفظه «ع» كان من أهمّ الفرائض، كما لا يخفى على من اطلع على العلوم الصادرة عنه «ع» في شتّى الموضوعات.

و روى عمرو بن خالد، قال: قال زيد بن علي بن الحسين «ع»:

«في كل زمان رجل منّا أهل البيت يحتج اللّه به على خلقه. و حجة زماننا ابن أخي: جعفر بن محمد، لا يضلّ من تبعه و لا يهتدي من خالفه.» «1»

______________________________

(1)- بحار الأنوار 46/ 173، تاريخ علي بن الحسين «ع»، الباب 11 (باب أحوال أولاد علي بن الحسين «ع» و أزواجه)، الحديث 24.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 208

قداسة زيد و قيامه

ثم ان قيام زيد لم يكن قياما إحساسيّا عاطفيا أعمى بلا اعداد للقوى و الأسباب، فانه بعث الى الأمصار و

جمع الجموع، و الكوفة كانت مقرّا لجند الإسلام من القبائل المختلفة و قد بايعه فيها خلق كثير، و قد قيل انه بايعه فيها أربعون ألفا من أهل السيف.

و امّا اطلاعه على كونه المصلوب بالأخرة في كناسة الكوفة بإخبار الإمام الباقر و الإمام الصادق «ع» فلم يكن يجوّز تخلّفه عن الدفاع عن الحق و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بعد ما تهيأت له الاسباب من الجنود و السلاح. كما أن إخبار النبي «ص» و أمير المؤمنين «ع» بشهادة سيّد الشهداء «ع» في النهاية لم يمنعه من القيام بعد ما دعاه جنود الإسلام من الكوفة بالكتب و الرسائل و أخبره رائده مسلم بتهيؤ العدّة و العدّة. و لو كان لا يجيب الداعين مع كثرتهم و تهيئهم لكان لهم حجة عليه «ع» بحسب الظاهر.

و بالجملة العلم بالشهادة بالأخرة بإخبار غيبي لا يوجب عدم التكليف بعد تحقق شرائطه و أسبابه، فلعل جنوده تظفر و الإسلام يغلب و ان رزق بنفسه الشهادة، و المهم ظفر الإسلام و الحق و تحقق الهدف لا ظفر الشخص و غلبته، و لعل شهادته أيضا تؤثر في تقوّي الإسلام و بسطه، كما يشاهد نظير ذلك في كثير من الثورات.

و كيف كان فقيام زيد بن عليّ كان من سنخ نهضة الحسين «ع» غاية الأمر ان الحسين «ع» كان إماما بالحقّ يدعو الى نفسه، و زيد لم يكن يدعو الى نفسه بل الى الرضا من آل محمد، و قد أراد بذلك الإمام الصادق «ع» لا محالة.

و في خطبته المحكية عنه:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 209

«أ لستم تعلمون انّا ولد نبيّكم المظلومون المقهورون، فلا سهم و فينا و لا تراث اعطينا

و ما زالت بيوتنا تهدم و حرمنا تنتهك ...» «1»

فلم يكن يتكلم هو عن شخصه بل عن العترة «ع»

و عن الصادق «ع»: «إن عمّي كان رجلا لدنيانا و آخرتنا، مضى و اللّه عمّي شهيدا كشهداء استشهدوا مع رسول اللّه «ص» و عليّ و الحسن و الحسين.» «2»

و في حديث قال الصادق «ع» لفضيل: «يا فضيل، شهدت مع عمّي قتال أهل الشام؟ قلت: نعم. قال: فكم قتلت منهم؟ قلت: ستة. قال: فلعلك شاك في دمائهم؟

قال: فقلت: لو كنت شاكّا ما قتلتهم. قال: فسمعته و هو يقول: أشركني اللّه في تلك الدماء، مضى و اللّه زيد عمّي و أصحابه شهداء مثل ما مضى عليه عليّ بن أبي طالب و أصحابه.» «3»

و في حديث آخر عن الباقر «ع» عن آبائه قال: «قال رسول اللّه «ص» للحسين «ع»:

يا حسين، يخرج من صلبك رجل يقال له زيد، يتخطى هو و أصحابه يوم القيامة رقاب الناس غرّا محجلين يدخلون الجنة بلا حساب.» «4»

و في خبر ابن سيّابة، قال: «دفع إليّ أبو عبد اللّه الصادق جعفر بن محمد ألف دينار و أمرني أن أقسمها في عيال من أصيب مع زيد بن علي، فقسمتها فأصاب عبد اللّه بن زبير أخا فضيل الرسان أربعة دنانير.» «5»

الى غير ذلك من الأخبار الدالة على فضل زيد و تأييد قيامه.

______________________________

(1)- بحار الأنوار 46/ 206، تاريخ علي بن الحسين «ع»، الباب 11 (باب أحوال أولاد علي بن الحسين «ع» و أزواجه)، الحديث 83.

(2)- عيون أخبار الرضا 1/ 252، الباب 25 (باب ما جاء عن الرضا «ع» في زيد)، الحديث 6.

(3)- بحار الأنوار 46/ 171، تاريخ علي بن الحسين «ع»، الباب 11 (باب أحوال أولاد علي بن الحسين

«ع» و أزواجه)، الحديث 20.

(4)- عيون أخبار الرضا 1/ 249، الباب 25، الحديث 2. بحار الأنوار 46/ 170، الباب 11، الحديث 19.

(5)- بحار الأنوار 46/ 170، الباب 11 (باب أحوال أولاد علي بن الحسين «ع» و أزواجه)، الحديث 18.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 1، ص: 210

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 210

هذا و قد عقد الصدوق في العيون بابا في شأن زيد بن علي، و ذكر فيه أخبارا.

منها: ما رواه بسنده عن ابن أبي عبدون، عن أبيه، قال: «لما حمل زيد بن موسى بن جعفر «ع» الى المأمون- و قد كان خرج بالبصرة و أحرق دور ولد العباس- وهب المأمون جرمه لأخيه علي بن موسى الرضا «ع» و قال له: يا أبا الحسن، لئن خرج أخوك و فعل ما فعل لقد خرج قبله زيد بن علي فقتل، و لو لا مكانك منّي لقتلته، فليس ما أتاه بصغير. فقال الرضا «ع»: يا أمير المؤمنين، لا تقس أخي زيدا الى زيد بن علي «ع» فانه كان من علماء آل محمد «ص» غضب للّه- عزّ و جلّ- فجاهد أعداءه حتى قتل في سبيله. و لقد حدثني أبي موسى بن جعفر «ع» انه سمع أباه جعفر بن محمد «ع» يقول: رحم اللّه عمّي زيدا انه دعا الى الرضا من آل محمد. و لو ظفر لو في بما دعا اليه. و لقد استشارني في خروجه فقلت له: يا عم، ان رضيت ان تكون المقتول المصلوب بالكناسة فشأنك. فلما ولّى

قال جعفر بن محمد «ع»: ويل لمن سمع واعيته فلم يجبه. فقال المأمون: يا أبا الحسن، أ ليس قد جاء فيمن ادعى الإمامة بغير حقها ما جاء؟ فقال الرضا «ع»: إن زيد بن علي «ع» لم يدّع ما ليس له بحقّ و إنه كان أتقى للّه من ذاك. إنه قال: أدعوكم إلى الرضا من آل محمد. و إنما جاء ما جاء فيمن يدّعي أن اللّه نصّ عليه ثمّ يدعو إلى غير دين اللّه و يضل عن سبيله بغير علم.

و كان زيد و اللّه ممن خوطب بهذه الآية: و جاهدوا في اللّه حق جهاده، هو اجتباكم.» «1»

و قد ذكر الرواية مقطعة في هذا الباب من الوسائل أيضا «2».

و تدلّ هذه الرواية أيضا على قداسة زيد و إمضاء خروجه، و أنه لم يدّع ما ليس له، و أن قيامه كان جهادا في سبيل اللّه و أن إجابته كانت واجبة لمن سمع واعيته، و أن الذي لا يجوز إجابته هو من ادّعى النص على نفسه كذبا فضلّ و أضلّ كالمدعين للمهدوية، و أن الاطّلاع على الشهادة إجمالا بطريق غيبي لا يصير مانعا عن العمل بالوظيفة.

و قال الصدوق في العيون بعد نقل هذه الرواية:

______________________________

(1)- عيون أخبار الرضا 1/ 248، الباب 25 (باب ما جاء عن الرضا «ع» في زيد)، الحديث 1.

(2)- الوسائل 11/ 38، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 11.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 211

«لزيد بن علي فضائل كثيرة عن غير الرضا «ع» أحببت إيراد بعضها على إثر هذا الحديث ليعلم من ينظر في كتابنا هذا اعتقاد الامامية فيه.»

ثم ذكر أخبارا كثيرة. فيظهر من الصدوق أنّ قداسة زيد كانت من

معتقدات الإمامية.

و في إرشاد المفيد:

«كان زيد بن علي بن الحسين عين إخوته بعد أبي جعفر «ع» و أفضلهم، و كان ورعا عابدا فقيها سخيا شجاعا، و ظهر بالسيف يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر و يطلب بثارات الحسين «ع».» «1»

و في تنقيح المقال عن التكملة:

«اتفق علماء الإسلام على جلالته و ثقته و ورعه و علمه و فضله.» «2»

و على هذا فلو فرض القول بان قيام الإمام الشهيد كان من خصائصه و لم يجز جعله أسوة في الخروج على أئمة الجور فقيام زيد لا يختص به قطعا، لعدم خصوصية فيه و عدم كونه إماما معصوما. هذا.

و لكن الفرض باطل قطعا، فإن الإمام أسوة كجده رسول اللّه «ص».

و قد قال «ع» في خطابه لأصحاب الحر: «فلكم فيّ أسوة.» «3»

و الامام المجتبى أيضا قام و جاهد الى أن خان أكثر جنده و غدروا و لم يتمكن من مواصلة الجهاد.

و سائر الأئمة «ع» أيضا لم تتحقق لهم شرائط القيام. و ستأتي رواية سدير و ان الإمام الصادق «ع» قال له: «لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود.» «4»

فهم- عليهم السلام- نور واحد و طريقهم واحد و انما تختلف الأوضاع

______________________________

(1)- الإرشاد/ 251 (طبعة أخرى/ 268).

(2)- تنقيح المقال 1/ 467.

(3)- تاريخ الطبري 7/ 300.

(4)- الكافي 2/ 242، كتاب الإيمان و الكفر، باب في قلة عدد المؤمنين، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 212

و الظروف، فلاحظ.

بل قد مرّ أن القيام للدفاع عن الإسلام و عن حقوق المسلمين في قبال هجوم الأعداء و تسلطهم على بلاد الإسلام و شئون المسلمين مما يحكم به ضرورة العقل و الشرع، و لا يشترط فيه إذن الإمام.

و

قوله- تعالى-: «وَ مٰا لَكُمْ لٰا تُقٰاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّٰهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجٰالِ وَ النِّسٰاءِ وَ الْوِلْدٰانِ» «1»

و قوله: «وَ لَوْ لٰا دَفْعُ اللّٰهِ النّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوٰامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَوٰاتٌ وَ مَسٰاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّٰهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ» «2» من محكمات القرآن الكريم.

نعم، يجب إعداد القوى و الأسباب للقيام، كما مرّ.

فانظر كيف غفل المسلمون و رؤساؤهم و أغفلوا، و هجمت إسرائيل على القدس الشريف و على أراضي المسلمين و نفوسهم و معابدهم و معاهدهم و نواميسهم و أموالهم، و هجم كفار الغرب و الشرق و عملاؤهم على كيان الإسلام و شئون المسلمين، و كل يوم تسمع أخبار المجازر و الغارات و الاعتقالات، و رجال الملك و وعّاظ السلاطين و علماء السوء ساكتون في قبال هذه المجازر و المظالم و تراهم يصرفون أوقاتهم و طاقاتهم في التعيش و الترف و في إثارة الفتن و الاختلافات الداخلية و هضم بعضهم لبعض. اللّهم فخلّص المسلمين من شرّ حكام الجور و علماء السوء، و أيقظهم من سباتهم و هجعتهم، و لا حول و لا قوة إلّا باللّه. هذا.

و بالجملة فان قيام زيد كان ثورة حقة أمضاها الأئمة- عليهم السلام- و إن لم يظفر في نهاية الأمر كما لم يظفر سيد الشهداء «ع» بعد تحوّل أوضاع الكوفة بمجي ء

______________________________

(1)- سورة النساء (4)، الآية 75.

(2)- سورة الحج (22)، الآية 40.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 213

عبيد اللّه بن زياد اليها.

فان قلت: روي عن زرارة، قال:

«قال لي زيد بن علي و أنا عند أبي عبد اللّه «ع» يا فتى، ما تقول في رجل من آل محمد «ص» استنصرك؟ قال:

قلت: ان كان مفروض الطاعة نصرته و ان كان غير مفروض الطاعة فلي ان افعل و لي ان لا افعل، فلما خرج قال ابو عبد اللّه «ع»:

أخذته و اللّه من بين يديه و من خلفه و ما تركت له مخرجا.» «1»

و نحو ذلك عن مؤمن الطاق أيضا في حديث مفصل «2».

قلت: ليس كلام أبي عبد اللّه «ع» نصّا في تخطئة قيام زيد، بل هو تحسين لزرارة و مؤمن الطاق في جوابهما. و واضح ان زيدا لم يكن اماما مفترض الطاعة.

هذا مضافا الى ان قوله: «فلي ان افعل ولي ان لا افعل» يدلّ على جواز قيامه مع غير مفترض الطاعة أيضا في الجملة. و الظاهر ان الامام «ع» قد أمضاه في ذلك. ثم لا يخفى ان كونهما من خواصّ الامام الصادق «ع» و مرابطيه، بحيث يعرفهما كل واحد بذلك، كان مقتضيا لعدم إجابتهما له، لما عرفت من أن المصلحة اقتضت عدم ظهور موافقة الإمام الصادق «ع» على قيام زيد و أمثاله ليبقى وجوده الشريف ركنا للحق و مجددا للشريعة بعد ما تطرقت اليها أيدي الكذبة و المحرفين، و حفظه «ع» في تلك الموقعية كان من أهم الفرائض.

نعم، هنا روايات دالّة على ذمّ زيد و تخطئته في قيامه، و لكن أسانيدها ضعيفة

______________________________

(1)- الاحتجاج/ 204، (طبعة أخرى 2/ 137).

(2)- الاحتجاج/ 204، (طبعة اخرى 2/ 141- 142). الكافي 1/ 174، كتاب الحجة، باب الاضطرار إلى الحجة، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 214

جدّا فلا تقاوم صحيحة العيص و الأخبار الكثيرة الواردة في مدحه و تأييد ثورته المتلقاة بالقبول من قبل أصحابنا- رضوان اللّه عليهم-. هذا.

و لنذكر واحدة من تلك الروايات نموذجا، و

لعلها أوضحها:

ففي الكافي: «محمد بن يحيى، عن احمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن الحسين بن الجارود، عن موسى بن بكر بن داب، عمّن حدّثه، عن أبي جعفر «ع» ان زيد بن علي بن الحسين «ع» دخل على أبي جعفر محمد بن علي و معه كتب من أهل الكوفة، يدعونه فيها الى أنفسهم و يخبرونه باجتماعهم و يأمرونه بالخروج.

فقال له أبو جعفر «ع»: هذه الكتب ابتداء منهم أو جواب ما كتبت به اليهم و دعوتهم اليه؟

فقال: بل ابتداء من القوم لمعرفتهم بحقّنا و بقرابتنا من رسول اللّه «ص» و لما يجدون في كتاب اللّه- عزّ و جلّ- من وجوب مودّتنا و فرض طاعتنا و لما نحن فيه من الضيق و الضنك و البلاء.

فقال له ابو جعفر «ع»: ان الطاعة مفروضة من اللّه- عزّ و جلّ- و سنّة أمضاها في الأولين، و كذلك يجريها في الآخرين، و الطاعة لواحد منا و المودّة للجميع، و أمر اللّه يجري لأوليائه بحكم موصول و قضاء مفصول و حتم مقضي و قدر مقدور و أجل مسمّى لوقت معلوم، فلا يستخفنك الذين لا يوقنون، انهم لن يغنوا عنك من اللّه شيئا، فلا تعجل فان اللّه لا يعجل لعجلة العباد، و لا تسبقن اللّه فتعجزك البلية فتصرعك.

قال: فغضب زيد عند ذلك ثم قال: ليس الإمام منّا من جلس في بيته و أرخى ستره و ثبّط عن الجهاد و لكن الإمام منّا من منع حوزته و جاهد في سبيل اللّه حق جهاده و دفع عن رعيّته و ذبّ عن حريمه.

قال أبو جعفر «ع»: هل تعرف يا أخي من نفسك شيئا مما نسبتها اليه فتجي ء عليه بشاهد من كتاب اللّه أو حجة من

رسول اللّه «ص» أو تضرب به مثلا، فان اللّه- عزّ و جلّ- أحل حلالا و حرّم حراما و فرض فرائض و ضرب أمثالا و سنّ سننا و لم يجعل الإمام القائم بأمره في شبهة فيما فرض له من الطاعة أن يسبقه بأمر قبل محله أو يجاهد فيه قبل حلوله، و قد قال اللّه- عزّ و جلّ- في الصيد:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 215

«لٰا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ» «1» أ فقتل الصيد أعظم أم قتل النفس التي حرّم اللّه؟ و جعل لكل شي ء محلا و قال اللّه- عزّ و جلّ-: «وَ إِذٰا حَلَلْتُمْ فَاصْطٰادُوا» «2»، و قال- عزّ و جلّ-: «لٰا تُحِلُّوا شَعٰائِرَ اللّٰهِ وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرٰامَ.» «3» فجعل الشهور عدة معلومة، فجعل منها أربعة حرما، و قال: «فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّٰهِ» «4» ثم قال- تبارك و تعالى-: «فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ» «5» فجعل لذلك محلا، و قال: «وَ لٰا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكٰاحِ حَتّٰى يَبْلُغَ الْكِتٰابُ أَجَلَهُ» «6» فجعل لكل شي ء أجلا و لكل أجل كتابا.

فان كنت على بينة من ربك و يقين من أمرك و تبيان من شأنك فشأنك، و الّا فلا ترومنّ أمرا أنت منه في شك و شبهة و لا تتعاط زوال ملك لم ينقض أكله و لم ينقطع مداه و لم يبلغ الكتاب أجله، فلو قد بلغ مداه و انقطع أكله و بلغ الكتاب أجله لا نقطع الفصل و تتابع النظام و لأعقب اللّه في التابع و المتبوع الذلّ و الصغار. أعوذ باللّه من إمام ضلّ عن وقته، فكان التابع فيه أعلم من

المتبوع.

أ تريد يا أخي أن تحيي ملة قوم قد كفروا بآيات اللّه و عصوا رسوله و اتبعوا أهواءهم بغير هدى من اللّه و ادعوا الخلافة بلا برهان من اللّه و لا عهد من رسوله؟! أعيذك باللّه يا أخي ان تكون غدا المصلوب بالكناسة.

ثم ارفضّت عيناه و سالت دموعه ثم قال: اللّه بيننا و بين من هتك سترنا و جحدنا حقنا و أفشى سرّنا و نسبنا الى غير جدنا و قال فينا ما لم نقله في أنفسنا.» «7»

أقول: قد نقلنا الرواية بطولها لكنك ترى انها مرسلة، مضافا الى ان الحسين بن الجارود و موسى بن بكر بن داب كليهما مجهولان لم يذكرا في كتب الرجال بمدح و لا قدح.

______________________________

(1)- سورة المائدة (5)، الآية 95.

(2)- سورة المائدة (5)، الآية 2.

(3)- سورة المائدة (5)، الآية 2.

(4)- سورة التوبة (9)، الآية 2.

(5)- سورة التوبة (9)، الآية 5.

(6)- سورة البقرة (2)، الآية 235.

(7)- الكافي 1/ 356، كتاب الحجة، باب ما يفصل به بين دعوى المحق و المبطل ...، الحديث 16.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 216

و قوله: «لواحد منّا» يعني من جاء بامامته النص. و قوله: «لا نقطع الفصل» أي بين دولتي الحق. و قوله: «في التابع و المتبوع» أي من أهل الباطل. و قوله: «ارفضّت عيناه» على وزن احمرّت، أي رشّت.

و قوله: «اللّه بيننا و بين من هتك سترنا» قال في الوافي:

«ليس هذا تعريضا لزيد حاشاه، بل لمن عاداه و عاداه و سيأتي أخبار في علوّ شأن زيد، و أنه و أصحابه يدخلون الجنة بغير حساب، و انه كان إنّما يطلب الأمر لرضا آل محمد و ما طلبه لنفسه، و انه كان يعرف حجة

زمانه و كان مصدقا به- صلوات اللّه عليه- فليس لأحد أن يسي ء الظن فيه- رضوان اللّه عليه-.» «1»

و قال المجلسي في مرآة العقول في ذيل الرواية ما حاصله:

«إن الأخبار اختلفت في حال زيد، فمنها ما يدلّ على ذمه، و أكثرها يدل على كونه مشكورا و انه لم يدّع الإمامة و انه كان قائلا بامامة الباقر و الصادق «ع» و انما خرج لطلب ثار الحسين «ع» و للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و كان يدعو الى الرضا من آل محمد «ص» و اليه ذهب أكثر أصحابنا، بل لم أر في كلامهم غيره. و قيل انّه كان مأذونا من قبل الإمام «ع» سرّا.» «2»

و نحن نقول اجمالا ان قولنا بقداسة زيد و حسن نيّته في قيامه ليس قولا بعصمته و عدم صدور اشتباه منه طيلة عمره و عدم احتياجه الى هداية الإمام و نصيحته له اصلا. و لعله في بادي الأمر اشتبه عليه الأمر و صار أسيرا للأحاسيس الآنية فنبّهه الإمام الباقر «ع» و حذّره من الاستعجال و الاغترار و الاعتماد على بعض من لا يعتمد عليه. و وفاة الإمام الباقر «ع» على ما في أصول الكافي «3» كانت في سنة 114 من الهجرة، و قيام زيد المؤيد عند الأئمة «ع» على ما ذكره أرباب السير كان في عصر الإمام الصادق «ع» في سنة 121، فلعل الظروف و الأجواء اختلفت في

______________________________

(1)- الوافي 1/ «م 2»/ 35.

(2)- مرآة العقول 4/ 18 (ط. القديم 1/ 261).

(3)- الكافي 1/ 469، كتاب الحجة، باب مولد أبي جعفر محمد بن علي «ع».

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 217

هذه المدة، و هو على ما في بعض

الأخبار كان مقرّا بإمامة الإمام الصادق «ع» و انه حجة زمانه، و قد مرّ منها خبر عمرو بن خالد المروي في الأمالي.

و عدم عجلة اللّه- تعالى- لعجلة العباد أمر صحيح لا مرية فيه، و لكنه لا يوجب رفع التكليف بالدفاع و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. و هل يمكن الالتزام بانحصار الجهاد و الأمر بالمعروف في من علم بالغيب انه يظفر على خصمه مأئة بالمائة فيجوز لغيره السكوت و السكون في قبال الجنايات و هتك المقدّسات؟!

ثم هل لا يكون مفاد هذا الكلام تخطئة لأمير المؤمنين «ع» في جهاده مع معاوية، و للسبط الشهيد في ثورته على يزيد؟! و هل لم يقع في صفين و كربلاء إراقة للدماء و قتل للنفوس؟!

و انت ترى ان الثورات التي وقعت في العالم ضدّ الملوك المقتدرين و الجبابرة الظالمين قد نجح كثير منها، و منها ثورتنا في ايران، مع انه لم يحصل اليقين بالظفر قبلها.

فهل تكون جميع هذه الثورات الناجحة في قبال الكفار و الظلمة مرفوضة و محكوم عليها بالخطإ و الضلال؟

و هل يكون للكفار و الصهاينة التغلّب على المسلمين و الإغارة عليهم و سفك دمائهم و تخريب بلادهم، و ليس للمسلمين الّا السكوت و التسليم في قبال جميع ذلك؟! لا أدري أيّ فكرة هذه الفكرة؟! و سيجي ء في جواب بعض الأخبار الآتية ما ينفعك في المقام، فانتظر.

و كيف كان فصحيحة العيص في الباب تدل على قداسة زيد و تأييد ثورته و يؤيدها أخبار كثيرة، فلا يعارضها بعض الأخبار الضعاف التي يخالف مضمونها لحكم العقل و محكمات الكتاب و السنة، فيجب أن يردّ علمها الى أهله.

هذا كلّه فيما يرتبط بزيد في ثورته. و تشبه قصته قصة الحسين بن علي

شهيد فخ في ثورته، و قد استفاضت الأخبار في مدحه و تأييده، و الظاهر كما قيل عدم ورود خبر

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 218

في قدحه، فراجع مظانه. و يأتي ذكر منه في الفصل السادس من الباب الخامس في مسألة الكفاح المسلّح ضدّ حكام الجور.

[شرح بقيّة صحيحة العيص]

فلنرجع الى شرح بقيّة صحيحة العيص، أعني الرواية الأولى من أخبار الباب، فنقول:

يظهر من الصحيحة إجمالا أنه كانت توجد في عصر الإمام الصادق «ع» بعض الثورات من قبل السادة من أهل البيت غير مؤيدة من قبله «ع» مع اشتمالها على الدعوة الباطلة و العصيان للإمام الحقّ. و لا يهمّنا تشخيصها و معرفتها بأعيانها و ان كان من المحتمل إرادة قيام محمد بن عبد اللّه المحض باسم المهدوية. اذ المستفاد من الأخبار و التواريخ أنه قام باسم المهدوية و أن أباه و أخاه و أصحابه كانوا يعرّفونه بذلك.

ففي الإرشاد عن كتاب مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الاصفهاني ما حاصله:

«ان كثيرا من الهاشميين و فيهم عبد اللّه و ابناه: محمد و ابراهيم، و منصور الدوانيقي اجتمعوا في الأبواء فقال عبد اللّه: قد علمتم ان ابني هذا هو المهدي فهلم فلنبايعه فبايعوه جميعا على ذلك فجاء عيسى بن عبد اللّه فقال: لأيّ شي ء اجتمعتم؟ فقال عبد اللّه: اجتمعنا لنبايع المهدي محمد بن عبد اللّه و جاء جعفر بن محمد «ع» فأوسع له عبد اللّه الى جنبه فتكلم بمثل كلامه فقال جعفر «ع»: لا تفعلوا فان هذا الأمر لم يأت بعد. ان كنت ترى ان اينك هذا هو المهدي فليس به و لا هذا أوانه. و ان كنت انما تريد أن تخرجه غضبا للّه و ليأمر بالمعروف و ينهى

عن المنكر فانا و اللّه لا ندعك و أنت شيخنا و نبايع ابنك في هذا الأمر. فغضب عبد اللّه و قال: لقد علمت خلاف ما تقول و و اللّه ما أطلعك اللّه على غيبه و لكنه يحملك على هذا الحسد لابني ...» «1»

و رواه في البحار أيضا عن إعلام الورى و الارشاد. «2»

______________________________

(1)- الإرشاد/ 259 (طبعة أخرى/ 276)، باب ذكر طرف من أخبار أبي عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق «ع».

(2)- بحار الأنوار 47/ 277، تاريخ الإمام الصادق «ع»، الباب 31 (باب أحوال أقربائه و ...)، الحديث 18.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 219

و يظهر من نفس هذا الخبر أيضا أن القيام غضبا للّه و للأمر بالمعروف و النهي عن المنكر مما لا بأس به.

و في البحار عن إعلام الورى أيضا:

«ان محمد بن عبد اللّه بن الحسن قال لأبي عبد اللّه «ع»: و اللّه انّي لأعلم منك و أسخى منك و أشجع منك.» «1»

و في صحيحة عبد الكريم بن عتبة الهاشمي

أن جماعة من المعتزلة، فيهم عمرو بن عبيد و واصل بن عطا و حفص بن سالم و ناس من رؤسائهم، دخلوا على أبي عبد اللّه «ع» و ذكروا انهم أرادوا أن يبايعوا لمحمد بن عبد اللّه بالخلافة و عرضوا عليه أن يدخل معهم في ذلك، فذكر- عليه السلام ..

كلاما طويلا و في آخره روى عن أبيه أن رسول اللّه «ص» قال: «من ضرب الناس بسيفه و دعاهم الى نفسه و في المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلف.» «2»

فيظهر من ذلك ان محمد بن عبد اللّه كان يدعو الى نفسه مع وجود من هو أعلم منه.

و بالجملة حيث

انه روي من طرق الفريقين عن النبي «ص»: ان المهدي يظهر و «يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت ظلما و جورا» «3»، فقد صار هذا سببا لاشتباه الأمر على كثيرين و ادعاء كثير من الهاشميين المهدوية. و لعل الخبر المرويّ عن النبي «ص» ان المهدي «اسمه اسمي و اسم أبيه اسم أبي» «4» كان من مجعولات بعض أتباع محمد بن عبد اللّه بن الحسن. هذا.

و لكن ابن طاوس في الإقبال على ما في البحار التزم جانب الدفاع عن

______________________________

(1)- بحار الأنوار 47/ 275، تاريخ الإمام الصادق «ع»، الباب 31 (باب أحوال أقربائه و ...)، الحديث 15.

(2)- الوسائل 11/ 29، الباب 9 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.

(3)- راجع بحار الأنوار ج 51، تاريخ الإمام الثاني عشر، باب ما ورد من الإخبار بالقائم «ع» و ...، و التاج الجامع للأصول 5/ 341- 344، الباب 7 من كتاب الفتن.

(4)- التاج الجامع للأصول 5/ 343.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 220

عبد اللّه و ابنيه «1». و المسألة محتاجة الى تتبع و بحث وسيع، فراجع البحار و غيره.

و يظهر من الأخبار أن الأئمة- عليهم السلام- مع عدم إمضائهم لبعض ثورات السادات كانوا يتأثرون جدّا لما كان يقع على الثوّار من السجن و القتل و الغارات، و كانوا يبكون عليهم بما أنهم أهل بيت النبي و سلبوا بعض حقوقهم و لم تلحظ الأمّة شرفهم و كرامتهم.

و الحاصل ان المستفاد من صحيحة عيص ان الثورات الواقعة على قسمين.

فالدعوة الى النفس كانت باطلة، و الدعوة لنقض السلطة الجائرة و ارجاع الحق الى أهله كانت حقّة. و الواجب على المدعوّين تحكيم العقل و الدقة و اتباع الحق.

و

أما آخر الصحيحة فالظاهر كونه إخبار غيبيا بزمان ظهور القائم «ع» و قيامه و انه في رجب أو شعبان أو بعد رمضان. فإن كان ظهوره في رجب أو شعبان فالإقبال بعد رمضان للّحوق به بعد قيامه، و ان كان ظهوره بعد رمضان فالإقبال قبله للتهيؤ.

و يحتمل- كما في مرآة العقول «2»- ان يريد الامام الصادق «ع» الإقبال الى نفسه قبل أيام الحج مقدمة للاستفادة من علومه و فضائله، فان من حكم الحج لقاء الإمام و الاستضاءة بأنواره، كما في بعض الروايات. هذا.

و قد روى الصدوق بعض صحيحة عيص في العلل بنحو النقل بالمعنى «3» و ستأتي الإشارة اليه.

هذا كلّه فيما يرتبط بصحيحة عيص بن القاسم الرواية الأولى من أخبار الباب و قد طال الكلام فيها، و انما تابعنا الكلام فيها، لان مسألة قيام زيد لها ارتباط مباشر بمسألتنا المبحوث عنها، أعني جواز القيام للدفاع عن الحق في قبال سلاطين الجور أو

______________________________

(1)- بحار الأنوار 47/ 301، تاريخ الإمام الصادق «ع»، الباب 31.

(2)- مرآة العقول 4/ 365 (من ط القديم).

(3)- الوسائل 11/ 38، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 10، عن العلل/ 192 (طبعة أخرى/ 577) الجزء 2، الباب 385 (باب نوادر العلل)، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 221

وجوب السكوت و السكون. و قد ظهر لك ان الصحيحة ليست من أدلة وجوب السكون، بل من ادلة عدم جواز الخروج تحت راية من كانت دعوته باطلة، فلاحظ.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 222

الرواية الثانية من أخبار الباب خبر حماد بن عيسى

عن ربعي رفعه عن علي بن الحسين «ع» قال: «و اللّه لا يخرج أحد منّا قبل خروج القائم الّا كان مثله

كمثل فرخ طار من وكره قبل ان يستوي جناحاه فاخذه الصبيان فعبثوا به.» «1»

و الرواية كما ترى مرفوعة لا اعتبار بها من حيث السند، اللهم الّا ان يقال ان السند الى حماد صحيح، و حماد من أصحاب الاجماع.

و ربما يتبادر الى الذهن في هذا السنخ من الأخبار كونها من مختلقات عمّال الأمويين و العباسيين لصرف السادة العلويين عن فكرة القيام في قبال مظالمهم. هذا.

مضافا الى ان الظاهر من الخبر انه ليس في مقام بيان الحكم الشرعي، و ان القيام في قبال الباطل جائر أم لا، بل هو إخبار غيبي منه «ع». و مفاده ان الخارج منّا أهل البيت قبل قيام القائم لا يظفر في النهاية و ان ترتب على قيامه آثار مهمّة.

كيف! و لو كان غرضه «ع» التخطئة للخروج قبل قيام القائم «ع» لكان تخطئة لقيام أبيه الحسين «ع» أيضا.

و لا ينتقض إخباره الغيبي هذا بخروج بعض العلويين في اليمن أو بعض بلاد إيران، أو خروج الفاطميين في افريقيا و ظفرهم و حكومتهم، اذ مضافا الى عدم شمول ملكهم لجميع البلاد الإسلامية ربما يشكك في نسب خصوص الخلفاء الفاطميين، فحكى السيوطي في أول كتابه: تاريخ الخلفاء عن ابن خلّكان أن أكثر اهل العلم لا يصحّحون نسب المهدي عبيد اللّه، جدّ خلفاء مصر «2». و عن الذهبي

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 36، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.

(2)- تاريخ الخلفاء/ 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 223

«ان المحققين متفقون على ان عبيد اللّه المهدي ليس بعلويّ.» «1» هذا، و لكن من المحتمل جدّا دخالة بعض التعصبات و السياسات الباطلة في هذه الكلمات، حيث انهم كانوا معارضين للعباسيين فاهتمّ العباسيون و

عملاؤهم على القدح فيهم بما اختلفوا عليهم من التهم، فراجع التواريخ.

و يمكن ان يكون مراد الإمام بقوله: «منّا» في المرفوعة- على فرض صدورها عنه- خصوص الأئمة الاثنى عشر لا جميع العلويين، حيث ان شيعتهم «ع» كانوا يتوقعون منهم الخروج و القيام، و كانوا يصرّون على ذلك، فأراد الإمام «ع» إقناعهم ببيان أمر غيبي، و هو ان الخارج منّا قبل القائم «ع» لا يوفّق و لا يظفر، لعدم العدّة و العدّة و الأسباب اللازمة.

و على أي حال فالخبر- على فرض صدوره- مربوط بخروج الأئمة «ع» أو خروج أهل البيت و انهم لا يظفرون ظفرا نهائيا، فلا يجوز ان يستدل به على السكوت منّا و عدم الدفاع عن الإسلام و المسلمين في قبال هجمة الكفار و عمّالهم اذا تحققت الشرائط و ظنّ النجاح. و أدلّ الأشياء على إمكان الشي ء وقوعه، و قد نجحت الثورة الإسلامية في إيران- بحمد اللّه و منّته- بقيادة أحد من سلالة أهل البيت المضطلع في العلوم الإسلامية.

و نظير هذا الخبر، الخبر المرويّ عن الامام الصادق «ع» في مقدمة الصحيفة السجادية.

و الراوي له على ما في الصحيفة المطبوعة: «عمير بن متوكل، عن أبيه متوكل بن هارون»، و لكن في فهرست الشيخ نسبه الى متوكل بن عمر بن متوكل «2». و لم يذكر الرجل في الرجال بمدح و لا قدح، اللهم إلّا أن يقال إن تلقي الأصحاب كتاب الصحيفة منه دليل على توثيقه عملا، فتأمّل.

و يوجد في السند أيضا ابو المفضل محمد بن عبد اللّه بن المطلب الشيباني.

______________________________

(1)- تاريخ الخلفاء/ 3.

(2)- الفهرست للشيخ/ 170 (ط. أخرى/ 199).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 224

و الرجل مختلف فيه، و عن النجاشي:

«رأيت جلّ

أصحابنا يغمزونه و يضعّفونه»، ثم نسب اليه كتبا منها كتاب فضائل عباس بن عبد المطلب «1».

و نفس هذا يكفي في قدح روايته الموافقة لمصالح بني العباس و سياستهم.

و عن ابن الغضائري:

«محمد بن عبد اللّه بن المطلب الشيباني أبو المفضّل وضّاع كثير المناكير.» «2»

و بالجملة فسند الحديث ليس صافيا. هذا.

و ملخّص ما في مقدمة الصحيفة:

«ان المتوكل بن هارون قال: لقيت يحيى بن زيد بن علي و هو متوجه الى خراسان بعد قتل أبيه، فقال لي: من أين أقبلت؟ قلت: من الحج، فسألني عن أهله و بني عمّه، و أحفى السؤال عن جعفر بن محمد «ع» و قال: هل سمعته يذكر شيئا من أمري؟ فقلت: سمعته يقول: إنك تقتل و تصلب كما قتل أبوك و صلب ... فقلت:

انّي رأيت الناس الى ابن عمّك جعفر أميل منهم إليك و الى أبيك. فقال: ان عمي و ابنه جعفرا دعوا الناس الى الحياة و نحن دعوناهم الى الموت. فقلت: يا بن رسول اللّه أ هم أعلم أم أنتم؟ قال: كلّنا له علم غير انهم يعلمون كلّ ما نعلم و لا نعلم كلّ ما يعلمون ...

قال المتوكل: فقبضت الصحيفة فلما قتل يحيى صرت الى المدينة فلقيت أبا عبد اللّه «ع» فحدثته الحديث عن يحيى فبكى ...

قال لي أبو عبد اللّه «ع»: يا متوكل كيف قال لك يحيى: ان عمّي محمد بن علي و ابنه جعفرا دعوا الناس الى الحياة و دعوناهم الى الموت؟ قلت: نعم قد قال لي ذلك.

فقال: يرحم اللّه يحيى، ان أبي حدثني عن أبيه، عن جدّه، عن علي «ع» ان رسول اللّه «ص» أخذته نعسة و هو على منبره فرأى في منامه رجالا ينزون على منبره نزو

______________________________

(1)-

رجال النجاشي/ 281، (طبعة أخرى/ 396).

(2)- تنقيح المقال 3/ 146.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 225

القردة، يردّون الناس على أعقابهم القهقرى ... فأتاه جبرئيل بهذه الآية: «وَ مٰا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنٰاكَ إِلّٰا فِتْنَةً لِلنّٰاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَ نُخَوِّفُهُمْ فَمٰا يَزِيدُهُمْ إِلّٰا طُغْيٰاناً كَبِيراً.» «1» يعني بني أمية ... قال: و أنزل اللّه- تعالى- في ذلك: «إِنّٰا أَنْزَلْنٰاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَ مٰا أَدْرٰاكَ مٰا لَيْلَةُ الْقَدْرِ، لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ» «2» تملكها بنو أمية ليس فيها ليلة القدر.

قال: فاطلع اللّه- عزّ و جلّ- نبيّه ان بني اميّة تملك سلطان هذه الأمة، و ملكها طول هذه المدة فلو طاولتهم الجبال لطالوا عليها حتى يأذن اللّه- تعالى- بزوال ملكهم ... فأسرّ رسول اللّه «ص» ذلك الى عليّ و أهل بيته. قال: ثم قال أبو عبد اللّه «ع»: ما خرج و لا يخرج منّا أهل البيت الى قيام قائمنا أحد ليدفع ظلما أو ينعش حقا إلّا اصطلمته البلية و كان قيامه زيادة في مكروهنا و شيعتنا.»

اقول: مضافا الى ما مرّ من الخدشة في سند الخبر، و الى احتمال كون هذا السنخ من الأخبار من مختلقات أيادي خلفاء الوقت لصرف العلويين عن الخروج عليهم و إيجاد روح اليأس فيهم و صرف الناس عن التوجّه اليهم و الدخول تحت رأيتهم: ان مفاد الخبر كما ترى هو ان رسول اللّه «ص» أسرّ بملك بني أمية و طوله مدّة ألف شهر الى عليّ و أهل بيته و منهم الحسين الشهيد قطعا. و الإمام الصادق «ع» قال:

«ما خرج و لا يخرج منا أهل البيت ...»، فكلامه يشمل خروج الحسين «ع» أيضا،

فلو كان بصدد التخطئة للخروج لكان مفاد الحديث تخطئة خروج الحسين «ع» أيضا.

فيعلم بذلك ان المراد بالخبر- على فرض صدوره- ليس هو بيان الحكم الشرعي و ان الخروج جائز أو غير جائز، بل بيان أمر غيبي تلقاه الإمام «ع» من أجداده، و ان الخارج منّا لا ينجح مأئة بالمائة بحيث لا تعرض له البلية. و المصائب مكروهة للطبع قهرا. و ليس كل مكروه للطبع مكروها أو حراما في الشرع، بل

______________________________

(1)- سورة الإسراء (17)، الآية 60.

(2)- سورة القدر (97)، الآية 1- 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 226

عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم و تترتب عليه بركات من جهات اخر. فلا يدلّ ذيل الحديث أيضا على تخطئة الخروج و القيام.

و قد مرّ أن إخبار رسول اللّه «ص» بشهادة الحسين «ع» أو شهادة زيد بالأخرة لم يمنعهما عن الخروج، بعد اقتضاء التكليف للدفاع عن الحق و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و إتمام الحجة على كثير ممن اشتبه عليه الحق، مع تحقق الشرائط من دعوة رؤساء الكوفة و قواتها المسلّحة و اخبار رائد الإمام مسلم بن عقيل بصدق الداعين و بيعتهم.

كيف! و لو لم يكن للخروج أيّة فائدة إلّا ظهور خباثة بني أمية و بروز باطنهم و امتياز صف الباطل عن صفّ الحق و إتمام الحجة على الناس لئلا يكون لهم على اللّه و على إمام العصر حجّة- مضافا الى تضعيف دولة الباطل و كسر سورتهم- لصار هذا الخروج جائزا بل واجبا.

و في نهج البلاغة: «فالموت في حياتكم مقهورين، و الحياة في موتكم قاهرين.» «1»

و فيه أيضا: «و سأجهد في أن أطهر الأرض من هذا الشخص المعكوس و

الجسم المركوس حتى تخرج المدرة من بين حبّ الحصيد.» «2»

و مراده «ع» معاوية، و هو من بني أمية و من أصولها، و قد قاتله «ع» مع أنه «ع» أيضا ممن أسرّ اليه النبي «ص» على ما في الخبر بملك بني أمية.

فلعل مراده «ع» في المقام هو العمل بوظيفة الجهاد ليتميز الخبيث من الطيب و ان لم يظفر في جهاده بالأخرة.

و مفاد الآية الشريفة المذكورة في الخبر ان خلق الناس انما هو للفتنة و البلاء.

و سلطة الجائرين كبني أمية أيضا نحو فتنة و امتحان، ليميز اللّه الخبيث من الطيب خارجا. و في ايام الامتحان أيضا لا ينقطع لطف اللّه و تخويفه أيضا. فلعل خروج

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 138؛ عبده 1/ 96؛ لح/ 88، الخطبة 51.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 971؛ عبده 3/ 82؛ لح/ 418، الكتاب 45.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 227

الإمام الشهيد و نحوه أيضا كان من مصاديق التخويف المذكور في الآية و لكنه مما زاد في طغيانهم.

ثم على فرض كون الخبر في مقام بيان الوظيفة و الحكم الشرعي فهو كما ترى مرتبط بأهل البيت، فلا يجوز التمسك به للسكوت منّا في هذه الأعصار في قبال هجوم الكفار و الصهاينة على بلاد المسلمين و جميع شئونهم.

ثم ان في الخبر اشكالا آخر، و هو ان ألف شهر يساوي ثلاثا و ثمانين سنة و أربعة أشهر. و خلافة عثمان أول خلفاء بني أميّة كانت من السنة الثالثة و العشرين من الهجرة. و البيعة للسفّاح أول خلفاء بني العباس كانت في السنة الاثنتين و ثلاثين و مأئة، فكانت مدّة ملك بني أميّة تسعا و مأئة. و لو اضيف الى ذلك مدّة خلافة

بني أمية في الأندلس صارت قرونا. فكيف جعلها في الرواية الف شهر؟

اللهم الّا ان لا تحسب مدّة خلافة عثمان، و لا خلفاء الأندلس، فيجعل المبدأ السنة الأربعين بعد شهادة أمير المؤمنين «ع» أو صلح الحسن المجتبى «ع» و يحذف أيضا تسع أو ثمان سنوات من الآخر لضعف حكومتهم و مزاحمة ابراهيم العباسي و اخيه السفّاح و المسوّدة في خراسان لهم، فتدبر.

و يمكن ان يقال: ان المراد بألف شهر ليس مفاده المطابقي بل هو كناية عن أصل الكثرة أو القلّة، و هذا شائع في الاستعمالات.

و الظاهر من الرواية- على فرض صدورها- ان نزول سورة القدر كان لتسلية النبي «ص» في قبال ملك بني أمية، و لعلها من جهة بيان ان الملك الظاهري و ان انتقل الى بني امية، و لكن الأئمة من عترة النبي «ص» يكونون مهابط الملائكة و الروح، و عليهم تتنزّل الأمور و المقدرات بنزولهم اليهم، و ليلة القدر ليلة سلام عليهم، يسلّم عليهم الملائكة النازلون، كما ورد بذلك بعض الروايات، فلهم الملك بحسب الباطن و المعنى، لكونهم وسائط الفيض و المقدّرات. هذا.

و نظير المرفوعة و خبر الصحيفة أيضا رواية أبي الجارود، قال: «سمعت

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 228

أبا جعفر «ع» يقول: ليس منّا أهل البيت أحد يدفع ضيما و لا يدعو الى حق إلّا صرعته البلية، حتّى تقوم عصابة شهدت بدرا لا يوارى قتيلها و لا يداوى جريحها. قلت: من عنى أبو جعفر «ع»؟ قال: الملائكة.» «1»

و نحوها روايته الأخرى «2». و لعلهما رواية واحدة و هذه قطعة من تلك، فراجع.

و الجواب عنها يظهر مما مرّ.

و نعيد الكلام فنقول في الجواب عن هذه الأخبار و نظائرها-

مضافا الى ضعف سندها المانع من نهوضها في مقابل الأدلّة القطعية الحاكمة بالجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر و إقامة أحكام الإسلام و الدفاع عن حوزة المسلمين و شئونهم- ان الظاهر كون بعضها من مختلقات أو تحريفات أيادي حكّام الجور و مرتزقتهم، حيث واجهوا قيام بعض العلويين و اتجاه الناس اليهم فأرادوا بهذه الوسيلة قطع رجائهم و إبعادهم عن ميدان السياسة- فالسياسة ما السياسة؟

و ما ادراك ما السياسة؟!

و بعضها خاص بأصحاب الرايات الضالة الذين كانوا يدعون الناس الى انفسهم.

و بعضها ناظر الى شخص معين أو ظرف معين حيث لا توجد مقدّمات القيام و شروطه.

و بعضها صادر عن تقية من حكام الجور.

و بعضها ليس في مقام بيان الحكم الشرعي، بل متضمن لإخبار غيبي فقط.

الى غير ذلك من الوجوه التي مرّت أو تأتي في الروايات الآتية، فانتظر.

______________________________

(1)- مستدرك الوسائل 2/ 248، الباب 12 من أبواب جهاد العدو، الحديث 6.

(2)- مستدرك الوسائل 2/ 248، الباب 12 من أبواب جهاد العدو، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 229

الثالثة من أخبار الباب خبر سدير،

قال: قال أبو عبد اللّه «ع»: «يا سدير الزم بيتك و كن حلسا من أحلاسه و اسكن ما سكن الليل و النهار، فاذا بلغك ان السفياني قد خرج فارحل إلينا و لو على رجلك.» «1»

بتقريب ان سديرا لا خصوصية له، فيجب السكوت و ترك الخروج الى قيام القائم- عليه السلام-.

أقول: الغاء الخصوصية يتوقف على العلم بعدم دخالة خصوصية الشخص و المورد، و هو ممنوع في مثل سدير بعد تتبع حاله، اذ بالتتبع يظهر انه بنفسه لم يكن ممن يتمكن من القيام و إقامة الحكومة الإسلامية، بل كان رجلا عاديا مخلصا للإمام الصادق- عليه

السلام-، و لكنه كان ممن يغلب إحساسه على تدبيره و فكره، و كان يظن قدرة الإمام على الخروج و تحقق الشرائط لتصديه الخلافة، فكان ينتظر خروج الإمام و يصرّ عليه حتى يكون هو أيضا تحت رايته، فأراد الامام «ع» بيان انه- عليه السلام- ليس ممن يوفّق فعلا لتصدي الخلافة الظاهرية الفعلية و ان العلامة للقائم بالحق خروج السفياني.

و الواجب على مثل هذا الشخص المشتبه عليه الأمر، و الواقع تحت تأثير الإحساس الخاطئ ليس إلّا لزوم بيته، لئلا يهلك نفسه و غيره بلا فائدة.

و الشاهد على ما ذكرنا من حال سدير أمور:

الأول: ما في تنقيح المقال انه: «ذكر عند أبي عبد اللّه «ع» سدير، فقال: سدير

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 36، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 230

عصيدة بكل لون.» «1»

و المراد منه على الظاهر انه معقود بكل لون، و انه رجل احساسي مزاجي غير مستقيم بحسب الفكر و الدقة، لا انه ملتزم بالتقية الواجبة و يتلون عند كل فرقة بلون يحفظ به نفسه، كما في تنقيح المقال. اذ لو كان كذلك لم يكن يقع في سجن المخالفين، و قد ورد فيه ان أبا عبد اللّه «ع» قال لزيد الشحام: «يا شحّام، انّي طلبت الى إلهي في سدير و عبد السلام بن عبد الرحمن- و كانا في السجن- فوهبهما لي و خلّى سبيلهما.» «2»

و الشاهد الثاني: ما في الكافي عن سدير الصيرفي، قال: «دخلت على أبي عبد اللّه «ع» فقلت له: و اللّه ما يسعك القعود. فقال: و لم يا سدير؟ قلت: لكثرة مواليك و شيعتك و أنصارك. و اللّه لو كان لأمير المؤمنين «ع»

مالك من الشيعة و الأنصار و الموالي ما طمع فيه تيم و لا عديّ. فقال: يا سدير، و كم عسى ان تكونوا؟ قلت:

مأئة ألف، قال: مأئة ألف؟ قلت: نعم، و مأتي ألف. قال: مأتي الف؟ قلت: نعم و نصف الدنيا.

قال: فسكت عني، ثم قال: يخفّ عليك ان تبلغ معنا الى ينبع؟ قلت: نعم. فأمر بحمار و بغل ان يسرجا، فبادرت فركبت الحمار، فقال: يا سدير، ترى ان تؤثرني بالحمار؟

قلت: البغل أزين و أنبل، قال: الحمار أرفق بي. فنزلت فركب الحمار و ركبت البغل فمضينا فحانت الصلاة، فقال: يا سدير، انزل بنا نصلي، ثم قال: هذه أرض سبخة لا يجوز الصلاة فيها، فسرنا حتى صرنا الى أرض حمراء، و نظر الى غلام يرعى جداء فقال:

و اللّه يا سدير، لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود. و نزلنا و صلّينا، فلما فرغنا من الصلاة عطفت على الجداء فعددتها، فاذا هي سبعة عشر.» «3»

و قد ذكرنا الخبر بطوله، اذ يظهر منه وضع الإمام «ع» و ظروفه و حدود ادراك سدير و مدى تشخيصه لذلك، و ليس مراد الإمام مطلق من يسمى بالشيعة، بل

______________________________

(1)- تنقيح المقال 2/ 8.

(2)- تنقيح المقال 2/ 8.

(3)- الكافي 2/ 242، كتاب الإيمان و الكفر باب في قلة عدد المؤمنين، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 231

مراده الشيعة بمعناها الواقعي، أعني الثابت المواتي في جميع المراحل، و هم قليلون جدّا و لا سيّما في تلك الأعصار.

و الشاهد الثالث: خبر معلى بن خنيس الآتي، قال: «ذهبت بكتاب عبد السلام بن نعيم و سدير و كتب غير واحد الى أبي عبد اللّه «ع»، حين ظهر المسوّدة قبل

ان يظهر ولد العباس، بانا قد قدّرنا أن يؤول هذا الأمر إليك، فما ترى؟ قال:

فضرب بالكتب الأرض، ثم قال: أف، أف، ما أنا لهؤلاء بإمام. أما يعلمون انه انما يقتل السفياني؟» «1»

و الظاهر ان المراد بعبد السلام بن نعيم هو عبد السلام بن عبد الرحمن بن نعيم، الذي مرّ كونه مسجونا مع سدير، فنسب الى جدّه.

و المراد بالمسوّدة أتباع أبي مسلم الخراساني، لسواد ألبستهم و ألويتهم.

فأنت ترى ان سديرا و رفقاءه لعدم إحاطتهم بظروف الإمام و مقدار قدرته و مقاصد المسوّدة في قيامهم توهموا تحقق الشرائط لرجوع الخلافة الفعلية الى الامام.

فأبو مسلم و إن كان يدعو الناس الى رجل من بني هاشم و أقام على ذلك سنين و تبعه كثيرون، و لكنهم اختاروا هذا الشعار لجاذبيته في قبال بني أمية القاتلين لأهل بيت النبي «ص» و لا سيما سيد الشهداء، و لم يكن غرضه واقعا إرجاع الحق الى أهله حتى يسلّموا الأمر الى الإمام الصادق «ع»، بل هو كان مبعوثا من قبل ابراهيم بن محمد العبّاسي ليقوم بأمر خراسان. و بعد قتل ابراهيم صار يدعو الناس الى اخيه عبد اللّه السفاح. و بجنوده تغلّب السفّاح على مروان الحمار و هزمه، و لكن اشتبه امرهم على مثل سدير و رفقائه.

و قوله «ع»: «ما أنا لهؤلاء بإمام»، يحتمل أن يكون إشارة الى المسودّة، اي انهم لا يرونني إماما لهم. و يحتمل ان يكون اشارة الى سدير و رفقائه، فيريد اني لست لهم بإمام، لعدم إطاعتهم لي، أو لست إمامهم الذي يتصدى للخلافة الفعلية.

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 37، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 8.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 232

و يقرب من

هذا الخبر ما في تنقيح المقال عن الكشي بسنده عن عبد الحميد بن أبي الديلم، قال: «كنت عند أبي عبد اللّه، فاتاه كتاب عبد السلام بن عبد الرحمن بن نعيم، و كتاب الفيض بن المختار، و سليمان بن خالد، يخبرونه ان الكوفة شاغرة برجلها، و انه إن أمرهم أن يأخذوها أخذوها. فلما قرأ كتابهم رمى به، ثم قال: «ما أنا لهؤلاء بإمام. أما يعلمون ان صاحبهم السفياني؟» «1»

و لعل المراد ان صاحبهم القائم «ع»، المصاحب للسفياني بحسب الزمان.

و كيف كان فبعد ما عرفت من حال سدير و خصوصياته لا يجوز الغاء الخصوصية في الخطاب الموجّه اليه بلزوم بيته، لاحتمال الخصوصية.

و هل يجوز رفع اليد بسبب هذا الخبر و نظائره عن جميع الآيات و الروايات و حكم العقل، الحاكمة بوجوب الدفاع عن الإسلام و شئون المسلمين في قبال هجوم الكفار و الجائرين، و ان أمكن تحصيل القوة و القدرة لدفعهم، و فرض طول الغيبة آلاف سنة؟! و قد عرفت عدم اشتراط الجهاد الدفاعي بإذن الإمام قطعا.

و قد ظهر بما ذكرنا حال خبر معلى بن خنيس أيضا.

______________________________

(1)- تنقيح المقال 2/ 152، و رجال الكشي/ 353.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 233

الرابعة من اخبار الباب خبر ابي المرهف،

عن أبي جعفر «ع» قال: «الغبرة على من أثارها. هلك المحاضير.

قلت: جعلت فداك، و ما المحاضير؟ قال المستعجلون. أما انهم لن يريدوا إلّا من يعرض لهم.

ثم قال: يا أبا المرهف، أما انهم لم يريدوكم بمجحفة إلّا عرض اللّه- عزّ و جلّ- لهم بشاغل. ثم نكت ابو جعفر «ع» في الأرض ثم قال: يا أبا المرهف! قلت: لبيك! قال: أ ترى قوما حبسوا أنفسهم على اللّه- عزّ ذكره- لا يجعل اللّه لهم

فرجا؟ بلى، و اللّه ليجعلن اللّه لهم فرجا.» «1»

و ابو المرهف عدّه الشيخ في الكنى باب أصحاب الباقر «ع» من رجاله «2»، و في تنقيح المقال: «لم أعرف اسمه و لا حاله» «3».

و الغبرة بالضم و بفتحتين: الغبار. و المحضار و المحضير من الخيل و نحوها بكسر الميم فيهما: الشديد الركض. و المجحفة بضم الميم و تقديم الجيم: الداهية.

و يظهر من الخبر وقوع خروج ما لبعض على الحكومة، و تعقيب الحكومة للخارجين، و خوف أبي المرهف من سراية التعقيب له، فأراد الإمام «ع» تقوية خاطره و رفع خوفه ببيان ان ضرر الغبار يعود الى من أثاره، فلا ينال أبا المرهف شي ء.

ثم أخبر «ع» بهلاك المستعجل، أي من وقع تحت تأثير الأحاسيس الآنية و أقدم على القيام قبل تهية المقدمات و إعداد القوة.

و لم يكن بناء أئمتنا على المنع عن الجهاد و الدفاع، بل كانوا ينهون عن التعجيل و التهوّر المضرّ بنفس الخارج و بالأئمة «ع»، حتى ان أخبار التقية أيضا ليست بصدد المنع عن الجهاد، بل بصدد الدقة في حفظ النفس مع الإمكان، مع الاشتغال

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 36، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 4.

(2)- رجال الشيخ/ 142.

(3)- تنقيح المقال 3/ 34 من فصل الكنى.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 234

بالوظيفة الدفاعية. و لذا ورد: «انّ التقية جنّة المؤمن.» «1» أو: «التقية ترس المؤمن.» «2» فان الجنّة و الترس تستعمل في ميدان المبارزة مع العدوّ، لا حين المبيت في المأمن.

و العقل أيضا يحكم بوجوب حفظ النفس مع الإمكان و لو في حال الدفاع.

و الظاهر ان الضمير في قوله «ع»: «انهم» في الموضعين يرجع الى جنود الحكومة، لا الى

الخارجين المستعجلين. و لعل مراده «ع» من القوم الذين حبسوا أنفسهم على اللّه أهل بيت النبي، و من الفرج الحاصل لهم بالأخرة الفرج الحاصل لأهل البيت بقيام القائم «ع».

و كيف كان فليس الخبر في مقام المنع عن الدفاع في قبال هجوم الأعداء أو المنع من اقامة الحكومة الدينية مع امكانه و امكان ايجاد شرائطه، فتدبر.

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 460، الباب 24 من أبواب الأمر و النهي و ما يناسبهما، الحديث 4.

(2)- الوسائل 11/ 460، الباب 24 من أبواب الأمر و النهي و ما يناسبهما، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 235

الخامسة من أخبار الباب ما رواه الفضل بن سليمان الكاتب،

قال: «كنت عند أبي عبد اللّه «ع» فأتاه كتاب أبي مسلم، فقال: ليس لكتابك جواب، اخرج عنا. فجعلنا يسارّ بعضنا بعضا، فقال: أي شي ء تسارّون يا فضل، ان اللّه- عزّ ذكره- لا يعجل لعجلة العباد. و لإزالة جبل عن موضعه أيسر من زوال ملك لم ينقض أجله. ثم قال: ان فلان بن فلان؛ حتى بلغ السابع من ولد فلان. قلت فما العلامة فيما بيننا و بينك جعلت فداك؟ قال: لا تبرح الأرض يا فضل حتى يخرج السفياني فاذا خرج السفياني فأجيبوا إلينا- يقولها ثلاثا- و هو من المحتوم.» «1»

و السند الى الفضل صحيح. و فضل كان يكتب للمنصور و المهدي على ديوان الخراج. و قالوا في حقه انه مهمل، و ان الظاهر كونه إماميا إلّا انه مجهول الحال «2».

أقول: و الظاهر عدم الدليل على كونه اماميا الا روايته عن الامام و حكاية كتاب أبي مسلم اليه «ع». و من المحتمل كونه من جواسيس الخليفة. فالرواية ضعيفة موهونة من حيث السند.

و قد مرّ ان أبا مسلم في بادي الأمر كان

مبعوثا الى خراسان من قبل ابراهيم العباسي، و بعد موته صار من دعاة اخيه السفّاح، و بقوة جنوده ظفر السفّاح و انتصر على مروان الحمار، و في حياة السفاح كان معظما لديه محترما عنده، و لكن بعد وفاة السفّاح و انتقال الملك الى المنصور حسده المنصور على قدرته و خاف منه، و جعل يضادّه و يحقّره، و في آخر الامر قتله.

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 37، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 5، عن روضة الكافي/ 274، الحديث 412.

(2)- راجع تنقيح المقال 2/ 8 (من باب الفاء).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 236

فلعله في هذه الفترة اراد الارتباط بالامام الصادق ليتقوى بذلك في مقابل المنصور و لم تكن نيته نية صادقة، و الإمام «ع» اطّلع على قصده، و كان يعلم قدرة المنصور و استقرار الملك له و عدم تهيؤ المقدمات لقيامه «ع» بالثورة. و بالإخبار الغيبي عدّ سبعة من أبناء المنصور يتصدون الخلافة. و كاتب المنصور أيضا كان حاضرا في المجلس، فكان الظرف ظرف الاحتياط و التقية.

فعلى فرض صدور الخبر ففي هذا الظرف قال الإمام «ع»: «ان اللّه لا يعجل لعجلة العباد. و لإزالة جبل عن موضعه أيسر من زوال ملك لم ينقض أجله.»

و ليس المراد عدم وجوب الدفاع عن الإسلام و المسلمين مع تهية المقدمات، أو عدم جواز قتال السلاطين و الملوك، و الا كان كلامه «ع» تخطئة لجهاد علي «ع» لمعاوية، و الامام الشهيد ليزيد، و زيد لهشام أيضا. و قد كثر في العالم قتال الملوك و الظفر عليهم، كما في كثير من الثورات الواقعة في الممالك و البلاد و منها الثورة الأخيرة في ايران.

فمراده «ع» إما بيان

أمر غيبي، و هو ان ملك المنصور لا ينقضي، أو بيان أنّ القتال مع الملوك يتوقف على تهية مقدمات كثيرة، فان هزيمة الملوك مع ثبات حكومتهم أمر عسير كإزالة الجبال المتوقفة على صرف طاقات كثيرة، و اذا اتفق الانهزام أمام الملوك و عدم الظفر عليهم فلا يصحّ أن يوجب ذلك يأسا، فان المقاتل قد يظفر و قد لا يظفر، على ما يقتضيه طبع القتال.

و لا يريدان انهزام الملوك محال، فان أدلّ الأشياء على إمكان الشي ء وقوعه.

و في آخر الحديث ذكر الإمام «ع» علامة حتمية لفرج آل محمد «ص»، و هو السفياني.

و قد تقرأ هذه الكلمة بالتاء المثناة بدل النون، و يراد بها الثورة الماركسية العالمية. و لكن يبعده ان الظاهر منها الشخص، لا المنهج. و قد ورد ان اسمه عثمان ابن عنبسة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 237

السادسة من أخبار الباب صحيحة أبي بصير

عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «كل راية ترفع قبل قيام القائم «ع» فصاحبها طاغوت يعبد من دون اللّه- عزّ و جلّ.» «1»

و روى النعماني في الغيبة بسنده، عن مالك بن أعين، عن أبي جعفر «ع» انه قال: «كل راية ترفع قبل راية القائم فصاحبها طاغوت.» «2»

اقول: قد مرّ في صحيحة عيص «3» و شرحها بالتفصيل ان الدعوة على قسمين:

فالدعوة الى النفس باطلة، و الدعوة لنقض الباطل و إقامة الحق و إرجاعه الى أهله حقّة مؤيدة من قبل الأئمة «ع».

فمراده بالراية هنا الراية الداعية الى النفس في قبال الحق. و بعبارة أخرى:

الراية الواقعة في قبال القائم، لا في طريقه و مسيره و على منهجه. و لذا عبر عنها بالطاغوت، و عقّبها بكونها معبودة من دون اللّه.

و يؤيد ذلك قول أبي جعفر «ع»

في حديث، على ما في الروضة: «و انه ليس من احد يدعو الى ان يخرج الدجال الّا سيجد من يبايعه، و من رفع راية ضلالة فصاحبها طاغوت.» «4»

فقيد الراية بالضلالة.

و لو قيل: بان الظاهر من الحديث تشخيص القيام الباطل بحسب الزمان

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 37، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 6.

(2)- مستدرك الوسائل 2/ 248، الباب 12 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث

(3)- الصحيحة الأولى من أخبار الباب. راجع ص 205 و ما بعدها من الكتاب.

(4)- الكافي 8/ 296، (الروضة)، الحديث 456.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 238

لا بحسب الهدف، و ان الملاك في بطلان القيام كونه بحسب الزمان قبل قيام القائم، و العموم استغراقي فلا يجوز القيام مطلقا بأي هدف وقع.

قلنا: أولا: انه من المحتمل أن تكون القضية خارجية، و يكون المراد رفع رايات خاصة بصفات خاصة كانت موردا للبحث، اذ يبعد جدّا صدور هذا الكلام عن الإمام «ع» ارتجالا.

و ثانيا: ان الصحيحة على هذا معارضة بصحيحة عيص و غيرها، مما دلّ على تقديس قيام زيد و أمثاله مما كان للدعوة الى الحق، و منها قيام الحسين بن علي شهيد فخّ، و قد قام في خلافة موسى الهادي، و لم يعرف من أئمتنا «ع» رواية تدل على قدحه، بل وردت روايات مستفيضة ظاهرة في تقديسه و تقديس قيامه. ذكرها في مقاتل الطالبيين، و لعلنا نذكرها في بعض المباحث الآتية. هذا.

1- و في غيبة النعماني بسنده عن أبي بصير، عن أبي جعفر الباقر «ع» في خبر طويل في علامات الظهور: «و ليس في الرايات راية أهدى من اليماني. هي راية هدى، لأنه يدعو الى صاحبكم. فاذا خرج اليماني حرم

بيع السلاح على الناس و كلّ مسلم. و اذا خرج اليماني فانهض اليه، فان رايته راية هدى. و لا يحل لمسلم ان يتولى عليه، فمن فعل ذلك فهو من أهل النار، لأنه يدعو الى الحق و الى طريق مستقيم.» «1»

فيظهر من هذا الخبر تحقق راية للحق قبل القائم «ع» أيضا، و ان الراية الداعية اليه و الواقعة في طريقه راية هدى يجب النهوض اليها.

2- و في كتاب الغيبة أيضا بسنده عن أبي خالد الكابلي، عن أبي جعفر «ع» انه قال: «كأنّي بقوم قد خرجوا بالمشرق يطلبون الحق فلا يعطونه، ثم يطلبونه فلا يعطونه، فاذا رأوا

______________________________

(1)- الغيبة للنعماني/ 171 (طبعة أخرى/ 256)، الباب 14 (باب ما جاء في العلامات التي تكون قبل قيام القائم «ع»)، الحديث 13.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 239

ذلك وضعوا سيوفهم على عواتقهم فيعطون ما سألوا، فلا يقبلونه حتى يقوموا، و لا يدفعونها الّا الى صاحبكم. قتلاهم شهداء. أما اني لو أدركت ذلك لاستبقيت نفسي لصاحب هذا الأمر.» «1»

و رواه عن كتاب الغيبة في البحار أيضا «2».

و دلالة الخبر أيضا على حدوث ثورة و قيام قبل القائم «ع» و كونه قيام حق واضحة.

3- و في سنن ابن ماجة في حديث عن رسول اللّه «ص»: «انّا أهل بيت اختار اللّه لنا الآخرة على الدنيا، و ان أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء و تشريدا و تطريدا، حتى يأتي قوم من قبل المشرق معهم رايات سود، فيسألون الخير فلا يعطونه، فيقاتلون فينصرون، فيعطون ما سألوا، فلا يقبلونه حتى يدفعوها الى رجل من أهل بيتي فيملؤوها قسطا كما ملئوها جورا، فمن ادرك ذلك منكم فليأتهم و لو حبوا على الثلج.»

«3»

4- و فيه أيضا: قال رسول اللّه «ص»: «يخرج ناس من المشرق فيوطّئون للمهدي» يعني سلطانه «4».

5- و في البحار عن تاريخ قم بسنده عن أبي الحسن الأوّل «ع» قال: «رجل من أهل قم يدعو الناس الى الحقّ، يجتمع معه قوم كزبر الحديد، لا تزلّهم الرياح العواصف، و لا يملّون من الحرب، و لا يجبنون، و على اللّه يتوكّلون، و العاقبة للمتقين.» «5»

و يحتمل انطباق مفاد هذه الأخبار على الثورة الإسلامية الواقعة في ايران، كما لا يخفى.

______________________________

(1)- الغيبة للنعماني/ 182 (طبعة أخرى/ 273)، الباب 14 (باب ما جاء في العلامات التي تكون قبل قيام القائم «ع»)، الحديث 50.

(2)- بحار الأنوار 52/ 243، تاريخ الإمام الثاني عشر الباب 25 (باب علامات ظهوره «ع»)، الحديث 116.

(3)- سنن ابن ماجة 2/ 1366، الباب 34 من كتاب الفتن (باب خروج المهدي)، الحديث 4082.

(4)- سنن ابن ماجة 2/ 1368، الباب 34 من كتاب الفتن (باب خروج المهدي)، الحديث 4088.

(5)- بحار الأنوار 57/ 216 (طبعة إيران 60/ 216)، كتاب السماء و العالم، الباب 36 (باب الممدوح من البلدان و المذموم منها)، الحديث 37.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 240

6- و فيه أيضا عن تاريخ قم: «روى بعض أصحابنا، قال: كنت عند أبي عبد اللّه «ع» جالسا، اذ قرأ هذه الآية: «فَإِذٰا جٰاءَ وَعْدُ أُولٰاهُمٰا بَعَثْنٰا عَلَيْكُمْ عِبٰاداً لَنٰا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجٰاسُوا خِلٰالَ الدِّيٰارِ وَ كٰانَ وَعْداً مَفْعُولًا.» «1» فقلنا: جعلنا فداك من هؤلاء؟

فقال- ثلاث مرّات-: هم و اللّه أهل قم.» «2»

7- و في صحيح مسلم بسنده عن جابر بن عبد اللّه، يقول: سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «لا تزال طائفة من أمّتي يقاتلون على الحقّ

ظاهرين الى يوم القيامة.» «3»

8- و فيه أيضا بسنده عن جابر بن سمرة، عن النبي «ص» انه قال: «لن يبرح هذا الدين قائما، يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتى تقوم السّاعة.» «4» الى غير ذلك من الأخبار.

و ثالثا: ان الصحيحة على ما ذكرتم في مفادها يجب طرحها، لمخالفتها للأدلّة القطعية الواردة في الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر. كيف! و قد مرّ ان القيام للدفاع عن الإسلام و عن حوزة المسلمين من أهم الفرائض التي يحكم بها الكتاب و السنة و العقل السليم.

بل يجب ذلك حتى لو فرض عدم القدرة على العمل الا في ظل راية الباطل، بشرط عدم تأييد الباطل، بل الدفاع عن الحق فقط.

ففي خبر يونس قال: سأل أبا الحسن «ع» رجل و أنا حاضر، فقال له: جعلت فداك ان رجلا من مواليك بلغه ان رجلا يعطي سيفا و قوسا في سبيل اللّه، فأتاه فأخذهما منه و هو جاهل بوجه السبيل، ثم لقيه أصحابه فأخبروه ان السبيل مع

______________________________

(1)- سورة الإسراء (17)، الآية 5.

(2)- بحار الأنوار 57/ 216 (طبعة إيران 60/ 216)، الباب 36 (باب الممدوح من البلدان و المذموم منها)، الحديث 40.

(3)- صحيح مسلم 3/ 1524 (طبعة أخرى 6/ 53)، كتاب الإمارة، الباب 53، الحديث 1923.

(4)- صحيح مسلم 3/ 1524 (طبعة أخرى 6/ 53)، كتاب الإمارة الباب 53، الحديث 1922.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 241

هؤلاء لا يجوز، و أمروه بردّهما. قال: فليفعل. قال: قد طلب الرجل فلم يجده، و قيل له: قد قضى الرجل؟ قال: فليرابط و لا يقاتل. قال: مثل قزوين و عسقلان و الديلم و ما أشبه هذه الثغور؟ فقال: نعم. قال:

فان جاء العدوّ الى الموضع الذي هو فيه مرابط كيف يصنع؟ قال: يقاتل عن بيضة الإسلام. قال: يجاهد؟ قال: لا، إلّا أن يخاف على دار المسلمين. أ رأيتك لو ان الروم دخلوا على المسلمين لم ينبغ (يسع- خ. ل) لهم أن يمنعوهم؟ قال: يرابط و لا يقاتل. و ان خاف على بيضة الإسلام و المسلمين قاتل، فيكون قتاله لنفسه ليس للسلطان، لأن في دروس الإسلام دروس ذكر محمد «ص» «1».

و قد روى الحديث المشايخ الثلاثة. و الظاهر صحّته، فان محمد بن عيسى بن عبيد و ان اختلفوا في وثاقته و لكن الظاهر انه ثقة، كما قاله النجاشي «2».

و يظهر من الخبران وجوب الدفاع عن حوزة الإسلام و المسلمين عند هجوم الكفار امر واضح لا مرية فيه، اذ في تركه دروس الإسلام و ذكر من جاء به «ص». و اذا وجب شي ء وجبت مقدماته بالضرورة. و مقدمة الدفاع في هذه الأعصار التسلّح بسلاح اليوم، و التدرّب عليه و التكتل و التشكل مهما أمكن.

ثم نقول: هل يجب الجهاد و الدفاع و دفع الكفار، ثم تفويض أمر الحكومة الى أهل الفسق و الترف، لتدرّبهم في المسائل السياسية و عدم تدرّب العلماء و أهل العدل فيها، كما اتفق في العراق مثلا بعد إخراج البريطانيين منه بجهاد العلماء الأعلام؟! أو يجب حفظ النظام و لو بصرف الوقت في تعلّم المسائل السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية و العسكرية، و تحصيل الاطلاع الكافي على ما يجري في العالم من الحوادث و العلاقات حتى لا تهجم اللوابس و المشاكل؟

و في الكافي عن أبي عبد اللّه «ع»: «و العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس.» «3»

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 19، الباب 6 من أبواب جهاد العدو،

الحديث 2.

(2)- رجال النجاشي/ 235، (طبعة أخرى/ 333).

(3)- الكافي 1/ 27، كتاب العقل و الجهل، الحديث 29.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 242

و كيف يهتمّ العلماء الأعلام بالأمور الجزئية و يعدّونها من الأمور الحسبية التي لا يرضى الشارع بتركها، كحفظ مال الصغير أو الغائب مثلا، و لا يهتمّون بكيان الإسلام و مقدرات المسلمين و شئونهم و حفظ نظامهم و قدرتهم و طاقاتهم، و يعدّون التصدّي لها مخالفا للاحتياط؟! فيحوّلونها و يفوّضون أمرها الى من لا علم له بالإسلام، و لا التزام له به، و لا تقوى لديه.

نعم، الظاهر عدم كون ذلك عن تقصير منهم في بادئ الأمر، اذ ان كونهم مسجونين في زوايا المدارس و سراديبها، و مبعّدين عن محيط السياسة في قرون متمادية أوجب يأسهم من عودة الحكم اليهم، و أوجب عدم توجههم الى مقدماتها و لوازمها، و بمرور الزمان غفلوا و استغفلتهم دسائس الاستعمار أيضا.

و لكن من العجب عدم التوجه الى ذلك حتّى بعد ما انتصرت ثورة ايران الإسلامية و احتاجت الى تعاضدهم و تعاونهم على حفظها و التصدّي لشئونها، بل ربما حمل بعضهم عليها و هاجمها عوضا عن التعاون و التعاضد و السعي في تحصيل العلوم المحتاج اليها في حفظها و ادارتها. اللّهم، فوفقنا لنصر الإسلام و تقوية المسلمين بجاه محمد و آله الطاهرين. هذا.

و لنرجع الى فقه الحديث الذي كنا فيه، فنقول: و قد يحتمل بعيدا عدم كون المراد بلفظ القائم الوارد فيه و في بعض الأحاديث الأخر الامام الثاني عشر القائم في آخر الزمان، بل المراد به كل من يكون قيامه بالحقّ، و يكون الغرض في الحديث تخطئة بعض من ينتهز الفرصة حين انشغال من

له الحق في القيام بتحصيل المقدمات و الشرائط، فيستعجل هذا و يقوم قبله، طمعا في الرئاسة و اجتذاب الناس الى نفسه.

و لعل بعض الأئمة- عليهم السلام- كانوا بصدد تهية المقدمات للقيام و الثورة و لكن عدم تقية بعض الشيعة و عدم كتمانهم، او تقدم بعض المنتهزين قد هدم أساس القيام بالحق.

و في تحف العقول في وصية أبي عبد اللّه «ع» لمؤمن الطاق: «فو اللّه لقد قرب هذا

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 243

الأمر ثلاث مرات فأذعتموه، فأخّره اللّه.» «1»

و في اصول الكافي أواخر كتاب الحجة عقد بابا في ان الأئمة- عليهم السلام- كلهم قائمون.

ففي رواية حكم عن أبي جعفر «ع» انه قال: «يا حكم، كلنا قائم بأمر اللّه. قلت:

فأنت المهدي؟ قال: كلنا نهدي الى اللّه. قلت: فأنت صاحب السيف؟ قال: كلنا صاحب السيف و وارث السيف. الحديث.» «2»

و في رواية عبد اللّه بن سنان قال: «قلت لأبي عبد اللّه «ع»: «يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنٰاسٍ بِإِمٰامِهِمْ» «3» قال: إمامهم الذي بين أظهرهم، و هو قائم أهل زمانه.» «4»

و قد مرّ منّا سابقا ان لفظ الإمام وضع للقائد و من يؤتم به، و لا يختص بالأئمة الاثنى عشر. فلعل المراد بقوله: «قائم أهل زمانه» أيضا الأعم، أعني القائم بالفعل في كل أمة. هذا، و لكن الاحتمال المشار اليه بعيد جدّا، اذ الظاهر من لفظ القائم، المستعمل معرفا بأل التعريف في أخبارنا، هو القائم المعهود. فالمراد بالراية المذمومة فيها، الراية الداعية الى نفسها، لا الى إقامة الحق و الامام الحق، فتدبر.

______________________________

(1)- تحف العقول/ 310.

(2)- الكافي 1/ 536، الحديث 1.

(3)- سورة الإسراء (17)، الآية 71.

(4)- الكافي 1/ 536، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه

و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 244

السابعة من اخبار الباب خبر عمر بن حنظلة

، قال: «سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: خمس علامات قبل قيام القائم «ع»: الصيحة، و السفياني، و الخسف، و قتل النفس الزكية، و اليماني. فقلت: جعلت فداك ان خرج أحد من أهل بيتك قبل هذه العلامات أ نخرج معه؟ قال: لا.

الحديث.» «1»

و السند لا بأس به، و ان كان في ثبوت وثاقة عمر بن حنظلة كلام.

و لعل المراد بالصيحة النداء السماوي، كما في خبر الحلبي عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «ينادي مناد من السماء أول النهار: ألا إن عليا و شيعته هم الفائزون.» قال: «و ينادي مناد في آخر النهار ألا إن عثمان و شيعته هم الفائزون.» «2»

و المراد بالخسف خسف جيش السفياني بالبيداء.

و نهى عمر بن حنظلة و أمثاله عن الخروج مع أحد من أهل بيته قضية في واقعة، فلعل النظر كان الى الخروج مع من كان يدعى المهدوية في ذلك العصر.

فالذيل تأكيد لكون العلامات المذكورة حتمية، و ان الخارج من أهل بيته قبل هذه العلامات ليس هو القائم الموعود.

و على أي حال لا ربط للحديث بالجهاد الدفاعي بالنسبة إلينا بعد ما ثبت بالكتاب و السنة و العقل لزومه و وجوبه.

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 37، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 7.

(2)- الكافي 8/ 310 (الروضة)، الحديث 484.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 245

الثامنة رواية معلّى بن خنيس.

و قد مرّ بيانها في ذيل الرواية الثالثة في شرح حال سدير، فراجع «1».

التاسعة ما رواه الصدوق باسناده عن حماد بن عمرو و انس بن محمد

، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن آبائه- عليهم السلام- (في وصية النبي «ص» لعليّ «ع») قال: «يا عليّ، ان إزالة الجبال الرواسي أهون من إزالة ملك لم تنقض أيامه.» «2»

أقول: الرواية جزء من رواية طويلة ذكرها الصدوق في أواخر الفقيه. و اكثر فقراتها متضمنة لأحكام شرعية او آداب اخلاقية. و لعل بعضها متضمن لأخبار غيبية.

و ليس غرض النبي «ص» من هذه الفقرة ان القيام في قبال الملوك غير مفيد و غير ناجح. كيف! و قد كثرت الثورات في قبال الملوك في أروبا و آسيا و افريقيا و قد نجحت، و أخيرا ترى انه قد نجحت ثورة ايران الإسلامية في قبال الملكية، و أدلّ الأشياء على إمكان الشي ء وقوعه.

______________________________

(1)- راجع ص 231 من الكتاب.

(2)- الوسائل 11/ 38، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 9.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 246

و ليس المراد أيضا تحريم القيام في قبال الملوك، و إلّا لم يصح قيام أمير المؤمنين «ع» في قبال معاوية الذي أحكم أساس ملكه في الشام، و قد قاتله و رغّب في قتاله و قال «ع» كما في نهج البلاغة: «و سأجهد في أن أطهّر الأرض من هذا الشخص المعكوس و الجسم المركوس حتّى تخرج المدرة من بين حبّ الحصيد.» «1»

و لو صحّ ما مرّ في مقدمة الصحيفة من ان النبي «ص» اسرّ اليه و الى أهل بيته بملك بني أميّة و مدّته فلا محالة كان غرضه «ع» من قتاله تميز صف الحق من صف الباطل و اتمام الحجة، كما يشعر به ظاهر العبارة. و

هكذا قيام سيد الشهداء في قبال ملك يزيد.

و بالجملة، لم يكن غرض النبي «ص» من هذه الفقرة بيان عدم النجاح أو حرمة القيام في قبال الملوك، بل بيان ان المقدر و المقضيّ من الملك كغيره من الأمور كائن لا محالة، فيجب ان لا توجب الهزيمة على يد الملوك يأسا للقائم بالحق، فلعله يظفر بعد ذلك و ان لم يظفر فانه قد عمل بوظيفته، او بيان ان ازالة الملك أمر عسير جدّا، كإزالة الجبال الراسي، و انه أمر لا يتحقق إلّا بتهية مقدمات كثيرة و مرور زمان كثير و إرشاد الناس و توعيتهم السياسية، كما ان إزالة الجبل عن موضعه لا تتحقق إلّا بصرف زمان كثير و طاقات كثيرة.

و على أيّ حال فوظيفة الناس بالنسبة الى الدفاع عن الإسلام و المسلمين باقية بحالها، و لا محالة يجب تحصيل مقدماتها، فتدبر.

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 971؛ عبده 3/ 82؛ لح/ 418، الكتاب 45.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 247

العاشرة رواية عيص.

و هي قطعة من روايته الأولى التي مرّت بالتفصيل، فراجع «1».

الحادية عشرة رواية أبي عبدون،

المروية عن العيون، الواردة في شأن زيد. و قد مرّت أيضا في ذيل الرواية الأولى في شرح حال زيد، فراجع «2».

الثانية عشرة ما رواه في آخر السرائر

من كتاب احمد بن محمد بن سيار، أبي عبد اللّه السياري، عن رجل قال: ذكر بين يدي أبي عبد اللّه «ع» من خرج من آل محمد «ص» فقال: «لا زال أنا و شيعتي بخير ما خرج الخارجي من آل محمد. و لوددت أن الخارجي من آل محمد خرج و عليّ نفقة عياله.» «3»

و السند ضعيف مضافا الى الإرسال. فعن النجاشي ان السياري ضعيف فاسد المذهب، مجفوّ الرواية، كثير المراسيل. و عن ابن الغضائري انه ضعيف متهالك غال

______________________________

(1)- راجع ص 205 و ما بعدها من الكتاب.

(2)- راجع ص 210 و ما بعدها من الكتاب.

(3)- الوسائل 11/ 39، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 12.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 248

منحرف. نعم، عن المستدرك انه رام إثبات وثاقته بإكثار الكليني و غيره عنه. «1»

و كيف كان فذكر صاحب الوسائل للخبر في هذا الباب بلا وجه، اذ ليس الخبر من أدلة منع الخروج، بل من أدلة جوازه اجمالا. و ليس مفاده تأييد كل خروج من آل محمد و جوازه، بل هو بصدد بيان النفع و الخير المترتب عليه قهرا، حيث ان الخروج يوجب اشتغال إمام الجور بدفع من خرج فيغفل قهرا عن الامام «ع» و شيعته، فان كان الخارج داعيا الى الحق فهو، و إلّا فلا أقل من اشتغال الظالم بالظالم، فيبقى أهل الحق في البين سالمين.

الثالثة عشرة خبر العبيدي عن الصادق «ع»

قال: «ما كان عبد ليحبس نفسه على اللّه إلّا أدخله اللّه الجنة.» «2»

و ليس هذا الخبر أيضا من أدلة السكوت و منع الخروج، اذ حبس النفس على اللّه معناه وقفه في سبيل اللّه، و هو الى مثل الجهاد أنسب. فهو نظير لفظ الصبر الذي

يتبادر منه الى أذهان عرف العجم السكوت و عدم التحرك، مع أن المراد منه الاستقامة في ميدان العمل بحيث لا تمنعه المشكلات و الحوادث المترتبة عليها عن الجهاد و النضال، فتدبر.

______________________________

(1)- راجع تنقيح المقال 1/ 87.

(2)- الوسائل 11/ 39، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 13.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 249

الرابعة عشرة ما رواه الحسين بن خالد،

قال: «قلت لأبي الحسن الرضا «ع»: ان عبد اللّه ابن بكير كان يروي حديثا، و أنا أحب أن أعرضه عليك. فقال: ما ذلك الحديث؟

قلت: قال ابن بكير: حدثني عبيد بن زرارة، قال: كنت عند أبي عبد اللّه «ع» أيام خرج محمد (ابراهيم) بن عبد اللّه بن الحسن، اذ دخل عليه رجل من أصحابنا فقال له: جعلت فداك ان محمد بن عبد اللّه قد خرج، فما تقول في الخروج معه؟ فقال:

اسكنوا ما سكنت السماء و الأرض. فقال عبد اللّه بن بكير: فان كان الأمر هكذا أو لم يكن خروج ما سكنت السماء و الأرض فما من قائم و ما من خروج. فقال أبو الحسن «ع»:

صدق أبو عبد اللّه «ع» و ليس الأمر على ما تأوّله ابن بكير، انما عنى أبو عبد اللّه «ع»: اسكنوا ما سكنت السماء من النداء و الأرض من الخسف بالجيش.» «1»

أقول: قد مرّ ان الظاهر من الأخبار و التواريخ ان محمد بن عبد اللّه قد خرج بعنوان المهدوية، و كان يدعو الى نفسه، فيريد الإمام «ع» بيان ان لقيام المهدي هاتين العلامتين، فلا تقبلوا ادعاء من ادعاها قبلهما. هذا.

مضافا الى ان السائل لا يعلم من هو. و لعله كان في المجلس أحد من الجواسيس، و لذا أجاب الإمام بنحو الإجمال، مما يوهم عدم الخروج

و القيام أصلا، كما توهمه ابن بكير.

و كيف كان فالمستفاد من الحديث كون النداء و الخسف من علائم المهدي الموعود، فلا يجوز الخروج مع من يدّعي المهدوية قبلهما. فلا يدلّ على السكوت و عدم القيام في قبال هجوم أعداء الإسلام على الإسلام و شئون المسلمين، و هذا واضح.

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 40، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 14.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 250

الخامسة عشرة ما في نهج البلاغة في آخر خطبة من خطبه

: «الزموا الأرض و اصبروا على البلاء، و لا تحركوا بأيديكم و سيوفكم في هوى ألسنتكم، و لا تستعجلوا بما لم يعجله اللّه لكم، فإنه من مات منكم على فراشه و هو على معرفة حق ربه و حق رسوله و أهل بيته مات شهيدا و وقع أجره على اللّه و استوجب ثواب ما نوى من صالح عمله و قامت النية مقام إصلاته لسيفه، و ان لكل شي ء مدة و أجلا.» «1»

أقول: لا يخفى ان كلمات أمير المؤمنين «ع» و خطبه مليئة بالحث على الجهاد و التحريص عليه، و كفاك في ذلك الخطبة 27، و فيها قوله: «فقبحا لكم و ترحا حين صرتم غرضا يرمى. يغار عليكم و لا تغيرون، و تغزون و لا تغزون، و يعصى اللّه و ترضون.» «2»

فلا محالة يختص كلامه هنا بمورد خاص و حالة خاصّة، و قد مرّ ان الجهاد مثل سائر الأمور يتوقف على تهية المهمات و القوات و وضع البرنامج الصحيح، و أن الاستعجال فيه و الوقوع تحت تأثير الأحاسيس الآنية مضر جدّا، فأراد- عليه السلام- هنا بيان ذلك.

و في شرح ابن أبي الحديد:

«و ليس خطابه «ع» هذا تثبيطا لهم عن حرب أهل الشام، كيف و هو لا يزال

يقرّعهم و يوبّخهم عن التقاعد و الإبطاء في ذلك، و لكن قوما من خاصّته كانوا يطلعون على ما عند قوم من أهل الكوفة و يعرفون نفاقهم و فسادهم، و يرومون قتلهم

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 765، عبده 2/ 156؛ لح/ 282، الخطبة 190.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 95؛ عبده 1/ 65؛ لح/ 70.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 251

و قتالهم، فنهاهم عن ذلك. و كان يخاف فرقة جنده و انتثار حبل عسكره، فامرهم بلزوم الأرض و الصبر على البلاء.» «1»

و في شرح ابن ميثم البحراني:

«نهى «ع» عن الجهاد من غير أمر أحد من الأئمة من ولده بعده. و ذلك عند عدم قيام من يقوم منهم لطلب الأمر، فانه لا يجوز إجراء هذه الحركات إلّا باشارة من إمام الوقت.» «2»

أقول: ما ذكره الشارح البحراني «ره» خلاف الظاهر، و الأظهر ما مرّ منّا، و يقرب منه ما ذكره ابن ابي الحديد.

و كيف كان فلا يرتبط كلامه «ع» بأعصارنا هذه بالنسبة الى الجهاد الدفاعي بعد تهية شرائطه و مقدماته، بل الجهاد الابتدائي أيضا، كما مرّ.

______________________________

(1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13/ 113.

(2)- شرح نهج البلاغة لابن ميثم 4/ 210.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 252

السادسة عشرة خبر جابر

، عن أبي جعفر «ع» قال: «الزم الأرض و لا تحرك يدا و لا رجلا حتى ترى علامات أذكرها لك- و ما أراك تدركها-: اختلاف بني فلان، و مناد ينادي من السماء، و يجيئكم الصوت من ناحية دمشق. الحديث.» «1»

و لا يخفى ان المخاطب هو جابر، و ما ذكر قضية في واقعة. و لعله كان لجابر خصوصية، نظير ما كان لسدير على ما

مرّ، أو لعلّ المجلس لم يخل من الأغيار، او ان غرضه «ع» بيان العلائم الحتمية للقائم بالحق لرفع الاشتباه لدى جابر، حيث ان وجود الفساد و الظلم الشديد في عصره و ما ورد من ان القائم بالحق، هو الذي يقوم لرفعهما مما جعله يتوهم حلول وقت القيام. و بعبارة أخرى ذكر علائم المهدي و القائم بالحق شاهد على ان الغرض النهي عن التحرك مع من يدّعي المهدوية ما لم توجد هذه العلامات. الى غير ذلك من المحتملات.

و كيف كان فلا يقاوم مثل هذا الخبر أدلة الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بكثرتها، كما لا يخفى.

السابعة عشرة ما رواه عن كتاب الغارات عن زرّ بن حبيش،

قال: «خطب علي «ع» بالنهروان (الى ان قال): فقام رجل فقال: يا أمير المؤمنين حدثنا عن الفتن. فقال:

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 41، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 16.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 253

ان الفتنة اذا أقبلت شبهت. ثم ذكر الفتن بعده (الى ان قال): فقام رجل فقال:

يا أمير المؤمنين ما نصنع في ذلك الزمان؟ قال: انظروا أهل بيت نبيكم، فان لبدوا فالبدوا، و ان استصرخوكم فانصروهم توجروا، و لا تستبقوهم فتصرعكم البلية. ثم ذكر حصول الفرج بخروج صاحب الأمر «ع».» «1»

أقول: الخطبة طويلة مذكورة في أول كتاب الغارات «2» و ذكر قسما منها في نهج البلاغة «3» و ذكر نحوها مفصلة في كتاب سليم بن قيس «4».

و ظاهر كتاب الغارات كون المراد بذلك الزمان زمن فتنة بني امية. و كون المرجع الحق في عصر بين امية أهل بيت النبي «ص» واضح عندنا. و قد ذكر وجوب السكون و التوقف مع سكونهم، و وجوب نصرهم مع قيامهم و استصراخهم.

و على أي حال

فالإرجاع الى أهل بيت النبي «ص» يستلزم حضورهم و ظهورهم و إمكان جعلهم أسوة، فلا يعم الكلام لعصر الغيبة. اللهم إلّا ان يراد كلماتهم و إرشاداتهم الباقية، فيصير محصل الرواية وجوب كون الأئمة من أهل البيت و إرشاداتهم الباقية محورا للعمل و لو في القيام و الجهاد و لا يجوز التخلف عنهم، و هذا أمر صحيح على مذهبنا.

و كيف كان فلا تنافي الرواية أدلة الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بمعناهما الوسيع، فتدبر.

فهذه سبعة عشر حديثا ذكرها في الوسائل في الباب 13 من كتاب الجهاد، ربما يتمسك بها من يرى السكون و السكوت في عصر الغيبة. و قد أوضحنا المراد منها. و لا يخفى ان أكثرها مخدوش من حيث السند أيضا، و يحتمل كونها مختلفة من

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 41، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 17.

(2)- الغارات 1/ 1- 13.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 273؛ عبده 1/ 182؛ لح/ 137، الخطبة 93.

(4)- كتاب سليم بن قيس/ 156.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 254

قبل أيادي خلفاء الجور و مرتزقتهم لردع العلويين و شيعتهم عن القيام في قبالهم.

و ذكر في الباب 12 من جهاد المستدرك أيضا أخبار اخر يظهر الجواب عنها مما ذكر، فراجع و تأمّل فيما ذكرناه.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 255

خلاصة

قد ظهر لك مما ذكرناه الى هنا ان الجهاد- على ما قالوا- قسمان: ابتدائي و دفاعي.

و الأول مشروط بإذن الإمام قطعا، و ان احتملنا، بل قوينا عدم اختصاصه بالإمام المعصوم و شموله للفقيه الواجد للشرائط أيضا بل و كون الشرط للوجود لا للوجوب.

و الثاني غير مشروط به، بل يحكم بضرورته

و وجوبه مطلقا الكتاب و السنة و العقل. نعم، يجب أن يكون منطبقا على موازين العقل، بأن تمهّد مقدماته و أسبابه. و عند ما يكون الدفاع في قبال هجوم الأعداء على بيضة الإسلام و كيانه و شئون المسلمين و بلادهم فهو لا محالة يتوقف على التسلح و التدرب و التشكّل و الانسجام، و لا يتحقق ذلك قهرا إلّا بأن يؤمّروا على أنفسهم أميرا صالحا ينظّم أمورهم، حذرا من الهرج و المرج، و ان شئت فسمّه إماما، و لكنه شرط للوجود لا للوجوب، بخلافه في الأول على ما قالوا.

نعم، هنا روايات ذكرها في الوسائل في الباب 13 من كتاب الجهاد، و في المستدرك في الباب 12 منه مما توهم لزوم السكوت و عدم التحرك في قبال الفساد و الظلم و الهجمات قبل قيام القائم «ع» و ان بلغت ما بلغت و طالت الغيبة آلاف سنة.

و ملخّص الجواب عنها- بعد الغضّ عن سندها:

ان بعضا منها متعرضة لإخبارات غيبية، كمدّة ملك بني أميّة و بني العباس و سائر الفتن و الملاحم، و ليست بصدد إيجاب السكوت و عدم التحرك، و إلّا لكان أمير المؤمنين «ع» بنفسه اول عامل بخلافها، و كذلك سيد الشهداء «ع».

و بعضها في مقام النهي عن الخروج مع من يدعو الى نفسه باطلا في قبال من

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 256

يدعو الى إقامة الحق و إرجاعه الى أهله.

و بعضها في مقام بيان العلائم الحتمية للقائم بالحق لرفع الشبهة للمخاطب.

و بعضها في مقام النهي عن الاستعجال المضرّ قهرا مع عدم تهيؤ المقدمات و عدم بلوغ الأوان.

و لعل بعضها أيضا في مقام بيان ان الخروج الناجح مأئة بالمائة في جميع

أهدافه هو قيام القائم بالحق في آخر الزمان، و ان غيره لا ينجح كذلك و ان نجح نجاحا نسبيا أو ترتب عليه إتمام الحجة أو غير ذلك و قلنا بوجوبه لذلك. و انت تعلم ان القيام الناجح مأئة بالمائة الشامل لكافة الناس لم يتحقق الى الآن حتى على يد نبيّنا «ص».

و بعضها قضيّة في واقعة خاصة أو ترتبط بشخص خاصّ، و ليس بنحو يعلم بعدم الخصوصية له. الى غير ذلك من الوجوه.

و كيف كان فلا تقاوم هذه الأخبار ما قدمناه من أدلة الجهاد و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بمراتبهما الوسيعة، و ما مرّ من وجوب إقامة الدولة العادلة و وجوب إجراء قوانين الإسلام و عدم كونها موقتة بوقت خاص. هذا.

و قد طال كلامنا في هذا الفصل إجمالا و أرجو من الفضلاء الكرام متابعة البحث و البسط فيه، اذ كان تعرضنا له بنحو الاستطراد، و اللّه الموفق للصواب و السداد.

و يأتي منّا في المسألة السادسة عشرة من الفصل السادس من الباب الخامس بحث في حكم القيام و الكفاح المسلح ضدّ الطواغيت و الجبابرة. و هو أيضا بحث لطيف و له ارتباط بالبحث في هذا الفصل، فانتظر.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 257

الباب الرّابع في شرائط الإمام و الوالي الذي تصحّ إمامته و تجب طاعته

اشارة

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 259

«شرائط الامام الذى تجب طاعته» أقول: قد تعرضنا في الباب الأول لما يقتضيه الأصل في مسألة الولاية إجمالا.

و في الباب الثاني لولاية النبي الأكرم «ص» و الأئمة المعصومين- سلام اللّه عليهم أجمعين-.

و في الباب الثالث للزوم الولاية في جميع الأعصار حتى في عصر الغيبة، و انه لا يجوز للمسلمين إهمالها و عدم الاهتمام بها.

و قد طال

البحث فيه، و عقدنا فيه أربعة عشر فصلا للسير الإجمالي في أبواب الفقه و الروايات و فتاوى الأصحاب التي يستفاد منها إجمالا كون تشريع الأحكام في الإسلام على أساس الولاية و الحكومة، و انها داخلة في نسج الإسلام و نظامه. ثم ذكرنا في فصل مستقل عشرة أدلة للمدّعى. و تعرضنا في فصل آخر للأخبار التي توهم وجوب السكوت و السكون في عصر الغيبة بعنوان المعارض لما سبق، و أوضحنا المراد منها.

فالآن حان وقت التعرض لشرائط الإمام و الوالي على أساس العقل و الكتاب و السنة، و نذكر ذلك في اثني عشر فصلا:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 261

الفصل الاول في ذكر بعض الكلمات من العلماء و الفقهاء في شرائط الإمام و الوالي

اشارة

نتعرض لها نموذجا لما يترتب على الاطلاع عليها من زيادة البصيرة في المسألة، و لا سيما و انه يظهر بها ان اعتبار الفقاهة و الاجتهاد في الوالي ليس امرا تفوّه به المتأخرون، بل كان مشهورا بين الأعاظم من أهل الفقه و العلم في جميع الأعصار، فنقول:

1- رأي ابن سينا:

قال الشيخ الرئيس ابن سينا في أواخر الإلهيات من الشفاء في فصل عقده للبحث في الخليفة و الإمام:

«ثم يجب ان يفرض السانّ طاعة من يخلفه، و ان لا يكون الاستخلاف إلّا من جهته او باجماع من أهل السابقة على من يصحّحون علانية عند الجمهور انه مستقل بالسياسة، و انه أصيل العقل حاصل عنده الأخلاق الشريفة من الشجاعة و العفة و حسن التدبير، و انه عارف بالشريعة حتى لا اعرف منه، تصحيحا يظهر و يستعلن و يتفق عليه الجمهور عند الجميع. و يسنّ عليهم انهم اذا افترقوا أو تنازعوا للهوى

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 262

و الميل أو اجمعوا على غير من وجدوا الفضل فيه و الاستحقاق له فقد كفروا باللّه.

و الاستخلاف بالنص أصوب فان ذلك لا يؤدّي الى التشعّب و التشاغب و الاختلاف.» «1»

2- رأي الفارابي:

و عنى الفارابي بأمر الرئيس الأعلى الذي يتولّى ادارة شئون الحكم، فاقترح أن يكون شخصا واحدا لا يرأسه إنسان آخر أصلا، و يسميه: «الرئيس الأول للمدينة الفاضلة و رئيس المعمورة من الأرض كلها».

و مجمل الصفات التي ذكرها هي:

«ان يكون حكيما، قويّ الجسم، قويّ العزيمة، جيّد الفهم، جيّد الحفظ، وافر الذكاء، حسن العبارة، محبّا للعلم، يتحمّل المتاعب في سبيله، غير شره في اللّذات الجسدية، محبّا للصدق، كريم النفس، عادلا ينصف الناس حتى من نفسه و أهله، شجاعا مقداما.»

و عقّب بعد ذكر هذه الشروط فقال:

«ان اجتماع كل هذه الصفات في شخص واحد يكون نادرا، فإن أتيح توفّرها في إنسان كان هو الرئيس، و إلّا فالرئيس كل من اجتمع فيه أكبر قدر ممكن من هذه الصفات، و إذا لم يوجد الإنسان الذي تجتمع فيه أكثر هذه الصفات

و لكن وجد اثنان أحدهما حكيم و الآخر فيه الصفات الباقية يتوليان معا الرئاسة، و يكون كل واحد منهما مكملا للآخر، فاذا تفرقت هذه الصفات في أكثر من اثنين، و كانوا متلائمين كانوا هم الرؤساء الأفاضل.»

و يرى ان الحكمة من أهمّ صفات الرئيس الأعلى، فاذا لم توجد هذه الصفة في

______________________________

(1)- الشفاء/ 451 (طبعة أخرى 563- 564).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 263

أحد بقيت المدينة الفاضلة بدون رئيس، و ذلك مما يؤدي الى الهلاك «1».

3- رأي الماوردي:

و في كتاب الاحكام السلطانية لأبي الحسن الماوردي:

«و أما أهل الإمامة فالشروط المعتبرة فيهم سبعة: أحدها: العدالة على شروطها الجامعة. و الثاني: العلم المؤدي الى الاجتهاد في النوازل و الأحكام. و الثالث:

سلامة الحواس من السمع و البصر و اللسان ليصحّ معها مباشرة ما يدرك بها.

و الرابع: سلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة و سرعة النهوض.

و الخامس: الرأي المفضي الى سياسة الرعية و تدبير المصالح. و السادس: الشجاعة و النجدة المؤدية الى حماية البيضة و جهاد العدو. و السابع: النسب، و هو أن يكون من قريش لورود النص فيه و انعقاد الإجماع عليه.» «2»

أقول: قوله: «الاجتهاد في النوازل و الأحكام»، لعل المراد بالأول معرفة ماهية الحوادث الواقعة المهمة التي يجب على سائس الملة معرفتها بخصوصياتها و مقارناتها حتى يقدر على تطبيق الأحكام الكلية عليها، و المراد بالثاني نفس الأحكام الكلية.

و بعبارة أخرى يراد بالأول معرفة الصغريات، و بالثاني العلم بالكبريات عن اجتهاد. و لا يخفى ان معرفة الصغريات في المسائل الاجتماعية و السياسية من أهم الأمور و أعضلها. و ما ورد في التوقيع الشريف من قوله «ع»: «و أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها

إلى رواة حديثنا» «3» أيضا لعله يراد به الرجوع لمعرفة نفس الحوادث و تشخيصها، لا العلم بالأحكام الكلية، فتدبر.

______________________________

(1)- راجع نظام الحكم و الإدارة في الإسلام/ 219.

(2)- الأحكام السلطانية/ 6.

(3)- الوسائل 18/ 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 264

4- رأي القاضي أبي يعلى الفراء:

و في كتاب الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى الفراء:

«و أما أهل الإمامة فيعتبر فيهم أربع شروط: أحدها: ان يكون قرشيا من الصميم ... الثاني: أن يكون على صفة من يصلح أن يكون قاضيا من الحرية و البلوغ و العقل و العلم و العدالة. و الثالث: ان يكون قيما بأمر الحرب و السياسة و إقامة الحدود لا تلحقه رأفة في ذلك، و الذبّ عن الأمّة. الرابع: أن يكون من أفضلهم في العلم و الدين.

و قد روي عن الإمام أحمد ألفاظ تقتضي إسقاط اعتبار العدالة و العلم و الفضل فقال- في رواية عبدوس بن مالك القطان-: و من غلبهم بالسيف حتى صار خليفة و سمّي أمير المؤمنين لا يحل لأحد يؤمن باللّه و اليوم الآخر أن يبيت و لا يراه إماما عليه، برّا كان أو فاجرا، فهو أمير المؤمنين. و قال أيضا- في رواية المروزي-: فان كان أميرا يعرف بشرب المسكر و الغلول يغزو معه، إنما ذاك له في نفسه.» «1»

أقول: لا يخفى ان مقتضى ما حكاه عن أحمد أن الباغي بالسيف على الإمام الحق في أول الأمر باغ يجب على المسلمين قتاله و دفعه، ثم إذا فرض غلبته يصير بذلك إماما واجب الطاعة، و وجب الدفاع عنه و التسليم له و ان كان من أفسق الفسقة و أعتى الجبابرة، و هذا عجيب.

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية/

20.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 265

5- كلام العلامة الحلي في التذكرة:

قال في فصل قتال أهل البغي من التذكرة ما ملخّصه:

«يشترط في الإمام أمور: أ: أن يكون مكلّفا، فإن غيره مولّى عليه في خاصة نفسه فكيف يلي أمر الأمة؟ ب: ان يكون مسلما، ليراعي مصلحة المسلمين و الإسلام و ليحصل الوثوق بقوله و يصح الركون اليه. ج: أن يكون عدلا. د: أن يكون حرّا.

ه: ان يكون ذكرا، ليهاب و ليتمكن من مخالطة الرجال. و: أن يكون عالما، ليعرف الأحكام و يعلم الناس. ز: ان يكون شجاعا، ليغزو بنفسه و يعالج الجيوش. ح: ان يكون ذا رأي و كفاية. ط: ان يكون صحيح السمع و البصر و النطق، ليتمكن من فصل الأمور. و هذه الشرائط غير مختلف فيها.

ي: ان يكون صحيح الأعضاء كاليد و الرجل و الأذن، و بالجملة اشتراط سلامة الأعضاء، و هي أولى قولي الشافعي. يا: ان يكون من قريش، لقوله: «الأئمة من قريش.» «1» و هو أظهر قولي الشافعية، و خالف فيه الجويني. يب: يجب ان يكون الامام معصوما عند الشيعة، لأن المقتضي لوجوب الإمامة و نصب الإمام جواز الخطأ على الأمة المستلزم لاختلال النظام، فإن الضرورة قاضية بأن الاجتماع مظنّة التنازع و التغالب ... يج: ان يكون منصوصا عليه من اللّه- تعالى- أو من النبي «ص» أو ممن ثبتت إمامته بالنص منهما، لأن العصمة من الأمور الخفيّة التي لا يمكن الاطلاع عليها، فلو لم يكن منصوصا عليه لزم تكليف ما لا يطاق. يد: أن يكون أفضل أهل زمانه، ليتحقق التمييز عن غيره. و لا يجوز عندنا تقديم المفضول على الفاضل، خلافا لكثير من العامّة، للعقل و النقل ... و الأفضلية تتحقق

بالعلم و الزهد و الورع و شرف النّسب و الكرم و الشجاعة و غير ذلك من الأخلاق الجميلة.

______________________________

(1)- بحار الأنوار 25/ 104، كتاب الإمامة الباب 1 من أبواب علامات الإمام ...، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 266

يه: ان يكون منزّها عن القبائح، لدلالة العصمة عليه، و لأنه يكون مستحقا للإهانة و الإنكار عليه، فيسقط محله من قلوب العامة فتبطل فائدة نصبه، و أن يكون منزها من الدناءة و الرذائل ... و ان يكون منزها عن دناءة الآباء و عهر الامهات، و قد خالفت العامة في ذلك كله.» «1»

اقول: يأتي في الفصل الثانى عشر البحث في العصمة و النصّ.

6- رأي القاضي الباقلاني:

قال العلامة الأميني في الغدير:

«قال الباقلاني في التمهيد، ص 181: باب الكلام في صفة الإمام الذي يلزم العقد له. فإن قال قائل: فخبّرونا ما صفة الإمام المعقود له عندكم؟ قيل لهم: يجب أن يكون على أوصاف: منها: أن يكون قرشيا من الصميم. و منها: أن يكون من العلم بمنزلة من يصلح أن يكون قاضيا من قضاة المسلمين. و منها: أن يكون ذا بصيرة بأمر الحرب، و تدبير الجيوش و السرايا، و سدّ الثغور، و حماية البيضة، و حفظ الأمّة، و الانتقام من ظالمها، و الأخذ لمظلومها، و ما يتعلق به من مصالحها. و منها: أن يكون ممن لا تلحقه رقّة و لا هوادة في إقامة الحدود، و لا جزع لضرب الرقاب و الأبشار.

و منها: أن يكون من أمثلهم في العلم و سائر هذه الأبواب التي يمكن التفاضل فيها، إلّا أن يمنع عارض من إقامة الأفضل فيسوغ نصب المفضول. و ليس من صفاته أن يكون معصوما و لا عالما بالغيب، و

لا أفرس الأمة و أشجعهم، و لا أن يكون من بني هاشم فقط دون غيرهم من قبائل قريش.» «2»

______________________________

(1)- التذكرة 1/ 452.

(2)- الغدير 7/ 136.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 267

7- كلام القاضي عضد الدين الإيجي و الشريف الجرجاني:

قال الإيجي في المواقف و الشريف الجرجاني في شرحه مازجا الشرح بالمتن:

« (المقصد الثاني في شروط الإمامة: الجمهور على أن أهل الإمامة) و مستحقها من هو (مجتهد في الأصول و الفروع ليقوم بأمور الدين)، متمكنا من إقامة الحجج و حلّ الشبه في العقائد الدينية، مستقلا بالفتوى في النوازل و أحكام الوقائع نصّا و استنباطا. لأن أهمّ مقاصد الإمامة حفظ العقائد و فصل الحكومات و رفع المخاصمات، و لن يتم ذلك بدون هذا الشرط، (ذو رأي) و بصارة بتدبير الحروب و السلم و ترتيب الجيوش و حفظ الثغور، (ليقوم بأمور الملك، شجاع) قويّ القلب، (ليقوى على الذب عن الحوزة) و الحفظ لبيضة الإسلام بالثبات في المعارك ...

و لا يهوله أيضا إقامة الحدود و ضرب الرقاب.

(و قيل: لا يشترط) في الإمامة (هذه الصفات) الثلاث، (لأنها لا توجد) الآن مجتمعة. (نعم، يجب أن يكون عدلا) في الظاهر، (لئلا يجور) ... (عاقلا، ليصلح للتصرفات) الشرعية و الملكية، (بالغا لقصور عقل الصبي، ذكرا، اذ النساء ناقصات عقل و دين، حرّا لئلا يشغله خدمة السيد) عن وظائف الإمامة.

(فهذه الصفات) التي هي الثمان أو الخمس (شروط) معتبرة في الإمامة (بالإجماع).» «1»

______________________________

(1)- شرح المواقف للجرجاني 8/ 349.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 268

8- كلام عبد الملك الجويني:

و عن عبد الملك الجويني، المقلب بإمام الحرمين، انه قال في كتابه المسمى بالإرشاد:

«الشروط التي يجب أن يتصف بها الإمام: 1- الاجتهاد، بحيث لا يحتاج أن يستفيد من غيره في الحوادث. قال: و هذا متفق عليه. 2- التصدّي الى مصالح الأمور و ضبطها. 3- النجدة في تجهيز الجيوش و سدّ الثغور. 4- أن يكون ذا نظر حصيف في النظر الى الأمّة. 5- الشجاعة و الإقدام،

بأن لا تأخذه خور الطبيعة عن ضرب الرقاب و التنكيل بمستوجبي الحدود. 6- و من شرائطها عند أصحابنا- يعني الشافعية- أن يكون الإمام من قريش، لقول رسول اللّه «ص»: «الأئمة من قريش.» «1» و قال: «قدّموا قريشا و لا تقدّموها.» و هذا مما يخالف فيه بعض الناس.

و للاحتمال فيه عندي مجال، و اللّه اعلم بالصواب. لا خفاء في اشتراط حريّة الإمام و اسلامه. و أجمعوا على ان المرأة لا يجوز ان تكون إماما، و ان اختلفوا في جواز كونها قاضية فيما يجوز شهادتها فيه.» «2»

9- و عن الجويني أيضا:

انه قال في كتابه المسمى: «غياث الأمم في التياث الظلم»:

«يجب على الحاكم مراجعة العلماء فيما يأتي و يذر، فانهم قدوة الأحكام و أعلام

______________________________

(1)- رواه النسائي.

(2)- نظام الحكم و الإدارة في الإسلام/ 222.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 269

الإسلام و ورثة النبوة و قادة الأمّة. و هم على الحقيقة أصحاب الأمر استحقاقا ...

و اذا كان صاحب الأمر مجتهدا فهو المتبوع الذي يستتبع الكافة في اجتهاده و لا يتبع.

فأما اذا كان سلطان الزمان لم يبلغ مبلغ الاجتهاد فالمتبوعون العلماء، و السلطان نجدتهم و شوكتهم و قوّتهم. فعالم الزمان في المقصود الذي نحاوله و الفرض الذي نزاوله كنبيّ الزمان، و السلطان مع العالم كملك في زمان النبي «ص» مأمور بالانتهاء الى ما ينهيه اليه النبي «ص».» «1»

10- كلام النووي:

و في كتاب المنهاج للنووي، أحد عظماء الشافعية- و لآرائه عندهم قيمة كبيرة:

«شرط الإمام كونه مسلما مكلفا حرّا ذكرا قرشيا مجتهدا شجاعا ذا رأي و سمع و بصر و نطق. و تنعقد الإمامة بالبيعة ... و باستخلاف الإمام ... و باستيلاء جامع، و كذا فاسق و جاهل في الأصح.» «2»

أقول: قد ترى انه في الذيل نقض ما ذكره في الصدر من شرط الاجتهاد. و يرجع ذيل كلامه الى ما مرّ عن أحمد.

11- آراء ابن حزم الاندلسي:

و قال ابن حزم في الفصل:

«وجب أن ينظر في شروط الإمامة التي لا يجوز الإمامة لغير من هن فيه، فوجدناها:

______________________________

(1)- النظام السياسي للدولة الإسلامية/ 277.

(2)- المنهاج/ 518، (كتاب البغاة).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 270

أن يكون صليبة من قريش، لإخبار رسول اللّه «ص» ان الإمامة فيهم «1». و أن يكون بالغا مميّزا، لقول رسول اللّه «ص»: رفع القلم عن ثلاثة. فذكر الصبيّ حتّى يحتلم، و المجنون حتى يفيق. و أن يكون رجلا، لقول رسول اللّه «ص»: لا يفلح قوم أسندوا أمرهم الى امرأة. «2» و أن يكون مسلما، لأن اللّه- تعالى- يقول: وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا. «3» و الخلافة أعظم السبيل، و لأمره بإصغار أهل الكتاب و أخذهم بأداء الجزية و قتل من لم يكن من أهل الكتاب حتى يسلموا. و ان يكون متقدما لأمره، عالما بما يلزمه من فرائض الدين، متقيا للّه- تعالى- بالجملة، غير معلن بالفساد في الأرض، لقول اللّه- تعالى-: وَ تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ «4» ...، و قد قال رسول اللّه «ص»: من عمل عملا ليس عليه امرنا فهو ردّ «5»، و

قال- عليه السلام-: يا أبا ذر، انك ضعيف لا تأمرن على اثنين و لا تولّين مال يتيم «6»، و قال- تعالى-: فَإِنْ كٰانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً. الآية «7».

فصحّ ان السفيه و الضعيف و من لا يقدر على شي ء فلا بدّ له من وليّ، و من لا بدّ له من وليّ فلا يجوز ان يكون وليّا للمسلمين، فصحّ ان ولاية من لم يستكمل هذه الشروط الثمانية باطل لا يجوز و لا ينعقد أصلا.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 1، ص: 270

ثم يستحبّ أن يكون عالما بما يخصّه من أمور الدين من العبادات و السياسة و الأحكام، مؤدّيا للفرائض كلها لا يخلّ بشي ء منها، مجتنبا لجميع الكبائر سرّا و جهرا، مستترا بالصغائر ان كانت منه.

فهذه أربع صفات يكره أن يلي الأمة من لم ينتظمها، فان ولي فولايته صحيحة و نكرهها. و طاعته فيها اطاع اللّه فيه واجبة. و منعه مما لم يطع اللّه فيه واجب.

______________________________

(1)- جامع الأصول 4/ 438، كتاب الخلافة، الباب 1، الحديث 2020.

(2)- راجع مسند أحمد 5/ 38.

(3)- سورة النساء (4)، الآية 141.

(4)- سورة المائدة (5)، الآية 2.

(5)- جامع الأصول 1/ 197، كتاب الاعتصام بالكتاب و السنة، الباب 1.

(6)- جامع الأصول 4/ 448، كتاب الخلافة، الباب 1، الحديث 2037.

(7)- سورة البقرة (2)، الآية 282.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 271

و الغاية المأمولة فيه أن يكون رفيقا بالناس في غير ضعف، شديدا في إنكار المنكر من غير عنف و لا تجاوز للواجب، مستيقظا

غير غافل، شجاع النفس، غير مانع للمال في حقّه و لا مبذّر له في غير حقّه.

و يجمع هذا كله أن يكون الإمام قائما بأحكام القرآن و سنن رسول اللّه «ص» فهذا يجمع كل فضيلة.» «1»

12- و قال ابن حزم أيضا في المحلّى:

«و لا تحلّ الخلافة الّا لرجل من قريش صليبة من ولد فهر بن مالك من قبل آبائه.

و لا تحلّ لغير بالغ و ان كان قرشيّا.» «2»

13- و قال أيضا في المحلّى:

«مسألة: و صفة الإمام أن يكون مجتنبا للكبائر، مستترا بالصغائر، عالما بما يخصّه، حسن السياسة، لأن هذا هو الذي كلّف. و لا معنى لأن يراعى أن يكون غاية الفضل، لأنه لم يوجب ذلك قرآن و لا سنّة.» «3»

______________________________

(1)- الفصل في الملل و الأهواء و النحل 4/ 166.

(2)- المحلّى 6/ 359، كتاب الإمامة، المسألة 1769.

(3)- المحلّى 6/ 362، كتاب الإمامة، المسألة 1773.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 272

14- كلام ابن خلدون:

و في مقدمة ابن خلدون:

«و أما شروط هذا المنصب فهي أربعة: العلم و العدالة و الكفاية و سلامة الحواس و الأعضاء، مما يؤثر في الرأي و العمل. و اختلف في شرط خامس و هو النسب القرشي. فأما اشتراط العلم فظاهر، لأنه إنما يكون منفذا لأحكام اللّه- تعالى- إذا كان عالما بها، و ما لم يعلمها لا يصحّ تقديمه لها. و لا يكفي من العلم إلّا أن يكون مجتهدا، لأن التقليد نقص، و الإمامة تستدعي الكمال في الأوصاف و الأحوال ...» «1»

15- كلام القلقشندي:

قال في مآثر الإنافة في معالم الخلافة:

«الفصل الثاني في شروط الإمامة، و قد اعتبر أصحابنا الشافعية لصحة عقدها أربعة عشر شرطا في الإمام: الأول: الذكورة، فلا تنعقد إمامة المرأة ... الثاني:

البلوغ ... الثالث: العقل ... الرابع: البصر، فلا تنعقد إمامة الأعمى ...

الخامس: السمع ... السادس: النطق، فلا تنعقد إمامة الأخرس ... السابع:

سلامة الأعضاء من نقص يمنع استيفاء الحركة و سرعة النهوض ... الثامن:

الحرية ... التاسع: الإسلام ... العاشر: العدالة ... الحادي عشر: الشجاعة و النجدة ... الثاني عشر: العلم المؤدّي إلى الاجتهاد في النوازل و الأحكام، فلا تنعقد إمامة غير العالم بذلك، لأنه محتاج لأن يصرّف الأمور على النهج القويم

______________________________

(1)- مقدمة ابن خلدون/ 135 (طبعة أخرى/ 193)، الفصل 26 من الفصل الثالث من الكتاب الأول.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 273

و يجربها على الصراط المستقيم، و لأن يعلم الحدود و يستوفي الحقوق و يفصل الخصومات بين الناس. و إذا لم يكن عالما مجتهدا لم يقدر على ذلك. الثالث عشر:

صحة الرأي و التدين فلا تنعقد إمامة ضعيف الرأي ... الرابع عشر: النسب، فلا تنعقد الإمامة بدونه، و المراد أن

يكون من قريش.» «1»

16- و في الفقه على المذاهب الأربعة ما ملخّصه:

«إنهم اتفقوا على أن الإمام يشترط فيه أن يكون مسلما مكلفا حرّا ذكرا قرشيا عدلا عالما مجتهدا شجاعا ذا رأي صائب سليم السمع و البصر و النطق.» «2»

أقول: هذه بعض كلماتهم في المقام، و تفصيل الأدلّة على الشروط يأتي في الفصول الآتية.

و يظهر لك بالدقّة فيما مرّ من الكلمات أن ولاية الفقيه ليست أمرا بدعا أبدعه فقهاء الشيعة في عصرنا، بل المشهور بين المحققين من علماء السنة أيضا اشتراط الاجتهاد و الفقاهة في الإمام و الوالي.

و لا يخفى أيضا أن اعتبار أكثرهم لوصف القرشية في الإمام إنما هو بلحاظ الأخبار الواردة في هذا الشأن، و سيأتي بيانها، فانتظر.

______________________________

(1)- مآثر الإنافة 1/ 31.

(2)- الفقه على المذاهب الأربعة 5/ 416، مبحث شروط الإمامة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 275

الفصل الثاني في بيان ما يحكم به العقل و العقلاء في المقام

مع قطع النظر عن الآيات و الروايات:

لا يخفى أن المرجع في إثبات الشرائط المعتبرة في الوالي هو العقل و الكتاب و السنة، فلنتعرض هنا لحكم العقل إجمالا، فنقول: إن العقلاء إذا أرادوا أن يفوّضوا أمرا من الأمور إلى شخص فلا محالة يراعون فيه أمورا: الأول: أن يكون الشخص المفوّض اليه عاقلا. الثاني: أن يكون عالما بكيفية العمل و فنونه. الثالث:

أن يكون قادرا على إيجاده و تحصيله على ما هو حقّه. الرابع: أن يكون أمينا يعتمد عليه، و إلّا لجاز أن يخون في أصل العمل أو في كيفيته. مثلا إذا أردتم أن تستأجروا أحدا لإحداث بناء فلا محالة تراعون فيه بحكم الفطرة وجود هذه الشرائط الأربعة.

و الولاية و إدارة شئون الأمّة من أهمّ الأمور و أعضلها و أدقّها، فلا محالة يشترط في الوالي بحكم العقل و الفطرة أن يكون عاقلا عالما بالعمل قادرا عليه

أمينا يعتمد عليه.

و إذا فرض أن المفوّضين لأمر الولاية إلى شخص خاص يعتقدون بمبدإ خاص و إيدئولوجية خاصة متضمنة لقوانين مخصوصة في نظام الحياة، و أرادوا إدارة شئونهم

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 276

السياسية على أساس هذا المبدأ و هذه المقررات الخاصة فلا محالة ينتخبون لذلك من يعتقد بهذا المبدأ و يطّلع على مقرراته، بل ينتخبون من يكون أعلم و أكثر اطلاعا، اللهم إلّا أن يزاحم ذلك جهة أقوى و أهمّ.

فهذا أمر طبيعي لا يعدل عنه العقلاء بفطرتهم و ارتكازهم.

مثلا إذا كان أهل منطقة خاصة معتقدين بالمبدإ المادي و الاقتصاد الماركسي فبالطبع يراعون في الوالي المنتخب كونه عاقلا، قادرا على أمر الولاية، معتقدا بهذا المبدأ الخاص، أكثر اطلاعا على قوانينه و مقرراته المرتبطة بإدارة الملك، أمينا معتمدا عليه في أقواله و أفعاله.

و على هذا فالمسلمون المعتقدون بالإسلام و أن الإسلام حاو لجميع ما يحتاج إليه البشر في حياتهم الفردية و العائلية، و في علاقاتهم الاقتصادية و الاجتماعية و السياسية مع المسلمين و غيرهم من الأمم لا محالة يراعون في الوالي العقل، و القدرة على الولاية، و اعتقاده بالاسلام، و اطلاعه على مقرراته و أحكامه، بل أعلميته في ذلك، و كذلك أمانته و استقامته المعبّر عنها بالعدالة.

فهذه شرائط للوالي، يحكم العقل بلزوم رعايتها مع الإمكان، سواء كان انتخاب الوالي و نصبه من قبل اللّه- تعالى-، كما نعتقده نحن بالنسبة الى الأئمة الاثنى عشر «ع» بلا إشكال، او كان من قبل الأمة، كما يعتقده إخواننا السنة مطلقا.

و لعلنا نعتقده بالنسبة الى الفقهاء العدول في عصر الغيبة.

و بالجملة اشتراط هذه الشرائط و اعتبارها في والي المسلمين بما هم مسلمون أمر لا يحتاج

الى التعبد الشرعي، بل يدركه الإنسان بعقله و فطرته، و لا نريد بولاية الفقيه إلّا هذا الأمر الفطري الارتكازي.

و قد مرّ في صحيحة عيص بن القاسم، عن أبي عبد اللّه «ع» انه قال: «و انظروا لأنفسكم. فو اللّه إن الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلا هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه و يجي ء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها.» «1»

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 35، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 277

فالإمام «ع» أرجع الراوي إلى فطرته و ارتكازه، و الى أمر يلتزم به العقلاء بما هم عقلاء. و ما ذكرناه حقيقة وجدانية، تقبلها طباع جميع البشر و عقولهم إذا خلوا من العناد و التعصب، من أيّ ملة و دين كانوا.

و لو فرض كون أكثر الناس في منطقة خاصة مسلمين متعهدين ملتزمين و يوجد بينهم أقليات غير مسلمة فلا محالة يجب أن تكون الحكومة على أساس موازين الإسلام مع حفظ حقوق الأقليات أيضا. و حفظ حقوقهم أيضا بنفسه يعدّ من مقررات الإسلام و موازينه، كما لا يخفى على أهله.

و قد تلخص مما ذكرنا أن العقل يحكم باعتبار العقل، و القدرة، و الإسلام، و العلم بل الاعلمية، و العدالة في حاكم الإسلام و و اليه. و المعرفة بالإدارة و التدبير أيضا يدخلان بعناية ما في مفهوم العلم، لاحتمال أن يراد به ما هو الأعم من العلم بالكليات و العلم بطرق التطبيق و عواقب الأمر و نحو ذلك. كما يحتمل دخولهما في عنوان القدرة. و سيأتي تفصيل ذلك في محله، فلاحظ و تأمّل.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه

الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 279

الفصل الثالث في ذكر آيات الباب

لا يخفى أن الآيات التي يمكن أن يتمسك بها لشرائط الإمام و الوالي كثيرة، و نحن قبل الورود في تفصيل الشرائط نذكر جملة من هذه الآيات في فصل مستقل بلا شرح و تفسير إذ في جمعها نحو فائدة، و نحيل الشرح إلى الفصول الآتية. قال اللّه- تعالى-:

1- «وَ لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.» «1»

2- «لٰا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّٰهِ فِي شَيْ ءٍ، إِلّٰا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقٰاةً، وَ يُحَذِّرُكُمُ اللّٰهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللّٰهِ الْمَصِيرُ.» «2»

3- «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصٰارىٰ أَوْلِيٰاءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ، وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ، إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَهْدِي الْقَوْمَ الظّٰالِمِينَ.» «3»

______________________________

(1)- سورة النساء (4)، الآية 141.

(2)- سورة آل عمران (3)، الآية 28.

(3)- سورة المائدة (5)، الآية 51.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 280

4- «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتٰابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمٰانِكُمْ كٰافِرِينَ.» «1»

5- «وَ مَنْ يُشٰاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدىٰ وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مٰا تَوَلّٰى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ سٰاءَتْ مَصِيراً.» «2»

6- «اتَّبِعُوا مٰا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لٰا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيٰاءَ، قَلِيلًا مٰا تَذَكَّرُونَ.» «3»

7- «اللّٰهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمٰاتِ إِلَى النُّورِ، وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيٰاؤُهُمُ الطّٰاغُوتُ، يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمٰاتِ، أُولٰئِكَ أَصْحٰابُ النّٰارِ هُمْ فِيهٰا خٰالِدُونَ.» «4»

8- «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ، يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا

بِهِ، وَ يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلٰالًا بَعِيداً.» «5»

9- «وَ لٰا تُطِعِ الْكٰافِرِينَ وَ الْمُنٰافِقِينَ، وَ دَعْ أَذٰاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللّٰهِ، وَ كَفىٰ بِاللّٰهِ وَكِيلًا.» «6»

10- «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لٰا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً.» «7»

11- «وَ قٰالُوا رَبَّنٰا إِنّٰا أَطَعْنٰا سٰادَتَنٰا وَ كُبَرٰاءَنٰا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا.» «8»

12- «وَ لٰا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لٰا يُصْلِحُونَ.» «9»

______________________________

(1)- سورة آل عمران (3)، الآية 100.

(2)- سورة النساء (4)، الآية 115.

(3)- سورة الأعراف (7)، الآية 3.

(4)- سورة البقرة (2)، الآية 257.

(5)- سورة النساء (4)، الآية 60.

(6)- سورة الأحزاب (33)، الآية 48.

(7)- سورة الإنسان (76)، الآية 24.

(8)- سورة الأحزاب (33)، الآية 67.

(9)- سورة الشعراء (26)، الآية 151 و 152.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 281

13- «وَ لٰا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنٰا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنٰا وَ اتَّبَعَ هَوٰاهُ وَ كٰانَ أَمْرُهُ فُرُطاً.» «1»

14- «وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ، وَ مٰا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللّٰهِ مِنْ أَوْلِيٰاءَ ثُمَّ لٰا تُنْصَرُونَ.» «2»

15- «قٰالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذٰا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهٰا وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهٰا أَذِلَّةً، وَ كَذٰلِكَ يَفْعَلُونَ.» «3»

16- «فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحٰامَكُمْ* أُولٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّٰهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمىٰ أَبْصٰارَهُمْ.» «4»

17- «وَ لَقَدْ نَجَّيْنٰا بَنِي إِسْرٰائِيلَ مِنَ الْعَذٰابِ الْمُهِينِ* مِنْ فِرْعَوْنَ، إِنَّهُ كٰانَ عٰالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ.» «5»

18- «أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ* مٰا لَكُمْ، كَيْفَ تَحْكُمُونَ.» «6»

19- «أَ فَمَنْ كٰانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كٰانَ فٰاسِقاً، لٰا يَسْتَوُونَ.» «7»

20- «وَ إِذِ ابْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، قٰالَ: إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً. قٰالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي، قٰالَ: لٰا يَنٰالُ عَهْدِي الظّٰالِمِينَ.» «8»

21- «وَ لِلّٰهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ

وَ لِلْمُؤْمِنِينَ، وَ لٰكِنَّ الْمُنٰافِقِينَ لٰا يَعْلَمُونَ.» «9»

______________________________

(1)- سورة الكهف (18)، الآية 28.

(2)- سورة هود (11)، الآية 113.

(3)- سورة النمل (27)، الآية 34.

(4)- سورة محمد «ص» (47)، الآية 22 و 23.

(5)- سورة الدخان (44)، الآية 30 و 31.

(6)- سورة القلم (68)، الآية 35 و 36.

(7)- سورة السجدة (32)، الآية 18.

(8)- سورة البقرة (2)، الآية 124.

(9)- سورة المنافقين (63)، الآية 8.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 282

22- «ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لٰا يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ، وَ مَنْ رَزَقْنٰاهُ مِنّٰا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً، هَلْ يَسْتَوُونَ، الْحَمْدُ لِلّٰهِ، بَلْ أَكْثَرُهُمْ لٰا يَعْلَمُونَ* وَ ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمٰا أَبْكَمُ لٰا يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ وَ هُوَ كَلٌّ عَلىٰ مَوْلٰاهُ أَيْنَمٰا يُوَجِّهْهُ لٰا يَأْتِ بِخَيْرٍ، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ هُوَ عَلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ.» «1»

23- «قُلْ لٰا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزٰائِنُ اللّٰهِ وَ لٰا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لٰا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ، إِنْ أَتَّبِعُ إِلّٰا مٰا يُوحىٰ إِلَيَّ. قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمىٰ وَ الْبَصِيرُ؟ أَ فَلٰا تَتَفَكَّرُونَ.» «2»

24- «أَ فَمَنْ كٰانَ عَلىٰ بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ؟» «3»

25- «وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللّٰهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّٰاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ آتَوُا الزَّكٰاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَ لِلّٰهِ عٰاقِبَةُ الْأُمُورِ.» «4»

26- «وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّٰهُ لَكُمْ قِيٰاماً.» «5»

27- «أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لٰا يَهِدِّي إِلّٰا أَنْ يُهْدىٰ، فَمٰا لَكُمْ، كَيْفَ تَحْكُمُونَ.» «6»

28- «وَ قٰالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللّٰهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طٰالُوتَ مَلِكاً. قٰالُوا أَنّٰى يَكُونُ

لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنٰا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ، وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمٰالِ؟ قٰالَ إِنَّ اللّٰهَ اصْطَفٰاهُ عَلَيْكُمْ وَ زٰادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ، وَ اللّٰهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشٰاءُ وَ اللّٰهُ وٰاسِعٌ عَلِيمٌ.» «7»

29- «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لٰا يَعْلَمُونَ؛ إِنَّمٰا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبٰابِ.» «8»

______________________________

(1)- سورة النحل (16)، الآية 75 و 76.

(2)- سورة الأنعام (6)، الآية 50.

(3)- سورة محمد «ص» (47)، الآية 14.

(4)- سورة الحج (22)، الآية 40 و 41.

(5)- سورة النساء (4)، الآية 5.

(6)- سورة يونس (10)، الآية 35.

(7)- سورة البقرة (2)، الآية 247.

(8)- سورة الزمر (39)، الآية 9.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 283

30- «قٰالَ اجْعَلْنِي عَلىٰ خَزٰائِنِ الْأَرْضِ، إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ.» «1»

31- «قٰالَتْ إِحْدٰاهُمٰا يٰا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ.» «2»

32- «قٰالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقٰامِكَ، وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ.» «3»

33- «الرِّجٰالُ قَوّٰامُونَ عَلَى النِّسٰاءِ بِمٰا فَضَّلَ اللّٰهُ بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ، وَ بِمٰا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوٰالِهِمْ.

الآية.» «4»

34- «أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي الْخِصٰامِ غَيْرُ مُبِينٍ.» «5»

35- «وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَ لِلرِّجٰالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، وَ اللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.» «6»

36- «وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لٰا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجٰاهِلِيَّةِ الْأُولىٰ.» «7»

______________________________

(1)- سورة يوسف (12)، الآية 55.

(2)- سورة القصص (28)، الآية 26.

(3)- سورة النمل (27)، الآية 39.

(4)- سورة النساء (4)، الآية 34.

(5)- سورة الزخرف (43)، الآية 18.

(6)- سورة البقرة (2)، الآية 228.

(7)- سورة الأحزاب (33)، الآية 33.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 285

الفصل الرابع في اعتبار العقل الوافي

قد مرّ انه يشترط في الوالي امور: الأول

العقل، و قد بينا في الفصل الثاني ان العقلاء بحسب فطرتهم لا يفوّضون أمورهم الى غيرهم إلّا اذا أحرزوا فيه شروطا و منها العقل. هذا في الأمور المتعارفة فكيف بالولاية التي هي سلطة على الدماء و الأعراض و الأموال.

و في الغرر و الدرر عن أمير المؤمنين «ع»: «يحتاج الإمام إلى قلب عقول، و لسان قؤول، و جنان على إقامة الحق صئول.» «1»

هذا مضافا الى ان المجنون رفع عنه القلم و يكون مولّى عليه فكيف يجعل وليّا على المسلمين؟! و السفيه أيضا محجور عليه.

قال اللّه- تعالى-: «وَ لٰا تُؤْتُوا السُّفَهٰاءَ أَمْوٰالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللّٰهُ لَكُمْ قِيٰاماً.» «2»

و المراد بالأموال في الآية الأموال العامة المتعلّقة بالمجتمع او مطلق الأموال و ان كانت للأشخاص. و الوالي مسلّط على الأموال و النفوس قهرا، فلا يجوز أن يكون سفيها.

______________________________

(1)- الغرر و الدرر 6/ 472، الحديث 11010.

(2)- سورة النساء (4)، الآية 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 286

و في رواية الشحام عن أبي عبد اللّه «ع» «لا يكون السفيه إمام التقى.» «1»

و في نهج البلاغة: «و لكنني آسى أن يلي أمر هذه الأمّة سفهاؤها و فجّارها، فيتّخذوا مال اللّه دولا و عباده خولا و الصالحين حربا و الفاسقين حزبا.» «2»

و في كنز العمّال: «إذا أراد اللّه بقوم خيرا ولّى عليهم حلماءهم و قضى عليهم علماؤهم، و جعل المال في سمحائهم. و إذا أراد اللّه بقوم شرّا ولّى عليهم سفهاءهم، و قضى بينهم جهالهم، و جعل المال في بخلائهم.» (فر، عن مهران) «3».

فيعتبر في الوالي مضافا الى العقل، الرشد في قبال السفاهة أيضا. و ان شئت قلت: يعتبر فيه العقل الكامل، فهما شرط واحد. و بالجملة المسألة

واضحة لا تحتاج الى بحث.

______________________________

(1)- الكافي 1/ 175؛ كتاب الحجة، باب طبقات الأنبياء و ... الحديث 2.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1050؛ عبده 3/ 131؛ لح/ 452، الكتاب 62.

(3)- كنز العمال 6/ 7، الباب 1 من كتاب الإمارة، الحديث 14595.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 287

الفصل الخامس في اعتبار الإسلام و الايمان

الشرط الثاني للوالي: الإسلام و الإيمان. فلا يجعل الكافر واليا على المسلمين.

و قد مرّ في الفصل الثاني بيان اعتباره من طريق العقل.

و يدلّ على ذلك من الكتاب آيات كثيرة:

منها قوله- تعالى-: «لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.» «1»

إذ الولاية على الغير من أقوى السبل عليه.

و منها قوله: «لٰا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكٰافِرِينَ أَوْلِيٰاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ، وَ مَنْ يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّٰهِ فِي شَيْ ءٍ.» «2»

و منها قوله: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لٰا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصٰارىٰ أَوْلِيٰاءَ، بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ.» «3»

إلى غير ذلك من الآيات.

______________________________

(1)- سورة النساء (4)، الآية 141.

(2)- سورة آل عمران (3)، الآية 28.

(3)- سورة المائدة (5)، الآية 51.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 288

و الروايات الدالّة على ذلك أيضا كثيرة جدا، و منها ما عن النبي «ص»:

«الإسلام يعلو و لا يعلى عليه.» «1» هذا.

و كيف ينتظر و يتوقع ممن لا يعتقد بالإسلام أن يكون مجريا لأحكام الإسلام و مديرا لشئون المسلمين على أساس موازين الإسلام. و بذلك يظهر عدم كفاية الإسلام بالمعنى الأعم، لصدقه على الإقرار اللفظي أيضا، بل يعتبر الإيمان المركّب من الإقرار باللسان و الاعتقاد بالجنان و العمل بالأركان. و وجهه واضح.

و إذا كان الإيمان شرطا في إمام الجماعة فاشتراطه في الإمام الأعظم يثبت بطريق أولى، فتدبّر.

______________________________

(1)- الفقيه 4/ 334، باب ميراث أهل الملل،

الحديث 5719.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 289

الفصل السادس في اعتبار العدالة

اشارة

الشرط الثالث: العدالة. فلا ولاية للظالم و الفاسق على المسلمين.

و يدلّ على ذلك مضافا إلى حكم العقل كما عرفت الآيات و الروايات الكثيرة من طرق الفريقين.

1- فمن الآيات

قوله- تعالى-: «وَ إِذِ ابْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ، قٰالَ: إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً، قٰالَ: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي، قٰالَ: لٰا يَنٰالُ عَهْدِي الظّٰالِمِينَ.» «1»

قال في أقرب الموارد:

«ظلم فلان ض ظلما و ظلما و مظلمة: وضع الشي ء في غير موضعه، و منه المثل:

«من استرعى الذئب فقد ظلم.» و فلانا: جار عليه ... و الأرض حفرها في غير موضع حفرها ...» «2»

فكل ما يخالف الحق يصح أن يطلق عليه الظلم و يكون مشمولا لإطلاقه.

و على هذا فكل فاسق ظالم، و كل منحرف عن الحقّ كذلك.

______________________________

(1)- سورة البقرة (2)، الآية 124.

(2)- أقرب الموارد 2/ 731.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 290

2- و من الآيات أيضا قوله- تعالى-: «وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ ...» «1»

قال عليّ بن إبراهيم في ذيل الآية:

«قال: ركون مودّة و نصيحة و طاعة.» «2»

3- و منها أيضا قوله: «وَ لٰا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لٰا يُصْلِحُونَ.» «3»

4- و منها قوله: «وَ لٰا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنٰا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنٰا وَ اتَّبَعَ هَوٰاهُ وَ كٰانَ أَمْرُهُ فُرُطاً.» «4»

5- و منها قوله: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لٰا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً.» «5»

6- و منها قوله- حكاية عن أهل النار-: «وَ قٰالُوا: رَبَّنٰا إِنّٰا أَطَعْنٰا سٰادَتَنٰا وَ كُبَرٰاءَنٰا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا.» «6»

إلى غير ذلك من الآيات التي يظهر منها أن الظالم و الفاسق لا يجعل إماما و واليا مفترض الطّاعة، و دلالتها واضحة ظاهرة.

و أما الروايات

ففي غاية الكثرة. نذكر عدّة منها:

1- ما رواه في أصول الكافي بسنده عن حنان، عن أبيه، عن أبي جعفر «ع» قال: قال رسول اللّه «ص»: «لا تصلح الإمامة إلّا لرجل فيه ثلاث خصال:

ورع يحجزه عن معاصي اللّه، و حلم يملك به غضبه، و حسن الولاية على من يلي حتّى يكون لهم كالوالد الرحيم.»

و في رواية أخرى «حتى يكون للرّعية كالأب الرحيم.» «7»

2- ما رواه أيضا بسند صحيح عن محمد بن مسلم، قال سمعت أبا جعفر «ع»

______________________________

(1)- سورة هود (11)، الآية 113.

(2)- تفسير علي بن ابراهيم (القمي)/ 315 (طبعة أخرى 1/ 338).

(3)- سورة الشعراء (26)، الآية 151 و 152.

(4)- سورة الكهف (18)، الآية 28.

(5)- سورة الإنسان (76)، الآية 24.

(6)- سورة الأحزاب (33)، الآية 67.

(7)- الكافي 1/ 407، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام على الرّعية ...، الحديث 8.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 291

يقول: «... و اللّه يا محمّد، من أصبح من هذه الأمة لا إمام له من اللّه- عزّ و جلّ- ظاهر عادل أصبح ضالّا تائها. و إن مات على هذه الحالة مات ميتة كفر و نفاق. و اعلم يا محمد، أن أئمّة الجور و أتباعهم لمعزولون عن دين اللّه، قد ضلّوا و أضلّوا ...» «1»

3- ما في المحكم و المتشابه: «و إنما هلك الناس حين ساووا بين أئمة الهدى و أئمة الكفر، فقالوا: إن الطاعة مفترضة لكلّ من قام مقام النبي «ص» برّا كان أو فاجرا، فأتوا من قبل ذلك.

قال اللّه- تعالى-: أ فنجعل المسلمين كالمجرمين، ما لكم، كيف تحكمون.» «2»

و هل يكون جميع الكتاب رواية عن أمير المؤمنين «ع» أولا؟ قد مرّ الكلام فيه في الدليل الخامس من أدلة لزوم الولاية، فراجع.

4- ما في نهج البلاغة بعد ما ذكر «ع» سابقته في الإسلام قال: «و قد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج و

الدماء و المغانم و الأحكام و إمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، و لا الجاهل فيضلهم بجهله، و لا الجافي فيقطعهم بجفائه، و لا الحائف للدول فيتّخذ قوما دون قوم، و لا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق و يقف بها دون المقاطع، و لا المعطّل للسنّة فيهلك الأمّة.» «3»

أقول: قوله «ع»: «و قد علمتم»، يعني من الآيات القرآنية التي يعلم بها شرائط الولاية، أو من بيان رسول اللّه «ص» أو من بياناته السابقة، أو مما رأوه من أعمال من سبقه.

و قوله: «لا ينبغي» ليس ظاهرا في الكراهة، و إن شاع في اصطلاح الفقهاء في أعصارنا إرادتها منه، فإنّه بحسب اللغة صالح للحرمة أو ظاهر فيها. ففي لسان العرب:

______________________________

(1)- الكافي 1/ 184، كتاب الحجة، باب معرفة الإمام و الرد اليه، الحديث 8.

(2)- المحكم و المتشابه/ 71، و بحار الأنوار 90/ 57 (طبعة إيران 93/ 57)، باب ما ورد في أصناف آيات القرآن.

و الآيتان المذكورتان من سورة القلم (68)، الرقم 35 و 36.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 407؛ عبده 2/ 19؛ لح/ 189، الخطبة 131.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 292

«يقال: انبغى لفلان أن يفعل كذا، أي صلح له أن يفعل كذا، و كأنّه قال:

طلب فعل كذا فانطلب له، أي طاوعه ... و انبغى الشي ء تيسّر و تسهّل.» «1»

و على هذا فقوله: «لا ينبغي»، أي لا يصلح و لا يتيسّر تحققه.

و يشهد لذلك موارد استعمال الكلمة في الكتاب العزيز، كقوله- تعالى-:

«قٰالُوا سُبْحٰانَكَ مٰا كٰانَ يَنْبَغِي لَنٰا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيٰاءَ.» «2» و قوله: «لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهٰا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ، وَ لَا اللَّيْلُ سٰابِقُ النَّهٰارِ.» «3» إلى غير ذلك من

الآيات الشريفة. و في صحيحة زرارة المشهورة في الاستصحاب: «فليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا.» «4» هذا.

و «النهمة» بالفتح: الحاجة و بلوغ الشهوة، و بالفتحتين: إفراط الشهوة في الطعام.

و «الجفاء»: سوء الخلق و خلاف البرّ و الصلة. و «الحيف»: الظلم. و «الدول» بضم الدال جمع دولة بالضم: المال الذي تتداوله الأيدي.

و روي: «الخائف» بالمعجمة، و «الدول» بكسر الدال جمع دولة بالفتح، أي الغلبة في الحرب و غيره. فيراد به من يخاف من تقلبات الدهر و غلبة أعدائه عليه، فيتّخذ قوما يتوقّع نصرهم و يقويهم بالتفضيل في العطاء.

و «مقاطع الحكم» حدودها المعينة من قبل اللّه- تعالى-.

و قوله: «فيذهب بالحقوق و يقف بها دون المقاطع»، أي يقف عند مقطع الحكم فلا يقطعه بالحق بل يحكم بالجور، أو يقف عند أصل الحكم و يسوّفه حتى لا يصل المحقّ إلى حقّه أو يضطرّ إلى الصلح.

و المراد بالسنّة أحكام اللّه المبينة بطريقة النبي و قوله و فعله.

و كيف كان فدلالة الكلام على اعتبار العدالة واضحة، فتدبّر.

5- ما في نهج البلاغة أيضا: «و لكنني آسى أن يلى أمر هذه الأمّة سفهاؤها و فجّارها،

______________________________

(1)- لسان العرب 14/ 77.

(2)- سورة الفرقان (25)، الآية 18.

(3)- سورة يس (36)، الآية 40.

(4)- الوسائل 2/ 1062، الباب 41 من أبواب النجاسات، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 293

فيتّخذوا مال اللّه دولا و عباده خولا و الصالحين حربا و الفاسقين حزبا.» «1»

6- ما فيه أيضا خطابا لعثمان: «فاعلم أن أفضل عباد اللّه عند اللّه إمام عادل هدى و هدى، فأقام سنّة معلومة و أمات بدعة مجهولة ... و أنّ شر الناس عند اللّه إمام جائر ضلّ و ضلّ به، فأمات

سنّة معلومة و أحيا بدعة متروكة. و إنّي سمعت رسول اللّه «ص» يقول: يؤتى يوم القيامة بالإمام الجائر و ليس معه نصير و لا عاذر، يلقى في نار جهنّم فيدور فيها كما تدور الرحى ثمّ يرتبط في قعرها.» «2»

7- ما في خطبة الحسن بن علي «ع» بمحضر معاوية، قال «ع»: «إنّما الخليفة من سار بكتاب اللّه و سنّة نبيّه «ص»، و ليس الخليفة من سار بالجور.» «3»

8- ما رواه في الإرشاد عن سيد الشهداء- عليه السلام- في جوابه لكتب أهل الكوفة إليه: «فلعمري ما الإمام إلّا الحاكم بالكتاب، القائم بالقسط، الدائن بدين الحق، الحابس نفسه على ذات اللّه.» «4» و نحوه في الكامل. «5»

9- ما في نهج البلاغة: «من نصب نفسه للناس إماما فليبدأ بتعليم نفسه قبل تعليم غيره، و ليكن تأديبه بسيرته قبل تأديبه بلسانه. و معلّم نفسه و مؤدّبها أحق بالإجلال من معلّم الناس و مؤدّبهم.» «6»

فتأمّل، إذ يشكل دلالة الحديث على اعتبار العدالة في الإمام.

10- ما رواه في إثبات الهداة، عن الصدوق بسنده، عن حبيب السجستاني، عن أبي جعفر «ع» قال: قال رسول اللّه «ص»: «قال اللّه- عزّ و جلّ: لأعذّبنّ كلّ رعيّة في

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1050؛ عبده 3/ 131؛ لح/ 452، الكتاب 62.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 526؛ عبده 2/ 85؛ لح/ 234، الخطبة 164.

(3)- مقاتل الطالبيين/ 47.

(4)- الإرشاد للمفيد/ 186 (طبعة أخرى/ 204).

(5)- الكامل لابن أثير 4/ 21.

(6)- نهج البلاغة، فيض/ 1117؛ عبده 3/ 166؛ لح/ 480، الحكمة 73.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 294

الإسلام دانت بولاية إمام جائر ظالم ليس من اللّه و إن كانت الرعية عند اللّه بارّة تقيّة. و لأعفونّ عن

كلّ رعيّة في الإسلام دانت بولاية كلّ إمام عادل من اللّه و إن كانت الرعيّة في أعمالها ظالمة مسيئة.» «1»

11- ما رواه في الكافي بسند صحيح، عن هشام بن سالم و حفص بن البختري، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «قيل له بأيّ شي ء يعرف الإمام؟ قال: بالوصية الظاهرة و بالفضل. إنّ الإمام لا يستطيع أحد أن يطعن عليه في فم و لا بطن و لا فرج فيقال: كذاب و يأكل أموال الناس و ما أشبه هذا.» «2»

12- ما رواه في الدعائم عن جعفر بن محمّد «ع» أنّه قال: «ولاية أهل العدل الذين أمر اللّه بولايتهم و توليتهم و قبولها و العمل لها فرض من اللّه- عزّ و جلّ-، و طاعتهم واجبة. و لا يحلّ لمن أمروه بالعمل لهم أن يتخلف عن أمرهم و (ولاية ظ) ولاة أهل الجور و اتباعهم و العاملون لهم في معصية اللّه غير جائزة لمن دعوه إلى خدمتهم و العمل لهم و عونهم و لا القبول منهم.» «3»

13- ما في تحف العقول عن الصادق- عليه السلام-: «فوجه الحلال من الولاية ولاية الوالي العادل الذي أمر اللّه بمعرفته و ولايته و العمل له في ولايته، و ولاية ولاته و ولاة ولاته، بجهة ما أمر اللّه به الوالي العادل، بلا زيادة فيما أنزل اللّه به و لا نقصان منه و لا تحريف لقوله و لا تعدّ لأمره إلى غيره. فإذا صار الوالي والى عدل بهذه الجهة فالولاية له و العمل معه و معونته في ولايته و تقويته حلال محلّل، و حلال الكسب معهم. و ذلك أنّ في ولاية والي العدل و ولاته إحياء كلّ حق و عدل و إماتة كلّ ظلم و

جور و فساد، فلذلك كان الساعي في تقوية سلطانه و المعين له على ولايته ساعية إلى طاعة اللّه مقوّيا لدينه.

و أمّا وجه الحرام من الولاية فولاية الوالي الجائر و ولاية ولاته، الرئيس منهم و أتباع الوالي فمن دونه من ولاة الولاة إلى أدناهم بابا من أبواب الولاية على من هو وال عليه. و العمل لهم و الكسب

______________________________

(1)- إثبات الهداة 1/ 123.

(2)- الكافي 1/ 284، كتاب الحجة، باب الأمور التي توجب حجة الإمام «ع»، الحديث 3.

(3)- دعائم الإسلام 2/ 527، كتاب آداب القضاة، الحديث 1876.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 295

معهم بجهة الولاية لهم حرام و محرّم، معذّب من فعل ذلك على قليل من فعله أو كثير، لأنّ كلّ شي ء من جهة المعونة معصية كبيرة من الكبائر. و ذلك أنّ في ولاية الوالي الجائر دوس الحقّ كلّه و إحياء الباطل كلّه، و إظهار الظلم و الجور و الفساد و إبطال الكتب و قتل الأنبياء و المؤمنين و هدم المساجد و تبديل سنّة اللّه و شرائعه. فلذلك حرم العمل معهم و معونتهم و الكسب معهم إلّا بجهة الضرورة، نظير الضرورة إلى الدم و الميتة.» «1»

و آثار الصدق و الحقيقة على الحديث لائحة، كما أن دلالته واضحة. و قال في ديباجة تحف العقول:

«و أسقطت الأسانيد تخفيفا و إيجازا، و إن كان أكثره لي سماعا، و لأن أكثره آداب و حكم تشهد لأنفسها.»

14- ما رواه في الوسائل بسنده عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه «ع»، عن آبائه، قال أمير المؤمنين «ع»: «لا يخرج المسلم في الجهاد مع من لا يؤمن على الحكم. و لا ينفذ في الفي ء أمر اللّه- عزّ و

جلّ- فإنه إن مات في ذلك المكان كان معينا لعدوّنا في حبس حقّنا و الإشاطة بدمائنا، و ميتته ميتة جاهلية.» «2»

15- ما رواه النعماني في كتاب الغيبة عن محمد بن يعقوب بسنده، عن أبي وهب، عن محمد بن منصور، قال: سألته، يعني أبا عبد اللّه «ع» عن قول اللّه- عزّ و جلّ-: «وَ إِذٰا فَعَلُوا فٰاحِشَةً قٰالُوا وَجَدْنٰا عَلَيْهٰا آبٰاءَنٰا وَ اللّٰهُ أَمَرَنٰا بِهٰا. قُلْ إِنَّ اللّٰهَ لٰا يَأْمُرُ بِالْفَحْشٰاءِ.

أَ تَقُولُونَ عَلَى اللّٰهِ مٰا لٰا تَعْلَمُونَ.» «3» قال: فقال: «فهل رأيت أحدا زعم أن اللّه أمره بالزنا و شرب الخمر أو شي ء من هذه المحارم؟ فقلت: لا. قال: «فما هذه الفاحشة التي يدّعون أن اللّه أمرهم؟ قلت:

اللّه أعلم و وليّه. قال: «فان هذا في أولياء أئمة الجور، ادعوا أن اللّه أمرهم بالايتمام بقوم لم يأمرهم اللّه بالايتمام بهم، فردّ اللّه ذلك عليهم و أخبرهم أنهم قد قالوا عليه الكذب و سمي ذلك منهم

______________________________

(1)- تحف العقول/ 332.

(2)- الوسائل 11/ 34، الباب 12 من أبواب جهاد العدو، الحديث 8.

(3)- سورة الأعراف (7)، الآية 28.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 296

فاحشة.» «1»

إلى غير ذلك مما دلّ على حرمة إطاعة أئمة الجور، فإن الإمام إنما جعل إماما ليؤتم به، فإذا حرمت الإطاعة فلا إمامة، كما هو واضح.

16- و في تفسير نور الثقلين عن روضة الواعظين للمفيد، قال رسول اللّه «ص»:

«حفت الجنة بالمكاره و حفت النار بالشهوات. قال اللّه- تعالى- لداود: حرام على كلّ قلب عالم محبّ للشهوات أن أجعله إماما للمتقين.» «2»

17- ما في كنز العمال عن عليّ «ع» قال: «ثلاثة من كن فيه من الأئمة صلح أن يكون إماما اضطلع بأمانته: إذا

عدل في حكمه، و لم يحتجب دون رعيّته، و أقام كتاب اللّه- تعالى- في القريب و البعيد.» (الديلمي). «3»

18- و في الغرر و الدرر: «سبع أكول حطوم خير من وال ظلوم غشوم.» «4»

19- و فيه أيضا: «ولاة الجور شرار الأمة و أضداد الأئمة.» «5»

20- و قد مرّ في رواية الفضل بن شاذان: «و منها أنّه لو لم يجعل لهم إماما قيّما أمينا حافظا مستودعا لدرست الملة.» «6»

21- و في رواية سليم: «يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء و السنة.» «7» هذا.

و الأخبار و الروايات في ذمّ ولاة الجور و حرمة تقويتهم و إعانتهم في غاية

______________________________

(1)- الغيبة للنعماني/ 82 (طبعة أخرى/ 130)، الباب 7 (باب ما روي فيمن شك في واحد من الأئمة ...).

(2)- تفسير نور الثقلين 4/ 44 (في تفسير سورة الفرقان).

(3)- كنز العمال 5/ 764، الباب 2 من كتاب الخلافة من قسم الأفعال، الحديث 14315.

(4)- الغرر و الدرر 4/ 145، الحديث 5626.

(5)- الغرر و الدرر 6/ 239، الحديث 10122.

(6)- علل الشرائع 1/ 95 (طبعة أخرى 1/ 253)، الباب 182 (باب علل الشرائع و أصول الإسلام)، الحديث 9.

(7)- كتاب سليم بن قيس/ 182.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 297

الكثرة. و أيّ إعانة أقوى من الانقياد لهم و التسليم لأوامرهم؟ إذ لا تبقى الحكومة إلّا بإطاعة الأمّة.

و في رواية السكوني عن جعفر بن محمد، عن آبائه- عليهم السلام- قال: قال رسول اللّه «ص»: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد أين أعوان الظلمة و من لاق لهم دواتا أو ربط كيسا أو مدّ لهم مدّة قلم، فاحشروهم معهم.» «1»

و في رواية أخرى عن كتاب ورّام: «قال- عليه السلام-: إذا

كان يوم القيامة نادى مناد أين الظلمة و أعوان الظلمة و أشباه الظلمة حتّى من برى لهم قلما و لاق لهم دواتا. قال:

فيجتمعون في تابوت من حديد ثم يرمى بهم في جهنم.» «2»

و في كنز العمال عن كعب بن عجرة، قال: قال رسول اللّه «ص»: يا كعب بن عجرة أعيذك باللّه من إمارة السفهاء. قلت: يا رسول اللّه و ما إمارة السفهاء؟ قال: يوشك أن تكون أمراء إن حدثوا كذبوا و إن عملوا ظلموا، فمن جاءهم فصدقهم بكذبهم و أعانهم على ظلمهم فليس منّي و لست منه و لا يردون عليّ حوضي غدا، و من لم يأتهم و لم يصدقهم و لم يعنهم على ظلمهم فهو منّي و أنا منه و هو يرد عليّ حوضي غدا.» (ابن جرير) «3».

كما أن الروايات الواردة في مدح الإمام العادل و بركاته أيضا كثيرة و قد مرّ بعضها في الدليل العاشر. و كفاك خبر حفص بن عون، رفعه، قال: قال رسول اللّه «ص»: «ساعة إمام عادل أفضل من عبادة سبعين سنة، و حدّ يقام للّه في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحا.» «4»

و هنا روايات كثيرة تدل على اعتبار العدالة في القاضي، و وجوب التجنب عن قضاة الجور، ذكر بعضها في الوسائل في الباب 1 و 3 من أبواب صفات القاضي، و منها خبر سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «اتقوا الحكومة، فإنّ

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 130، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 11.

(2)- الوسائل 12/ 131، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 16.

(3)- كنز العمال 5/ 797، الباب 2 من كتاب الخلافة من قسم الأفعال، الحديث 14412.

(4)- الوسائل 18/ 308، الباب

1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 298

الحكومة إنما هي للإمام العالم بالفضاء العادل في المسلمين لنبي (كنبي خ. ل) أو وصي نبي.» «1»

و إذا اعتبرت العدالة في القاضي ففي الوالي المسلّط على دماء المسلمين و الأعراض و الأموال تعتبر بطريق أولى. بل القضاء شعبة من شعب الولاية المطلقة، و ربما يتصدى له الوالي بنفسه، كما كان أمير المؤمنين «ع» كذلك.

و إذا اخترنا اعتبار العدالة في إمام الجمعة و الجماعة فاعتبارها في الإمام الذي هو القدوة في جميع الشؤون و بيده زمام أمر المسلمين و يكون مسلطا على النفوس و الأعراض و الأموال آكد. بل الحقّ أنّ تعيين إمام الجمعة و العيدين من شئونه، و هو الأحقّ بإقامتهما مع حضوره. فعن أمير المؤمنين «ع»: «إذا قدم الخليفة مصرا من الأمصار جمّع الناس، ليس ذلك لأحد غيره.» «2»

و إمامة المسلمين مقام الهيّ شامخ، فان كانت من قبل اللّه- تعالى- فيبعد جدّا من لطفه- تعالى- بل يقبح عليه عقلا أن ينصب على الأمة إماما جائرا فاسقا، و يوجب الانقياد و التسليم له. و إن كانت بانتخاب الأمة فالعقل يحكم بقبح انتخاب الظالم الجائر و تسليطه على الدماء و الأعراض و التسليم له و إطاعته.

و أوهن من ذلك عند العقل القول بوجوب الإطاعة للجائر الفاسق الذي غلب بالسيف بلا انتخاب و لا بيعة، و قد قال اللّه- تعالى-: «لٰا يَنٰالُ عَهْدِي الظّٰالِمِينَ» «3»، و قال:

«وَ لٰا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لٰا يُصْلِحُونَ» «4»، و قال: «وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ» «5».

و كفت هذه الآيات جوابا عن كل من يتوهم لزوم الانقياد

للطواغيت و الظلمة و وجوب إطاعتهم.

و كيف يجب إطاعة الجائرين و لا سيما عبدة الكفار و الملاحدة و عملاء الشرق

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.

(2)- الوسائل 5/ 36، الباب 20 من أبواب صلاة الجمعة، الحديث 1.

(3)- سورة البقرة (2)، الآية 124.

(4)- سورة الشعراء (26)، الآية 151 و 152.

(5)- سورة هود (11)، الآية 113.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 299

و الغرب منهم و خصوصا في الأمور التي تعدّ معصية للّه- سبحانه؟! و ما يجري على أفواه أعوان الظلمة من أنّ المأمور معذور! فعذر شيطاني لا أساس له، لا في الكتاب و السنّة، و لا في الفطرة. هذا.

و في كنز العمال عن أحمد، عن أنس: «لا طاعة لمن لم يطع اللّه.» «1»

و في نهج البلاغة: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.» «2»

و في صحيح مسلم عن ابن عمر، عن النبي «ص» أنّه قال: «على المرء المسلم السمع و الطاعة فيما أحب و كره، إلا ان يؤمر بمعصية. فإن أمر بمعصية فلا سمع و لا طاعة.» «3»

و فيه أيضا عن علي «ع»: «إنّ رسول اللّه «ص» بعث جيشا و أمّر عليهم رجلا فأوقد نارا و قال: ادخلوها، فأراد ناس أن يدخلوها و قال الآخرون: إنّا قد فررنا منها، فذكر ذلك لرسول اللّه «ص» فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة. و قال للآخرين قولا حسنا، و قال: لا طاعة في معصية اللّه، إنّما الطاعة في المعروف. «4»

و في المصنف لعبد الرزاق الصنعاني: «ان النبي «ص» بعث عبد اللّه بن حذافة على سريّة، فأمر أصحابه، فأوقدوا نارا، ثم أمرهم أن يثبوها

فجعلوا يثبونها، فجاء شيخ ليثبها فوقع فيها فاحترق منه بعض ما احترق، فذكر شأنه لرسول اللّه «ص» فقال: ما حملكم على ذلك؟ قالوا: يا رسول اللّه، كان أميرا و كانت له طاعة. قال: أيّما أمير أمّرته عليكم فأمركم بغير طاعة اللّه فلا تطيعوه، فإنّه لا طاعة في معصية اللّه.» «5» إلى غير ذلك من الأخبار و لعلّ كونه معصية من جهة خوف الضرر و الهلاك، أو من جهة كونه إحياء لرسم المجوس من تعظيم النار أو للتشبّه بهم.

______________________________

(1)- كنز العمال 6/ 67، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14872.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1167؛ عبده 3/ 193؛ لح/ 500، الحكمة 165.

(3)- صحيح مسلم 3/ 1469، كتاب الإمارة، الباب 8، (باب وجوب طاعة الأمراء ...)، الحديث 1839.

(4)- صحيح مسلم 3/ 1469، كتاب الإمارة، الباب 8، (باب وجوب طاعة الأمراء ...)، الحديث 1840.

(5)- المصنف 11/ 335، باب لا طاعة في معصية، الحديث 20699.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 300

و كيف كان فإطاعة أمراء الجور بما هو عصيان للّه- تعالى- غير واجبة، بل غير جائزة بلا إشكال و لا أظنّ أن يلتزم بوجوبها أحد ممن له دين أو عقل.

نعم، يوجد هنا بعض الأخبار و الفتاوى من السنة ربما يستفاد منها وجوب الإطاعة و التسليم للأمراء و السلاطين مطلقا، و سيأتي البحث في ذلك بالتفصيل في المسألة السادسة عشرة من الفصل السادس من الباب الخامس. و هو بحث لطيف مبتلى به في هذه الأعصار ينبغي للفضلاء متابعته، فانتظر.

و قد ورد من طرق الشيعة أيضا روايات ربما يستدل بها على وجوب السكون و السكوت في قبال المظالم و الجنايات، و ان لم تدل

على وجوب التسليم و الطاعة.

و قد ذكرها في الوسائل في الباب الثالث عشر من الجهاد، و العلامة النوري في الباب الثاني عشر من جهاد المستدرك. و أسناد أكثرها مخدوشة و قد تعرضنا لها و للجواب عنها في الفصل الرابع من الباب الثالث، فراجع.

نعم، هنا نكتة يجب التنبيه عليها، و هي أنّ الأمير المنصوب من قبل الإمام لجيش خاص أو لجهة خاصّة إذا فرض تحقق معصية منه أوجبت سقوطه عن العدالة، فهذا بنفسه لا يوجب سقوطه عن منصبه و جواز التخلف عن أوامره و نواهيه في الجهة المشروعة التي نصب لها، بل يجب على من يكون تحت إمارته- مضافا إلى وعظه و إرشاده- إطاعته في الجهة الخاصّة المشروعة التي نصب لها. فإن لم يرتدع بالوعظ رفع أمره إلى الإمام الذي نصبه أميرا، حتى يكون هو الذي يعزله إن أراد.

و أمّا التخلّف عنه مطلقا أو عزله من قبل كلّ شخص فلا يصحّ قطعا، فإنّه يوجب الهرج و المرج.

و لعلّ بعض الروايات الواردة في كتب السنة ناظرة إلى مثل هذه الصورة، كما في حديث عوف بن مالك عن رسول اللّه «ص»: «إذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله و لا تنزعوا يدا من طاعة.» «1»

______________________________

(1)- صحيح مسلم 3/ 1481، كتاب الإمارة، الباب 17 (باب خيار الأئمة و شرارهم)، الحديث 1855.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 301

الفصل السابع في اعتبار الفقاهة

اشارة

الرابع من شروط الامام: الفقاهة و العلم بالإسلام و بمقرراته اجتهادا، فلا يصح إمامة الجاهل بالإسلام و بمقرراته، او العالم بها تقليدا.

و يدل على ذلك- مضافا إلى ما مرّ من حكم العقل و بناء العقلاء- الآيات و الروايات من طرق الفريقين:

أمّا الآيات:

1- فمنها قوله- تعالى-: أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لٰا يَهِدِّي إِلّٰا أَنْ يُهْدىٰ، فَمٰا لَكُمْ، كَيْفَ تَحْكُمُونَ.» «1»

و الإمام ممن يجب أن يتّبع بلا إشكال، فاذن العالم الذي يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أحق بهذا المنصب الشريف.

و الصيغة منسلخة عن معنى التفضيل، نظير قوله- تعالى-: «وَ أُولُوا الْأَرْحٰامِ بَعْضُهُمْ*

______________________________

(1)- سورة يونس (10)، الآية 35.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 302

أَوْلىٰ بِبَعْضٍ فِي كِتٰابِ اللّٰهِ.»* «1»

و إن شئت قلت: التفضيل وقع جدلا، حيث إنّ الناس بحسب عاداتهم يثبتون حقّا ما لبعض من لا يهدّي إلّا أن يهدى. فيراد أنّ لمن يهدي إلى الحقّ مزية عليه بلا إشكال و بحكم الفطرة. و المزيّة تبلغ حدّ الإلزام، و لذا أرجعهم في آخر الآية إلى الفطرة، و وبّخهم على الحكم بخلافها.

2- و منها أيضا قوله- تعالى- في قصة طالوت: «إِنَّ اللّٰهَ اصْطَفٰاهُ عَلَيْكُمْ وَ زٰادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ.» «2»

و المراد باصطفاء اللّه له اصطفاؤه تشريعا بالنصب له، أو تكوينا فيكون ما بعده بيانا له. و بالجملة يستفاد من الآية أن العلم ملاك للتقدم في الملك.

3- و منها أيضا قوله- تعالى-: «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لٰا يَعْلَمُونَ، إِنَّمٰا يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبٰابِ.» «3»

فمفاد الآية أن العالم مقدم على غيره، و أن تقديم المفضول على الفاضل لا يصدر إلّا ممن لا لبّ له.

و أما الروايات الدالة على اعتبار العلم

اشارة

- بل الأعلمية- في الوالي فكثيرة جدّا:

1- ما مرّ من نهج البلاغة في شرائط الوالي

من قوله «ع»: «و لا الجاهل فيضلّهم بجهله.» «4»

2- ما في نهج البلاغة أيضا:

«أيّها الناس، إنّ أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه و أعلمهم بأمر اللّه فيه، فإن شغب شاغب استعتب، فإن أبى قوتل.» «5»

______________________________

(1)- سورة الأحزاب (33)، الآية 6.

(2)- سورة البقرة (2)، الآية 247.

(3)- سورة الزمر (39)، الآية 9.

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 407؛ عبده 2/ 19؛ لح/ 189، الخطبة 131.

(5)- نهج البلاغة، فيض/ 558؛ عبده 2/ 104؛ لح/ 247، الخطبة 173.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 303

أقول: الشغب: تهييج الفساد. و الاستعتاب: الاسترضاء.

و قد مرّ آنفا أنّ قوله: «أحقّ»، منسلخ عن معنى التفضيل، أو يكون التفضيل بلحاظ الجدل، كما مرّ.

و كيف كان فالمزيّة تبلغ حدّ الإلزام، نظير قوله- تعالى-: «و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب اللّه»، المستشهد به في الأخبار و الفتاوى على ترتيب طبقات الإرث، و ظاهر أن الترتيب فيها على حدّ اللزوم و التعيّن.

لكن في شرح ابن أبي الحديد المعتزلي:

«و هذا لا ينافي مذهب أصحابنا البغداديين في صحة إمامة المفضول، لأنّه ما قال:

إن إمامة غير الأقوى فاسدة، و لكنه قال: إن الأقوى أحقّ، و أصحابنا لا ينكرون انه- عليه السلام- أحقّ ممن تقدّمه بالإمامة، مع قولهم بصحة إمامة المتقدمين، لأنه لا منافاة بين كونه أحقّ و بين صحّة إمامة غيره.» «1»

أقول: يرد عليه ما مرّ من كون المزية موجبة للأحقية على حدّ الإلزام، و لذا عقّبها اللّه- تعالى- بالتوبيخ في سورة يونس بقوله: «فَمٰا لَكُمْ، كَيْفَ تَحْكُمُونَ.» كما أن الأولوية في آية: «أُولُوا الْأَرْحٰامِ»* و ترتيب طبقات الإرث كذلك.

كيف؟! و لو لم تكن الأحقية ملزمة لم يكن وجه لقتال الشاغب الآبي عن الرضا و قد قال «ع»: «فإن أبى

قوتل».

و الظاهر أن المراد بالقوة هو القدرة على الولاية المفوّضة اليه بشؤونها المختلفة، فتشمل كمال العقل و التدبير و الشجاعة و حسن السياسة و الإدارة، كما لا يخفى.

3- ما في كتاب سليم بن قيس عن أمير المؤمنين «ع»:

«أ فينبغي أن يكون الخليفة على الأمّة إلّا أعلمهم بكتاب اللّه و سنّة نبيّه، و قد قال اللّه: «أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لٰا يَهِدِّي إِلّٰا أَنْ يُهْدىٰ.» و قال: «وَ زٰادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ.» و قال: «أَوْ أَثٰارَةٍ مِنْ عِلْمٍ.» «2»

______________________________

(1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9/ 328.

(2)- سورة الأحقاف (46)، الآية 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 304

و قال رسول اللّه «ص»: «ما ولّت أمّة قطّ أمرها رجلا و فيهم أعلم منه إلّا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا إلى ما تركوا.» يعني الولاية. فهي غير الإمارة على الأمّة؟!» «1»

4- ما رواه البرقي في المحاسن عن رسول اللّه «ص»

قال: «من أمّ قوما و فيهم أعلم منه أو أفقه منه لم يزل أمرهم في سفال إلى يوم القيامة.» «2»

و لا وجه لحمله على خصوص إمام الجماعة، كما لا يخفى.

5- ما في غاية المرام للبحراني عن مجالس الشيخ الطوسي بسنده،

عن علي بن الحسين «ع»، عن الحسن بن علي «ع» في خطبته بمحضر معاوية، قال: «قال رسول اللّه «ص»: «ما ولت أمة أمرها رجلا قط و فيهم من هو أعلم منه إلّا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا إلى ما تركوا.» «3»

و فيه أيضا عن مجالس الشيخ بسنده، عن زاذان، عن الحسن بن علي «ع» في خطبته نحو ذلك. «4»

6- ما عن تفسير النعماني بسنده، عن أمير المؤمنين «ع»

في بيان صفات الإمام:

«و أما اللواتي في صفات ذاته فإنه يجب أن يكون أزهد الناس، و أعلم الناس، و أشجع الناس، و أكرم الناس و ما يتبع ذلك لعلل تقتضيه ... و أما إذا لم يكن عالما بجميع ما فرضه اللّه- تعالى- في كتابه و غيره، قلّب الفرائض فأحلّ ما حرّم اللّه، فضلّ و أضلّ ... و الثاني: أن يكون أعلم الناس بحلال اللّه و حرامه و ضروب أحكامه و أمره و نهيه و جميع ما يحتاج إليه الناس، فيحتاج الناس إليه و يستغني عنهم.» «5» و رواه عنه في المحكم و المتشابه «6».

و البحث عن ماهية الكتاب و كتاب سليم قد مرّ في الدليل الخامس و السادس

______________________________

(1)- كتاب سليم بن قيس/ 118.

(2)- المحاسن 1/ 93، الباب 18 من كتاب عقاب الأعمال، الحديث 49.

(3)- غاية المرام/ 298.

(4)- غاية المرام/ 299.

(5)- بحار الأنوار 90/ 44 و 45 و 64 (طبعة إيران 93/ 44 و 45 و 64)، باب ما ورد في أصناف آيات القرآن.

(6)- المحكم و المتشابه/ 55.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 305

من أدلّة إثبات لزوم الولاية، فراجع.

7- ما في أصول الكافي عن الرضا «ع»:

«و الإمام عالم لا يجهل، و راع لا ينكل ... نامي العلم، كامل الحلم، مضطلع بالإمامة، عالم بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر اللّه، ناصح لعباد اللّه، حافظ لدين اللّه.» «1»

أقول: قوله: «لا ينكل»، اي لا يضعف و لا يجبن. و المضطلع بالأمر: القويّ عليه، من الضلاعة بمعنى القوة.

و غرض الإمام في الحديث و إن كان بيان أحقيّة الأئمة الاثنى عشر بالأمر لأجل واجديّتهم للصفات المذكورة و لكن بالملاك يثبت الحكم لكلّ من يصير واليا على المسلمين بما هم مسلمون، غاية الأمر

أن الإمامة مع وجود الأئمة المعصومين و ظهورهم حق ثابت لهم من اللّه، و لم يكن لأحد تقمّصها، كما هو مبنى مذهبنا.

8- ما في الوسائل بسند صحيح، عن عبد الكريم بن عتبة الهاشمي،

قال: كنت عند أبي عبد اللّه «ع» بمكّة إذ دخل عليه أناس ... ثم أقبل على عمرو بن عبيد فقال: «يا عمرو، اتق اللّه، و أنتم أيّها الرهط فاتقوا اللّه، فإن أبي حدثني- و كان خير أهل الأرض و أعلمهم بكتاب اللّه و سنّة نبيّه- أن رسول اللّه «ص» قال: «من ضرب الناس بسيفه و دعاهم إلى نفسه و في المسلمين من هو أعلم منه فهو ضالّ متكلف.» «2»

9- ما في الوسائل أيضا بسنده،

عن الفضيل بن يسار، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «من خرج يدعو الناس و فيهم من هو أعلم منه فهو ضالّ مبتدع. و من ادّعى الإمامة و ليس بإمام فهو كافر.» «3»

و لا يخفى أن للكفر مراتب، كما ذكر في محله. فقد يستعمل في قبال الإسلام، و قد يستعمل في قبال الإيمان، و قد يطلق على أهل العصيان أيضا.

______________________________

(1)- الكافي 1/ 202، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام و صفاته، الحديث 1.

(2)- الوسائل 11/ 28، الباب 9 من أبواب جهاد العدو، الحديث 2.

(3)- الوسائل 18/ 564، الباب 10 من أبواب حد المرتد، الحديث 36.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 306

10- ما في تحف العقول عن الصادق «ع»:

«من دعا الناس إلى نفسه و فيهم من هو أعلم منه فهو مبتدع ضالّ.» «1»

11- ما رواه المفيد في الاختصاص، قال رسول اللّه «ص»

: «من تعلّم علما ليماري به السفهاء و يباهي به العلماء و يصرف به الناس إلى نفسه يقول: انا رئيسكم فليتبوأ مقعده من النار.» ثم قال: «إن الرئاسة لا تصلح إلّا لأهلها. فمن دعا الناس الى نفسه و فيهم من هو أعلم منه لم ينظر اللّه اليه يوم القيامة.» «2»

12- ما في كتاب سليم بن قيس عن أمير المؤمنين «ع»

في بيان أحقيته «ع» بالخلافة: «إنهم قد سمعوا رسول اللّه «ص» يقول عودا و بدء: ما ولّت أمّة رجلا قطّ أمرها و فيهم من هو أعلم منه إلّا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتى يرجعوا إلى ما تركوا، فولّوا أمرهم قبلي ثلاثة رهط ما منهم رجل جمع القرآن و لا يدّعي أنّ له علما بكتاب اللّه و لا سنّة نبيّه، و قد علموا أنّي أعلمهم بكتاب اللّه و سنّة نبيّه و أفقههم و أقرأهم لكتاب اللّه و أقضاهم بحكم اللّه.» «3»

13- ما في الاحتجاج عن أمير المؤمنين «ع» بعد ما طلبوا منه البيعة لأبي بكر:

«أنا أولى برسول اللّه «ص» حيّا و ميتا، و أنا وصيّه و وزيره و مستودع سرّه و علمه، و أنا الصدّيق الأكبر و الفاروق الأعظم، أوّل من آمن به و صدّقه، و أحسنكم بلاء في جهاد المشركين، و أعرفكم بالكتاب و السنة، و أفقهكم في الدين، و أعلمكم بعواقب الأمور، و أذربكم لسانا، و أثبتكم جنانا.» «4»

14- ما رواه ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة

عن نصر بن مزاحم، عن أمير المؤمنين «ع» في كتابه إلى معاوية و أصحابه، قال «ع»: «فإنّ أولى الناس بأمر هذه الأمة قديما و حديثا أقربها من الرسول، و أعلمها بالكتاب، و أفقهها في الدين، أوّلها إسلاما، و أفضلها

______________________________

(1)- تحف العقول/ 375.

(2)- الاختصاص/ 251.

(3)- كتاب سليم بن قيس/ 148.

(4)- الاحتجاج 1/ 46 (طبعة أخرى 1/ 95)، باب ما جرى بعد وفاة رسول اللّه «ص» ...

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 307

جهادا، و أشدّها بما تحمله الأئمة من أمر الأمّة اضطلاعا.» «1»

15- ما رواه ابن قتيبة في كتاب الإمامة و السياسة عن عليّ «ع»

في مقام الاحتجاج: «فو اللّه يا معشر المهاجرين، لنحن أحقّ الناس به، لأنّا أهل البيت، و نحن أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان فينا القارئ لكتاب اللّه، الفقيه في دين اللّه، العالم بسنن رسول اللّه «ص»، المضطلع بأمر الرعية، المدافع عنهم الأمور السيئة، القاسم بينهم بالسويّة.» «2»

و لا يخفى أنّ كونهم من أهل البيت سببا للأحقّية إنما هو بملاك أن أهل البيت أدرى بما في البيت و أعلم بسنّة النبي «ص» مضافا الى ما فيهم من الفضائل النفسية.

و كيف كان فدلالة الحديث و أمثاله على كون الفقاهة في دين اللّه ملاكا للتقدم واضحة.

16- ما رواه ابن قتيبة أيضا عنه «ع» في كتابه لأهل العراق

في بيان تفضيلهم على أصحاب معاوية في التصدّي لشئون الولاية و أعمالها. و الكتاب طويل، و فيه:

«و هؤلاء الّذين لو ولّوا عليكم لأظهروا فيكم الغضب و الفخر و التسلّط بالجبروت و التطاول بالغضب و الفساد في الأرض، و لاتّبعوا الهوى و حكموا بالرشاء، و أنتم- على ما فيكم من تخاذل و تواكل- خير منهم و أهدى سبيلا: فيكم الحكماء و العلماء و الفقهاء و حملة القرآن و المتهجدون بالأسحار، و العبّاد و الزهّاد في الدنيا و عمّار المساجد و أهل تلاوة القرآن؛ أ فلا تسخطون و تنقمون أن ينازعكم الولاية عليكم سفهاؤكم و الأراذل و الأشرار منكم؟» «3»

و روى نحو ذلك في نهج السعادة، مستدرك نهج البلاغة، و فيه: «ألا تسخطون و تنقمون أن ينازعكم الولاية السفهاء البطاء عن الإسلام الجفاة فيه؟» «4» و نحوه أيضا في شرح

______________________________

(1)- سرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3/ 210.

(2)- الإمامة و السياسة 1/ 19، باب إباءة علي «ع» بيعة أبي بكر.

(3)- الإمامة و السياسة 1/ 136.

(4)- نهج السعادة 5/ 252، الكتاب 156.

دراسات في ولاية

الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 308

ابن أبي الحديد «1».

يظهر من الرواية أن العلم و الفقه كما يعتبر في الإمام الأعظم يعتبر في عمّاله أيضا مهما أمكن، فإنّهم يريدون إجراء أحكام الإسلام و تنفيذها و إدارة شئون المسلمين على أساس ضوابطه، فيجب أن يكونوا مطلعين على موازينه ملتزمين بها.

و المراد بالفقيه هو العالم بالمسائل المبتلى بها في الجهات المختلفة من الحياة من العبادات و المعاملات و السياسات و الاقتصاديات و علاقات الأمم و نحو ذلك.

فالأعلم الأبصر بالأحكام الكلية، و بالموضوعات و ماهية الحوادث الواقعة، و الظروف المحيطة و مسائل العصر أحقّ من غيره. و هذا أمر تحكم به الفطرة أيضا، مضافا الى الآيات و الروايات التي مضت.

17- و قد مرّ في صحيحة العيص بن القاسم

عن الإمام الصادق «ع» قوله «ع»:

«و انظروا لأنفسكم. فو اللّه إن الرجل ليكون له الغنم فيها الراعي، فإذا وجد رجلا هو أعلم بغنمه من الذي هو فيها يخرجه و يجي ء بذلك الرجل الذي هو أعلم بغنمه من الذي كان فيها.» «2» هذا.

و هاهنا روايات كثيرة وردت في مواصفات العمّال، و أنه لا يستعمل إلّا من هو أرضى و أعلم بكتاب اللّه و سنّة نبيّه. و منها يستفاد حكم الوالي الأعظم بطريق أولى. و نحن نذكر جملة كثيرة من هذا الروايات في الفصل الرابع من الباب السادس عند البحث عن مواصفات الوزراء و العمال، فلنذكر بعضها هنا نموذجا:

18- ما رواه البيهقي بسنده، عن ابن عباس،

عن رسول اللّه «ص»: «من استعمل عاملا من المسلمين و هو يعلم أن فيهم أولى بذلك منه و أعلم بكتاب اللّه و سنّة نبيّه فقد خان اللّه و رسوله و جميع المسلمين.» «3» و رواه عنه العلامة الأميني في كتاب الغدير «4».

19- ما رواه العلامة الأميني في كتاب الغدير

عن تمهيد الباقلاني: «من تقدم

______________________________

(1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6/ 99.

(2)- الوسائل 11/ 35، الباب 13 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.

(3)- سنن البيهقي 10/ 118، كتاب آداب القاضي، باب لا يولى الوالي امرأة و لا فاسقا و ...

(4)- الغدير 8/ 291.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 309

على قوم من المسلمين و هو يرى أن فيهم من هو أفضل منه فقد خان اللّه و رسوله و المسلمين.» «1» بناء على كونه حديثا عن رسول اللّه «ص»، كما هو الظاهر.

20- ما في كنز العمال عن حذيفة:

«أيما رجل استعمل رجلا على عشرة أنفس علم أنّ في العشرة أفضل ممن استعمل فقد غشّ اللّه و غشّ رسوله و غشّ جماعة المسلمين.» «2»

21- ما في كنز العمّال أيضا عن ابن عبّاس:

«من استعمل رجلا من عصابة و فيهم من هو أرضى للّه منه فقد خان اللّه و رسوله و المؤمنين.» «3»

و لا شك أن الأعلم أرضى من غير الأعلم و إن كان لفظ الحديث يعمّ سائر الفضائل أيضا.

و يظهر من هذه الروايات و أمثالها أن اعتبار العلم بالكتاب و السنة ليس مقصورا على الإمام الأعظم، بل لو أريد تعيين وزير أو أمير أو وال لمنطقة خاصة، و كان هنا فردان متفاوتان في العلم و متماثلان في سائر الفضائل فلا يجوز تقديم غير الأعلم. و لعل العقل السليم أيضا يحكم بذلك، فإنه ترجيح للمرجوح على الراجح و هو قبيح.

نعم، مع تزاحم الفضائل و عدم إمكان الجمع بينها يأتي البحث في الأهم منها في الباب الخامس، فانتظر.

22- و من الأخبار الدالة على اعتبار العلم على ما قيل ما رواه الآمدي

في الغرر عن أمير المؤمنين «ع» من قوله: «العلماء حكام على الناس.» «4»

أقول: المحتملات في الرواية ثلاثة:

الأول: أن تحمل الجملة على الخبر، فيراد بيان فضل العلم و العلماء، و أن العلماء

______________________________

(1)- الغدير 8/ 291، عن التمهيد/ 190.

(2)- كنز العمال 6/ 19، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14653.

(3)- كنز العمال 6/ 25، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14687.

(4)- الغرر و الدرر 1/ 137، الحديث 506.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 310

بحسب العادة و الطبع يحكمون على المجتمع، و الناس تبع لهم قهرا، من غير فرق بين المذاهب و الملل. ففي كل مذهب يكون الحاكم على عقولهم و أفكارهم علماؤهم، بل لا ينحصر ذلك في علم الدين أيضا. فالجملة نظير قوله «ع»: «العلم حاكم و المال محكوم عليه.» «1»

الثاني: أن تحمل على الإنشاء و يراد بها جعل منصب الحكومة

و الولاية للعلماء، نظير جعلها لأمير المؤمنين «ع» في غدير خم بقوله «ص»: «من كنت مولاه فعليّ مولاه.»

الثالث: أن تحمل على الإنشاء أيضا و يراد بها التكليف، أي إيجاب انتخاب العلماء للحكومة و تعيّنهم لذلك بحسب حكم الشرع.

فعلى الأخيرين يرتبط الحديث بالمقام، و أما على الأول فلا ربط له به.

و مقتضى الاحتمال الثاني أن أمير المؤمنين «ع» في هذه الجملة جعل منصب الحكومة لجميع العلماء. فلو كان في عصر واحد ألف عالم مثلا يكون جميعهم حكّاما بجعل أمير المؤمنين «ع» و نصبه. و هذا بعيد، بل لعله مقطوع الفساد، مع أنّ اللفظ مطلق يعمّ علماء الدين و غيرهم، و علماء الإسلام و سائر الأديان، و العدول من العلماء و الفسّاق منهم.

فنظير هذه الرواية ما رواه في البحار عن كنز الكراجكي، قال: قال الصادق «ع»: «الملوك حكّام على الناس، و العلماء حكّام على الملوك.» «2»

و لا يخفى أن قوله: «الملوك حكّام على الناس»، يراد به الاخبار قطعا. فلعله قرينة على إرادة الإخبار في الجملة الثانية أيضا، لوحدة السياق. فيكون المراد أنّ الملوك حكّام على الناس خارجا كما يرى، و العلماء نافذون مؤثرون في الملوك و في آرائهم قهرا، إمّا للإيمان بهم، أو كونهم مجبورين في الأغلب على الالتفات إليهم و إلى

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1155؛ عبده 3/ 187؛ لح/ 496، الحكمة 147.

(2)- بحار الأنوار 1/ 183، كتاب العلم، باب فرض العلم، الحديث 92.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 311

آرائهم و الاحترام لهم لجلب رضى الأمّة و جذبهم، أو لاحتياجهم الى علمهم في إدارة شئون الأمة و رفع حوائجها و لا سيما إذا أريد بالعلم الأعم من علم الدين و

من سائر العلوم.

و على هذا فالروايتان أجنبيتان عن المقام، و إنّما تعرضنا لهما تبعا للقوم.

23- ما رواه في تحف العقول من قوله «ع»:

«مجاري الأمور و الأحكام على أيدي العلماء باللّه، الأمناء على حلاله و حرامه.»

و حيث إنّ الحديث يشتمل على مضامين عالية ناسب المقام نقله بتمامه فنقول:

روى في تحف العقول عن السبط الشهيد «ع»، قال: و يروى عن أمير المؤمنين «ع»: «اعتبروا ايها الناس بما وعظ اللّه به أولياءه من سوء ثنائه على الأخبار، إذ يقول: «لَوْ لٰا يَنْهٰاهُمُ الرَّبّٰانِيُّونَ وَ الْأَحْبٰارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ.» «1» و قال: «لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرٰائِيلَ- إلى قوله- لَبِئْسَ مٰا كٰانُوا يَفْعَلُونَ.» «2»

و إنما عاب اللّه ذلك عليهم، لأنّهم كانوا يرون من الظلمة الّذين بين أظهرهم المنكر و الفساد، فلا ينهونهم عن ذلك، رغبة فيما كانوا ينالون منهم، و رهبة مما يحذرون، و اللّه يقول: «فَلٰا تَخْشَوُا النّٰاسَ وَ اخْشَوْنِ.» «3» و قال: «الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِنٰاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيٰاءُ بَعْضٍ، يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.» «4» فبدأ اللّه بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فريضة منه، لعلمه بأنها إذا أدّيت و أقيمت استقامت الفرائض كلها، هيّنها و صعبها. و ذلك أنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر دعاء إلى الإسلام، مع ردّ المظالم، و مخالفة الظالم، و قسمة الفي ء و الغنائم، و أخذ الصدقات من مواضعها و وضعها في حقّها.

ثمّ أنتم أيّتها العصابة، عصابة بالعلم مشهورة، و بالخير مذكورة، و بالنصيحة معروفة، و باللّه في أنفس الناس مهابة، يهابكم الشريف، و يكرمكم الضعيف، و يؤثركم من لا فضل لكم عليه و لا يد لكم عنده. تشفّعون في الحوائج إذا امتنعت من طلّابها، و تمشون في الطريق بهيبة الملوك و كرامة

______________________________

(1)- سورة المائدة

(5)، الآية 63.

(2)- سورة المائدة (5)، الآية 78 و 79.

(3)- سورة المائدة (5)، الآية 44.

(4)- سورة التوبة (9)، الآية 71.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 312

الأكابر.

أ ليس كل ذلك إنّما نلتموه بما يرجى عندكم من القيام بحقّ اللّه و إن كنتم عن أكثر حقه تقصرون؟ فاستخففتم بحقّ الأئمة. فأمّا حقّ الضعفاء فضيّعتم، و أمّا حقّكم بزعمكم فطلبتم. فلا مالا بذلتموه، و لا نفسا خاطرتم بها للذي خلقها، و لا عشيرة عاديتموها في ذات اللّه.

أنتم تتمنون على اللّه جنته و مجاورة رسله و أمانا من عذابه. لقد خشيت عليكم أيّها المتمنون على اللّه أن تحلّ بكم نقمة من نقماته، لأنكم بلغتم من كرامة اللّه منزلة فضلتم بها، و من يعرف باللّه لا تكرمون، و أنتم باللّه في عباده تكرمون، و قد ترون عهود اللّه منقوضة فلا تفزعون و أنتم لبعض ذمم آبائكم تفزعون، و ذمّة رسول اللّه محقورة (مخفورة خ. ل)، و العمى و البكم و الزمنى في المدائن مهملة لا ترحمون، و لا في منزلتكم تعملون، و لا من عمل فيها تعينون (تعنون خ. ل)، و بالادّهان و المصانعة عند الظلمة تأمنون. كل ذلك مما أمركم اللّه به من النهي و التناهي و أنتم عنه غافلون.

و أنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون (تسعون خ. ل و في الوافي: «لو يسعون»). ذلك بأن مجاري الأمور و الأحكام على أيدي العلماء باللّه، الأمناء على حلاله و حرامه. فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، و ما سلبتم ذلك إلّا بتفرقكم عن الحقّ و اختلافكم في السنّة بعد البينة الواضحة، و لو صبرتم على الأذى، و تحملتم المؤونة في

ذات اللّه كانت أمور اللّه عليكم ترد، و عنكم تصدر، و إليكم ترجع، و لكنكم مكّنتم الظلمة من منزلتكم، و استسلمتم أمور اللّه في أيديهم، يعملون بالشبهات و يسيرون في الشهوات. سلّطهم على ذلك فراركم من الموت، و إعجابكم بالحياة الّتي هي مفارقتكم، فأسلمتم الضعفاء في أيديهم، فمن بين مستعبد مقهور، و بين مستضعف على معيشته مغلوب. ينقلبون في الملك بآرائهم، و يستشعرون الخزي (الجري- وافي) بأهوائهم، اقتداء بالأشرار و جرأة على الجبّار. في كلّ بلد منهم على منبره خطيب يصقع (مسقع- وافي).

فالأرض لهم شاغرة و أيديهم فيها مبسوطة، و الناس لهم خول، لا يدفعون يد لامس، فمن بين جبار عنيد، و ذي سطوة على الضعفة شديد، مطاع لا يعرف المبدئ المعيد. فيا عجبا! و مالي لا أعجب:

و الأرض (كلمة «و الأرض» ليست في الوافي، و لعلّه أصحّ.) من غاشّ غشوم، و متصدق ظلوم، و عامل على المؤمنين بهم غير رحيم. فاللّه الحاكم فيما فيه تنازعنا، و القاضي بحكمه فيما شجر بيننا.

اللّهم إنّك تعلم أنّه لم يكن ما كان منّا تنافسا في سلطان، و لا التماسا من فضول الحطام، و لكن

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 313

لنرى المعالم من دينك، و نظهر الإصلاح في بلادك، و يأمن المظلومون من عبادك، و يعمل بفرائضك و سننك و أحكامك، فإنكم إن لا تنصرونا و تنصفونا قوى الظلمة عليكم، و عملوا في إطفاء نور نبيكم، و حسبنا اللّه، و عليه توكلنا، و اليه أنبنا، و إليه المصير.» «1»

و ذكر قطعتان من الرواية في نهج البلاغة بتفاوت ما «2».

و يظهر من الحديث الشريف شدّة اهتمام الشارع بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بمفهومهما

الوسيع، و لذا رتّب عليهما ردّ المظالم، و مخالفة الظالم، و قسمة الفي ء و الغنائم، و أخذ الصدقات من مواضعها و وضعها في حقها.

و أنت تعلم أن إجراءهما بهذه السعة يقتضي تحصيل القدرة و إقامة الدولة الحقة، و لذا قلنا سابقا إنّ نفس أدلة الجهاد و الدفاع عن بيضة الإسلام، و أدلة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من أقوى الأدلة على لزوم إقامة الدولة الحقة.

و بالجملة، الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، بمفهومهما الوسيع بمعنى إشاعة المعروف و العدل و قطع جذور المنكر و الفساد، يلازمان الحكومة العادلة، و إذا تركا خلا الجوّ و المحيط قهرا لتسلط الأشرار و دولتهم، كما قال أمير المؤمنين «ع» في وصيته المعروفة قبل وفاته: «لا تتركوا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فيولّى عليكم شراركم ثم تدعون فلا يستجاب لكم.» «3»

فتسلط الأشرار أثر طبيعي لتفرق الناس و عدم مراقبة بعضهم لبعض و عدم اهتمامهم بما يجري في المجتمع، فتدبّر.

و العجب من أهل التخاذل و التواكل، كيف أغمضوا عن الآيات و الأخبار الكثيرة الواردة من طرق الفريقين في الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، أو تلاعبوا بها و حصروها في الأمر و النهي الواقعين خفية في الموارد الجزئية؟! مع أن الظاهر من بعض الأخبار كون الجهاد بسعته شعبة من الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و في زيارة السبط الشهيد «ع»: «أشهد أنّك قد أقمت الصلاة، و آتيت الزكاة، و أمرت

______________________________

(1) تحف العقول/ 237، و الوافي 2 «م 9»/ 30، باب الحث على الأمر بالمعروف ... من أبواب الأمر بالمعروف ....

(2) نهج البلاغة، فيض/ 317 و 406؛ عبده 1/ 204 و 2/ 19؛ لح/ 154 و 189، الخطبة 106

و 131.

(3) نهج البلاغة، فيض/ 978؛ عبده 3/ 86؛ لح/ 422، الكتاب 47.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 314

بالمعروف و نهيت عن المنكر.» ففيها إشارة الى أن قيامه «ع» في قبال حكومة يزيد كان لإجراء فرائض الإسلام، و من باب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و قوله «ع» في الحديث: «فاستخففتم بحقّ الأئمة»، لعلّه من جهة أنّ الإمامة الكبرى في تلك الأعصار كانت متعينة لأمير المؤمنين «ع» و بعده للحسنين «ع»، فكان الواجب على العلماء المخاطبين في الحديث إعانة الإمام و تقويته، و التصدي للأعمال من قبله حتى لا يتسلط الجبابرة، و هم قد تركوا هذا الواجب.

و يحتمل ضعيفا أن يكون المراد به أن الإمامة و شئونها كانت حقّا للعلماء، فاستخففتم بحقّ الإمامة، أي تركتموها لغير أهلها.

و يحتمل أيضا أن تكون كلمة: «الأئمة» مصحّف: «الأمة». و يؤيد ذلك التفريع عليه بقوله: «فأمّا حقّ الضعفاء فضيّعتم.»

و قوله: «غلبتم عليه من منازل العلماء»، مبنيّ للمفعول كما يظهر بالدقة فيما بعده من قوله: «فأنتم المسلوبون تلك المنزلة.».

و أما قوله: «مجاري الأمور»، فالمجاري إما جمع للمصدر الميمي، أو لاسم المكان.

فإن المجاري المتشعبة لجريان الأمور يجب أن تنتهي في النهاية إلى العلماء.

و إضافة «العلم» الى اللّه من جهة أن العلم به- تعالى- إذا تحقق واقعا تعقبه العلم و العمل بتكاليفه.

و يشهد بذلك قوله- تعالى-: «إِنَّمٰا يَخْشَى اللّٰهَ مِنْ عِبٰادِهِ الْعُلَمٰاءُ.» «1» إذ الظاهر منه العلم باللّه، المنتج عن العلم بآياته، كما يشهد بذلك سياق الآية، حيث عدّ فيها آيات اللّه- تعالى- في نظام التكوين. و العلم بالآيات بما هي آيات له يوجب العلم بقدرته و سطوته، فيوجب الخشية قهرا.

و قوله: «الأمناء على حلاله و

حرامه»، يدلّ على العلم بالأحكام، و حفظها عن التغيير و التأويل، فانه مقتضى الأمانة.

و قوله: «شاغرة» من شغرت الأرض، أي لم يبق لها من يحميها و يضبطها.

______________________________

(1)- سورة الفاطر (35)، الآية 28.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 315

و الخطيب المسقع بكسر الميم، أي البليغ العالي الصوت. و يصح فيه الصاد و السين.

و كيف كان فالخطاب في الحديث للعلماء المعاصرين له «ع» من الصحابة و التابعين. و يستفاد منه وجوب كون المرجع لأمور المسلمين، العلماء و ان هذه المنزلة كانت لهم شرعا فسلبت عنهم باختلافهم و تشتتهم، و عدم رعايتهم لتكاليفهم، و رهبتهم من الظلمة و رغبتهم في الدنيا، فمكنوا الظلمة من المنزلة التي كانت لهم و استسلموا أمور اللّه في أيديهم ... و لا ينافي هذا كون الإمامة الكبرى حقّا لشخصه «ع»، إذ الإمام يحتاج إلى مشاورين و قضاة و عمّال، و الواجب انتخابهم من أهل العلم الملتزمين بالشريعة الحقة. هذا.

و في منية الطالب:

«من المحتمل قريبا كون العلماء فيها هم الأئمة «ع» ... فإنّ فيه قرائن تدلّ على أن المراد من العلماء فيه هم الأئمة «ع» فإنهم هم الأمناء على حلال اللّه و حرامه.» «1»

و في حاشية العلامة الأصفهاني على المكاسب:

«و أورد عليه بأنّ الرواية منقولة في تحف العقول، و سياقها يدلّ على أنّها في خصوص الأئمة «ع». و الظاهر أنّه كذلك، فإنّ المذكور فيها هم العلماء باللّه، لا العلماء بأحكام اللّه. و لعلّ المراد أنّهم «ع» بسبب وساطتهم للفيوضات التكوينية و التشريعية تكون مجاري الأمور كلّها حقيقة بيدهم «ع»، لا جعلا. فهي دليل على الولاية الباطنيّة لهم كولايته- تعالى-، لا الأولوية الظاهرية التي هي من المناصب المجعولة.» «2»

أقول: الظاهر

عدم مراجعة هذين العلمين الشريفين- طاب ثراهما- لمجموع الرواية، و إلّا ظهر لهما عدم إمكان حمل العلماء فيها على الأئمة «ع». و من هنا يظهر

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 1، ص: 315

______________________________

(1)- منية الطالب 1/ 326.

(2)- حاشية المكاسب 1/ 214.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 316

أنّه يجب على العلماء و الفضلاء في مقام الاستدلال بنصّ الكتاب أو الحديث، المراجعة التامّة لنفس الكتاب و كتب الحديث، و عدم الاكتفاء بالمقطعات المنقولة في بعض الكتب و المؤلفات. هذا.

فإن قلت: المتأمّل في الحديث يشاهد أنّ الإمام «ع» بصدد توبيخ العصابة المعاصرة له، و أنّها لم تقم بما عليها من التكاليف و داهنوا الظلمة و تفرقوا عن الحق، فكيف يمكن أن يعبر عنهم بالعلماء باللّه، الأمناء على حلاله و حرامه؟ فالمراد بالعلماء باللّه في الحديث هم الأئمة الاثنى عشر، كما ذكره هذان العلمان. و يؤيّد ذلك قول الإمام الصادق «ع»: «نحن العلماء و شيعتنا المتعلمون.» «1»

و أما قوله «ع»: «و أنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون»، فلا يراد أن منازل العلماء كانت لهذه العصابة فسلبت عنهم، بل المراد أنّ قيادة الأئمة الذين هم العلماء بالحقيقة لو استقرّت كانت لهم و بنفعهم و كانت بركاتها تعود اليهم، فلمّا اختلفت العصابة في الحق و تفرّقوا عن الأئمة «ع» سلبت عنهم قيادة الأئمة و بركاته، و لذا قال الإمام «ع»: «منازل العلماء»، و لم يقل: «منازلكم».

و اما قوله «ع» بعد ذلك: «و لو

صبرتم على الأذى و تحملتم المؤونة في ذات اللّه كانت أمور اللّه عليكم ترد و عنكم تصدر و إليكم ترجع»، فالمراد به أنّكم لو لم تتخاذلوا عن نصرة الإمام و لم تستخفّوا بحقّ الأئمة استقرّت سلطة الإمام فصرتم أنتم بالطبع من المشاورين له و من بطانته و أمرائه و المراجع لأمور المسلمين. و القضية قضية شخصية خارجيّة، فليس في الحديث دلالة لا على نصب العلماء و لا على اشتراط العلم و الفقاهة.

و يشهد لما ذكرناه من إرادة الأئمة «ع» قول الإمام «ع»: «فاستخففتم بحقّ الأئمة»، و قوله في آخر الحديث: «فاللّه الحاكم فيما فيه تنازعنا» إلى قوله: «فإنّكم إنّ لا تنصرونا و تنصفونا قوى الظلمة عليكم».

______________________________

(1) الكافي 1/ 34، كتاب فضل العلم، باب أصناف الناس، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 317

قلت: هذه غاية ما يوجّه به الحديث لتطبيقه على خصوص الأئمة الاثنى عشر، و لكن كونه مخالفا لظاهر الحديث واضح، فالظاهر أنّ المراد به مطلق العلماء باللّه، و مراده «ع» أنّكم لو عملتم بواجباتكم كنتم من العلماء باللّه، الأمناء على حلاله و حرامه، و جرت الأمور بأيديكم، و كانت أمور اللّه عليكم ترد و عنكم تصدر و إليكم ترجع، و لكنّكم تركتم تكاليفكم، فسلبت عنكم منزلتكم، و تمكنت الظلمة من منزلتكم.

ثم على فرض التسليم لما ذكره هذا القائل فنقول: لا نسلم كون القضية شخصية، إذ يستفاد من الحديث إجمالا أن جريان الأمور السياسية يجب أن يكون على أيدي العلماء باللّه، الأمناء على حلاله و حرامه. و الأئمة الاثنا عشر هم المصاديق البارزة لهذا العنوان، لا أنّه منحصر فيهم، فتدبّر. هذا.

و على ما ذكرنا فهل يريد «ع» بكلامه النصب

و جعل الولاية للعلماء من قبل اللّه- تعالى- أو من قبل الإمام «ع» نظير ما نعتقده من نصب رسول اللّه «ص» لأمير المؤمنين «ع» في غدير خمّ، أو يريد بيان أنه يشترط في الحكّام على المسلمين أن يكونوا من العلماء باللّه، الأمناء على حلاله و حرامه، فيجب على العلماء و على الأمّة أن يحققوا ذلك حتى تصير أمور اللّه عليهم ترد و عنهم تصدر، و ذلك بأن يتّحد العلماء و يأخذوا بالكتاب و السنّة و يدعوا الناس إلى المعروف و تقبل الأمّة إليهم و يساعدوهم على ذلك فلا يخلو ميدان السياسة لأهل الهوى و الظلمة، فالحديث في مقام بيان الحكم الشرعي و أنّ الشرط في الحكّام كونهم من أهل العلم و الأمانة؟

ظاهر بعض الأساتذة الاحتمال الأول. و مقتضاه كون جميع الفقهاء الواجدين للشرائط في عصر صدور الحديث و فيما بعده حكّاما منصوبين بالفعل.

و لكن الالتزام بهذا مشكل و لا سيما في عصر صدوره، حيث كانت الإمامة الكبرى لنفس الإمام «ع» عندنا. و سيأتي تفصيل المسألة، و أنّ فعليّة الولاية للفقهاء بالنصب أو بانتخاب الأمّة في الباب الخامس، فانتظر.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 318

24- و مما يدلّ على اشتراط العلم و الفقاهة في الوالي أيضا ما مرّ من كتاب سليم،

حيث قال «ع»: «و الواجب في حكم اللّه و حكم الإسلام على المسلمين ... أن يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء و السنّة ...» «1»

إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة. و لو تتبعت كتب التاريخ و الحديث و الاحتجاجات الواردة عن أمير المؤمنين «ع» و أولاده المعصومين «ع» لعثرت على شواهد كثيرة تشهد على المدّعى، فراجع.

______________________________

(1) كتاب سليم بن قيس/ 182.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 319

الفصل الثامن في اعتبار القوة و حسن الولاية

اشارة

الشرط الخامس للوالي: القوة و حسن الولاية.

قد عرفت في الفصل الثاني من هذه الفصول أنّ العقلاء لو أرادوا تفويض أمر من الأمور إلى الغير راعوا فيه بحسب الفطرة وجود أمور، و منها قدرته و قوته على الأمر المفوّض إليه. فإذا كان هذا حال الأعمال الجزئيّة فعدم جواز تفويض إدارة شئون الأمّة التي هي من أدقّ الأعمال و أحمزها إلى من لا يقدر و لا يقوى عليها يثبت بطريق أولى. و قدرة الشخص على ذلك تتوقف:

[حكم العقل على اعتبار أمور في الوالي]

اولا: على استعداده لذلك بالذات و يسمّى ذلك بالشمّ السياسي، فإنّ الناس مختلفون في الاستعداد و الانسجام مع الأعمال و الأشغال المختلفة.

و ثانيا: على الاحاطة بكيفية العمل و فنونه، و الاطّلاع على نفسيات أمّته و حاجاتهم، و شرائط الزمان و البيئة.

و ثالثا: على الشجاعة النفسية و القاطعية في التصميم و قوة الإرادة حتّى يتمكن

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 320

من اتخاذ القرار في المسائل المهمّة و لا يضعف، إذ كم من سائس مطلع يضعف عن الإرادة و التصميم لضعفه روحا.

و رابعا: على سلامة الحواس و الأعضاء من السمع و البصر و اللسان و نحوها بمقدار ما يرتبط بعمله المفوّض إليه أو يوجب عدمه شينا يسبّب نفرة الناس منه و عدم تأثير حكمه فيهم، إذ ربما لا يتسلط على الملك و ما يجري في مجال عمله إلّا بمباشرة الإدراك و المقاولة و النطق، و قد يحتاج إلى النهوض و الحركة أيضا. و التشويه في الخلقة يوجب نفرة الناس منه فلا يناسب الولاية المتوقع فيها جذبهم.

أضف إلى جميع ذلك صفة الحلم، فإنّه لو كان الشخص جافيا غضوبا قطع الأمّة بجفائه.

و الظاهر أنّ التعبير بحسن الولاية، و

كذا القوّة المذكورين في بعض الأخبار الآتية أحسن تعبير يستفاد منه جميع ما ذكر. فنذكرها بعنوان شرط واحد مضافا إلى اشتراك رواياتها غالبا كما يظهر لك.

و لا يخفى أنّ المراد بالعلم و الاطّلاع هنا غير العلم المذكور شرطا في الفصل السابق، اذ المراد بالعلم هنا الاطّلاع على المسائل الجزئية و فنون السياسة و حوادث الزمان، و في الفصل السابق العلم بالمسائل الكلية المستنبطة من الكتاب و السنّة، المعبر عنه بالفقاهة.

و كيف كان فمن أدلّة اعتبار القوّة في الوالي حكم العقل و العقلاء، كما عرفت كيف؟ و الوالي على الأمّة يراد منه جبر نقص المولّى عليه، فيجب أن يكون قويا يقدر على ذلك بل و أقوى من جميع من يكون تحت ولايته و نظارته. و التاريخ يشهد بأنه ربّما ابتليت الأمّة بأضرار و آفات كثيرة، بل ربما سقطت بالكلية، بضعف الولاة و عدم كفايتهم.

و يدلّ على اعتبار القوة بسعتها أيضا الكتاب و السنة:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 321

1- فمن الآيات

قوله- تعالى- في قصّة طالوت: «إِنَّ اللّٰهَ اصْطَفٰاهُ عَلَيْكُمْ وَ زٰادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ.» «1»

و الظاهر من بسط الجسم و ان كان كبره فقط و يناسب هذا لقائد الجيش أيضا، و لكن يمكن أن يكون كناية عن الشجاعة و القدرة الروحية أيضا، لتناسب الجسم و الروح غالبا.

و لعلّ المراد بالعلم هنا أيضا العلم بفنون الحرب المفوضة اليه، لا العلم بالمسائل الكلّية و إن كان يحتمل الأعم أيضا.

2- و من الآيات أيضا قوله حكاية عن يوسف النبي «ع»: «قٰالَ اجْعَلْنِي عَلىٰ خَزٰائِنِ الْأَرْضِ، إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ.» «2»

إذ الظاهر إرادة كونه أمينا في حفظ الخزائن و الأموال، عليما بفنون حفظها و صرفها

في مصارفها اللازمة.

3- و منها أيضا قوله- تعالى- حكاية عن بنت شعيب في حقّ موسى «ع»: «قٰالَتْ إِحْدٰاهُمٰا يٰا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ، إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ.» «3»

فاذا اشترطت القوة في راعي الغنم بحكم الفطرة فاشتراطها في والي الأمّة بطريق أولى، كما لا يخفى.

4- و منها قوله حكاية عن العفريت: «قٰالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقٰامِكَ، وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ.» «4»

فالآية تشعر بأن العمل يجب أن يفوّض إلى القويّ الأمين.

5- و منها أيضا قوله- تعالى-: «وَ ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمٰا أَبْكَمُ لٰا يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ

______________________________

(1)- سورة البقرة (2)، الآية 247.

(2)- سورة يوسف (12)، الآية 55.

(3)- سورة القصص (28)، الآية 26.

(4)- سورة النمل (27)، الآية 39.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 322

وَ هُوَ كَلٌّ عَلىٰ مَوْلٰاهُ أَيْنَمٰا يُوَجِّهْهُ لٰا يَأْتِ بِخَيْرٍ، هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ هُوَ عَلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ.» «1»

و نحو ذلك من الآيات التي يمكن أن يستفاد منها- و لو بعناية- اعتبار القوة الكاملة فيمن يفوض إليه عمل عظيم.

و أمّا الروايات:

فهي في غاية الكثرة:

1- ما في الكافي بسنده عن حنان، عن أبيه، عن أبي جعفر «ع» قال: «قال رسول اللّه: «لا تصلح الإمامة إلّا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع يحجزه عن معاصي اللّه، و حلم يملك به غضبه، و حسن الولاية على من يلي حتى يكون لهم كالوالد الرحيم.» و في رواية أخرى:

«حتى يكون للرعية كالأب الرحيم.» «2»

و قد مرّ أنّ حسن الولاية بسعة معنى الكلمة يعمّ الشجاعة و السياسة و الحلم و نحوها، مما له دخل في حسن قيادة الأمّة.

2- ما مرّ من نهج البلاغة: «أيّها الناس، إنّ

أحقّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه، و أعلمهم بأمر اللّه فيه. فإن شغب شاغب استعتب، فإن أبى قوتل.» «3»

3- ما في الاحتجاج عن أمير المؤمنين «ع»: «أنا أولى برسول اللّه ...، و أفقهكم في الدين، و أعلمكم بعواقب الأمور، و أذربكم لسانا، و أثبتكم جنانا.» «4»

4- ما رواه ابن أبي الحديد، عن نصر بن مزاحم، عن أمير المؤمنين «ع» في كتابه إلى معاوية و أصحابه: «فإنّ أولى الناس بأمر هذه الأمّة قديما و حديثا أقربها من الرسول، و أعلمها بالكتاب، و أفقهها في الدين، أوّلها إسلاما، و أفضلها جهادا، و أشدّها بما تحمله الأئمّة من

______________________________

(1)- سورة النحل (16)، الآية 76.

(2)- الكافي 1/ 407، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام على الرعية و ...، الحديث 8.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 558؛ عبده 2/ 104؛ لح/ 247، الخطبة 173.

(4)- الاحتجاج 1/ 46 (طبعة أخرى 1/ 95)، باب ما جرى بعد وفاة رسول اللّه «ص» ...

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 323

أمر الأمّة اضطلاعا.» «1»

5- ما في أصول الكافي عن الرضا «ع»: «و الإمام عالم لا يجهل، و راع لا ينكل ... نامي العلم، كامل الحلم، مضطلع بالإمامة، عالم بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر اللّه، ناصح لعباد اللّه، حافظ لدين اللّه.» «2»

قال في المنجد:

«نكل نكولا عن كذا او من كذا: نكص و جبن.» و فيه أيضا:

«ضلع ضلاعة: كان قويا شديد الأضلاع .... اضطلع بحمله: نهض و قوى عليه.» «3»

6- ما رواه ابن قتيبة في الإمامة و السياسة عن عليّ «ع»: «فو اللّه يا معشر المهاجرين، لنحن أحقّ الناس به، لأنّا أهل البيت، و نحن أحقّ بهذا الأمر منكم ما كان فينا

القاري لكتاب اللّه، الفقيه في دين اللّه، العالم بسنن رسول اللّه، المضطلع بأمر الرعية، المدافع عنهم الأمور السيئة، القاسم بينهم بالسوية.» «4»

7- ما في المحكم و المتشابه في صفات الإمام: «و أما اللواتي في صفات ذاته، فانه يجب أن يكون أزهد الناس، و أعلم الناس، و أشجع الناس، و أكرم الناس و ما يتبع ذلك لعلل تقتضيه.» «5»

8- ما في البحار عن أمالي الطوسي بسنده عن أبي ذر أن النبي «ص» قال:

«يا با ذر، إني أحبّ لك ما أحب لنفسي، إنّي أراك ضعيفا، فلا تأمرنّ على اثنين، و لا تولّين مال

______________________________

(1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3/ 210.

(2)- الكافي 1/ 202، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام و صفاته، الحديث 1.

(3)- المنجد/ 838 و 454.

(4)- الإمامة و السياسة 1/ 19، باب إباءة علي «ع» بيعة أبي بكر.

(5)- المحكم و المتشابه/ 55، و بحار الأنوار 90/ 44 (طبعة إيران 93/ 44)، كتاب القرآن، الباب 128 (باب ما ورد في أصناف آيات القرآن).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 324

يتيم.» «1»

9- ما في صحيح مسلم عن أبي ذرّ، قال: قلت: يا رسول اللّه، ألا تستعملني؟

قال: فضرب بيده على منكبي ثم قال: «يا أبا ذر، إنّك ضعيف و إنّها أمانة، و إنّها يوم القيامة خزي و ندامة، إلّا من أخذها بحقها و أدّى الذي عليه فيها.» «2»

هذا، و الخبران على فرض صحتهما فقداسة أبي ذرّ و فضائله الجمّة لا تنافي ضعفه عن التدبير و الإدارة.

10- ما في الغرر و الدرر عن أمير المؤمنين «ع»: «من حسنت سياسته وجبت طاعته.» «3»

11- و فيه أيضا: «من أحسن الكفاية استحق الولاية.» «4»

12- و

فيه أيضا: «يحتاج الامام إلى قلب عقول، و لسان قؤول، و جنان على إقامة الحق صئول.» «5»

13- ما في الكافي عن مفضل بن عمر، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «يا مفضل، ...

و العالم بزمانه لا يهجم عليه اللوابس.» «6»

14- ما فيه أيضا عن طلحة بن زيد، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول:

«العامل على غير بصيرة كالسائر على غير الطريق؛ لا يزيده سرعة السير إلّا بعدا.» «7»

______________________________

(1)- بحار الأنوار 22/ 406، كتاب تاريخ نبيّنا «ص»، باب كيفية إسلام أبي ذر و ...، و البحار 72/ 342 (طبعة إيران 75/ 342)، كتاب العشرة، باب أحوال الملوك و الأمراء.

(2)- صحيح مسلم 3/ 1457، كتاب الإمارة، الباب 4، (باب كراهة الإمارة بغير ضرورة)، الحديث 1825.

(3)- الغرر و الدرر 5/ 211، الحديث 8025.

(4)- الغرر و الدرر 5/ 349، الحديث 8692.

(5)- الغرر و الدرر 6/ 472، الحديث 11010.

(6)- الكافي 1/ 26، كتاب العقل و الجهل، الحديث 29.

(7)- الكافي 1/ 43، كتاب فضل العلم، باب من عمل بغير علم، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 325

15- ما فيه أيضا عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «قال رسول اللّه: «من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح.» «1» بناء على كون المراد بالعلم العلم بكيفية عمله و بفنونه، لا العلم بالكتاب و السنّة.

16- ما مرّ من نهج البلاغة في شرائط الوالي: «و قد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج و الدماء و المغانم و الأحكام و إمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، و لا الجاهل فيضلهم بجهله، و لا الجافي فيقطعهم بجفائه ...» «2»

و قد مرّ معنى الحديث

مفصلا، و أن المراد بالنهمة بالفتح إفراط الشهوة في الطعام، و بالجفاء سوء الخلق.

17- ما في نهج البلاغة فيما كتبه لمالك: «فولّ من جنودك أنصحهم في نفسك للّه و لرسوله و لإمامك، و أنقاهم جيبا، و أفضلهم حلما، ممن يبطئ عن الغضب و يستريح إلى العذر و يرأف بالضعفاء و ينبو على الأقوياء، و ممن لا يثيره العنف و لا يقعد به الضعف. ثم الصق بذوي (المروءات) الأحساب و أهل البيوتات الصالحة و السوابق الحسنة، ثم أهل النجدة و الشجاعة و السخاء و السماحة.» «3»

أقول: جيب القميص: طوقه. و يقال: «نقي الجيب»، أي طاهر الصدر و القلب. و العنف: الشدة. و ينبو؛ أي يشتدّ.

و رواه في تحف العقول هكذا: «و أفضلهم حلما، و أجمعهم علما و سياسة ...» «4»

و في الدعائم: «ولّ أمر جنودك أفضلهم في نفسك حلما، و أجمعهم للعلم و حسن السياسة

______________________________

(1)- الكافي 1/ 44، كتاب فضل العلم، باب من عمل بغير علم، الحديث 3.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 407؛ عبده 2/ 19؛ لح/ 189، الخطبة 131.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1005؛ عبده 3/ 101؛ لح/ 432، الكتاب 53.

(4)- تحف العقول/ 132.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 326

و صالح الأخلاق ...» «1»

18- ما في نهج البلاغة أيضا: «و لا تدخلن في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل و يعدك الفقر، و لا جبانا يضعفك عن الأمور، و لا حريصا يزين لك الشره بالجور. فان البخل و الجبن و الحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظن باللّه.» «2»

19- ما في نهج البلاغة أيضا: «ثم انظر في أمور عمّا لك، فاستعملهم اختبارا و لا تولّهم محاباة و أثرة، فإنّهم جماع من شعب

الجور و الخيانة. و توخّ منهم أهل التجربة و الحياء من أهل البيوتات الصالحة و القدم في الإسلام المتقدمة، فإنهم أكرم أخلاقا، و أصحّ أعراضا، و أقل في المطامع إشرافا و أبلغ في عواقب الأمور نظرا.» «3»

20- ما في نهج البلاغة في كتابه إلى أهل مصر لمّا ولّى عليهم الأشتر: «أمّا بعد، فقد بعثت إليكم عبدا من عباد اللّه لا ينام أيّام الخوف، و لا ينكل عن الأعداء ساعات الروع. أشدّ على الكفّار من حريق النار. و هو مالك بن الحارث، أخو مذحج، فاسمعوا له و أطيعوا أمره فيما طابق الحقّ، فإنّه سيف من سيوف اللّه، لا كليل الظبّة، و لا نابي الضريبة. فإن أمركم أن تنفروا فانفروا، و إن أمركم أن تقيموا فأقيموا، فإنه لا يقدم و لا يحجم و لا يؤخر و لا يقدم إلّا عن أمري، و قد آثرتكم به على نفسي، لنصيحته لكم و شدّة شكيمته على عدوّكم.» «4»

أقول: نكل عنه: نكص و جبن. و الروع: الخوف. و الظبة بالضم فالفتح مخففا:

حد السيف و السنان. و الكليل: الذي لا يقطع و الضريبة: المضروب بالسيف و نحوه. و نبا السيف: لم يؤثر. و الشكيمة في اللجام: الحديدة المعترضة في فم الفرس، و شدتها كناية عن قوة النفس.

______________________________

(1)- دعائم الإسلام 1/ 358.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 998؛ عبده 3/ 97؛ لح/ 430، الكتاب 53.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1011؛ عبده 3/ 105؛ لح/ 435، الكتاب 53.

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 951؛ عبده 3/ 70؛ لح/ 411، الكتاب 38.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 327

إلى غير ذلك من الروايات التي يستفاد منها اعتبار القوّة بسعة معناها في الوالي و الأمير. هذا.

و في

منهاج البراعة:

«قد قيل لحكيم: ما بال انقراض دولة آل ساسان؟ قال: لأنهم استعملوا أصاغر العمال على أعاظم الأعمال فلم يخرجوا من عهدتها، و استعملوا أعاظم العمال على أصاغر الأعمال فلم يعتنوا عليها، فعاد وفاقهم الى الشتات و نظامهم الى البتات.» «1»

و إذا اعتبرت القوّة في العمّال فكيف بنفس الأئمة المفوض إليهم إدارة الأمّة.

______________________________

(1)- منهاج البراعة 11/ 144.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 329

الفصل التاسع في اعتبار أن لا يكون الوالي من أهل البخل و الطمع و المصانعة

الشرط السادس في الوالي: أن لا يكون من أهل البخل و الطمع و الحرص و المصانعة و حبّ الجاه. فإنّ الوالي يصير مسلّطا على نفوس المسلمين و أموالهم، و يتوقّع منه رعاية مصالح الأمّة في القبض و البسط و الأعمال و الأخلاق. و الصفات المذكورة لا تناسب ذلك و إن فرض عدم بلوغها حدّا يضرّ بالعدالة.

فالبخيل بحسب الطبع مثلا ربما يمسك عن صرف المال في مصلحة اجتماعية مهمّة، فيضرّ بالأمة قهرا، و ان فرض عدم تعمّده لذلك.

و بالجملة الحبّ الشديد للمال و الجاه و شئون الدنيا يعمي و يصم قهرا، فلا يناسب القيادة العادلة الحكيمة، سواء رجع ذلك الى سلب العدالة أم لا.

و يستفاد جميع ذلك من خلال الروايات المختلفة المروية من طرق الفريقين:

1- فمنها ما مرّ من نهج البلاغة من قوله- عليه السلام-: «و قد علمتم أنّه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج و الدماء و المغانم و الأحكام و إمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته ...، و لا المرتشي في الحكم فيذهب بالحقوق.» «1»

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 407؛ عبده 2/ 19؛ لح/ 189، الخطبة 131.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 330

2- و ما مرّ منه أيضا في كتابه

لمالك: «و لا تدخلنّ في مشورتك بخيلا يعدل بك عن الفضل و يعدك الفقر، و لا جبانا يضعفك عن الأمور، و لا حريصا يزين لك الشره بالجور. فإنّ البخل و الجبن و الحرص غرائز شتّى يجمعها سوء الظن باللّه.» «1»

إذ لو اعتبر عدم البخل و الحرص في من يشاوره الوالي فاعتبارهما في نفس الوالي يكون بطريق أولى، بل المشاور للوالي يكون من الولاة غالبا و ينتخب واليا بعنوان المشاور، كما هو المتعارف في عصرنا.

3- ما فيه أيضا: «لا يقيم أمر اللّه- سبحانه- إلّا من لا يصانع، و لا يضارع، و لا يتبع المطامع.» «2»

أقول: الظاهر أنّ المراد بالأمر الولاية، و قد شاع استعماله فيها. منها قوله «ع»:

«فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة ...» «3»

و في شرح ابن أبي الحديد: «المصانعة: بذل الرشوة.» «4»

و لكن الظاهر كونها بمعنى المداراة و المداهنة مطلقا. نعم، من مصاديقها المداهنة بأخذ الرشوة. فالمراد أنّ الوالي لا يكون مقيما لأمر اللّه إلّا أن يكون منفذا للقوانين و المقررات و لا يداهن أحدا بأخذ الرشوة، أو بسبب الصداقة، أو لكونه من الأقوياء أو نحو ذلك فيعطل أحكام اللّه لذلك.

و المضارعة: المشابهة. فلعلّ المراد أن الحاكم الحق يجب عليه أن يكون مستقلا في الفكر و العمل، و لا يقع أسيرا تحت تأثير العوامل الخارجية أو الداخلية، فيترك محاسن الأخلاق و الأعمال و ما يقتضيه العقل السليم بسبب الأجواء و التقاليد الباطلة.

و لعلّ في كلامه «ع» نحو طعن على معاوية و أمثاله. فقد روي ان عمر بن الخطاب اعترض عليه في سفره الى الشام لما شاهد من زيّه، فاعتذر بأنا في بلد

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 998؛ عبده 3/ 97؛ لح/ 430، الكتاب 53.

(2)- نهج

البلاغة، فيض/ 1137؛ عبده 3/ 176؛ لح/ 488، الحكمة 110.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 51؛ عبده 1/ 31؛ لح/ 49، الخطبة 3.

(4)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 18/ 274.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 331

أمراؤه كذلك.

و قد أفرط بعده الأمويّون و العباسيّون في الترف و الفساد، حتى صارت الخلافة الإسلامية على طريقة الملوك الجبابرة. و قد قال أمير المؤمنين «ع»: «إنّ اللّه فرض على أئمة العدل أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس، كيلا يتبيّغ بالفقير فقره.» «1»

و كان- عليه السلام- يكتفي من دنياه بطمريه، و من طعمه بقرصيه. و شاهد هو في مسيره الى الشام دهاقين الأنبار قد ترجّلوا له و اشتدّوا بين يديه، فقال: «ما هذا الذي صنعتموه؟» فقالوا: خلق منا نعظّم به أمراءنا، فقال: «و اللّه ما ينتفع بهذا أمراؤكم و إنّكم لتشقّون على أنفسكم في دنياكم و تشقون به في آخرتكم. و ما أخسر المشقة وراءها العقاب، و أربح الدعة معها الأمان من النار.» «2»

و العجب منّا بعد نجاح الثورة الإسلامية في إيران، و رفع النداء بشعار:

«لا شرقية و لا غربية»، لما ذا ما زلنا نحتفظ بعد بكثير من أزياء الغرب و الشرق و عاداتهم الباطلة؟! اللّهم فوفقنا للأخذ بسنّة النبي و آله «ع» و السير بسيرتهم المرضية.

4- ما في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري- عليه السلام-: «فأمّا من كان من الفقهاء صائنا لنفسه، حافظا لدينه، مخالفا على هواه، مطيعا لأمر مولاه فللعوام أن يقلّدوه. و ذلك لا يكون إلّا بعض فقهاء الشيعة، لا جميعهم.» «3»

فإذا كان صاحب الهوى و الحرص على الدنيا و شئونها لا يجوز تقليده في الأحكام فعدم جواز تسليطه على نفوس الناس و أموالهم

يثبت بالأولوية القطعية، كما لا يخفى.

5- ما في صحيح مسلم عن أبي موسى، قال: دخلت على النبي «ص» أنا و رجلان من بني عمّي، فقال أحد الرجلين: يا رسول اللّه، أمّرنا على بعض ما ولّاك

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 663؛ عبده 2/ 213؛ لح/ 325، الخطبة 209.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1104؛ عبده 3/ 160؛ لح/ 475، الحكمة 37.

(3)- التفسير المنسوب الى الإمام العسكري «ع»/ 102 (المطبوع بهامش تفسير علي بن ابراهيم)، ذيل الآية 78 من سورة البقرة. (الاحتجاج/ 255).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 332

اللّه- عزّ و جلّ-، و قال الآخر مثل ذلك. فقال «ص»: «إنّا و اللّه لا نولّي على هذا العمل أحدا سأله، و لا أحدا حرص عليه.» «1»

و روى نحوه البخاري أيضا في كتاب الأحكام من صحيحه. «2»

6- و في سنن أبي داود، قال أبو موسى قال النبي «ص»: «لن نستعمل- او لا نستعمل- على عملنا من أراده.» «3»

7- و في العقد الفريد: «طلب رجل إلى النبي «ص» أن يستعمله، فقال «ص»: «إنا لا نستعمل على عملنا من يريده.» «4»

8- و روى ابن قتيبة في الإمامة و السياسة قال: قال ابن عباس لعليّ «ع»:

أرى أنهما (طلحة و الزبير) أحبّا الولاية، فولّ البصرة الزبير و ولّ طلحة الكوفة ...،

فضحك عليّ «ع» ثمّ قال: «ويحك، إنّ العراقين بهما الرجال و الأموال، و متى تملكا رقاب الناس يستميلا السفيه بالطمع، و يضربا الضعيف بالبلاء، و يقويا على القوي بالسلطان. و لو كنت مستعملا أحدا لضرّه و نفعه لاستعملت معاوية على الشام. و لو لا ما ظهر لي من حرصهما على الولاية لكان لي فيهما رأي.» «5» هذا.

و دفاع أمير المؤمنين

«ع» عن حقّه و مطالبته له في الفرص المختلفة لم يكن عن حرص منه، بل لبيان الحقّ و لحرصه على ما فيه صلاح حال المسلمين. و إلّا فهو القائل أيضا: «و اللّه ما كانت لي في الخلافة رغبة، و لا في الولاية إربة.» «6»

كما أن اقتراح يوسف النبي «ع» بقوله: «اجْعَلْنِي عَلىٰ خَزٰائِنِ الْأَرْضِ، إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ» «7» أيضا لم يكن إلّا للحرص على ما فيه صلاح أهل مصر في ذلك العصر. و من

______________________________

(1)- صحيح مسلم 3/ 1456، كتاب الإمارة، الباب 3 (باب النهي عن طلب الإمارة).

(2)- صحيح البخاري 4/ 235. كتاب الأحكام، باب ما يكره من الحرص على الإمارة.

(3)- سنن أبي داود 2/ 269، كتاب الأقضية، الباب 3 (باب في طلب القضاء و التسرع إليه).

(4)- العقد الفريد 1/ 21.

(5)- الإمامة و السياسة 1/ 51، باب اختلاف الزبير و طلحة على علي «ع».

(6)- نهج البلاغة، فيض/ 656؛ عبده 2/ 210؛ لح/ 322، الخطبة 205.

(7)- سورة يوسف (12)، الآية 55.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 333

رأى نفسه أهلا للولاية، و أراد بها صلاح الدين و المجتمع فلا يصدق على ترشيح نفسه لها عنوان الحرص و الطمع، بل قد يجب ذلك اذا انحصر الصالح فيه. و إنما الحرص المذموم هو أن يكون الشخص طالبا للرئاسة، مولعا بها. و الفرق بين الأمرين واضح.

9- و في صحيح مسلم بسنده عن أبي حميد الساعدي، قال: استعمل رسول اللّه «ص» رجلا من الأسد يقال له: ابن اللتبيّة على الصدقة، فلمّا قدم قال:

هذا لكم و هذا لي أهدي لي. قال: فقام رسول اللّه «ص» على المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه و قال: «ما بال عامل

أبعثه فيقول: هذا لكم و هذا أهدي لي! أ فلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمّه حتى ينظر أ يهدى إليه أم لا. و الذي نفس محمّد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلّا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه: بعير له رغاء، أو بقرة لها خوار، أو شاة تيعر. ثمّ رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه، ثم قال: «اللّهم هل بلّغت؟- مرتين.» «1» و قد روي هذا المضمون بطرق مختلفة، فراجع.

أقول: تيعر، أي تصيح، و اليعار: صوت الشاة. و العفرة بضم العين و فتحها:

بياض غير خالص كلون الأرض.

و يستفاد من هذا الحديث الاعتراض و الاشكال على المسؤولين الذين ربما يستفيدون من موقعيتهم السياسية أموالا باسم الهدية و الصلة، و لا يتحاشون عن ذلك.

و يعجبني هنا نقل كلام أمير المؤمنين «ع» في نهج البلاغة، حيث قال بعد نقل قصة عقيل و الحديدة المحماة: «و أعجب من ذلك طارق طرقنا بملفوفة في وعائها، و معجونة شنئتها كأنّما عجنت بريق حيّة أو قيئها، فقلت: أصلة، أم زكاة، أم صدقة؟ فذلك محرّم علينا أهل البيت. فقال: لا ذا و لا ذاك، و لكنها هدية. فقلت: هبلتك الهبول، أعن دين اللّه أتيتني لتخدعني؟

أ مختبط أم ذو جنّة أم تهجر؟ و اللّه لو أعطيت الأقاليم السبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصي اللّه في

______________________________

(1)- صحيح مسلم 3/ 1463، كتاب الإمارة، الباب 7 (باب تحريم هدايا العمال)، الحديث 1832.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 334

نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت، و إن دنياكم عندي لأهون من ورقة في فم جرادة تقضمها.

ما لعليّ و لنعيم يفنى و لذّة لا تبقى؟» «1»

فعلى مثل

هذا ينبغي أن يكون شيعته الموظفون في مؤسسات الحكومة الإسلامية.

و قد تحصل من هذا الفصل أن الوالي يجب أن لا يكون بخيلا طماعا حريصا على المال و الملك، فتدبر.

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 713؛ عبده 2/ 244؛ لح/ 347، الخطبة 224.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 335

الفصل العاشر في اعتبار الذكورة

اشارة

الشرط السابع في الوالي: الذكورة.

[اعتبار الذكورة في القاضي و الوالي]

و لا يخفى أن المسألة غير معنونة في كتب الفقهاء منّا. نعم، ذكروا في باب القضاء اعتبار الذكورة في القاضي، و ادّعوا فيه الاتفاق و عدم الخلاف، بل الإجماع.

و الظاهر أنّ القضاء شعبة من شعب الولاية، بل من أهم شعبها، بل هو أوّلا و بالذات من شئون الإمام، كما صرّح به في خبر سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «اتقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين: لنبيّ (كنبيّ) أو وصيّ نبيّ.» «1» و كان أمير المؤمنين «ع» قد يتصدّى بنفسه للقضاء، و لما ولّى شريحا القضاء اشترط عليه أن لا ينفذ القضاء حتى يعرضه عليه «2».

و على هذا فاشتراط الذكورة في القاضي لعلّه يقتضي اشتراطها في الولاية، و لا سيّما في الإمامة الكبرى أيضا. و أدلة المسألتين أيضا كما يأتي مشتركة.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 7 الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.

(2)- الوسائل 18/ 6 الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 336

و أمّا علماء السنّة فالظاهر اتّفاقهم على اشتراطها في الولاية. نعم، اختلفوا في القضاء: فالشافعية و المالكية و الحنابلة قالوا بالاشتراط، و الحنفية قائلون بالتفصيل، حيث جعلوا القضاء مثل الشهادة، فما يقبل فيه شهادة النساء يقبل فيه قضاؤهن أيضا.

و محمد بن جرير الطبري ينفي الاشتراط مطلقا.

قال في الخلاف (كتاب القضاء، المسألة 6):

«لا يجوز أن تكون المرأة قاضية في شي ء من الأحكام، و به قال الشافعي. و قال أبو حنيفة: يجوز أن تكون قاضية فيما يجوز أن تكون شاهدة فيه، و هو جميع الأحكام إلّا الحدود و القصاص. و قال

ابن جرير: يجوز أن تكون قاضية في كل ما يجوز أن يكون الرجل قاضيا فيه، لأنها تعدّ من أهل الاجتهاد. دليلنا أن جواز ذلك يحتاج إلى دليل، لأن القضاء حكم شرعي فمن قال: تصلح له يحتاج إلى دليل شرعي، و روي عن النبي «ص» أنّه قال: «لا يفلح قوم وليتهم امرأة» و قال- عليه السلام-:

«أخّروهن من حيث أخّرهنّ اللّه.» فمن أجاز لها أن تولي القضاء فقد قدّمها و أخّر الرجل منها. و قال: «من فاته شي ء في صلاته فليسبّح، فإن التسبيح للرجال و التصفيق للنساء.» فالنبي «ص» منعها من النطق لئلا يسمع كلامها مخالفة الافتتان بها، فبأن تمنع القضاء الذي يشتمل على الكلام و غيره أولى.» «1»

أقول: في مسند أحمد عن رسول اللّه «ص»: «إذا نابكم في الصلاة شي ء فليسبح الرجال، و ليصفق النساء.» «2»

فالظاهر كون «فاته» في الخلاف مصحف: «نابه».

و ظاهر كلام الشيخ أن نفوذ القضاء خلاف الأصل، كالولاية. ففي مورد الشك يتمسك بالأصل.

______________________________

(1)- الخلاف 3/ 311.

(2)- مسند أحمد 5/ 333.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 337

و في قضاء الشرائع:

«و يشترط فيه البلوغ، و كمال العقل، و الإيمان، و العدالة، و طهارة المولد، و العلم، و الذكورة ... و لا ينعقد القضاء للمرأة و ان استكملت الشرائط.» «1»

و في الجواهر:

«بلا خلاف أجده في شي ء منها، بل في المسالك: هذه الشرائط عندنا موضع وفاق،» الى أن قال: «و أما الذكورة فلما سمعت من الإجماع.» «2»

و في المغني لابن قدامة الحنبلي بعد ما اختار في القضاء اعتبار الذكورة قال:

«و لنا قول النبي «ص»: «ما أفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة»، و لأن القاضي يحضره محافل الخصوم و الرجال و يحتاج فيه إلى

كمال الرأي و تمام العقل و الفطنة، و المرأة ناقصة العقل، قليلة الرأي، ليست أهلا للحضور في محافل الرجال. و لا تقبل شهادتها و لو كان معها ألف امرأة مثلها ما لم يكن معهن رجل. و قد نبّه اللّه على ضلالهن و نسيانهن بقوله- تعالى-: «أَنْ تَضِلَّ إِحْدٰاهُمٰا فَتُذَكِّرَ إِحْدٰاهُمَا الْأُخْرىٰ.» «3»

و لا تصلح للإمامة العظمى، و لا لتولية البلدان. و لهذا لم يولّ النبي «ص» و لا أحد من خلفائه و لا من بعدهم امرأة قضاء و لا ولاية بلد فيما بلغنا. و لو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالبا.» «4»

أقول: ما ذكره من عدم قبول شهادة النساء إذا لم يكن معهن رجل بنحو الإطلاق ممنوع، إذ يقبل شهادتهن منفردات أيضا في الأمور المرتبطة بالنساء، كالعذرة و الولادة و نحوهما.

و الضلال في الآية إمّا بمعنى النسيان كما قيل، أو بمعنى الضياع. فيكون المراد أن تضيع إحدى الشهادتين بالنسيان فتذكر إحدى المرأتين الأخرى.

______________________________

(1)- الشرائع 4/ 67- 68.

(2)- الجواهر 40/ 12- 14.

(3)- سورة البقرة (2)، الآية 282.

(4)- المغني 11/ 380.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 338

و كيف كان فيظهر من الآية نقصان المرأة بالنسبة إلى الرجل في التحمّل و الحفظ.

و قوله أخيرا: «و لو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان»، شاهد صدق على المقام.

فإنّ الأمويين و العباسيين ولّوا أمر هذه الأمة أكثر من ستة قرون و كانوا مولعين مغرمين بالنساء و الإماء كثيرا، و نفوذ نسائهم و بناتهم و اخواتهم مشهور، و كان يوجد فيهن أهل الفضل و العلم أيضا، و قد ولّوا الأعمال كثيرا ممن لا يليق، حتى من عبيدهم أيضا و مع ذلك لم يسمع نصبهم

أحدا من النساء للولاية أو القضاء. فيعلم بذلك استيحاش الناس من ذلك، و كونه مستنكرا عندهم بحيث لم يمكن الخلفاء مخالفتهم. هذا.

و في الفقه على المذاهب الأربعة ما حاصله:

«إنّهم اتفقوا على أن الإمام يشترط فيه أن يكون مسلما، مكلّفا، حرّا، ذكرا، قرشيا، عدلا، عالما، مجتهدا، شجاعا، ذا رأي صائب، سليم السمع و البصر و النطق.» «1»

و في كتاب الفقه الإسلامي و أدلّته للدكتور الزحيلي:

«أجمع الفقهاء على كون الإمام ذكرا.» «2»

و قال في القضاء:

«و أمّا الذكورة فهي شرط أيضا عند المالكية و الشافعية و الحنابلة. فلا تولى امرأة القضاء ... و قال الحنفية: يجوز قضاء المرأة في الأموال، أي المنازعات المدنية. لأنه تجوز شهادتها فيها ... و أجاز ابن جرير الطبري قضاء المرأة في كل شي ء، لجواز إفتائها.» «3»

أقول: ليس الغرض استقصاء الكلمات في المقام، بل الغرض هو الفات نظر

______________________________

(1)- الفقه على المذاهب الأربعة 5/ 416، مبحث شروط الإمامة.

(2)- الفقه الإسلامي و أدلته 6/ 693.

(3)- الفقه الإسلامي و أدلته 6/ 745.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 339

القارئ إجمالا إلى نظر الفريقين في المسألة، فذكرنا نماذج من كلمات الفريقين.

فإن شئت الاطلاع الوافي على الكلمات، فراجع مظانها.

بحث حول الاجماع

لا يخفى أن مسألة الإمامة لم تكن معنونة في فقه الشيعة الإمامية. و لعله لكونها مقصورة على الأئمة الاثني عشر عند فقهائنا.

و أما القضاء فصاحب الجواهر و غيره و إن ادعوا الاتفاق و عدم الخلاف بل الإجماع على اعتبار الذكورة فيه و ذكروه من أدلة المسألة.

و لكن ليعلم اني لم أجد المسألة في مثل المقنعة و المقنع و الهداية و النهاية و فقه الرضا، من الكتب المعدّة لنقل المسائل المأثورة، و إنما تعرض لها الشيخ

في خلافه و في مبسوطه الذي وضعه لجمع الفروع الاجتهادية المستنبطة، ثم تعرض له بعده المتأخرون في كتبهم. فثبوت الإجماع فيها بنحو يكشف عن تلقّي المسألة من المعصومين «ع» يدا بيد مشكل، حتى ان الشيخ في الخلاف أيضا كما رأيت لم يستدل لها بالإجماع بل بالأصل و بالروايات في قبال الحنفية و ابن جرير.

و كان السيد الأستاذ المرحوم آية اللّه العظمى البروجردي- طاب ثراه- يقول مرّة بعد مرّة:

«إنّ المسائل المعنونة في فقه الشيعة الإمامية على قسمين:

1- المسائل الأصلية المتلقاة يدا بيد عن الأئمة المعصومين- سلام اللّه عليهم-.

2- المسائل التفريعية التي استنبطها الفقهاء من تلك المسائل بالاجتهاد.

و القدماء من فقهائنا كانوا لا يتعرضون في تأليفاتهم الفقهية إلا للقسم الأوّل من المسائل، و كانوا يحافظون فيها غالبا على ألفاظ الروايات أيضا، بحيث كان الناظر في كتبهم يتخيل أنهم لم يكونوا أهلا للاجتهاد و أن الأواخر منهم كانوا يقلدون الأوائل، فراجع كتب الصدوق كالفقيه و المقنع و الهداية، و مقنعة المفيد، و رسائل

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 340

علم الهدى، و نهاية الشيخ، و مراسم سلار، و الكافي لأبي الصلاح، و المهذب لابن البراج و نحو ذلك.

و ذكر الشيخ في أول المبسوط ما حاصله: «أن استمرار هذه الطريقة بين أصحابنا صار سببا لطعن المخالفين، فكانوا يستحقرون فقه أصحابنا الإمامية، مع أن جلّ ما ذكروه من المسائل موجود في أخبارنا، و ما كثروا به كتبهم به من مسائل الفروع أيضا له مدخل في أصولنا و مخرج على مذهبنا لا على وجه القياس. و كنت على قديم الوقت و حديثه متشوق النفس الى عمل كتاب يشتمل على هذه الفروع، فيقطعني عن ذلك القواطع. و

كنت عملت على قديم الوقت كتاب النهاية، و ذكرت فيها جميع ما رواه أصحابنا في مصنفاتهم و أصّلوها من المسائل، و عملت بآخره مختصر جمل العقود، و وعدت فيه أن أعمل كتابا في الفروع خاصة، ثم رأيت أن ذلك يكون مبتورا يصعب فهمه على الناظر فيه، لأن الفرع إنما يفهمه إذا ضبط الأصل معه، فعدلت الى عمل كتاب يشتمل على عدد جميع كتب الفقه، و أعقد فيه الأبواب و أقسم فيه المسائل و أجمع بين النظائر و أستوفيه غاية الاستيفاء و أذكر أكثر الفروع التي ذكرها المخالفون.» «1»

فالشيخ- قدس سرّه- صنف النهاية على طريقة أصحابنا لنقل المسائل الأصلية فقط، و صنف المبسوط جامعا للأصول و الفروع.

و على هذا فإذا ذكرت المسألة في تلك الكتب المعدّة لنقل المسائل الأصلية المأثورة فاحدس بتلقيها عن المعصومين «ع» و يكون إطباقهم في تلك المسائل، بل الاشتهار فيها أيضا حجة شرعية لاستكشاف قول المعصوم.

و أما المسائل التفريعية المستنبطة فلا يفيد الإجماع فيها، اذ الاجماع فيها نظير الإجماع في المسائل العقلية. و نحن الإمامية لا موضوعية عندنا للإجماع و الاتفاق بما هو إجماع، و إنما نعتبره طريقا لكشف قول المعصوم- عليه السلام-.»

انتهى كلام الأستاذ- طاب ثراه-.

______________________________

(1)- راجع مقدمة المبسوط 1/ 1- 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 341

و قد ظهر لك أنّ مسألتنا هذه لم تكن من المسائل المتلقاة، و لذا لم تذكر في تلك الكتب، فلا يفيد فيها الإجماع و إن اعتمد عليه صاحب الجواهر و غيره. فاللازم الرجوع إلى الآيات و الأخبار المستدل بها في المقام.

التنبيه على أمرين

اشارة

و ينبغي التنبيه قبل ذلك على أمرين يمكن أن ينتفع بهما في المقام:

أما الأمر الأول
[مقدمات]
اشارة

فيتوقف بيانه على مقدمات:

تفاوت الرجل و المرأة:

الأولى: لا إشكال في تفاوت الرجل و المرأة في جهات و خصائص طبيعية ذاتية بحسب الجسم و الروح، لا بمعنى أن يكون أحدهما أنقص من الآخر، بل بمعنى أن نظام الخلقة الرباني أوجد التفاوت لتحكيم نظام العائلة، حيث إن نظام الأسرة يحتاج الى التدبير و الى العواطف معا. فالتفاوت بينهما نظير تفاوت أعضاء الإنسان، كالعين و الأذن و اليد و الرجل و نحوها، المفوض الى كل منها وظيفة خاصة مناسبة لبنائه. و لا ريب أن بعضا منها كالعين مثلا أظرف و ألطف من الآخر، و ليس هذا نقصا فيه. و لا يكون الإنسان موجودا كاملا إلّا بجمع هذه الأعضاء و خواصّها و أفعالها المختلفة.

و الحاصل ان التفاوت بينهما يرجع الى التناسب في نظام العائلة، لا الى نقص و كمال. و قد خلقا كذلك ليحصل التّماس و التعاون، و ليجذب أحدهما الآخر و يلتذّ من الكون معه و الإيثار بالنسبة اليه. و لو كانا متماثلين في الجسم و الغرائز لاستقل كل منهما و انفرد و لم ينتظم نظام الأسرة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 342

و بالجملة التفاوت بين الرجل و المرأة واضح:

فالرجل مظهر العقل و التدبير، و المرأة مظهر الرأفة و العاطفة، و النظام يحتاج الى كليهما.

المرأة ظريفة غالبا في الجسم و الروح و الصوت و نحو ذلك، و الرجل خشن فيها.

المرأة كالريحانة الطريفة، و الرجل كالشجرة البرّيّة.

المرأة تميل غالبا الى السكون و السكوت و الدعة، و الرجل الى الأعمال الشاقة و التحرك و الجهاد.

الرجل يغلب عليه القوة و الشدة، و على المرأة الرقة و الانفعال.

التهوّر في الرجل أكثر، و الجبن في المرأة.

المرأة تبلغ قبل الرجل و

تيأس قبله.

المرأة تميل الى الزينة و التجمل و التلون و التجدّد، بخلاف الرجل.

المرأة تريد من الرجل الشجاعة و الحماسة، و الرجل يريد منها الحسن و الجمال.

المرأة الى الفن و الأدب أميل، و الرجل الى العلم و التفكر.

غليان الإحساس في المرأة أكثر، و في الرجل الكتمان.

التفاوت المرأة الى تربية الأولاد و النظافة و إدارة أمور البيت أكثر من الرجل.

همّ الرجل تسخير العالم، و همّ المرأة تسخير الرجل.

الرجل يرى سعادته في المقام و الشهرة و جمع المال، و المرأة في تسخير قلب الرجل و صيده.

و يختلفان في كثير من الأخلاق. و ربما يكون خلق واحد في أحدهما فضيلة، و في الآخر رذيلة.

و عن أمير المؤمنين «ع»: «خيار خصال النساء شرار خصال الرجال: الزهو، و الجبن، و البخل. فإذا كانت المرأة ذات زهو لم تمكن من نفسها، و إذا كانت بخيلة حفظت مالها و مال

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 343

بعلها، و إذا كانت جبانة فرقت من كل شي ء يعرض لها.» «1»

هذا، مضافا إلى ما ذكروا لهما من الاختلاف في المتوسط من الطول و الوزن و حجم البدن و الرأس و الدماغ و الجمجمة و القلب و الدم، و الشدة و القوة في العظم و العضلات و الأعصاب و سائر الأعضاء و الحواس الخمسة، و ليس المقام مقام التعرض لها، فراجع محله.

و حكى الأخ الشهيد، آية اللّه المطهري- طاب ثراه- في كتابه: «نظام حقوق المرأة في الإسلام» عن المرأة المتخصصة في علم معرفة النفس المسمّاة «كليود السن» ما حاصله:

«المرأة بحسب الفطرة تحبّ أن تكون تحت رئاسة الغير و نظارته، و أن يحسّ الغير أنه يحتاج إليها. و تنشأ هاتان الخصلتان من كون

النساء تابعة للإحساس، و الرجال تابعين للتعقل و ربما كثر إدراك المرأة و لكن إحساسها يغلب على عقلها. فكر الرجل و أطروحته إلى الواقعية أقرب، و هو في القضاء و الهداية أدقّ. و النساء لكونهن أشدّ إحساسا و وحشة يفرض عليهن الإذعان باحتياجهن الى الرجال.»

هذا و قد اقتبسنا ما ذكرناه من وجوه التفاوت بين الرجل و المرأة من الكتاب المذكور، و إن شئت التفصيل فراجع مظانّه.

مفهوم العدل

المقدمة الثانية: ليس معنى العدل تساوي جميع أفراد النوع في الإمكانات و الوظائف، بل العدل أن يبذل كل فرد ما يقتضيه طبعه و حاجته، و ان يراد منه ما يطيقه و يقدر عليه. فالريحانة الظريفة تتفاوت مع الشجرة البرية في الطاقة و سنخ الحاجة. و الإنسانة الظريفة المليئة بالعواطف تتفاوت مع الإنسان الخشن في الطاقة و فيما يمكن أن يتحمل من المسؤولية. و من أفحش الظلم أن يحمل على فرد ما لا يقدر

______________________________

(1)- سفينة البحار 2/ 586، ذيل كلمة نسأ. عن البحار 100/ 238 (طبعة إيران 103/ 238).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 344

حمله. و بالجملة الأفراد في الحاجات و في الطاقات مختلفون و العدل يقتضي رعاية التناسب مع طباعهم و طاقتهم.

الولاية مسئولية و أمانة

المقدمة الثالثة: الولاية بشعبها و منها القضاء و إن كانت مقاما و منصبا يتنافس فيه، و لكنها بنظر الإسلام و أوليائه أمانة الهية تستعقب مسئولية خطيرة. و كلما اتسع نطاقها صارت المسؤولية فيها أكثر. و قد كتب أمير المؤمنين- عليه السلام- إلى أشعث بن قيس، عامله على آذربيجان: «إنّ عملك ليس لك بطعمة، و لكنه في عنقك أمانة.» «1»

و العدل يقتضي أن لا يحمل عبأ المسؤولية إلّا على من يقدر على تحمّلها و أدائها، و إلا كان ظلما له و لمن يقع تحت حيطته. و هذا أيضا واضح.

و في الحديث: «من استعمل رجلا من عصابة و فيهم من هو أرضى للّه منه فقد خان اللّه و رسوله و المؤمنين.» «2»

[بيان الأمر الأوّل] الولاية تنافى طباع المراة و ظرافتها:

و إذا عرفت هذه المقدمات الثلاث فنقول: الولاية بشعبها و منها القضاء من الوظائف الخطيرة المرتبطة بمصالح الأمة و مقدراتهم. فالقصور فيها فضلا عن التقصير يستعقب أضرارا كثيرة. و هي و إن احتاجت إلى العواطف أيضا و لكن احتياجها إلى العقل و التدبير و النظر في عواقب الأمور أشدّ من ذلك بمراتب، كما لا يخفى على أهله. مضافا الى استلزامها لتحمل مشاق كثيرة أيضا تنافي ظرافة المرأة و احتياجها

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 839؛ عبده 3/ 7؛ لح/ 366، الكتاب 5.

(2)- كنز العمال 6/ 25، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14687.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 345

الى السكون و الدعة.

ففي أصول الكافي بسند صحيح، عن معلى بن خنيس، قال: «قلت لأبي عبد اللّه «ع» يوما: جعلت فداك ذكرت آل فلان و ما هم فيه من النعيم، فقلت:

لو كان هذا إليكم لعشنا معكم. فقال: «هيهات يا معلّى،

أما و اللّه لو كان ذاك ما كان إلّا سياسة الليل و سياحة النهار و لبس الخشن و أكل الجشب، فروى ذلك عنّا. فهل رأيت ظلامة قطّ صيّرها اللّه- تعالى- نعمة إلّا هذه؟» «1»

و إذا كانت الولاية تستعقب مسئولية خطيرة فحملها على من لا يطيقها ظلم في حقّه و في حقوق من يقع تحت ولايته. و المرأة كما عرفت مظهر الرحمة و العواطف، و طبعها غالبا يناسب السكون و الدعة. و الرجل مظهر التدبير و النظر في عواقب الأمور، و هو يميل الى التحرك و الجهاد. فالمناسب تفويض هذه المسؤولية الخطيرة المرتبطة بشؤون الإسلام و المسلمين الى من يكون قدرته على التحمل أكثر.

و لا يراد بذلك، الحطّ من كرامة المرأة و احتقارها، و إنما يراد رعاية التناسب الطبيعي في تفويض المسؤولية. و التشريع الصحيح هو التشريع المبتني على التكوين.

و يشهد لما ذكرناه من عدم مناسبة طباع المرأة غالبا للولاية أنّك ترى في أكثر البلدان في العالم أن رؤساء الجمهوريات و الدول ينتخبون غالبا من الرجال دون النساء، مع أنه ليس في محيطهم منع قانوني لانتخاب المرأة.

و قد اشتبه الأمر على الذين قاموا باسم الدفاع عن المرأة، حيث استدلوا بأن نصف المجتمع الإنساني يكون معطلا ان لم تشتغل المرأة في الدوائر و المؤسسات.

أ فلا يرون أن المجتمع لا يتشكل إلّا من البيوت و الأسر، و لا يصلح إلّا بصلاح الأسر؟ و إنما تصلح الأسرة بالمرأة الحنونة العطوفة على زوجها و ولدها. أ يكون حفظ الأسرة و العائلة، و التقوية الروحية للزوج، و تربية الأولاد من البنين و البنات أعمالا صغيرة محقّرة؟!

لا، بل عمل المرأة بامومتها و عطوفتها من أحمز الأعمال و أفضلها. و هو الحجر

______________________________

(1)-

الكافي 1/ 410، كتاب الحجة، باب سيرة الإمام في نفسه و ...، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 346

الأساس لصلاح مستقبل المجتمع. و لا يقدر عليه الرجل بما جبل عليه من خشونة الطبع و الغلظة.

و في الحديث عن النبي «ص»: «الجنة تحت أقدام الأمهات.» «1»

و عن الإمام الباقر «ع»: «إنّ للأمّ ثلثي البرّ، و للأب الثلث.» «2»

و التقوية الروحية للبعل ليتمكن من الجهاد و القيام بسائر النشاطات أيضا عمل شريف يساوي الجهاد في الفضل. و في نهج البلاغة: «جهاد المرأة حسن التبعّل.» «3»

و لا يخفى أن تربية الأولاد و حسن التبعّل كليهما من ثمرات العواطف الذاتية التي جعلت في طباع النساء. و اذا تأمّلت و دقّقت النظر ظهر لك أن الأعمال الشاقة و إن كانت في عهدة الرجال و لكن أخلاق النساء هي المؤثرة في كمية نشاط الرجل و حسن عمله. فهي الشريكة حقيقة في داخل البيت و خارجه، فتدبر.

و اعلم: أنه بما ذكرناه من التفاوت الطبيعي بين الرجل و المرأة يظهر حكمة جعل الطلاق بيد الرجل، و حكمة التفاوت في الميراث و الديات أيضا. إذ قد مرّ أن العواطف و الأحاسيس على المرأة غالبة، و ضرر الطلاق عظيم جدّا. فلو جعل أمره بيد المرأة أمكن وقوعه كثيرا من جانبها كلما غلب عليها الإحساس أو ثارت فيها العواطف لجهة من الجهات.

و أما الرجل فحيث تغلب عليه روح التدبير و النظر في عواقب الأمور فهو يجتنب عنه غالبا إذا فكر في عواقبه من انهدام أسرته و تضرر نفسه و أولاده.

و أما الميراث فانا اذا نظرنا الى مجموع الرجال و النساء جيلا بعد جيل و انتقال الثروات من نسل الى نسل

لرأينا ان المال يحتاج في الحفظ و التكثير الى العقل و التدبير. فجعل اللّه- تعالى- في مرحلة الحفظ و التكثير اختيار ثلثي المال بيد الرجال

______________________________

(1)- مستدرك الوسائل 2/ 628، الباب 70 من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 4.

(2)- الوسائل 15/ 209، الباب 94 من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 4.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1152؛ عبده 3/ 184؛ لح/ 494، الحكمة 136.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 347

و الثلث الى النساء، حفظا لكرامتهن.

و أما في مرحلة صرف المال في المعاش فهما يتساويان غالبا في المصرف، بل لعل المصرف للنساء أكثر. إذ الأولاد متعلقون بكليهما بالتساوي، و المرأة تحتاج غالبا الى وسائل التزين و التجمل أيضا، و قد جعل اللّه النفقات بأجمعها على عهدة الرجال. فالمرأة تختص بثلث نفسها و يصرف لها نصف ما للرجل أيضا. ففي مرحلة التمليك المحتاج فيها الى الحفظ و التكثير جعل الثلثان للرجل، و أما في مرحلة الصرف فيصرف الثلثان للمرأة. فلو كان هذا ظلما لكان ظلما على الرجال، لا النساء.

و أما في القصاص و الديات فلعلّه لأن الرجل بعقله و تدبيره أكثر فائدة في الحياة. إذ هو القائم بالبناء و العمران و الاختراعات غالبا، و على عاتقهم تقع مسئولية الأعمال الثقيلة و كذا الفكرية الدقيقة. و العقل ملاك التقويم الأتم، و إن كان للعواطف أيضا قيمتها المناسبة و لها أجرها العظيم أيضا كما مرّ، فتدبّر. و لا يخفى ابتناء جميع هذه الأحكام على الأعم الأغلب.

[الأمر الثاني] المرأة و التستّر

الأمر الثاني من الأمرين: ان المتتبع للآيات و الروايات المروية بطرق الفريقين يظهر له أن المرأة لظرافتها و مطلوبيتها، و احتمال الافتتان بها و وقوعها في الفتنة يطلب منها شرعا، و لا

سيما من الشابة، الاحتجاب و الاستتار، و عدم الخروج من البيت مهما أمكن، و عدم المخالطة و المحادثة مع الرجال الأجانب إلا مع اقتضاء الضرورة أو المصلحة خروجها و ورودها في أندية الرجال مع التحفظ، كما في موارد إثبات الحق، و المعالجات، و التعلم و التعليم و التربية و نحوها.

و الأخبار في هذا الباب كثيرة على الإحصاء. فعليك بمراجعة أبواب مقدمات النكاح من الوسائل و غيرها. و في كتاب أمير المؤمنين لابنه الحسن- عليهما السلام-:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 348

«و إن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل.» «1» و الوالي و كذا القاضي لا بدّ له من أن يحضر محافل الرجال كثيرا و يحادثهم و يخاصمهم، فلا يناسب للمرأة التصدي لهما.

فهذان أمران تعرضنا لهما قبل الشروع في الاستدلال للمسألة. و لعلهما يفيدان فيها. فلنشرع في ذكر أدلة اعتبار الذكورة في الوالي و القاضي. و قد عرفت تمسّك البعض بالإجماع، و مناقشتنا فيه. فلنذكر الآيات و الروايات.

آيات المسألة

اشارة

أمّا الآيات:

1- فمنها قوله- تعالى-: [الرجال قوّامون]

«الرِّجٰالُ قَوّٰامُونَ عَلَى النِّسٰاءِ، بِمٰا فَضَّلَ اللّٰهُ بَعْضَهُمْ عَلىٰ بَعْضٍ، وَ بِمٰا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوٰالِهِمْ.» «2»

و قد ورد في شأن نزولها- على ما في مجمع البيان: «أنّ امرأة من الأنصار نشزت على زوجها، فلطمها، فانطلق أبوها معها إلى النبي «ص» فقال: أفرشته كريمتي فلطمها، فقال النبي «ص»: لتقتصّ من زوجها. فانصرفت مع أبيها لتقتص منه، فقال النبي «ص»: ارجعوا، فهذا جبرائيل أتاني و أنزل اللّه هذه الآية. فقال النبي «ص»: أردنا أمرا و أراد اللّه أمرا. و الذي أراد اللّه خير. و رفع القصاص.» «3»

و لا يخفى أن بعض مراتب النشوز يستعقب جواز الضرب للتأديب، كما صرح به في القرآن الكريم: «وَ اللّٰاتِي تَخٰافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ، وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضٰاجِعِ، وَ اضْرِبُوهُنَّ.» «4»

و في مجمع البيان أيضا:

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 939؛ عبده 3/ 63؛ لح/ 405، الكتاب 31.

(2)- سورة النساء (4)، الآية 34.

(3)- مجمع البيان 2/ 43. (الجزء 3).

(4)- سورة النساء (4)، الآية 34.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 349

«يقال: رجل قيم و قيّام و قوّام. و هذا البناء للمبالغة و التكثير.» و فيه أيضا: «أي قيمون على النساء، مسلطون عليهن في التدبير و التأديب و الرياضة و التعليم.» «1»

أقول: فكأن الصيغة أريد بها من يكون قائما بذاته، و مقيما لغيره. فكأن الزيادة أوجبت السراية الى الغير. كالطهور لما يكون طاهرا بذاته، مطهرا لغيره.

و الظاهر أنه لا يراد بقوله: «فضّل اللّه» جعل الفضيلة له تشريعا، بل يراد به الفضيلة التكوينية في طباعه، أعني قوة العقل و التدبير. و العلة الثانية أيضا من شئون الأولى و فروعها، إذ قوة عقله أوجبت جعل اختيار المال و إنفاقه بيده، كما لا

يخفى.

و كيف كان فهل الحكم في الآية يراد به العموم، أو قيمومة خصوص الأزواج على أزواجهم؟ وجهان.

و لا يخفى أن الاستدلال بالآية في المقام يبتني على الأول، و مورد النزول هو الثاني. و يظهر من بعض الأعاظم تقوية العموم.

ففي مجمع البحرين:

«أي لهم عليهن قيام الولاء و السياسة. و علّل ذلك بأمرين: أحدهما موهوبيّ للّه.

و هو أن اللّه فضّل الرجال عليهن بأمور كثيرة من كمال العقل و حسن التدبير و تزايد القوة في الأعمال و الطاعات، و لذلك خصّوا بالنبوة و الإمامة و الولاية و إقامة الشعائر و الجهاد و قبول شهادتهم في كل الأمور و مزيد النصيب في الإرث و غير ذلك.

و ثانيهما كسبي. و هو أنهم ينفقون عليهن و يعطونهن المهور، مع أن فائدة النكاح مشتركة بينهما.» «2»

و في مسالك الإفهام للفاضل الجواد الكاظمي:

______________________________

(1)- مجمع البيان 2/ 43. (الجزء 3).

(2)- مجمع البحرين/ 486.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 350

«أي الرجال على النساء. و ذلك بالعلم و العقل و حسن الرأي و التدبير و العزم و مزيد القوة في الأعمال و الطاعات و الفروسية و الرمي، و أن منهم الأنبياء و الأئمة و العلماء، و فيهم الإمامة الكبرى و هي الخلافة، و الصغرى و هي الاقتداء بهم في الصلاة، و انهم أهل الجهاد و الأذان و الخطبة، الى غير ذلك مما أوجب الفضل عليهن. قال في الكشّاف: و فيه دليل على أن الولاية إنما يستحق بالفضل، لا بالتغليب و الاستطالة و القهر.» «1»

و قال العلامة الطباطبائي في تفسير الميزان:

«و عموم هذه العلة يعطي أن الحكم المبني عليها، أعني قوله: «الرجال قوامون على النساء»، غير مقصور على الأزواج بأن يختص القوّامية

بالرجل على زوجته، بل الحكم مجعول لقبيل الرجال على قبيل النساء في الجهات العامة التي ترتبط بها حياة القبيلين جميعا. فالجهات العامة التي ترتبط بفضل الرجال، كجهتي الحكومة و القضاء مثلا اللتين يتوقف عليهما حياة المجتمع، و إنما يقومان بالتعقل الذي هو في الرجال بالطبع أزيد منه في النساء، و كذا الدفاع الحربي الذي يرتبط بالشدة و قوة التعقل، كل ذلك مما يقوم به الرجال على النساء. و على هذا فقوله: «الرجال قوامون على النساء» ذو اطلاق تام.» «2»

هذه بعض كلماتهم في المقام.

و لكن عندي في التمسك بالآية للمقام إشكال. إذ شأن النزول و كذا السياق شاهدان على كون المراد قيمومة الرجال بالنسبة الى أزواجهم. إذ لا يمكن الالتزام بأن كل رجل بمقتضى عقله الذاتي، و بمقتضى إنفاقه على خصوص زوجه له قيمومة على جميع النساء حتى الأجنبيات. و لو سلم الشك أيضا فصرف الاحتمال يكفي في عدم صحة الاستدلال.

______________________________

(1)- مسالك الافهام 3/ 257.

(2)- الميزان 4/ 343 (طبعة أخرى 4/ 365).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 351

فان قلت: عموم العلة- كما مرّ عن تفسير الميزان- يقتضي ذلك، فيؤخذ به إلّا فيما ثبت خلافه.

قلت: أوّلا إن العلّة الثانية لا عموم لها. إذ إنفاق الرجل يختص بزوجه و لا يرتبط بسائر النساء.

و ثانيا إن الأخذ بالعموم و تخصيص ما ثبت خلافه يوجب تخصيص الأكثر. إذ لا قيمومة لرجل على سائر النساء إلا في مورد الولاية أو القضاء. اللهم إلّا أن يقال إن مفاد الآية من أول الأمر بمقتضى الانصراف و مناسبة الحكم و الموضوع خصوص موارد القيمومة كالولاية و نحوها لا مطلقا. فيكون مفادها أن في الموارد التي يحتاج فيها إلى القيمومة

فالرجال قوّامون على النساء دون العكس، فتأمّل.

فان قلت: مفاد الآية العموم قطعا. إذ لا يمكن الالتزام بأن المرأة لا شأن لها في الدار مع زوجها، و لكن لها السلطة على الرجال الأجانب.

قلت: بل يمكن الالتزام بذلك. إذ محيط البيت و الأسرة لا محالة يحتاج إلى قيّم، فلعل الشارع جعل الرجل بمقتضى أولويته قيما في البيت، دفعا للنزاع. فالرجل عقل الأسرة. و هذا لا ينافي ولاية المرأة في خارج البيت مع وجدانها للشروط.

هذا مضافا إلى أن الآية لا تنفي قيمومة المرأة على النساء. فلم لا يصح صيرورتها قاضية للنساء؟!

فان قلت: الإجماع المركب يقتضي ذلك. قلت: ما هو الحجة على القول بها هو القول بعدم الفصل، لا عدم القول بالفصل، فتأمّل.

2- و من الآيات أيضا قوله- تعالى-: [للرجال عليهن درجة]

«وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وَ لِلرِّجٰالِ

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 352

عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ، وَ اللّٰهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ.» «1»

و يرد على الاستدلال: بها ما مرّ في السابقة، طابق النعل بالنعل، بل ظهورها في الاختصاص بحقوق الزوجية أقوى. فيكون المراد أن لكل من الزوجين حقا على الآخر، و للرجل على زوجه درجة بجواز تأديبه لها مع النشوز و بكون الطلاق أيضا بيده.

3- و منها أيضا قوله- تعالى-: [من ينشّؤ في الحلية]

«أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي الْخِصٰامِ غَيْرُ مُبِينٍ.» «2»

و هي في مقام الإنكار على المشركين، حيث جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا و قالوا هم بنات اللّه، فجعلوا للّه البنات و لأنفسهم البنين. و تحكي الآية عن طبيعة المرأة، و أنها ظريفة الإحساس، ميّالة الى الزينة، و أنه ليس لها منطق قوي في مقام الخصام.

قال العلامة الطباطبائي- طاب ثراه- في تفسير الميزان:

«و إنما ذكر هذين النعتين، لأن المرأة بالطبع أقوى عاطفة و شنقة، و أضعف تعقلا بالقياس الى الرجل. و هو بالعكس. و من أوضح مظاهر قوة عواطفها تعلقها الشديد بالحلية و الزينة، و ضعفها في تقرير الحجة المبني علي قوة التعقل.» «3»

و حيث ان الولاية بشعبها و منها القضاء تقتضي قوة التعقل و التفكير و التفوق في إثبات الحق فيمكن الاستشهاد بالآية للمقام بنحو التأييد، كما لا يخفى.

4- و منها أيضا قوله- تعالى-: [قرن في بيوتكن]

«وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ، وَ لٰا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجٰاهِلِيَّةِ الْأُولىٰ ...» «4»

و تصدي المرأة للولاية و كذا القضاء يستدعي خروجها من البيت و اختلاطها بالرجال و إسماع صوتها لهم و غير ذلك من الأمور المرغوب عنها شرعا. و قد عيّر الأصحاب عائشة بهذه الآية على خروجها الى البصرة، كما في التواريخ.

______________________________

(1)- سورة البقرة (2)، الآية 228.

(2)- سورة الزخرف (43)، الآية 18.

(3)- الميزان 18/ 90 (طبعة أخرى 18/ 93).

(4)- سورة الأحزاب (33)، الآية 33.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 353

و بالجملة فالآية أيضا تصلح للتأييد في المقام. اللهم إلّا أن يقال إن المخاطب بها نساء النبي. فلعل لهن لانتسابهن الى النبي «ص» خصوصية، و قال اللّه- تعالى-:

«يٰا نِسٰاءَ النَّبِيِّ، لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسٰاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ، فَلٰا تَخْضَعْنَ

بِالْقَوْلِ ...» «1» فيكون التستر و التحجب فيهن آكد، فتدبر.

روايات المسألة:

اشارة

و أما الروايات التي يمكن ان يستدل بها في المسألة فكثيرة من طرق الفريقين، و إن كان في دلالة بعضها نظر:

الأولى: ما في البخاري بسنده عن أبي بكرة،

قال: لقد نفعني اللّه بكلمة سمعتها من رسول اللّه «ص» أيّام الجمل بعد ما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل فأقاتل معهم. قال: لمّا بلغ رسول اللّه «ص» أن أهل فارس قد ملّكوا عليهم بنت كسرى قال: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة.» «2»

و روي مثله أيضا النسائي عن أبي بكرة. «3». و الترمذي عنه و قال:

«هذا حديث صحيح.» «4»

و رواه أحمد في مسنده عن أبي بكرة، عن النبي بهذا اللفظ: «لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة.» «5»

و رواه كذلك مرسلا في تحف العقول عن النبي «ص» «6».

______________________________

(1)- سورة الأحزاب (33)، الآية 32.

(2)- صحيح البخاري 3/ 90، كتاب المغازي، باب كتاب النبي «ص» الى كسرى و قيصر.

(3)- سنن النسائي 8/ 227، كتاب آداب القضاة، باب النهي عن استعمال النساء في الحكم.

(4)- سنن الترمذي 3/ 360، الباب 64 من أبواب الفتن، الحديث 2365.

(5)- مسند أحمد 5/ 38.

(6)- تحف العقول/ 35.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 354

و في نهاية ابن الاثير: «ما أفلح قوم قيّمهم امرأة.» و في حاشيتها عن اللسان و الهروي: «ما أفلح قوم قيمتهم امرأة.» «1»

و مضى من الخلاف عنه «ص»: «لا يفلح قوم وليتهم امرأة.» «2»

و في كنز العمال: «لا يقدس اللّه أمّة قادتهم امرأة.» (طب، عن أبي بكرة) «3»

و كيف كان فالحديث مشهور و إن اختلفوا في لفظه. و لعل الشهرة تجبر ضعفه.

و دلالته على المسألة واضحة.

الثانية: ما رواه الصدوق في الخصال بسنده عن جابر بن يزيد الجعفي،

قال:

سمعت أبا جعفر، محمد بن علي الباقر «ع» يقول: «ليس على النساء أذان و لا إقامة، و لا جمعة، و لا جماعة، و لا عيادة المريض، و لا اتباع الجنائز و لا إجهار بالتلبية، و لا الهرولة بين الصفا و

المروة، و لا استلام الحجر الأسود، و لا دخول الكعبة، و لا الحلق إنما يقصّرن من شعورهن، و لا تولى المرأة القضاء، و لا تولى الإمارة، و لا تستشار، و لا تذبح إلا من اضطرار ....» «4»

و رواه في الوسائل إلا أنه قال: «و لا تلي الإمارة.» «5»

و ظاهر العبارة الوضع، لا التكليف فقط. فتكون الذكورة شرطا في الإمارة و القضاء. و ظاهر الفقرات السابقة و إن كان نفي الوجوب و الاستحباب المؤكد و لكن قوله: «و لا تولى المرأة القضاء» و ما بعده يخالف ما قبله في السياق، لكونه بصورة النفي المراد به النهي، و ظاهره الحرمة و الفساد إلا فيما ثبت خلافه.

الثالثة: ما رواه في آخر الفقيه بإسناده عن حماد بن عمرو و أنس بن محمد،

عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن آبائه في وصايا النبي «ص» لعلي «ع»: «يا علي، ليس على النساء جمعة و لا جماعة، و لا أذان و لا إقامة، و لا عيادة مريض، و لا اتباع جنازة، و لا هرولة بين

______________________________

(1)- النهاية لابن أثير 4/ 135.

(2)- الخلاف 3/ 311.

(3)- كنز العمال 6/ 40، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14763.

(4)- الخصال/ 585 (الجزء 2)، أبواب السبعين و ما فوقه، الحديث 12.

(5)- الوسائل 14/ 162، الباب 23 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 355

الصفا و المروة، و لا استلام الحجر، و لا حلق، و لا تولّى القضاء، و لا تستشار ...» «1»

قوله: «و لا تولى القضاء»، يحتمل فيه المصدرية و الفعل. فعلى الأول يكون معطوفا على ما قبله، فلا يدل إلا على نفي الوجوب و الاستحباب المؤكد، فلا ينافي الصحة اذا تصدّت. و ان كان فعلا فظاهره الوضع،

كما مرّ. و لعله أصح بقرينة ما بعده، و ما مرّ في رواية جابر. اذ الظاهر كونهما رواية واحدة، فتدبر.

الرابعة: ما في نهج البلاغة:

«يأتي على الناس زمان لا يقرّب فيه إلا الماحل، و لا يظرّف فيه إلا الفاجر، و لا يضعّف فيه إلا المنصف. يعدّون الصدقة فيه غرما، و صلة الرحم منّا، و العبادة استطالة على الناس. فعند ذلك يكون السلطان بمشورة النساء، و إمارة الصبيان و تدبير الخصيان.» «2»

أقول: «الماحل» الساعي بالوشاية. و «لا يظرّف»، أي لا يعدّ ظريفا. و «لا يضعّف»، أي لا يعدّ ضعيفا، أو لا يجعل ضعيفا. و «الاستطالة»: التفوق. و المراد بإمارة الصبيان إمارة من يقل سنّه، فلم يحصل له التجربة و الكفاية، أو امارة من يكون عقله عقل الصبيان و إن كبر في السن. و إذا كانت السلطنة بمشورة النساء مذمومة فتفويضها إليهن بالكلية أولى بالذمّ، كما لا يخفى.

الخامسة: ما في سنن الترمذي بسنده عن أبي هريرة،

قال: قال رسول اللّه «ص»: «إذا كانت أمراؤكم خياركم، و أغنياؤكم سمحاءكم، و أموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها. و إذا كانت أمراؤكم شراركم و أغنياؤكم بخلاءكم و أموركم الى نسائكم فبطن الأرض خير لكم من ظهرها.» «3»

و رواه في تحف العقول أيضا عن النبي «ص» «4»

______________________________

(1)- الفقيه 4/ 364، باب النوادر، الحديث 5762.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1132؛ عبده 3/ 173؛ لح/ 485، الحكمة 102.

(3)- سنن الترمذي 3/ 361، الباب 64 من أبواب الفتن، الحديث 2368.

(4)- تحف العقول/ 36.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 356

السادسة: ما في نهج البلاغة في كتاب أمير المؤمنين إلى ابنه الحسن- عليهما السلام-:

«و إياك و مشاورة النساء. فان رأيهن إلى أفن، و عزمهن الى وهن. و اكفف عليهن من أبصارهن بحجابك إياهن. فإن شدّة الحجاب أبقى عليهن. و ليس خروجهن بأشدّ من إدخالك من لا يوثق به عليهن. و إن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل. و لا تملّك المرأة من أمرها ما جاوز نفسها، فإن المرأة ريحانة، و ليست بقهرمانة. و لا تعد بكرامتها نفسها، و لا تطمعها في أن تشفع بغيرها (لغيرها خ. ل).» «1»

و روى مضمون الرواية بتفاوت ما في الكافي بإسناده عن عمرو بن أبي المقدام، عن أبي جعفر «ع». و عن عبد الرحمن بن كثير، عن أبي عبد اللّه في رسالة أمير المؤمنين «ع» إلى ابنه الحسن. و عن الاصبغ بن نباتة، عنه «ع» في كتابه إلى ابنه محمد. و كذا الصدوق في نوادر آخر الفقيه عنه «ع» في كتابه إلى محمد، فراجع «2».

و الأفن بالسكون- و يروى بالتحريك أيضا: الضعف.

و لا يخفى ما في تشبيه المرأة بالريحانة من كمال اللطف و الظرافة، حيث إنها للطافتها و ظرافتها تتأثر

من التماسّ مع أيّ شي ء كان. فكمالها و بهاؤها بأن تبقى في منبتها فيلتذّ بصفائها و منظرها، و إلا ضاعت.

و القهرمان من يحكم في الأمور و يتصرف فيها.

و كيف كان فيمكن الاستشهاد للمقام بموارد من الرواية. اذ لو لم تصلح المرأة للمشاورة لضعف رأيها فعدم صلاحها لتفويض الولاية أو القضاء المحتاج فيهما الى الفكر و الرأي الصائب القوي بطريق أولى. و الأمر بحجابها و المنع من خروجها و معرفتها غيرها و كذا إدخال غيرها عليها في بيتها دليل على عدم جواز تصديها لما يستلزم الظهور في أندية الرجال و المخالطة و المحاجّة معهم. و تفويض الولاية اليها تمليك لها لما جاوز نفسها إلّا أن يقال إن المنهي عنه تمليكها ما يكون من أمرها، أي خصوص ما يكون بينها و بين زوجها. فلا يشمل الأمور العامة، فتدبر.

و لا يخفى أهمية ما أوصى «ع» به أخيرا من أن لا تطمع في الشفاعة للغير. فمن

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 938؛ عبده 3/ 63؛ لح/ 405، الكتاب 31.

(2)- الوسائل 14/ 120، الباب 87 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 1 و 2 و 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 357

المصائب تدخّل نساء الرجال و الشخصيات السياسية و الاجتماعية في شئونهم، و رجوع أرباب الحوائج إليهن للشفاعة مع الإصرار. و قد وقع كثيرا نقض القوانين و الضوابط من هذا الطريق.

و في شرح ابن أبي الحديد:

إن الخيزران، أمّ موسى الهادي، كانت تتكلم معه كثيرا في حوائج المراجعين، فكانت المواكب تغدو إلى بابها. و آل الأمر بالآخرة إلى أن قال لأمّه: «لئن بلغني أنه وقف أحد من قوّادي و خاصّتي و خدمي و كتّابي على بابك لأضربن عنقه

و لأقبضنّ ماله.» «1»

فبذلك فلتعتبر الشخصيات البارزة و مصادر الأمور، و لا يطمعوا نساءهم في التدخّل في السياسات و الشفاعة لأهل التوقعات.

السابعة: ما في البحار عن كنز الكراجكي، عن أمير المؤمنين «ع»:

«إياك و مشاورة النساء، إلا من جرّبت بكمال عقل. فإن رأيهن يجرّ إلى الأفن و عزمهن إلى وهن ... و إن استطعت أن لا يعرفن غيرك فافعل. و لا تملك المرأة من أمرها ما يجاوز نفسها. فإن ذلك أنعم لبالها و بالك.

و إنما المرأة ريحانة و ليست بقهرمانة. الحديث.» «2»

الثامنة: ما في نهج البلاغة من وصية له «ع» لعسكره:

«و لا تهيجوا النساء بأذى و إن شتمن أعراضكم و سببن أمراءكم. فإنهن ضعيفات القوى و الأنفس و العقول. إن كنّا لنؤمر بالكف عنهن و إنهن لمشركات. و إن كان الرجل ليتناول المرأة في الجاهلية بالفهر أو الهراوة فيعيّر بها و عقبه من بعده.» «3»

قالوا: الفهر: الحجر على مقدار ما يكسر به الجوز. و الهراوة بالكسر: العصا أو شبه الدبوس من الخشب. و تناولها بالفهر أو الهراوة كناية عن ضربها بهما.

هذا.

______________________________

(1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16/ 125.

(2)- بحار الأنوار 100/ 253 (طبعة إيران 103/ 253)، باب أحوال الرجال و النساء، الحديث 56.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 859؛ عبده 3/ 16؛ لح/ 373، الكتاب 14.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 358

و في فروع الكافي في حديث عن مالك بن أعين: «و لا تهيجوا امرأة بأذى و إن شتمن أعراضكم و سببن أمراءكم و صلحاءكم. فإنهن ضعاف القوى و الأنفس و العقول. و قد كنّا نؤمر بالكف عنهن وهن مشركات. و إن كان الرجل ليتناول المرأة فيعير بها و عقبه من بعده.» «1»

التاسعة: ما في نهج البلاغة أيضا بعد حرب الجمل:

«معاشر الناس، إن النساء نواقص الإيمان، نواقص الحظوظ، نواقص العقول. فأمّا نقصان إيمانهن فقعودهن عن الصلاة و الصيام في أيام حيضهن. و أما نقصان عقولهن فشهادة امرأتين كشهادة الرجل الواحد. و أما نقصان حظوظهن فمواريثهن على الأنصاف من مواريث الرجال. فاتقوا شرار النساء و كونوا من خيارهن على حذر. و لا تطيعوهن في المعروف حتى لا يطمعن في المنكر.» «2»

أقول: قد مرّ بالتفصيل تفاوت الرجل و المرأة في طباعهما، و أنها إنسانة يغلب عليها الظرافة و الإحساس و العواطف، و على الرجل الغلظة و العقل و التفكير. و

نظام الوجود يحتاج الى كليهما. فمثلهما كمثل أعضاء الإنسان الواحد، حيث إن لكل منها وظيفتها في الحياة، و ليس عدم قدرة إحداها على القيام بوظائف الأخرى نقصا لها.

فالعين ألطف من الرجل، و الرجل أخشن. و ليست اللطافة نقصا للعين، و لا الخشونة للرجل. و هذه هي الحكمة لعدم مشاورتهن و إطاعتهن أيضا. فانهن لغليان الإحساس و سرعته فيهن لا يعتمد على رأيهن. و لو أحسن بالاعتماد عليهن و ترتيب الأثر على رأيهن غلب الطمع عليهن و تسلطن على الرجل و عقله، فبطل التدبير و الفكر في عواقب الأمور و انهدم أساس الأسرة و البيئة.

و في شرح عبده في ذيل الحديث:

«لا يريد أن يترك المعروف لمجرد أمرهن به، فإن في ترك المعروف مخالفة السنة الصالحة، خصوصا إن كان المعروف من الواجبات، بل يريد أن لا يكون فعل المعروف صادرا عن مجرد طاعتهن. فإذا فعلت معروفا فافعله لأنه معروف و لا تفعله

______________________________

(1)- الكافي 5/ 39، كتاب الجهاد، باب ما كان يوصي أمير المؤمنين «ع» به عند القتال، الحديث 4.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 179؛ عبده 1/ 125؛ لح/ 105، الخطبة 80.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 359

امتثالا لأمر المرأة. و لقد قال الإمام قولا صدّقته التجارب في الأحقاب المتطاولة، و لا استثناء مما قال إلا بعضا منهن وهبن فطرة تفوق في سموّها ما استوت به الفطن أو تقاربت أو أخذت بسلطان من التربية طباعهن على خلاف ما غرز فيها، و حوّلتها الى غير ما وجّهتها الجبلّة إليه.» «1»

أقول: و نعم ما قال.

العاشرة: ما في سنن ابن ماجة عن رسول اللّه «ص» في خطاب له «ص» لامرأة:

«ما رأيت من ناقصات عمل و دين أغلب لذي لبّ منكن. قالت. يا رسول اللّه و ما نقصان العقل و

الدين؟ قال: أما نقصان العقل فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل، فهذا من نقصان العقل. و تمكث الليالي ما تصلي و تفطر في رمضان، فهذا من نقصان الدين.» «2»

الحادية عشرة: ما في نهج البلاغة أيضا:

«و أما فلانة فأدركها رأي النساء، و ضغن غلا في صدورها ...» «3»

الثانية عشرة و الثالثة عشرة:

ما في فروع الكافي بسند مرسل عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «قال أمير المؤمنين «ع»: «في خلاف النساء البركة.»

و بهذا الإسناد قال: «قال أمير المؤمنين «ع»: «كل امرئ تدبّره امرأة فهو ملعون.» «4»

و رواهما في الوسائل عنه باشتباه في نقل السند، فراجع «5». و رواهما في الفقيه أيضا في نوادر النكاح، فراجع «6».

الرابعة عشرة: ما في الكافي عن عدة من أصحابنا،

عن احمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «ذكر رسول اللّه «ص» النساء

______________________________

(1)- نهج البلاغة، عبده 1/ 126.

(2)- سنن ابن ماجة 2/ 1326، كتاب الفتن، الباب 19 (باب فتنة النساء)، الحديث 4003.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 487؛ عبده 2/ 63؛ لح/ 218، الخطبة 156.

(4)- الكافي 5/ 518، كتاب النكاح، باب في ترك طاعة النساء، الحديث 9 و 10.

(5)- الوسائل 14/ 131، الباب 96 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 3 و 4.

(6)- الفقيه 3/ 468، باب نوادر النكاح، الحديث 4623، و 4622.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 360

فقال: «اعصوهن في المعروف قبل أن يأمرنكم بالمنكر، و تعوّذوا باللّه من شرارهن و كونوا من خيارهن على حذر.» «1»

و السند في غاية الصحة. الى غير ذلك من الأخبار المذكورة في هذا الباب بهذا المضمون، فراجع.

الخامسة عشرة: ما في اختصاص المفيد عن ابن عباس في مسائل عبد اللّه بن سلام للنبي «ص»: «فأخبرني عن آدم؛ خلق من حواء، أو حواء خلقت من آدم؟

قال: «بل خلقت حواء من آدم. و لو أن آدم خلق من حواء لكان الطلاق بيد النساء و لم يكن بيد الرجال. قال: من كله أو من بعضه؟ قال: بل من بعضه. و لو خلقت حواء من

كله لجاز القضاء في النساء كما يجوز في الرجال.» «2»

السادسة عشرة: ما في مستدرك الوسائل عن كتاب تحفة الإخوان،

عن أبي بصير، عن الصادق «ع»: «قال ابن عباس: فنوديت يا حواء ... الآن اخرجي أبدا.

فقد جعلتك ناقصة العقل و الدين و الميراث و الشهادة ... و لم أجعل منكن حاكما، و لا أبعث منكن نبيا.» «3»

السابعة عشرة: ما في كنز العمال:

«لا تكون المرأة حكما تقضي بين العامّة.»

(الديلمي، عن عائشة) «4»

إلى غير ذلك من الأخبار المتفرقة في الأبواب المختلفة، المقطوع بصدور بعضها إجمالا. مضافا إلى صحة سند البعض. و دلالتها- بعد ضم بعضها الى بعض- على عدم تناسب الولاية بشعبها و منها القضاء مع طباع المرأة و تكليفها في التستر و التحجب. مما لا تخفى. فالظاهر وضوح المسألة. و التشكيك فيها بلا وجه.

هذا، مضافا الى ان مجرد الشك كاف في المقام. إذ الأصل كما عرفت عدم

______________________________

(1)- الكافي 5/ 516، كتاب النكاح، باب في ترك طاعة النساء، الحديث 2.

(2)- الاختصاص/ 50.

(3)- مستدرك الوسائل 2/ 557، الباب 94 من أبواب مقدمات النكاح، الحديث 2.

(4)- كنز العمال 6/ 79، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14921.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 361

ثبوت الولاية لأحد على أحد. و ليس لنا عموم أو إطلاق يدّعى شموله للمرأة.

و قد يستدل أيضا: بخبر أبي خديجة، عن أبي عبد اللّه «ع»:

«إياكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور. و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا، فاجعلوه بينكم. فإنّي قد جعلته قاضيا، فتحاكموا إليه.» «1»

قلت: الظاهر انه ليس محطّ النظر في الحديث بيان شرائط القاضي، بل الردع عن الرجوع الى قضاة الجور. و لعل ذكر الرجل كان من باب التغليب. فالاستدلال بمفهوم الرجل في المقام كأنّه تمسك بمفهوم اللقب، و لا حجية فيه قطعا. و بعبارة أخرى: إن كان لنا عموم أو إطلاق في باب جعل الولاية أو القضاء فالتخصيص أو التقييد بهذا الحديث مشكل. نعم، لو لم يكن هنا عموم و لا إطلاق فالأصل يقتضي عدم الثبوت، كما مرّ. فيكون المرجع هو الأصل، لا هذا الحديث.

و قد يستدل للمسألة أيضا: بعدم جواز إمامة المرأة للرجال بل للنساء أيضا

عند بعض في الصلاة، فلا تنعقد لها الإمامة الكبرى و لا القضاء أيضا بطريق أولى.

أقول: عدم جواز إمامتها للرجال مقطوع به ظاهرا و ان لم أجد به رواية معتبرة.

نعم، في المستدرك عن الدعائم، عن جعفر بن محمد «ع»: «لا تؤم المرأة الرجال، و تصلي بالنساء.» «2» و كيف كان فالظاهر صحة الأولوية المدّعاة. نعم، لا يثبت هذا عدم جواز كونها قاضية للنساء، اذ الظاهر جواز إمامتها لهن، فراجع.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 4، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.

(2)- مستدرك الوسائل 1/ 491، الباب 18 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 363

الفصل الحادي عشر في اعتبار طهارة المولد

اشارة

الثامن من شروط الوالي و كذا القاضي: طهارة المولد.

و لم أعثر على كلام من علماء السنة لبيان اعتبار هذا الشرط، لا في الوالي و لا في القاضي. و تعرّض له أصحابنا في شروط القاضي، و كذا في المفتي الذي يراد تقليده.

و ربما ادعوا عليه الاجماع. [و سيرة العقلاء]

قال في القضاء من الشرائع:

«و لا ينعقد القضاء لولد الزنا مع تحقق حاله، كما لا تصح إمامته و لا شهادته في الأشياء الجليلة.» «1»

و في الجواهر:

«كما هو واضح بناء على كفره. أما على غيره فالعمدة الإجماع المحكى و فحوى ما دلّ على المنع من إمامته و شهادته ان كان و قلنا به مؤيدا بنفر طباع الناس منه.» «2»

______________________________

(1)- الشرائع 4/ 67.

(2)- الجواهر 40/ 13.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 364

أقول: قد مرّ في مسألة اعتبار الذكورة أن الإجماع إنما يفيد في المسائل الأصلية المأثورة المذكورة في الكتب المعدة لنقل هذا السنخ من المسائل، و ليست المسألة كذلك لعدم ذكرها في مثل كتب الصدوقين و المقنعة و النهاية و نحوها. نعم التمسك بالفحوى صحيح.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 1، ص: 364

و كيف كان فالقائل بعدم الاشتراط يمكن أن يتمسك بالعمومات و الإطلاقات الأولية على فرض ثبوتها، و بسيرة العقلاء، إذ الملاك عندهم هو القوة و حسن الولاية فقط، و بإمارة زياد من قبل أمير المؤمنين «ع» في فارس مع ما ورد من إلحاق معاوية إياه بأبي سفيان.

و يمكن أن يجاب عن الأول بالتخصيص بما يأتي على فرض ثبوته. و عن الثاني بعدم ثبوت استمرارها

إلى عصر المعصومين «ع» مضافا الى ردعها بما سنذكره من الأخبار. و عن الثالث أولا بعدم كونه واليا من قبل أمير المؤمنين «ع» بل من قبل و اليه. و ثانيا بأنه ولد في فراش عبيد، و الولد للفراش. فإلحاقه بأبي سفيان كان على خلاف الموازين الشرعية و كتب أمير المؤمنين «ع» إلى زياد في ذلك: «و قد كان من أبي سفيان في زمن عمر بن الخطاب فلتة من حديث النفس و نزغة من نزغات الشيطان لا يثبت بها نسب و لا يستحق بها إرث.» «1» هذا.

و يدل على الاشتراط في الوالي و القاضي و المفتي مضافا إلى الأصل أمور:

الأول: فحوى ما دل على اشتراطه في الشاهد:

ففي الخلاف: (المسألة 57 من الشهادات):

«شهادة ولد الزنا لا تقبل و ان كان عدلا ... دليلنا إجماع الفرقة و أخبارهم.

و روي عنه «ص» أنه قال: «ولد الزنا شرّ الثلاثة.» «2»

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 963؛ عبده 3/ 77؛ لح/ 416، الكتاب 44.

(2)- الخلاف 3/ 345.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 365

و عن الكافي بسنده عن أبي بصير «قال: سألت أبا جعفر «ع» عن ولد الزنا أ تجوز شهادته؟ فقال: لا. فقلت: إن الحكم بن عتيبة يزعم أنها تجوز. الحديث.»

و بسند صحيح عن محمد بن مسلم، قال: «قال أبو عبد اللّه: «لا تجوز شهادة ولد الزنا.» إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع. «1»

الثاني: فحوى ما دل على اشتراطه في إمام الجماعة،

كصحيحة أبي بصير عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «خمسة لا يؤمون الناس على كل حال، و عدّ منهم المجنون و ولد الزنا.»

و صحيحة زرارة عن أبي جعفر «ع» قال: «قال أمير المؤمنين «ع»: «لا يصلين أحدكم خلف المجنون و ولد الزنا.» إلى غير ذلك من الروايات «2».

الثالث: الأخبار الظاهرة في نجاسته و قذارته،

فلا يصلح لإمامة المسلمين و لا يناسبها. كخبر الوشاء، عمن ذكره، عن أبي عبد اللّه «ع» «أنه كره سؤر ولد الزنا، و سؤر اليهودي، و النصراني، و المشرك، و كل من خالف الإسلام ...» «3»

و خبر ابن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «لا تغتسل من البئر التي يجتمع فيها غسالة الحمام، فان فيها غسالة ولد الزنا، و هو لا يطهر إلى سبعة آباء، و فيها غسالة الناصب، و هو شرّهما ...» «4»

الى غير ذلك، و إن كان الأقوى عدم النجاسة الظاهرية، و يراد منها القذارة المعنوية و الخباثة الذاتية، كما يشهد بذلك قوله: «لا يطهر إلى سبعة آباء.» إذ النجاسة الظاهرية على القول بها لا تسري إلى نسله بلا إشكال. و ليس المقام مقام البحث في هذه المسألة، و أنه على القول بنجاسته هل هي لكفره أو إنها ثابتة و إن اخترنا إسلامه أو كونه بين الكافر و المسلم، فراجع مظانّها.

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 275، الباب 31 من أبواب الشهادات، الحديث 1 و 3 و ....

(2)- الوسائل 5/ 397، الباب 14 من أبواب صلاة الجماعة، الحديث 1 و ...

(3)- الوسائل 1/ 165، الباب 3 من أبواب الأسآر، الحديث 2.

(4)- الوسائل 1/ 159، الباب 11 من أبواب ماء المضاف، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 366

الرابع: ما دل على كون ديته كدية الذميّ،

كخبر إبراهيم بن عبد الحميد، عن جعفر «ع» قال: قال: «دية ولد الزنا دية الذمّى: ثمانمائة درهم.» إلى غير ذلك من الأخبار، فراجع. «1»

الخامس: ما دل على كونه أسوأ من الكافر،

كصحيحة محمد بن مسلم، عن أبي جعفر «ع»: «لبن اليهودية و النصرانية و المجوسية أحبّ إليّ من ولد الزنا.» «2»

السادس: ما دل على كونه أسوأ حالا من الكلب و الخنزير،

كخبر أبي بصير، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «إن نوحا حمل في السفينة الكلب و الخنزير، و لم يحمل فيها ولد الزنا.

و إن الناصب شرّ من ولد الزنا.» «3»

السابع: ما دل على عدم الخير فيه،

كخبر زرارة، قال: سمعت أبا جعفر «ع» يقول: «لا خير في ولد الزنا، و لا في بشره، و لا في شعره، و لا في لحمه، و لا في دمه، و لا في شي ء منه.»

يعني ولد الزنا «4».

الثامن: ما ورد في أنه لا يدخل الجنة،

كخبر سعد بن عمر الجلاب، قال: قال لي أبو عبد اللّه «ع»: «إن اللّه- عزّ و جلّ- خلق الجنة طاهرة مطهّرة، فلا يدخلها إلّا من طابت ولادته. و قال أبو عبد اللّه «ع»: «طوبى لمن كانت أمه عفيفة.» «5» إلى غير ذلك من الأخبار.

و في خبر أبي بكر، قال: كنا عنده، يعني الصادق «ع»، و معنا عبد اللّه بن

______________________________

(1)- الوسائل 19/ 164، الباب 15 من أبواب ديات النفس، الحديث 3 و ....

(2)- الوسائل 15/ 184، الباب 75 من أبواب أحكام الأولاد، الحديث 2.

(3)- بحار الأنوار 5/ 287، باب علة عذاب الاستيصال و حال ولد الزنا، الحديث 13.

(4)- بحار الأنوار 5/ 285، باب علة عذاب الاستيصال و حال ولد الزنا، الحديث 6.

(5)- بحار الأنوار 5/ 285، باب علة عذاب الاستيصال و حال ولد الزنا، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 367

عجلان، فقال عبد اللّه بن عجلان: معنا رجل يعرف ما نعرف و يقال إنه ولد زنا، فقال: «ما تقول؟ فقلت: إنّ ذلك ليقال له، فقال: «إن كان ذلك كذلك بني له بيت في النار من صدر يردّ عنه وهج جهنم و يؤتى برزقه.» «1»

و الوهج كفرس: اتقاد النار. و في البحار:

«من صدر، أي يبنى له ذلك في صدر جهنم و أعلاه. و الظاهر أنه مصحّف «صبر» بالتحريك، و هو الجمد.»

أقول: و لا نريد الحكم بصحة جميع هذه الأخبار و وضوح

دلالتها و لا سيما ما كان منها مخالفا لحكم العقل و العدل، بل نقول: إنه يستفاد من جميع ذلك خسّة ولد الزنا جدا و إن كان مسلما عدلا، فلا يناسب منصب الولاية و القضاء و المرجعية.

و أما التحقيق في مفاد هذه الأخبار فله محل آخر.

قال في البحار:

«فهذه المسألة مما قد تحير فيها العقول، و ارتاب به الفحول. و الكف عن الخوض فيها أسلم، و لا نرى فيها شيئا أحسن من أن يقال: اللّه أعلم.» «2»

و كيف كان فالظاهر وضوح المسألة بما ذكر، و لا سيما و ان صرف الشك كاف في المسألة لأن الأصل يقتضي عدم الولاية إلا فيما ثبت.

______________________________

(1)- بحار الأنوار 5/ 287، باب علة عذاب الاستيصال و حال ولد الزنا، الحديث 12.

(2)- بحار الأنوار 5/ 288، آخر باب علة عذاب الاستيصال.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 369

الفصل الثاني عشر في ذكر أمور أخر اختلفوا في اعتبارها في الإمام

اشارة

قد ذكرنا إلى هنا ثمانية شروط للوالي: 1- العقل الوافي. 2- الإسلام و الإيمان.

3- العدالة. 4- الفقاهة. 5- القوة و حسن الولاية. 6- أن لا يكون من أهل البخل و الحرص و الطمع. 7- الذكورة. 8- طهارة المولد.

بقي هنا أمور أخر وقع البحث في اعتبارها، و هي ستّة: 1- البلوغ. 2- سلامة الأعضاء و الحواسّ. 3- الحرية. 4- القرشية. 5- العصمة. 6- كونه منصوصا عليه.

فنذكر هذه الستة في هذا الفصل:

الأول: البلوغ.

و قد تعرض لاعتباره في الوالي و كذا القاضي علماء السنة، و تعرض فقهاؤنا أيضا لاعتباره في القاضي. و قد مرّ بعض كلمات السنة في الفصل الأول، فراجع.

و في قضاء الشرائع:

«و يشترط فيه البلوغ، و كمال العقل، و الإيمان، و العدالة، و طهارة المولد، و العلم،

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 370

و الذكورة، فلا ينعقد القضاء لصبي و لو مراهق.» «1»

و قال في الجواهر:

«و لا مجنون و لو أدوارا حال جنونه، لسلب أفعالهما و أقوالهما و كونهما مولّى عليهما، فلا يصلحان لهذا المنصب العظيم. و منصب الإمامة ليحيى «ع» و للصاحب- روحي له الفداء- إنما كان لنوع من القضاء الإلهي، نحو عيسى بن مريم «ع» «2»

أقول: السرّ في عدم ذكرنا للبلوغ في عداد الشرائط أن موضوع البحث في بعض الكتب عنوان الإمامة، و نحن لا نقول باشتراط البلوغ في الإمام، كما لا نقول به في النبي، لما أشار اليه في الجواهر من نبوة عيسى و يحيى و إمامة الجواد و صاحب الأمر «ع» و إيتائهم الحكم صبيا.

اللهم إلا أن يقال: النبي و الإمام المعصوم خارجان عن موضوع البحث الفقهي، اذ البحث هنا في ولاية الفقيه العادل في عصر الغيبة، فالصبي

لعدم استقلاله و كونه مرفوعا عنه القلم و العبارة مولّى عليه بحكم الشرع، فلا يصلح للإمامة و لا للقضاء و ان حصلت فيه سائر الشروط. مضافا إلى أن الأصل أيضا يقتضي العدم. فالأولى ذكره شرطا كما ذكروه في القضاء، فتدبر. و قد مرّ في عبارة نهج البلاغة: «فعند ذلك يكون السلطان بمشورة النساء، و إمارة الصبيان، و تدبير الخصيان.» «3»

الثاني: سلامة الأعضاء و الحواس.

و قد مرّ بعض الكلمات في الفصل الأول.

ففي الماوردي في عداد شرائط الإمام:

«الثالث: سلامة الحواس من السمع و البصر و اللسان ليصح معها مباشرة ما يدرك بها. و الرابع: سلامة الأعضاء من نقص يمنع عن استيفاء الحركة و سرعة

______________________________

(1)- الشرائع 4/ 67.

(2)- الجواهر 40/ 12.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1132؛ عبده 3/ 173، لح/ 486، الحكمة 102.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 371

النهوض.» «1»

و في منهاج السنة للنووي:

«ذا رأي و سمع و بصر و نطق.» «2»

و في مقدمة ابن خلدون:

«و سلامة الحواس و الاعضاء، مما يؤثر في الرأي و العمل.» «3»

و في الفقه على المذاهب الأربعة:

«سليم السمع و البصر و النطق، ليتأتى منه فصل الأمور و مباشرة أحوال الرعية.» «4»

و في قضاء الشرائع:

«و في انعقاد قضاء الأعمى تردّد، أظهره انه لا ينعقد لافتقاره الى التمييز بين الخصوم» «5».

أقول: الظاهر عدم وجود دليل بالخصوص على اعتبار سلامة الأعضاء و الحواسّ. نعم، قد مرّ أن القوة و حسن الولاية من الشروط المعتبرة، فإن أوجب فقد بعض الأعضاء أو الحواس أو ضعفه عدم القوة على العمل أو التشويه في الخلقة، بحيث يوجب النفرة منه، اعتبرت السلامة لذلك و إلا فلا دليل عليه.

و قد أشرنا إلى ذلك في تلك المسالة، فراجع.

و قد وردت روايات

كثيرة في صحة إمامة الأعمى في الجماعة، فراجع «6».

فلا استبعاد في تصديه للإمامة.

و في سنن أبي داود بسنده عن أنس «أن النبي «ص» استخلف ابن أم مكتوم على

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية/ 6.

(2)- المنهاج/ 518، كتاب البغاة.

(3)- مقدمة ابن خلدون/ 135، الفصل 26 من الفصل 3 من الكتاب الأوّل.

(4)- الفقه على المذاهب الأربعة 5/ 417، مبحث شروط الإمامة.

(5)- الشرائع 4/ 68.

(6)- الوسائل 5/ 409- 410، الباب 21 من أبواب صلاة الجماعة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 372

المدينة مرّتين.» «1»

الثالث: الحرية.

و قد ذكرها الأكثر شرطا في البابين، فذكرها أبو يعلى و النووي شرطا في الإمام، و كذلك في الفقه على المذاهب الأربعة، مدعيا الاتفاق.

و في قضاء المبسوط في شرائط القاضي:

«أن يكون بالغا عاقلا حرّا ذكرا.» «2»

و لكن في قضاء الشرائع:

«و هل يشترط الحريّة؟ قال في المبسوط: نعم. و الاقرب انه ليس شرطا.» «3»

و في المسالك:

«اشتراط الحرية في القاضي مذهب الأكثر و منهم الشيخ و اتباعه، لأن القضاء ولاية و العبد ليس محلا لها، لاشتغاله عنها باستغراق وقته لحقوق المولى. و لأنه من المناصب الجليلة التي لا تليق بحال العبد.» «4»

و في قضاء بداية المجتهد:

«و أما اشتراط الحرية فلا خلاف فيه.» «5»

أقول: يمكن أن يستدل لاشتراط الحرية بقوله- تعالى-: «ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا عَبْداً مَمْلُوكاً لٰا يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ، وَ مَنْ رَزَقْنٰاهُ مِنّٰا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً، هَلْ يَسْتَوُونَ؟» «6»

و قد استدلوا بالآية على الحجر عليه في العقود و الإيقاعات أيضا. و الولاية و القضاء يستلزمان التصرف في الأمور، فلا يناسبان الحجر الشرعي. هذا.

و لكن يمكن أن يقال إن الظاهر من عدم القدرة في الآية عدم القدرة عرفا

______________________________

(1)- سنن

أبي داود 2/ 118 كتاب الخراج و الفي ء و الإمارة، الباب 3 (باب في الضرير يولى).

(2)- المبسوط 8/ 101.

(3)- الشرائع 4/ 68.

(4)- المسالك 2/ 351.

(5)- بداية المجتهد 2/ 449.

(6)- سورة النحل (16)، الآية 75.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 373

لا شرعا، حيث إنّ العبد لوقوعه تحت سلطة الغير خارجا ينعزل غالبا عن النشاطات إلا فيما أمر به المولى. و يشهد لذلك قسيمه، أعني قوله: «فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً.»

و كذا قوله في الآية التالية: «وَ ضَرَبَ اللّٰهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ: أَحَدُهُمٰا أَبْكَمُ لٰا يَقْدِرُ عَلىٰ شَيْ ءٍ ...»

فلو فرض عبد شجاع قويّ الإرادة، بحيث لا تمنعه عبوديته عن تدبيره و نشاطه، و أذن له المولى أيضا في قبول المسؤولية فأي مانع عن ذلك، على فرض شمول عمومات الأدلة و إطلاقاتها له؟ و كون ارتفاع الحجر الشرعي دائرا مدار الإذن لا يضر بعد الاطمينان ببقاء الإذن، أو استيجاره من مولاه مدة ممتدة لذلك. مضافا إلى أن احتمال ارتفاع الإذن كاحتمال طروّ الموت، فلا يكون مانعا عن قبول الولاية.

و ليست العبودية نقصا شرعيا كي تمنع عن قبول الولاية، و لذا يصح إمامته للجماعة كما دلّت عليها أخبار كثيرة، فراجع «1».

و في صحيح مسلم عن يحيى بن حصين، قال سمعت جدّتي تحدّث أنها سمعت النبي «ص» يخطب في حجة الوداع و هو يقول: «و لو استعمل عليكم عبد يقودكم بكتاب اللّه فاسمعوا له و اطيعوا.» «2»

و في رواية أخرى: «إن أمّر عليكم عبد مجدّع- حسبتها قالت أسود- يقودكم بكتاب اللّه فاسمعوا له و أطيعوا.» «3»

و الذي يسهّل الخطب أن موضوع البحث منتف في أعصارنا.

الرابع: القرشية.

اشارة

و قد شرطها في الإمامة أكثر من تعرض للمسألة من

علماء السنة، كالماوردي، و أبي يعلى، و النووي، و الفقه على المذاهب الأربعة و غيرهم، بل ادعى كثير منهم الاتفاق عليها. نعم، في مقدمة ابن خلدون:

______________________________

(1)- الوسائل 5/ 400، الباب 16 من أبواب صلاة الجماعة.

(2)- صحيح مسلم 3/ 1468، كتاب الإمارة، الباب 8 (باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية)، الحديث 1838.

(3)- صحيح مسلم 3/ 1468، كتاب الإمارة، الباب 8 (باب وجوب طاعة الأمراء في غير معصية).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 374

«و اختلف في شرط خامس، و هو النسب القرشي.» «1»

و أما نحن الإمامية القائلون بإمامة الأئمة الاثنى عشر بالنصّ فكونهم- عليهم السلام- من قريش من ولدها شم واضح. و لكن اشتراط القرشية في الحكام في عصر الغيبة مما لا دليل عليه عندنا، بل لعله مقطوع العدم و لا سيما على القول بكون الفقهاء منصوبين من قبل الأئمة «ع» فانهم يصيرون نظير مالك الأشتر و غيره من المنصوبين من قبل أمير المؤمنين، و نظير العمال المنصوبين من قبل رسول اللّه «ص» في عصره. نعم، مع تعدد الواجد للشرائط و التساوي فيها يمكن تفضيل الهاشمي على غيره، كما قيل به في إمام الجماعة أيضا و إن لم نجد به دليلا.

و كيف كان فلنذكر بعض الأخبار المتعرضة لوصف القرشية في المقام

مع بيان المراد منها:

1- ما في البحار عن العيون، عن الرضا «ع» عن آبائه «ع» قال: «قال النبي «ص»: «الأئمة من قريش.» «2»

2- ما في نهج البلاغة: «إن الأئمة من قريش، غرسوا في هذا البطن من هاشم، لا تصلح على سواهم و لا تصلح الولاة من غيرهم.» «3»

أقول: قوله: «في هذا البطن»، لعله إشارة إلى نفسه. و الظاهر أن الحصر إضافي بالنسبة الى المدعين في قباله و قبال ولده المنصوصين.

فليس ناظرا إلى الولاة في عصر الغيبة. هذا.

______________________________

(1)- مقدمة ابن خلدون/ 135، الفصل 26 من الفصل 3 من الكتاب الأوّل.

(2)- بحار الأنوار 25/ 104، كتاب الإمامة، باب أن الأئمة من قريش ...، الحديث 1، عن عيون أخبار الرضا 2/ 63، الباب 31، الحديث 272.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 437؛ عبده 2/ 37؛ لح/ 201، الخطبة 144.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 375

و ابن أبي الحديد المعتزلي لما رأى عدم موافقة كلامه- عليه السلام- هنا لما يعتقده قال:

«إنّ المراد به كمال الإمامة، كما حمل قوله «ص»: «لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد»، على نفي الكمال، لا نفي الصحة.» «1»

و فيه انه خلاف الظاهر جدّا، و لا سيما بملاحظة التعبير بقوله «لا تصلح».

3- ما في رواية عبد العزيز بن مسلم، عن الرضا «ع» في أوصاف الإمام: «و هو نسل المطهرة البتول، لا مغمز فيه في نسب و لا يدانيه ذو حسب، في البيت من قريش و الذروة من هاشم و العترة من آل الرسول.» «2»

4- ما في رواية طارق بن شهاب عن أمير المؤمنين: «فهو في الذروة من قريش و الشرف من هاشم.» «3»

و أما الأخبار من طرق السنة فكثيرة و قد كانت مستمسكا في السقيفة للاحتجاج على الأنصار و تخطئتهم حين قالوا «منا أمير و منكم أمير.» منها:

5- ما في صحيح مسلم عن أبي هريرة: قال رسول اللّه «ص»: «الناس تبع لقريش في هذا الشأن؛ مسلمهم تبع لمسلمهم، و كافرهم تبع لكافرهم.» «4» و نحوه غيره. و في حاشية الكتاب قال:

«جملة الحديث و إن كانت خبرية لكنها بمعنى الأمر، أي ايتمّوا بقريش و كونوا تبعا لهم.»

أقول: لا يخفى بطلان هذا

الكلام. إذ لا معنى لأمره «ص» كفار الناس بمتابعة

______________________________

(1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 9/ 88.

(2)- بحار الأنوار 25/ 126، باب جامع في صفات الإمام و ...، الحديث 4.

(3)- بحار الأنوار 25/ 172، باب جامع في صفات الإمام و ...، الحديث 38.

(4)- صحيح مسلم 3/ 1451، كتاب الإمارة، الباب 1 (باب الناس تبع لقريش ...)، الحديث 1818. و الحاشية من طبعة أخرى 6/ 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 376

كفّار قريش، فبقرينة الجملة الثانية يعلم كون كل منهما جملة خبرية. و ليس الخبر عاما لجميع الأعصار و الأمصار، و إلا لكان كذبه واضحا، فالمراد الإخبار عن زمانه و بيئته، نظير ما يقول أحدنا: الناس كذا و كذا، و يريد الإخبار عن الناس في عصره و بيئته.

و يشهد لذلك ما رواه عبد الرزاق في المصنف عن الزهري، قال: قال رسول اللّه: «الأنصار أعفّة صبر. و الناس تبع لقريش؛ مؤمنهم تبع لمؤمنهم، و فاجرهم تبع لفاجرهم.» «1» فبقرينة المقابلة للأنصار يعرف أن المراد أن قريشا لقوتهم في الجسم و الروح، أو لشخصيتهم و اعتبارهم بين الناس و كون سدانة الكعبة لهم يتقدمون قهرا و يصير الأنصار تبعا لهم. و كيف كان فلا يستفاد من هذا الحديث حكم شرعي.

و نظيره ما رواه جابر بن عبد اللّه، عن النبي «ص»: «الناس تبع لقريش في الخير و الشرّ.» «2» لوضوح أنه «ص» لا يأمر بالمتابعة في الشرّ، فليس الكلام إنشاء.

6- و في صحيح البخاري عن جابر بن سمرة، قال: سمعت النبي «ص» يقول: «يكون اثنا عشر أميرا.» فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنه قال: «كلهم من قريش.» «3»

و في الترمذي عن جابر

بن سمرة، قال: قال رسول اللّه: «يكون من بعدي اثنا عشر أميرا.» قال: ثم تكلّم بشي ء لم افهمه، فسألت الذي يليني، فقال: قال: «كلهم من قريش.» «4»

______________________________

(1)- المصنف 11/ 55، باب فضائل قريش، الحديث 19894.

(2)- صحيح مسلم 3/ 1451، كتاب الإمارة الباب 1 (باب الناس تبع لقريش ...)، الحديث 1819.

(3)- صحيح البخاري 4/ 248، كتاب الأحكام.

(4)- سنن الترمذي 3/ 340، الباب 40 من كتاب الفتن، الحديث 2323.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 377

و في صحيح مسلم عن جابر بن سمرة، قال دخلت مع أبي على النبي «ص» فسمعته يقول: «إن هذا الأمر لا ينقضي حتى يمضي فيهم اثنا عشر خليفة.» قال: ثمّ تكلّم بكلام خفي عليّ، قال فقلت لأبي: ما قال؟ قال: «كلّهم من قريش.»

و في بعض رواياته: «لا يزال أمر الناس ماضيا ما وليهم اثنا عشر رجلا.»

و في بعضها: «لا يزال الإسلام عزيزا إلى اثني عشر خليفة.»

و في بعضها: «لا يزال هذا الأمر عزيزا الى اثني عشر خليفة.»

و في بعضها: «لا يزال هذا الدين عزيزا منيعا الى اثني عشر خليفة.»

و في بعضها: «لا يزال الدين قائما حتى تقوم الساعة، أو يكون عليكم اثنا عشر خليفة.»

و في ذيل الجميع قوله: «كلهم من قريش» «1»

أقول: الراوي في جميع هذه الروايات هو جابر بن سمرة بن جندب، و كان مع أبيه و لم يسمع الجملة الأخيرة بنفسه حتى رواها له أبوه. و ربما نطمئن بعدم تعدّد الواقعة. فهي واقعة واحدة و انما اختلف النقل باختلاف الرواة عن جابر. و النقل بالمعنى كان شائعا بين الرواة.

و بالجملة على فرض صحة الخبر لا يعرف عين الجملة الصادرة عن

النبي «ص» فالمعتبر هو القدر المشترك منها.

و اختلف الشرّاح في المراد من الرواية. فقيل: المراد بالاثني عشر خليفة:

مستحقوا الخلافة من أئمة العدل. و قيل الخلفاء الذين اجتمعت عليهم الأمة كلّها. و قيل غير ذلك. و الظاهر هو الأول. و ينطبق هذا الخبر على ما نذهب إليه من امامة الأئمة الاثني عشر، المنصوص عليهم من قريش و من بطن هاشم.

و لعل المقصود تكليف الناس بقبول إمامة الاثنى عشر و التسليم لهم، فتأمل.

______________________________

(1)- صحيح مسلم 3/ 1452 و 1453، كتاب الإمارة، الباب 1 (باب الناس تبع لقريش ...)، الحديث 1821 و 1822.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 378

و كيف كان فلا دلالة في الحديث على اعتبار القرشية في الفقيه العادل المنتخب في عصر الغيبة، اذ الجملة ترتبط بالاثني عشر، فلا تدل على اعتبار القرشية في غيرهم.

7- و ما في غيبة النعماني عن البزاز بسنده، عن أنس بن مالك، قال: قال رسول اللّه «ص»: «لن يزال هذا الأمر قائما إلى اثني عشر قيما من قريش.» و روي أيضا عنه «ص» نحو ذلك بعبارة أخرى «1».

8- و ما في الغيبة أيضا عن عمر بن شيبة (عثمان بن ابى شيبة خ. ل) بسنده، عن أبي جحيفة، قال: كنت عند رسول اللّه «ص» و هو يخطب و عمي جالس بين يدى رسول اللّه «ص»: «لا يزال أمرنا صالحا حتى يصير اثنا عشر خليفة، كلهم من قريش.» «2»

و وزان هذين الخبرين أيضا وزان ما سبق.

9- و ما في مسلم عن عبد اللّه، قال: قال رسول اللّه «ص»: «لا يزال هذا الأمر في قريش ما بقي من الناس اثنان.» «3»

و رواه البخاري أيضا عن ابن عمر، إلا أنه

قال: «ما بقي منهم اثنان.» «4» و الظاهر أن نقل مسلم أصح كما لا يخفى. و ظاهر الجملة الخبر، لا الإنشاء.

و على فرض صحة الخبر فهو ينطبق على ما نعتقده من بقاء الإمام الثاني عشر حيّا.

و في أصول الكافي عن يونس بن يعقوب، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: سمعته يقول: «لو لم يكن في الأرض إلا اثنان لكان الإمام أحدهما.» «5» بناء على كون المراد

______________________________

(1)- الغيبة للنعماني/ 75 (طبعة أخرى/ 119)، الباب 6 (باب ما روي في الأئمة الاثنى عشر من طرق العامة).

(2)- الغيبة للنعماني/ 78 (طبعة أخرى/ 125)، الباب 6.

(3)- صحيح مسلم 3/ 1452، كتاب الإمارة، الباب 1 (باب الناس تبع لقريش ...)، الحديث 1820.

(4)- صحيح البخاري 2/ 265، باب مناقب قريش.

(5)- الكافي 1/ 180، كتاب الحجة، باب أنه لو لم يبق في الأرض إلّا رجلان لكان أحدهما الحجة، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 379

بالإمام فيه إمام الأصل المعصوم.

و لعل قوله «ع» في حديث الثقلين: «لن يتفرقا حتى يردا عليّ الحوض»، أيضا دليل على بقاء العترة ملازمة للكتاب الى يوم اللقاء. فيكون الحديث من أدلة حياة المهدي «ع» و بقائه، فتدبر.

10- و ما في الترمذي: كان ناس من ربيعة عند عمرو بن العاص، فقال رجل من بكر بن وائل: لتنتهين قريش، أو ليجعلن اللّه هذا الأمر في جمهور من العرب غيرهم، فقال عمرو بن العاص: كذبت، سمعت رسول اللّه «ص» يقول:

«قريش ولاة الناس في الخير و الشر الى يوم القيامة.» «1»

و فيه أولا أن الراوي لا يعتمد عليه. و ثانيا ما عرفت من أن ذكر الشر دليل على عدم كون الجملة بمعنى الأمر، فيكون خبرا

و لا محالة يجب تأويله بنحو و إلّا يكون كذبه واضحا. و ثالثا أن خبرا آخر رواه قرينه: معاوية يكذب إطلاق هذا الخبر.

ففي البخاري عن محمد بن جبير بن مطعم أنه بلغ معاوية و هو عنده في وفد من قريش أن عبد اللّه بن عمرو بن العاص يحدّث أنه سيكون ملك من قحطان، فغضب معاوية فقام فأثنى على اللّه بما هو أهله ثمّ قال: أما بعد، فإنه بلغني أن رجالا منكم يتحدثون أحاديث ليست في كتاب اللّه و لا تؤثر عن رسول اللّه «ص» فأولئك جهالكم. فإياكم و الأمانيّ التي تضل أهلها، فإني سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «إنّ هذا الأمر في قريش لا يعاديهم أحد إلا كبّه اللّه على وجهه ما أقاموا الدين.» «2» فقيّده بإقامتهم للدين.

و قد أطلنا البحث في المسألة من جهة اعتبار أكثر إخواننا السنة وصف القرشية في الولاة الى يوم القيامة.

______________________________

(1)- سنن الترمذي 3/ 342، الباب 42 من أبواب الفتن، الحديث 2328.

(2)- صحيح البخاري 2/ 265، باب مناقب قريش.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 380

و نحن نقول: إن الأئمة الاثني عشر من قريش و من بطن هاشم، و هم أمير المؤمنين و أولاده الأحد عشر «ع». و أما الحكّام في عصر الغيبة فهم نظير الحكام المنصوبين من قبل رسول اللّه و أمير المؤمنين لا يعتبر فيهم القرشية و لا العصمة. نعم، يشترط فيهم ما مرّ من الشروط. هذا.

و لكن في المصنف لعبد الرزاق عن معمر عن الزهري، عن سليمان بن أبي حثمة أن رسول اللّه «ص» قال: «لا تعلموا قريشا و تعلموا منها، و لا تتقدموا قريشا و لا تتأخروا عنها، فإن للقرشي قوة الرجلين

من غيرهم، يعني في الرأي.» «1»

فلو صحّ سند الحديث و تمّ أمكن القول بلزوم تقديم القرشي أو رجحانه على غيره على فرض تحقق سائر الصفات المعتبرة فيه. و يؤيد مضمون الحديث أن اليأس في نسائهم يتحقق بعد الستين. و الجسم و الرأي توأمان غالبا في القوة و الضعف. اللهم إلا أن يقال: إن ظاهر الحديث هو الإرشاد المحض، و ليس بصدد بيان التكليف أو الوضع، فتأمّل.

الخامس: العصمة.

اشارة

فقد قال باعتبارها في الإمام أصحابنا الإمامية. و يستفاد ذلك من أخبار كثيرة.

[كلمات الأصحاب في اعتبار العصمة]

قال العلامة في كشف المراد- شرح تجريد الاعتقاد:

«ذهبت الإمامية و الإسماعيلية الى أن الإمام يجب أن يكون معصوما. و خالف فيه جميع الفرق. و الدليل على ذلك وجوه ...» «2»

و قال في التذكرة ما حاصله:

«يجب أن يكون الإمام معصوما عند الشيعة. لأن المقتضي لوجوب الإمامة و نصب الإمام جواز الخطأ على الأمة، فلا يجوز وقوع الخطأ منه و إلا لوجب أن يكون له إمام آخر، و يتسلسل. فلهذا وجب أن يكون معصوما. و لأنه أوجب علينا

______________________________

(1)- المصنف 11/ 54، باب فضائل قريش، الحديث 19893.

(2)- كشف المراد/ 286، المسألة 2 من المقصد 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 381

طاعته و امتثال أوامره، لقوله- تعالى-: «أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.» فلو لم يكن معصوما لجاز أن يأمر بالخطإ؛ فإن وجب علينا اتباعه لزم الأمر بالضدين و هو محال.

و يجب أن يكون منصوصا عليه من اللّه أو من النبي «ص» أو ممن ثبتت إمامته بالنص منهما، لأن العصمة من الأمور الخفية التي لا يمكن الاطلاع عليها، فلو لم يكن منصوصا عليه لزم تكليف ما لا يطاق.» «1»

فاستدل على اعتبار العصمة في الإمام بوجهين، و جعل اعتبارها دليلا على كون الإمامة بالنص. اشعارا بردّ المخالفين القائلين بانعقادها بالبيعة و الانتخاب العمومي.

و قد كثر كلام الأصحاب في تفسير العصمة. و في رواية عن علي بن الحسين «ع»: «قيل له يا بن رسول اللّه، فما معنى المعصوم؟ فقال: «هو المعتصم بحبل اللّه. و حبل اللّه هو القرآن، لا يفترقان الى يوم القيامة.» «2»

و في رواية هشام بن الحكم،

عن أبي عبد اللّه: «المعصوم هو الممتنع باللّه من جميع محارم اللّه. و قد قال اللّه- تبارك و تعالى-: «وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللّٰهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلىٰ صِرٰاطٍ مُسْتَقِيمٍ.» «3»

أقول: البحث في عصمة النبي الأكرم «ص» و الأئمة الاثني عشر، أو الأنبياء و أوصيائهم بحث كلامي اعتقادي، و ليس المقام مقام التعرض له. و نحن الشيعة الإمامية نعتقد بذلك للإجماع و الأخبار الكثيرة: ففي بعضها: «عليّ «ع» و الأئمة من ولده معصومون.» و في بعضها: «كاتبا علي «ع» لم يكتبا عليه ذنبا.» و في بعضها «الإمام منا لا يكون إلا معصوما.» و في بعضها: «الأنبياء و أوصياؤهم لا ذنوب لهم لأنهم معصومون مطهرون.» إلى غير ذلك من المضامين. «4» و ليس بحثنا هنا في هذه الأمور.

______________________________

(1)- التذكرة 1/ 452- 453.

(2)- بحار الأنوار 25/ 194، كتاب الإمامة، باب عصمتهم و لزوم عصمة الإمام «ع»، الحديث 5.

(3)- بحار الأنوار 25/ 194، باب عصمتهم و لزوم عصمة الإمام «ع»، الحديث 6.

(4)- راجع بحار الأنوار 25/ 191- 211، باب عصمتهم و لزوم عصمة الإمام «ع».

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 382

و إنما البحث في أنه هل تعتبر العصمة في والي المسلمين مطلقا أم لا؟ و لا يخفى أنه لو قيل بذلك فكأنّه صار نقضا و هدما لما أثبتناه الى هنا من ثبوت الولاية للفقيه العادل في عصر الغيبة.

و لا يصح الاستدلال لهذه المسألة المطلقة بتلك الأخبار المشار اليها، لاختصاصها بالأنبياء و أوصيائهم و الأئمة الاثنى عشر، بل بالأخبار التي يستفاد منها اعتبار العصمة في الإمام بنحو الاطلاق و أن الإمامة مقام شامخ إلهي تثبت بالنص لا بالاختيار و الانتخاب.

[الأخبار في اعتبار العصمة]

1- فمن هذه الأخبار الخبر الطويل

لعبد العزيز بن مسلم، رواه الكليني في أصول الكافي، و الصدوق في كتبه، و ذكر في تحف العقول، و غيبة النعماني، و الاحتجاج أيضا باختلاف في بعض الالفاظ و ذكره في البحار «1».

ففي الكافي: «أبو محمد القاسم بن العلاء- رفعه- عن عبد العزيز بن مسلم، قال: كنا مع الرضا «ع» بمرو فاجتمعنا في الجامع يوم الجمعة في بدء مقدمنا، فأداروا أمر الإمامة، و ذكروا كثرة الاختلاف فيها، فدخلت على سيدي «ع» فأعلمته خوض الناس فيه، فتبسّم «ع» ثم قال: «يا عبد العزيز، جهل القوم و خدعوا عن آرائهم. ان اللّه- عزّ و جلّ- لم يقبض نبيه حتى أكمل له الدين ... و أقام لهم عليا «ع» علما و إماما. و ما ترك لهم شيئا يحتاج إليه الأمة إلا بيّنه. فمن زعم أن اللّه- عزّ و جلّ- لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب اللّه، و من ردّ كتاب اللّه فهو كافر به. هل يعرفون قدر الإمامة و محلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم؟! إن الإمامة أجلّ قدرا و أعظم شأنا و أعلا مكانا و أمنع جانبا و أبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماما باختيارهم ... فهي في ولد علي «ع» خاصة إلى يوم القيامة، إذ لا نبي بعد محمد «ص» فمن

______________________________

(1)- راجع الأمالي للصدوق/ 536- 540، المجلس 97، الحديث 1؛ و عيون أخبار الرضا 1/ 216- 222، الباب 20، الحديث 1؛ و كمال الدين/ 675- 681 (الجزء 2)، الباب 58، الحديث 31؛ و معاني الاخبار/ 96- 101، باب معنى الإمام المبين، الحديث 2؛ و تحف العقول/ 436- 442؛ و الغيبة للنعماني/ 145- 149 (طبعة أخرى/ 216- 224)، الباب

13 (باب ما روي في صفته ...)، الحديث 6؛ و الاحتجاج/ 238- 240 (الجزء 2) (طبعة أخرى 2/ 226- 230)؛ و بحار الأنوار 25/ 120- 128 كتاب الإمامة، باب جامع في صفات الإمام ...

الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 383

أين يختار هؤلاء الجهال؟ إن الإمامة هي منزلة الأنبياء وارث الأوصياء. إن الإمامة خلافة اللّه و خلافة رسول اللّه «ص» و مقام أمير المؤمنين و ميراث الحسن و الحسين- عليهما السلام- إن الإمامة زمام الدين و نظام المسلمين و صلاح الدنيا و عزّ المؤمنين. إن الإمامة أسّ الإسلام النامي و فرعه السامي. بالإمام تمام الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج و الجهاد، و توفير الفي ء و الصدقات، و إمضاء الحدود و الأحكام، و منع الثغور و الأطراف. الإمام يحلّ حلال اللّه و يحرم حرام اللّه، و يقيم حدود اللّه و يذبّ عن دين اللّه، و يدعو الى سبيل ربه بالحكمة و الموعظة الحسنة و الحجة البالغة. الإمام كالشمس الطالعة المجلّلة بنورها للعالم ... الإمام أمين اللّه في خلقه و حجته على عباده و خليفته في بلاده، و الداعي الى اللّه و الذّاب عن حرم اللّه. الإمام المطهّر من الذنوب و المبرأ عن العيوب، المخصوص بالعلم، الموسوم بالحلم. نظام الدين و عزّ المسلمين و غيظ المنافقين و بوار الكافرين. الإمام واحد دهره؛ لا يدانيه أحد و لا يعادله عالم و لا يوجد منه بدل و لا له مثل و لا نظير. مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه له و لا اكتساب، بل اختصاص من المفضل الوهاب. فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه اختياره ... فأين الاختيار من

هذا و أين العقول عن هذا؟ و أين يوجد مثل هذا؟! أ تظنون أن ذلك يوجد في غير آل الرسول محمد «ص» كذبتهم و اللّه أنفسهم و منّتهم الأباطيل ...

رغبوا عن اختيار اللّه و اختيار رسول اللّه و أهل بيته الى اختيارهم، و القرآن يناديهم: «وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ مٰا يَشٰاءُ وَ يَخْتٰارُ. مٰا كٰانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ، سُبْحٰانَ اللّٰهِ وَ تَعٰالىٰ عَمّٰا يُشْرِكُونَ.» «1» و قال- عز و جل-: «وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَى اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ.» «2» ... فكيف لهم باختيار الإمام؟ و الإمام عالم لا يجهل، و راع لا ينكل، معدن القدس و الطهارة و النسك و الزهادة و العلم و العبادة، مخصوص بدعوة الرسول و نسل المطهرة البتول، لا مغمز فيه في نسب و لا يدانيه ذو حسب، فالبيت من قريش و الذروة من هاشم و العترة من الرسول و الرضا من اللّه- عزّ و جلّ-، شرف الأشراف و الفرع من عبد مناف. نامي العلم، كامل الحلم، مضطلع بالإمامة، عالم بالسياسة، مفروض الطاعة، قائم بأمر اللّه- عزّ و جلّ-، ناصح لعباد اللّه، حافظ لدين اللّه ... و إن العبد إذا اختاره اللّه- عز و جلّ- لأمور عباده شرح صدره لذلك، و أودع قلبه ينابيع الحكمة، و ألهمه العلم إلهاما فلم يعي بعده بجواب و لا يحير فيه عن الصواب. فهو معصوم مؤيد موفّق مسدّد قد أمن من الخطايا و الزلل

______________________________

(1)- سورة القصص (28)، الآية 68.

(2)- سورة الأحزاب (33)، الآية 36.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 384

و العثار، يخصّه اللّه بذلك ليكون حجّته على عباده و شاهده

على خلقه. و ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء و اللّه ذو الفضل العظيم. فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدمونه؟ الحديث.» «1»

2- و في خبر سليمان بن مهران، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «عشر خصال من صفات الإمام: العصمة، و النصوص، و أن يكون أعلم الناس و أتقاهم للّه، و أعلمهم بكتاب اللّه، و أن يكون صاحب الوصية الظاهرة، و يكون له المعجز و الدليل ...» «2»

3- و في خبر العياشي، عن أبي عمرو الزبيري، عن أبي عبد اللّه «ع»: «ان مما استحقت به الإمامة التطهير و الطهارة من الذنوب و المعاصي الموبقة التي توجب النار، ثم العلم المنوّر بجميع ما يحتاج اليه الأمّة من حلالها و حرامها، و العلم بكتابها ...» «3»

4- و عن تفسير النعماني، عن أمير المؤمنين «ع»: «و الإمام المستحق للإمامة له علامات. فمنها أن يعلم أنه معصوم من الذنوب كلها، صغيرها و كبيرها، لا يزلّ في الفتيا و لا يخطئ في الجواب، و لا يسهو، و لا ينسى، و لا يلهو بشي ء من أمر الدنيا.» «4»

5- و في خبر سليم بن قيس، قال سمعت أمير المؤمنين «ع» يقول: «إنما الطاعة للّه- عز و جل- و لرسوله و لولاة الأمر، و إنما أمر بطاعة أولي الأمر لأنهم معصومون مطهرون لا يأمرون بمعصية.» «5»

6- و في خبر العيون فيما كتب الرضا «ع» للمأمون: «لا يفرض اللّه- تعالى- طاعة من يعلم انه يضلّهم و يغويهم ...» «6»

______________________________

(1)- الكافي 1/ 198، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام و صفاته، الحديث 1.

(2)- بحار الأنوار 25/ 140، كتاب الإمامة، باب جامع في صفات الإمام و ... الحديث

12.

(3)- بحار الأنوار 25/ 149، باب جامع في صفات الإمام و ... الحديث 24.

(4)- بحار الأنوار 25/ 164، باب جامع في صفات الإمام و ... ذيل الحديث 32.

(5)- بحار الأنوار 25/ 200، باب عصمتهم و لزوم عصمة الإمام «ع»، الحديث 11.

(6)- بحار الأنوار 25/ 199، باب عصمتهم و لزوم عصمة الإمام «ع»، الحديث 9.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 385

7- و في خبر الخصال: «قوله- عزّ و جلّ-: لٰا يَنٰالُ عَهْدِي الظّٰالِمِينَ «1»، عنى به أن الإمامة لا تصلح لمن قد عبد صنما أو وثنا، أو أشرك باللّه طرفة عين و إن أسلم بعد ذلك. و الظلم وضع الشي ء في غير موضعه. و أعظم الظلم الشرك. قال اللّه- عزّ و جل-: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «2».

و كذلك لا تصلح الإمامة لمن قد ارتكب من المحارم شيئا، صغيرا كان أو كبيرا و إن تاب منه بعد ذلك. و كذلك لا يقيم الحد من في جنبه حدّ. فإذا لا يكون الإمام إلا معصوما. و لا تعلم عصمته إلا بنصّ اللّه- عزّ و جلّ- عليه على لسان نبيّه «ص» لأن العصمة ليست في ظاهر الخلقة فترى كالسواد و البياض و ما أشبه ذلك. و هي مغيبة لا تعرف إلا بتعريف علّام الغيوب- عزّ و جل-.» «3»

أقول: الخبر الأخير وقع في ذيل خبر طويل رواه الصدوق في أبواب الخمسة من الخصال عن مفضل بن عمر، عن الصادق «ع» و الظاهر كون قطعة كبيرة من آخر الخبر من كلام الصدوق لا من الرواية، كما ذكر في حاشية الخصال أيضا. «4»

و ما ذكرناه هنا أيضا من هذه القطعة، فراجع.

و أما سائر الأخبار التي ذكرناها فمحصل الكلام

فيها أن لفظ الإمام كما مرّ سابقا بمشتقاته كأنه مأخوذ من كلمة الإمام بفتح الهمزة، فيراد به من يكون أمام الإنسان حقيقة أو اعتبارا، و يكون قدوة له في صلاته أو حجّه أو جميع أموره.

و لا محالة طبع القدوة يقتضي أن يكون معصوما من الخطأ و العصيان حتى يصح الأمر بإطاعته بنحو الإطلاق. و العصمة و سائر الفضائل النفسية مما لا يطلع عليها غالبا إلّا الباري- تعالى- أو نبيّه بالوحي. فالإمام لا يكون إلا منصوبا من قبل اللّه- تعالى-، منصوصا عليه. و المنصوب من قبل اللّه- تعالى- للإمامة مباشرة لا يكون إلا معصوما.

و هذا هو المراد بالأخبار المذكورة و لا سيما خبر عبد العزيز الطويل.

______________________________

(1)- سورة البقرة (2)، الآية 124.

(2)- سورة لقمان (31)، الآية 13.

(3)- بحار الأنوار 25/ 199، باب عصمتهم و لزوم عصمة الامام «ع» الرقم 10، عن الخصال.

(4)- الخصال/ 305.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 386

و لكن هنا ملاحظة أخرى، و هي أن أصول مسئوليات الإمام و تكاليفه ثلاثة:

1- بيان أحكام اللّه- تعالى- و حفظها من البدع و الأوهام. 2- حفظ نظام المسلمين على أساس الإسلام و إجراء أحكام الإسلام و قوانينه. 3- إدارة أمر القضاء و فصل الخصومات.

و قد تعرض في خبر عبد العزيز للأول بقوله: «الإمام يحلّل حلال اللّه، و يحرّم حرام اللّه.» و للثاني بقوله: «نظام المسلمين،» الى قوله: «و منع الثغور و الاطراف.» و ذكر الثالث في خبر سليمان بن خالد، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «اتقوا الحكومة، فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين: لنبيّ (كنبيّ) أو وصيّ نبيّ.» «1»

فهذه الثلاثة من شئون الإمام. و الإمام هو المرجع فيها

أولا و بالذات. و أنت تعلم أن كل واحد من هذه الشؤون الثلاثة اتسعت دائرته بسعة أراضي الإسلام و بلاده. و الإمام المنصوب حتى في عصر الظهور أيضا لم يكن يتمكن من المباشرة لجميع الأعمال. و لا يمكن الالتزام بتعطيلها أيضا لذلك. فلا محالة يفوض كل أمر إلى شخص أو مؤسسة.

و قد دلّت أخبار كثيرة على إحالة الفتيا الى مثل أبان بن تغلب، و زكريا بن آدم، و العمري، و ابنه و غيرهم من فقهاء الأصحاب.

و كذلك أمر القضاء، كما دلت عليه مقبولة عمر بن حنظلة و غيرها. بل السياسة بشؤونها أيضا كذلك. فما لك الأشتر مثلا نصب حاكما على مصر من قبل أمير المؤمنين «ع» و قد أمره «ع» بتفويض كل عمل إلى أهله من العمال و القضاة، و لم يكن مالك و سائر الأصحاب معصومين.

فكذلك لا مانع من تفويض الأعمال الثلاثة في عصر الغيبة الى الفقهاء العدول. و الأصحاب لا يخالفون في جواز تصدّي الفقهاء لمنصبي الفتيا و القضاء في عصر الغيبة، بل يوجبون ذلك مع تطرق احتمال الخطأ و تسرّ به إلى ما يصدر عنهم أيضا و عدم كونهم معصومين. فلم لا يلتزمون بذلك في حفظ النظام و السياسة؟

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 387

و قد قال الإمام «ع» في هذا الخبر: «إن الإمامة زمام الدين و نظام المسلمين و صلاح الدنيا و عزّ المؤمنين. إن الإمامة أسّ الإسلام النامي و فرعه السّامي. بالإمام تمام الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج و الجهاد، و توفير الفي ء و الصدقات، و إمضاء الحدود و الأحكام و منع

الثغور و الأطراف.»

فهل يمكن الالتزام بتعطيل جميع ذلك في عصر الغيبة و أن اللّه- تعالى- أعرض عن نظام المسلمين و صلاح الدنيا و عزّ المؤمنين و إقامة الفرائض و منع الثغور و الأطراف بسبب غياب الإمام المعصوم؟!

و كيف يجوز للفقهاء العدول الأقوياء أن يتركوا المسلمين مأسورين تحت سيطرة عملاء الكفر و الفساد و الصهاينة الطغاة، و لا يوجبون الإقدام على نجاتهم بعذر الانتظار لدولة وليّ العصر «ع»؟! و قد قال أمير المؤمنين «ع»: «أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظة ظالم و لا سغب مظلوم.» «1»

و قد ورد أن موسى بن جعفر «ع» قال لعلى بن يقطين: «إن للّه- تبارك و تعالى- مع السلطان أولياء يدفع بهم عن أوليائه.» «2» و كان وزيرا لهارون فكتب إلى الإمام «ع»: «إن قلبي يضيق مما أنا عليه من عمل السلطان، فإن أذنت- جعلني اللّه فداك- هربت منه.» فرجع الجواب: «لا آذن لك بالخروج من عملهم، و اتق اللّه.» «3»

و قال زيد الشحام: سمعت الصادق، جعفر بن محمد «ع» يقول: «من تولّى أمرا من أمور الناس فعدل و فتح بابه و رفع ستره و نظر في أمور الناس كان حقا على اللّه أن يؤمن روعته يوم القيامة و يدخله الجنة.» «4»

فنقول: لو فرض أن أمثال علي بن يقطين العاملين في حكومات الظلمة تمكنوا من هدم حكومة أمثال هارون من أساسها و القيام مقامهم لغرض إشاعة العدل

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 52؛ عبده 1/ 32؛ لح/ 50، الخطبة 3.

(2)- الوسائل 12/ 139، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(3)- الوسائل 12/ 143، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 16.

(4)- الوسائل 12/ 140 الباب

46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 388

و الدفع عن أولياء اللّه و رفع الفساد، فهل يمكن القول بعدم جواز ذلك لعدم كونهم معصومين، و أنه إنما يجب عليهم البقاء تحت سيطرة هارون و أمثاله من الظالمين و المفسدين فقط ليدفعوا خفية و تقية عن بعض الأولياء؟! لا نظن أن أحدا يلتزم بذلك.

فالحق أن يقال:

إنّه مع وجود الإمام المعصوم و التمكن منه لا يجوز لغيره تقمص الخلافة و الإمارة قطعا، و على هذه الصورة تحمل الأخبار المذكورة، و لكن مع عدم التمكن منه- بأيّ دليل كان، كما في عصر الغيبة- يجب أن ينوب عنه الفقهاء العدول الأقوياء بقدر الكفاية، لعدم رضا اللّه- تعالى- بتعطيل شئون الإمامة.

بل قد عرفت منا سابقا أن حفظ بيضة الإسلام و نظام المسلمين أهم بمراتب من حفظ أموال الغيّب و القصّر و غير ذلك من الأمور الحسبية الجزئية التي يعلم بعدم رضا الشارع بإهمالها. و قد أفتى الفقهاء بالتصدي لها من قبل الفقيه، فإن لم يكن فعدول المؤمنين، بل و فسّاقهم أيضا مع عدم العدول. فالحكم ثابت بنحو الترتيب.

و قد اشعر خبر سليم، عن أمير المؤمنين «ع» أيضا بهذا الترتيب. ففيه: «و الواجب في حكم اللّه و حكم الإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل ... أن لا يعملوا عملا و لا يحدثوا حدثا و لا يقدموا يدا و لا رجلا و لا يبدءوا بشي ء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء و السنة يجمع أمرهم ... هذا أوّل ما ينبغي أن يفعلوه: أن يختاروا إماما يجمع أمرهم إن كانت الخيرة لهم و يتابعوه و يطيعوه،

و إن كانت الخيرة إلى اللّه- عزّ و جلّ- و إلى رسوله فإن اللّه قد كفاهم النظر في ذلك و الاختيار.» «1»

إذ يظهر من الرواية تقدّم الإمام المعصوم الذي اختاره اللّه، و لكن مع عدم التمكن منه- بأيّ دليل كان- فالإمامة و أحكامها لا تعطّل، و لا تفوّض أمور المسلمين و كيانهم إلى الكفار و الصهاينة و الطواغيت العتاة. بل تصل النوبة إلى الإمام المنتخب من قبل الأمّة، و يجب الإقدام على اختياره و انتخابه بشرائطه، فتدبّر.

______________________________

(1)- كتاب سليم بن قيس/ 182.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 389

فإن قلت: خطأ العمال و القضاة و اشتباهاتهم في عصر الإمام المعصوم تجبر من ناحية الإمام المعصوم بعد انكشاف الخلاف و الخطأ، فلعل هذا هو الفارق بينهم و بين الفقيه في عصر الغيبة.

قلت: خطأ الفقيه و عمّاله أيضا يجبر بعد الانكشاف، إذ المفروض عدالة الفقيه و حسن ولايته.

و كيف كان: فالأخبار الدالة على لزوم عصمة الإمام لا تهدم ما أصلناه و أثبتناه من ولاية الفقيه العادل في عصر الغيبة، بل هو في الحقيقة نائب عن الإمام المعصوم الغائب و إن فرض كون انتخاب شخصه مفوّضا إلى الأمة. كما كان مالك الأشتر مثلا نائبا عن أمير المؤمنين «ع» و مفترضا طاعته في نطاق حكومته. و العصمة إنما تكون شرطا في خصوص المنصوب من قبل اللّه أو من قبل النبي الاكرم «ص» مباشرة باسمه و شخصه. فعليك بالتدبر التام في ما حررناه دليلا على دوام الإمامة بالمعنى الأعم، و عدم جواز تعطيلها في عصر من الأعصار.

السادس: كون الإمام منصوصا عليه.

اشارة

فقد قال باعتبار هذا الشرط أيضا أصحابنا الإمامية، و دلّت عليه أخبارنا.

[كلمات الأصحاب في ذلك]

قال المحقق الطوسي «ره» في التجريد بعد اشتراط العصمة في الإمام:

«و العصمة تقتضي النصّ و سيرته.»

و قال العلامة الحلي «ره» في شرحه:

«ذهبت الإمامية خاصّة إلى أن الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه. و قالت العبّاسية إن الطريق إلى تعيين الإمام النص أو الميراث. و قالت الزيدية تعيين الإمام بالنص أو الدعوة إلى نفسه. و قال باقي المسلمين: الطريق إنما هو النص أو اختيار أهل الحل و العقد. و الدليل على ما ذهبنا إليه و جهان:

الأوّل: أنّا قد بيّنا أنه يجب أن يكون الإمام معصوما، و العصمة أمر خفيّ لا يعلمها

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 390

الا اللّه- تعالى-، فيجب أن يكون نصبه من قبله- تعالى-، لأنه العالم بالشرط دون غيره.

الثاني: أن النبي «ص» كان أشفق على الناس من الوالد على ولده، حتى أنه «ع» أرشدهم إلى أشياء لا نسبة لها إلى الخليفة بعده، كما أرشدهم في قضاء الحاجة إلى أمور كثيرة مندوبة و غيرها من الوقائع. و كان- عليه و على آله السلام- إذا سافر عن المدينة يوما أو يومين استخلف فيها من يقوم بأمر المسلمين. و من هذه حاله كيف ينسب إليه إهمال أمّته و عدم إرشادهم في أجلّ الأشياء و أسناها و أعظمها قدرا و أكثرها فائدة و أشدّ حاجة إليها، و هو المتولى لأمورهم بعده؟! فوجب من سيرته «ص» نصب إمام بعده و النص عليه و تعريفهم إياه، و هذا برهان لمّي.» «1»

و قال فيما مرّ عنه من التذكرة في شروط الإمام:

«13- أن يكون منصوصا عليه من اللّه- تعالى-، أو من النبي «ص»

أو ممن ثبتت إمامته بالنص منهما، لأن العصمة من الأمور الخفيّة التي لا يمكن الاطّلاع عليها.

فلو لم يكن منصوصا عليه لزم تكليف ما لا يطاق.» «2»

و أما الأخبار في هذه المسألة:

1- فمنها رواية عبد العزيز بن مسلم الطويلة التي مرّت في مسألة اعتبار العصمة، عن الرضا «ع» و فيها: «و أقام لهم عليا «ع» علما و إماما و ما ترك لهم شيئا يحتاج اليه الأمّة إلّا بيّنه. فمن زعم أن اللّه- عز و جل- لم يكمل دينه فقد ردّ كتاب اللّه، و من ردّ كتاب اللّه فهو كافر به. هل يعرفون قدر الإمامة و محلّها من الأمّة فيجوز فيها اختيارهم؟ إن الإمامة أجلّ قدرا و أعظم شأنا و أعلا مكانا و أمنع جانبا و أبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم أو ينالوها بآرائهم أو يقيموا إماما باختيارهم. إن الإمامة خصّ اللّه- عزّ و جلّ- بها إبراهيم الخليل «ع» بعد النبوة ... فهي في ولد علي «ع» خاصّة إلى يوم القيامة. إذ لا نبي بعد محمد «ص» فمن أين يختار هؤلاء الجهّال؟ ... الإمام واحد دهره، لا يدانيه أحد و لا يعادله عالم

______________________________

(1)- تجريد الاعتقاد و شرحه كشف المراد/ 288، المسألة 4 من المقصد 5.

(2)- التذكرة 1/ 453.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 391

و لا يوجد منه بدل و لا له مثل و لا نظير. مخصوص بالفضل كله من غير طلب منه له و لا اكتساب، بل اختصاص من المفضل الوهاب، فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام أو يمكنه اختياره؟! ... و كيف يوصف بكله أو ينعت بكنهه أو يفهم شي ء من أمره أو يوجد من يقوم مقامه و يغني غناه. لا، كيف

و أنّى و هو بحيث النجم من يد المتناولين و وصف الواصفين؟ فأين الاختيار من هذا و أنى العقول عن هذا و أين يوجد مثل هذا؟ أ تظنون أن ذلك يوجد في غير آل الرسول محمد «ص» ... راموا إقامة الإمام بعقول حائرة بائرة ناقصة و آراء مضلّة، فلم يزدادوا منه إلا بعدا ... رغبوا عن اختيار اللّه و اختيار رسول اللّه «ص» و أهل بيته الى اختيارهم و القرآن يناديهم: «وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ مٰا يَشٰاءُ وَ يَخْتٰارُ.

مٰا كٰانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ، سُبْحٰانَ اللّٰهِ وَ تَعٰالىٰ عَمّٰا يُشْرِكُونَ.» و قال- عزّ و جلّ-: «وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَى اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ.» ... فكيف لهم باختيار الإمام؟ و الإمام عالم لا يجهل و راع لا ينكل ... فهو معصوم مؤيد موفّق مسدّد، قد أمن من الخطايا و الزلل و العثار.

يخصّه اللّه بذلك ليكون حجّة على عباده و شاهده على خلقه. و ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء و اللّه ذو الفضل العظيم، فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدّمونه؟» «1»

2- و في البحار عن العيون بسنده عن الحسن بن الجهم، قال: حضرت مجلس المأمون يوما و عنده علي بن موسى الرضا «ع» و قد اجتمع الفقهاء و أهل الكلام من الفرق المختلفة، فسأله بعضهم فقال له: «يا بن رسول اللّه، بأيّ شي ء تصحّ الإمامة لدعيها؟» قال: «بالنص و الدلائل.» «2»

3- و فيه أيضا عن الخصال بسنده عن سليمان بن مهران، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «عشر خصال من صفات الإمام: العصمة، و النصوص (و النص خ. ل)، و أن يكون

أعلم الناس و أتقاهم للّه، و أعلمهم بكتاب اللّه، و أن يكون صاحب الوصية الظاهرة ...» «3»

______________________________

(1)- الكافي 1/ 198، كتاب الحجة، باب نادر جامع في فضل الإمام و صفاته، الحديث 1.

(2)- بحار الأنوار 25/ 134، باب جامع في صفات الإمام و ... من كتاب الإمامة، الحديث 6.

(3)- بحار الأنوار 25/ 140، باب جامع في صفات الإمام و ... الحديث 12.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 392

4- و فيه أيضا عن معاني الأخبار بسنده، عن أبي الجارود، قال: سألت أبا جعفر الباقر «ع» بم يعرف الإمام؟ قال بخصال: أوّلها نصّ من اللّه- تبارك و تعالى- عليه و نصبه علما للناس حتى يكون عليهم حجة، لأن رسول اللّه «ص» نصب عليا ...» «1»

5- و فيه أيضا عن معاني الأخبار أيضا بسنده عن علي بن الحسين «ع» قال:

«الإمام منا لا يكون إلا معصوما. و ليست العصمة في ظاهر الخلقة فيعرف بها، فلذلك لا يكون إلا منصوصا.» «2»

6- و فيه أيضا عن الاحتجاج، عن سعد بن عبد اللّه القمي، قال: «سألت القائم «ع» في حجر أبيه، فقلت: أخبرني يا مولاي عن العلّة التي تمنع القوم من اختيار إمام لأنفسهم. قال: مصلح أو مفسد؟ قلت: مصلح. قال: «هل يجوز أن تقع خيرتهم على المفسد بعد أن لا يعلم أحد ما يخطر ببال غيره من صلاح أو فساد؟» قلت: بلى.

قال: «فهي العلّة.» الحديث.» «3»

7- و فيه أيضا عن الصدوق في كمال الدين بسنده عن عمرو بن الأشعث، قال: سمعت أبا عبد اللّه «ع» يقول: «أ ترون الأمر إلينا نضعه حيث نشاء؟ كلّا، و اللّه إنه لعهد معهود من رسول اللّه «ص» إلى رجل فرجل، حتى

ينتهي الى صاحبه.» «4»

8- و فيه أيضا عن المناقب، عن محمد بن سنان، عن الصادق «ع» في قوله:

«يخلق ما يشاء و يختار» قال: «اختار محمدا و أهل بيته.» «5»

9- و فيه أيضا عن المناقب، عن أنس، قال النبي «ص»: «إن اللّه خلق آدم من طين كيف يشاء، ثم قال: «و يختار.» إن اللّه اختارني و أهل بيتي على جميع الخلق فانتجبنا، فجعلني

______________________________

(1)- بحار الأنوار 25/ 141، باب جامع في صفات الإمام و ... الحديث 13.

(2)- بحار الأنوار 25/ 194، باب عصمتهم و لزوم عصمة الإمام «ع»، الحديث 5.

(3)- بحار الأنوار 23/ 68، كتاب الإمامة، باب أن الإمامة لا تكون إلّا بالنصّ، الحديث 3.

(4)- بحار الأنوار 23/ 70، باب أن الإمامة لا تكون إلّا بالنّصّ، الحديث 7.

(5)- بحار الأنوار 23/ 74، باب أن الإمامة لا تكون إلّا بالنصّ، الحديث 22.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 393

الرسول و جعل علي بن أبي طالب «ع» الوصيّ، ثم قال: «ما كان لهم الخيرة.» يعني ما جعلت للعباد أن يختاروا. و لكنى أختار من أشاء فأنا و أهل بيتي صفوة اللّه و خيرته من خلقه. «1»

10- و فيه أيضا عن الخصال بسنده، عن المفضل، عن الصادق «ع» قال: قلت له: يا بن رسول اللّه، كيف صارت الإمامة في ولد الحسين «ع» دون ولد الحسن «ع» و هما جميعا ولدا رسول اللّه و سبطاه و سيدا شباب أهل الجنة؟ فقال:

«إنّ موسى و هارون «ع» كانا نبيين مرسلين أخوين، فجعل اللّه النبوة في صلب هارون دون صلب موسى، و لم يكن لأحد أن يقول: لم فعل اللّه ذلك؟ و إنّ الإمامة خلافة اللّه- عزّ و جلّ-،

ليس لأحد أن يقول: لم جعلها اللّه في صلب الحسين دون صلب الحسن، لأن اللّه هو الحكيم في أفعاله؛ لا يسأل عما يفعل و هم يسألون.» «2» الى غير ذلك من الاخبار المساوقة لما ذكر.

أقول: بالتأمّل التامّ في الروايات المذكورة و غيرها، و في كلمات الأصحاب التي مرّ بعضها يظهر أن النص إنّما اعتبر طريقا إلى تشخيص العصمة و سائر الكمالات و المقامات العالية المعنوية الخفيّة التي لا يطلع عليها إلا اللّه- تعالى-. و لا توجد إلا في الإمام المعصوم، أعني الأئمة الاثني عشر من العترة المعيّنين بالاسم و الشخص.

فلا دليل على اعتباره في الفقهاء العدول الذين أثبتنا ولايتهم في عصر الغيبة إجمالا.

كما لم نعتبر فيهم العصمة أيضا، كما مرّ بيانه.

بل الظاهر من لفظ النص ليس إلا تعيين الفرد باسمه و شخصه. فلا يطلق على الفقيه العادل على فرض القول بنصبه بالنصب العام أيضا أنه إمام منصوص عليه.

كما أن الظاهر من اختيار اللّه و اختيار رسوله أيضا اختيار الأشخاص المعيّنين اسما و شخصا، كأمير المؤمنين «ع» و الأئمة الطاهرين من ولده، كما يظهر من خبر ابن سنان و خبر انس. و لو قيل باعتبار ذلك في عصر الغيبة أيضا كان مقتضاه تعطيل الحكومة بالكلية، لوضوح أن تعيين الأشخاص و اختيارها من بين الواجدين

______________________________

(1)- بحار الأنوار 23/ 74، باب ان الإمامة لا تكون إلّا بالنصّ، ذيل الحديث 22.

(2)- بحار الأنوار 23/ 70، باب ان الإمامة لا تكون إلّا بالنصّ، الحديث 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 394

للشرائط في عصر الغيبة لا يقع من قبل اللّه أو رسوله أو الأئمة «ع» و إنما الذي يقع من قبلهم بيان المواصفات المعتبرة فيهم،

و التشخيص يقع من قبل الأمّة أو خبرائها، كما هو واضح.

و عمدة النظر في خبر عبد العزيز بن مسلم الطويل و كذا غيره هو ردّ العامّة، الراغبين عن اختيار اللّه و رسوله لأمير المؤمنين «ع» و الأئمة المعصومين من ولده. كما يشهد بذلك قوله: «رغبوا عن اختيار اللّه و اختيار رسول اللّه «ص» و أهل بيته الى اختيارهم»، و قوله: «فهو معصوم مؤيد» الى قوله: «فهل يقدرون على مثل هذا فيختارونه أو يكون مختارهم بهذه الصفة فيقدمونه؟»

و قد تقدم منا: و يأتي التفصيل أن انتخاب الأمة على القول بصحّته إنما يفيد إذا لم يوجد النصّ. فإن اختيار اللّه و اختيار رسوله مقدّم على اختيار الأمة قطعا.

و الصفات التي ذكرت في الخبر للإمام لا توجد إلا في الإمام المعصوم المنصوب بالاسم و الشخص. كما هو واضح لمن راجعها.

و الفقهاء العدول على فرض كونهم منصوبين من قبل النبي «ص» أو من قبل الأئمة المعصومين «ع» بالنصب العام لا محيص فيهم عن الانتخاب و الخيرة اذا تعددوا في عصر واحد. اذ مع التعدد و التساوي في جميع الصفات تكون الأمّة مخيرة في الرجوع إلى من تختاره من بينهم. كما ذكروا نظيره في باب القضاء في القضاة المتعددين الواجدين للشرائط.

و بالجملة، فالروايات و الكلمات مرتبطة بالإمامة بالمعنى الأخص عند الشيعة، المرتبطة بالأشخاص، لا الإمامة بالمعنى الأعم التي لا يجوز تعطيلها و إهمال أمرها في عصر من الأعصار. فكما لا يشترط فيها العصمة- كما مرّ- لا يشترط النص الذي هو طريق لتشخيصها أيضا.

و عليك بإعادة النظر فيما ذكرناه لنفي اعتبار العصمة في الإمامة بالمعنى الأعم، حيث بيّنا هناك أن شئونها الثلاثة، أعني الإفتاء و الولاية و القضاء، لا تهمل

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 395

و لا تعطّل قطعا في عصر الغيبة. مع أن المتصدي لها ليس معصوما و لا منصوصا عليه.

و إن شئت قلت: الفقهاء في عصر الغيبة صالحون لنيابة ولي العصر- عجل اللّه تعالى فرجه-، كنيابة مالك الأشتر و أمثاله من أمير المؤمنين «ع» و لكن لما لم يمكن تعيينهم و اختيارهم بالاسم و الشخص، و لم يجز تعطيل الإمامة و إهمالها ذكر الأئمة- عليهم السلام- الصفات و الشرائط، و أحالوا تعيين واجدها و انتخاب فرد من بين الواجدين إلى الأمّة أو خبرائها. فالواجدون للصفات كلهم صالحون للإمامة، و لكن الإمام بالفعل هو الذي انتخبته الأمة من بينهم. فبالانتخاب يصير الشخص إماما بالفعل واجب الإطاعة، فتأمّل.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 397

الباب الخامس في كيفية تعيين الوالي و انعقاد الإمامة

اشارة

و فيه ستة فصول:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 399

الفصل الأول في ذكر الأقوال في المسألة و نقل بعض الكلمات

اشارة

اعلم أنه قد مرّ في الباب الأول أن الأصل عدم ولاية أحد على أحد.

و في الباب الثاني بحث إجمالي في ولاية النبي الأكرم «ص» و الأئمة المعصومين «ع» عندنا.

و في الباب الثالث مرور إجمالي بأبواب فقه الإسلام و رواياته المذكور فيها لفظ الإمام أو الوالي أو السلطان أو نحو ذلك، ثم بيان ضرورة الولاية في جميع الأعصار و ما يمكن أن يستدل به لذلك.

و في الباب الرابع الشروط التي تعتبر في الوالي عقلا أو شرعا كتابا أو سنة.

فالآن يجب البحث فيما تنعقد به الإمامة، و كيفية تعيين الوالي.

و ليس غرضنا هنا الرجوع الى مسائل صدر الإسلام و طرح مسألة الإمامة و الخلافة المختلف فيها بين الفريقين. فإنها مسألة كلامية تطلب من مظانّها. بل الغرض هنا البحث في كيفية تعيين الوالي في عصر الغيبة إذا فرض تعدد الواجد للشرائط.

و لكن نقل بعض ما ذكروه من طرق انعقاد الإمامة مما لا محيص عنه، لتوقف البحث على معرفة ذلك. فنقول:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 400

1- قال الماوردي في الأحكام السلطانية:

«و الإمامة تنعقد من وجهين: أحدهما اختيار أهل العقد و الحلّ. و الثاني بعهد الإمام من قبل. فأما انعقادها باختيار أهل الحل و العقد فقد اختلف العلماء في عدد من تنعقد به الإمامة منهم على مذاهب شتّى: فقالت طائفة: لا تنعقد إلا بجمهور أهل العقد و الحلّ من كل بلد، ليكون الرضا به عاما و التسليم لإمامته اجماعا.

و هذا مذهب مدفوع ببيعة أبي بكر على الخلافة باختيار من حضرها و لم ينتظر ببيعته قدوم غائب عنها. و قالت طائفة أخرى: أقل من تنعقد به منهم الإمامة خمسة يجتمعون على عقدها أو يعقدها أحدهم برضا الأربعة، استدلالا بأمرين:

أحدهما أن بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة اجتمعوا عليها، ثم تابعهم الناس فيها. و هم عمر بن الخطاب، و أبو عبيدة بن الجرّاح، و أسيد بن حضير، و بشير بن سعد، و سالم مولى أبي حذيفة. و الثاني أن عمر جعل الشورى في ستة ليعقد لأحدهم برضا الخمسة و هذا قول أكثر الفقهاء و المتكلمين من أهل البصرة. و قال آخرون من علماء الكوفة: تنعقد بثلاثة يتولّاها أحدهم برضا الاثنين ليكونوا حاكما و شاهدين، كما يصحّ عقد النكاح بوليّ و شاهدين. و قالت طائفة أخرى: تنعقد بواحد، لأن العباس قال لعلي «ع»: امدد يدك أبايعك فيقول الناس: عمّ رسول اللّه «ص» بايع ابن عمه فلا يختلف عليك اثنان، و لأنه حكم، و حكم واحد نافذ.» «1»

أقول: لقائل أن يقول: إن الولاية على المسلمين أمر يرتبط بجميع المسلمين، فيجب أن يكون نصب الإمام إما من قبل اللّه- تعالى-، مالك الملوك، أو من ناحية جميع المسلمين و لا أقل من ناحية أكثرهم، أو من ناحية أهل الحل و العقد إذا تعقبه رضا الجميع أو الأكثر. و أما نفوذ تعيين عدد قليل كخمسة مثلا في حقّ الجميع و وجوب التسليم لهم و متابعتهم فلا ملاك له، لا في العقل و لا في الشرع.

______________________________

(1)- الاحكام السلطانية/ 6- 7.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 401

و المحذور الذي أشار اليه من بيعة أبي بكر ليس محذورا فإن الأكثر منهم لا يعتقدون العصمة في الإمام و لا في الصحابة. و عمر بنفسه حكم بكون بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه شرّها «1» فيظهر من ذلك انها لم تكن عنده قائمة على أساس، و لم يكن يرضى بصيرورتها

قاعدة و سنّة متبعة، كما زعم هؤلاء.

قال عبد الكريم الخطيب من علماء السنة في كتاب الخلافة و الإمامة ما نصه:

«و قد عرفنا أن الذين بايعوا أول خليفة للمسلمين- أبي بكر- لم يتجاوزوا أهل المدينة، و ربما كان بعض أهل مكّة، أما المسلمون جميعا في الجزيرة كلها فلم يشاركوا في هذه البيعة، و لم يشهدوها، و لم يروا رأيهم فيها؛ و إنما ورد عليهم الخبر بموت النبي «ص» مع الخبر باستخلاف أبي بكر. فهل هذه البيعة أو هذا الأسلوب في اختيار الحاكم يعتبر معبّرا عن إرادة الأمة حقا؟! و هل يرتفع هذا الاسلوب إلى أنظمة الأساليب الديموقراطية في اختيار الحكام؟! لقد فتح هذا الأسلوب الفريد الذي عرف في المجتمع الاسلامي لاختيار الحاكم- فتح أبوابا للجدل فيه و الخلاف عليه.» «2»

و عن الشيخ علي عبد الرازق من علماء الجامع الأزهر أنه قال في كتابه:

(الإسلام و أصول الحكم):

«إذا أنت رأيت كيف تمّت البيعة لأبي بكر، و استقام له الأمر تبيّن لك أنها كانت بيعة سياسية ملكية عليها طابع الدولة المحدثة، و أنها قامت كما تقوم الحكومات على أساس القوة و السيف.» «3»

الى غير ذلك من الكلمات، فراجع.

2- و قال القاضي أبو يعلى:

«و الإمامة تنعقد من وجهين: أحدهما باختيار أهل الحل و العقد. و الثاني بعهد الإمام من قبل ... و روي عنه (أي عن أحمد) ما دل على أنها تثبت بالقهر و الغلبة

______________________________

(1)- راجع صحيح البخاري 4/ 180، باب رجم الحبلى من الزنا ..

(2)- الخلافة و الإمامة/ 272.

(3)- فلسفة التوحيد و الولاية/ 194، نقلا عن «الإسلام و أصول الحكم» ص 183.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 402

و لا تفتقر الى العقد، فقال- في رواية عبدوس بن

مالك العطّار- (القطّان خ. ل): «و من غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة و سمّي أمير المؤمنين فلا يحل لأحد يؤمن باللّه و اليوم الآخر أن يبيت و لا يراه إماما، برّا كان أو فاجرا.» و قال أيضا- في رواية أبي الحرث- في الإمام يخرج عليه من يطلب الملك، فيكون مع هذا قوم و مع هذا قوم: «تكون الجمعة مع من غلب.» و احتج بأن ابن عمر صلّى بأهل المدينة في زمن الحرّة و قال: «نحن مع من غلب.» «1»

3- و في المغني لابن قدامة الحنبلي:

«و جملة الأمر أن من اتفق المسلمون على إمامته و بيعته ثبتت إمامته و وجبت معونته، لما ذكرنا من الحديث و الإجماع. و في معناه من ثبتت إمامته بعهد النبي «ص» أو بعهد إمام قبله إليه. فإن أبا بكر ثبتت إمامته بإجماع الصحابة على بيعته، و عمر ثبتت إمامته بعهد أبي بكر إليه، و أجمع الصحابة على قبوله و لو خرج رجل على الإمام فقهره و غلب الناس بسيفه حتى أقرّوا له و أذعنوا بطاعته و تابعوه صار إماما يحرم قتاله و الخروج عليه، فإن عبد الملك بن مروان خرج على ابن الزبير فقتله و استولى على البلاد و أهلها حتى بايعوه طوعا و كرها فصار إماما يحرم الخروج عليه.» «2»

4- و في المنهاج للنووي

الذي هو من أعاظم الشافعية:

«و تنعقد الإمامة بالبيعة. و الأصح بيعة أهل الحل و العقد من العلماء و الرؤساء و وجوه الناس الذين يتيسّر اجتماعهم. و شرطهم صفة الشهود. و باستخلاف الإمام. فلو جعل الأمر شورى بين جمع فكاستخلاف، فيرتضون أحدهم. و باستيلاء جامع الشروط، و كذا فاسق و جاهل في الأصح.» «3»

5- و قال العلامة الحلّي- طاب ثراه- في التذكرة:

«مسألة: و إنما تنعقد الإمامة بالنص عندنا على ما سبق. و لا تنعقد بالبيعة خلافا

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية/ 23.

(2)- المغنى 10/ 52.

(3)- المنهاج/ 518، كتاب البغاة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 403

للعامة بأسرهم، فإنهم أثبتوا إمامة أبي بكر بالبيعة. و وافقونا على صحة الانعقاد بالنص، لكنهم جوّزوا انعقادها بأمور: أحدها: البيعة ... الثاني: استخلاف الإمام قبله و عهده اليه، كما عهد أبو بكر إلى عمر ... الثالث: القهر و الاستيلاء ...» «1»

6- و قال في كشف المراد:

«ذهبت الإمامية خاصة إلى أن الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه. و قالت العباسية: إن الطريق إلى تعيين الإمام النص أو الميراث. و قالت الزيدية: تعيين الإمام بالنص أو الدعوة إلى نفسه. و قال باقي المسلمين: الطريق إنما هو النصّ أو اختيار أهل الحل و العقد.» «2»

7- و في الفقه على المذاهب الأربعة:

«و اتفق الأئمة على أن الإمامة تنعقد ببيعة أهل الحل و العقد من العلماء و الرؤساء و وجوه الناس، الذين يتيسّر اجتماعهم من غير شرط عدد محدّد. و يشترط في المبايعين للإمام صفة الشهود من عدالة و غيرها. و كذلك تنعقد الإمامة باستخلاف الإمام شخصا عيّنه في حياته ليكون خليفته على المسلمين بعده ... و انعقد إجماع الأمّة على جوازه.» «3»

8- و في الفقه الإسلامي و أدلته للدكتور وهبة الزحيلي:

«ذكر فقهاء الإسلام طرقا أربعة في كيفية تعيين الحاكم الأعلى للدولة و هي النص، و البيعة، و ولاية العهد، و القهر و الغلبة. و سنتبيّن أن طريقة الإسلام الصحيحة عملا بمبدإ الشورى و فكرة الفروض الكفائية هي طريقة واحدة. و هي بيعة أهل الحل و العقد و انضمام رضا الأمة باختياره. و أما ما عدا ذلك فمستنده ضعيف.» «4»

9- و قال أيضا:

______________________________

(1)- التذكرة 1/ 453.

(2)- كشف المراد/ 288، المسألة 4 من المقصد 5.

(3)- الفقه على المذاهب الأربعة 5/ 417، مبحث شروط الإمامة.

(4)- الفقه الإسلامي و أدلته 6/ 673.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 404

«رأى فقهاء المذاهب الأربعة و غيرهم أن الإمامة تنعقد بالتغلب و القهر. إذ يصير المتغلّب إماما دون مبايعة أو استخلاف من الإمام السابق، و إنما بالاستيلاء.

و قد يكون مع التغلب المبايعة أيضا فيما بعد.» «1»

أقول: لا يخفى أن مقتضى ما ذكروه من إمامة المتغلب مطلقا أن الخارج على الإمام الموجود في أول الأمر باغ يجب قتاله و دفعه، ثم اذا فرض غلبته انقلب إماما واجب الإطاعة و ان كان من أفسق الفسقة و الظلمة! و هذا أمر عجيب لا يقبله الطبع السليم.

و الظاهر أن هؤلاء المصنّفين من السنة كانوا غالبا بصدد التوجيه للوضع الموجود خارجا في أمر الولاية على المسلمين، و تبريره شرعا. فلذا قالوا بكفاية التغلب أو ولاية العهد أو بيعة عدّة قليلة.

و لكن المنصف المتحري للحق ليس من شأنه السعي في تبرير ما وقع، بل بيان ما يحكم به العقل و الشرع بذاتهما. و قد عرفت أن الإمامة على المسلمين أمر يتعلق بجميع المسلمين، فيجب أن تكون من قبل اللّه المالك للجميع أو برضا جميع الأمة أو

أكثرهم، و لا أقل من أهل الحل و العقد منهم، فانه يستعقب رضا الجميع عادة.

و لا ريب أن النصب من قبل اللّه على فرض تحققه- كما هو معتقدنا بالنسبة إلى الأئمة الاثني عشر- مقدم على انتخاب الأمة قطعا. فالطريق الثاني في طول الأول، لا في عرضه. و قد قال اللّه- عزّ و جل-: «وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا قَضَى اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ.» «2»

و الحاصل أن

لأرباب التحقيق من علماء المسلمين في مبدأ الحكومة قولان:

اشارة

______________________________

(1)- الفقه الإسلامي و أدلته 6/ 682.

(2)- سورة الأحزاب (33)، الآية 36.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 405

الأول: أن السيادة و الحاكمية للّه- تعالى- فقط،

و بيده التشريع و الحكم (إن الحكم إلّا اللّه). و النبي «ص» أيضا لم يكن له حق الحكم إلّا بعد ما فوّض اللّه إليه ذلك، و لم يكن يتبع في حكمه إلا ما كان يوحى إليه. و الأئمة أيضا قد انتخبوا من قبل النبي «ص» بأمر اللّه- تعالى- بلا واسطة أو مع الواسطة. حتى ان الفقهاء في عصر الغيبة أيضا نصبوا من قبل أئمتنا «ع» لذلك، و إلا لم يكن لهم حق الحكم.

و ليس لانتخاب الناس أثر في هذا المجال اصلا. فالحكومة الإسلامية تيوقراطية محضة. و هذا القول هو الظاهر من أصحابنا الإمامية.

الثاني: أن الأمة بنفسها هي صاحب السيادة و مصدر السلطات،

و أهل الحل و العقد يمثلون سلطة الأمة. و يشهد لذلك، مضافا إلى سلطة الناس على أنفسهم تكوينا، قوله- تعالى-: «وَ أَمْرُهُمْ شُورىٰ بَيْنَهُمْ.» و ما ورد من الأخبار الكثيرة المتضافرة في بيعة الناس للنبي «ص» و الخلفاء و الأئمة. فيظهر بذلك أنهم مبدأ السلطة و السيادة. نعم، ليس للحكام التخلف عما أمر اللّه به- تعالى- في كل مورد.

و الحق هو الجمع بين القولين بنحو الطولية.

فإن كان من قبل اللّه- تعالى- نصب لذلك- كما في النبي «ص» و كذا في الأئمة الاثني عشر عندنا- فهو المتعين للإمامة، و لا ينعقد الإمامة لغيره مع وجوده و التمكن منه. و إلّا كان للأمة حق الانتخاب، و لكن لا مطلقا بل لمن وجد الشرائط و المواصفات المعتبرة. و لعلّ إمامة الفقهاء في عصر الغيبة من هذا القبيل، كما سيأتي بيانه.

فالإمامة تنعقد أولا و بالذات بالنصب، و بعده بانتخاب الأمة بمرحلة واحدة أو بمراحل.

و أما التغلّب بالقهر، أو ولاية العهد، أو بيعة بعض الناس فلا يكون ملاكا للإلزام و ايجاب الطاعة عند العقل و الوجدان. فإذا فرض أن الأمة انتخبت فردا للإمامة و صار هذا إماما بذلك فلا محالة يكون المنتخب نفس هذا الشخص، و لم يفوّض إليه تعيين غيره لما بعده. فبأيّ حق يعيّن غيره؟ و بأيّ دليل يصير تعيينه

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 406

نافذا لازم الاتباع على الأمة و لا سيّما إذا لم يكن الفرد الذي عيّنه واجدا للشروط و المواصفات الثمانية التي مرّ اعتبارها في الوالي؟!

و ما دلّ من الآية و الروايات على وجوب إطاعة أولي الأمر لا يراد بها إطاعة كل من تسلّط و تأمّر و لو بالقهر و الغلبة، و لا في جميع

قرارات الوالي و لو في تعيين الغير لما بعده من دون تحصيل رضا الامة، بل المقصود بالآية إطاعة من حق له الولاية و الأمر في خصوص ما فوض إليه أمره. فوجوب الإطاعة هنا حكم شرعي يدور مدار موضوعه الخاص. و لا يحقق الحكم موضوع نفسه، كما هو واضح. و قد مرّ بيان الآية و الاحتمالات المتطرقة اليها في الباب الثاني عند التعرض لها.

نعم، لو كان الإمام معصوما- كما نعتقده في الأئمة الاثني عشر- فلا محالة يكون تعيينه للإمام بعده حجة شرعية على تعيّنه من قبل اللّه- تعالى-، أو من قبل الرسول «ص»، أو كون التعيين مفوّضا إليه، أو كون المعيّن أفضل الأفراد و أجمعها للشرائط، فيلزم اتباعه.

ثم هذا اذا لم يستعقب التغلّب، أو ولاية العهد، أو بيعة البعض رضا جميع الأمة و بيعتهم له طوعا، و إلّا صار من مصاديق انتخاب الأمة، كما هو واضح، هذا.

و ليس كلامنا هنا في الإمامة في صدر الإسلام. فإنها مسألة كلامية مفصّلة تطلب من مظانّها و إن اتضح نظرنا فيها. و إنما البحث هنا في ولاية الفقيه العادل الواجد للشرائط في عصر الغيبة، و هي مسألة فقهية. فإن ثبت كونها بالنصب من قبل الأئمة «ع» من طريق المقبولة و غيرها فهو، و إلا كانت فعليتها بالانتخاب على فرض صحته كما هو المختار و لكن في طول النصب، كما مرّ. و سيأتي البحث في أدلة النصب و أدلة الانتخاب في الفصول الآتية، فانتظر.

و كيف كان فالظاهر أن الطريق لانعقاد الإمامة ينحصر فيهما و لا ثالث لهما، فتدبر.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 407

الفصل الثاني في البحث في مقام الثبوت و ذكر المحتملات فيه

قد تحصّل لك مما فصّلناه في الأبواب و الفصول السابقة:

اولا: لزوم الحكومة و ضرورتها في جميع الأعصار

حتى في عصر الغيبة، و كونها داخلة في نسج الإسلام و نظامه،

و أن إهمالها و تعطيلها يساوق تعطيل الإسلام.

و ثانيا: أن الحاكم على المسلمين يشترط فيه شروط ثمانية:

1- العقل الوافي.

2- الإسلام و الإيمان. 3- العدالة. 4- العلم بموازين الإسلام و مقرراته المعبّر عنه بالفقاهة. 5- القوة و حسن الولاية. 6- الذكورة. 7- طيب الولادة. 8- أن لا يكون من أهل البخل و الحرص و الطمع و المصانعة. و قد أقمنا الأدلة عليها من العقل و الكتاب و السنة. و نعبّر عن الواجد لهذه الشروط الثمانية بالفقيه الجامع للشرائط.

و قد أشرنا في الفصل السابق إلى أن الإمامة بالمعنى الأعمّ الشامل لولاية الفقيه تنعقد إما بالنصب من الجهة العليا، و إما بانتخاب الأمّة. فلها طريقان عندنا و إن كان اعتبار الثاني في طول الأول و في طول الشروط المذكورة، فلا مجال للانتخاب مع وجود الإمام المنصوب من قبل اللّه أو من قبل الرسول، و لا مجال

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 408

أيضا لانتخاب الفاقد للشروط مع وجود الواجد لها.

ففي عصر الغيبة إن ثبت نصب الأئمة- عليهم السلام- للفقهاء الواجدين للشرائط بالنصب العام بعنوان الولاية الفعلية فهو، و إلا وجب على الأمة تشخيص الفقيه الواجد للشرائط و ترشيحه و انتخابه، إما بمرحلة واحدة أو بمرحلتين: بأن ينتخب أهل كل صقع و ناحية بعض أهل الخبرة، ثم يجتمع أهل الخبرة و ينتخبون الفقيه الواجد للشرائط واليا على المسلمين. و الظاهر كون الثاني أحكم و أتقن و أقرب إلى الحق، كما يأتي بيانه. و كيف كان فالفقيه الواجد للشرائط هو المتعيّن للولاية، إما بالنصب أو بالانتخاب.

و لا يخفى أن مساق كلمات الأعاظم و الأعلام في تأليفاتهم كان إلى تعيّن النصب، و كون الطريق منحصرا فيه. و لم يكونوا يلتفتون الى انتخاب الأمة. فعندهم

الفقهاء منصوبون من قبل الأئمة المعصومين «ع» بالنصب العام و يستدلّون على ذلك بمقبولة عمر بن حنظلة و الروايات الكثيرة الواردة في شأن العلماء و الفقهاء و الرواة.

كما أن الأئمة الاثنى عشر «ع» منصوبون من قبل اللّه- تعالى-، أو من قبل الرسول الأكرم. و رسول اللّه «ص» كان منصوبا من قبل اللّه- تعالى-. فإلى اللّه تنتهي جميع الولايات، و لا اعتبار لولاية لا تنتهي إليه. قال اللّه- تعالى-: «إِنِ الْحُكْمُ إِلّٰا لِلّٰهِ.»* «1»

و قد يقرّب ذلك بأن الوجدان لا يلزم أحدا بإطاعة غيره إلا بإطاعة مالك الملوك أو من يكون منصوبا من قبله و لو بالواسطة. و الحكومة الحقة الصالحة هي التي لها جذور في وجدان الناس و فطرتهم.

قال المحقق النراقي- طاب ثراه- في العوائد:

«و أما غير الرسول و أوصيائه فلا شك أن الأصل عدم ثبوت ولاية أحد على أحد إلا من ولّاه اللّه- سبحانه-، أو رسوله، أو أحد من أوصيائه على أحد في أمر. و حينئذ فيكون هو وليّا على من ولّاه فيما ولّاه فيه.» «2»

______________________________

(1)- سورة يوسف (12)، الآية 40.

(2)- العوائد/ 185.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 409

أقول: لو صحّ ما ذكروه من تعيّن النصب من الجهة العليا و انحصار الطريق فيه فبضرورة وجود الحكومة الحقة و عدم جواز إهمال الشارع لها في عصر من الأعصار يستكشف النصب قهرا، حتى و إن لم يوجد ما يدلّ عليه في مقام الإثبات أو نوقش في دلالة ما استدل به.

و لكن يمكن الخدشة في هذا المبنى لما سيأتي منّا من إقامة أدلة كثيرة على صحة الانتخاب من قبل الأمة أيضا. غاية الأمر كونه في طول النصب و في صورة عدم ثبوته،

و قبل الانتخاب تثبت الصلاحية و الشأنية فقط.

و إذا فرض تصحيح الشارع الحكيم للانتخاب أيضا صار الامام المنتخب بشرائطه مثل الإمام المنصوب في وجوب طاعته و حرمة مخالفته.

و حينئذ فيجب البحث في دلالة ما ذكروه لنصب الفقيه في عصر الغيبة. فإن تمت دلالته على نصبه و ولايته بالفعل فهو، و إلا وصلت النوبة الى انتخاب الأمة قهرا، و قبل التعرض للأدلة التي استدلّوا بها على النصب

يجب الالتفات إلى أمرين:
الأمر الأول:

إن البحث في النصب العام إثباتا يتوقف على صحته في مقام الثبوت. و لكن قد يخدش في صحته ثبوتا بتقريب أنه لو وجد في عصر واحد فقهاء كثيرون واجدين للشرائط فالمحتملات فيه خمسة:

الأول: أن يكون المنصوب من قبل الأئمة «ع» جميعهم بنحو العموم الاستغراقي، فيكون لكل واحد منهم بانفراده الولاية الفعلية و حقّ إعمالها مستقلا.

الثاني: أن يكون المنصوب الجميع كذلك، و لكن لا يجوز إعمال الولاية إلا

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 410

لواحد منهم.

الثالث: أن يكون المنصوب واحدا منهم فقط.

الرابع: أن يكون المنصوب الجميع، و لكن يتقيد إعمال الولاية لكل واحد منهم بالاتفاق مع الآخرين.

الخامس: أن يكون المنصوب للولاية هو المجموع من حيث المجموع، فيكون المجموع بمنزلة إمام واحد و يجب إطباقهم في إعمال الولاية. و مآل هذين الاحتمالين الى واحد، كما لا يخفى.

و يرد على الاحتمال الأوّل قبح هذا النصب على الشارع الحكيم. فإن اختلاف أنظار الفقهاء غالبا في استنباط الأحكام و في تشخيص الحوادث اليومية و الموضوعات المبتلى بها و لا سيّما الأمور المهمة منها مثل موارد الحرب و الصلح مع الدول و الأمم المختلفة مما لا ينكر. فعلى فرض نصب الجميع و تعدّد الولاة بالفعل لو تصدّى كل واحد

منهم للولاية و أراد إعمال فكره و سليقته لزم الهرج و المرج و نقض الغرض. إذ من الأغراض الأساسية للحكومة هو حفظ النظام و توحيد الكلمة، و قد مرّت روايات دالّة على كون الإمامة نظاما للأمة:

منها: قوله «ع» على ما في الغرر و الدرر للآمدي: «الإمامة نظام الأمّة.» «1»

هذا مضافا إلى دلالة الروايات على بطلان هذا الفرض:

1- ففي الغرر و الدرر: «الشركة في الملك تؤدّي إلى الاضطراب.» «2»

______________________________

(1)- الغرر و الدرر 1/ 274، الحديث 1095.

(2)- الغرر و الدرر 2/ 86، الحديث 1941.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 411

2- و في رواية العلل التي مرّت قطعة منها في الدليل الثالث من أدلّة لزوم الحكومة عن الرضا «ع»: «فإن قال: فلم لا يجوز أن يكون في الأرض إمامان في وقت واحد أو أكثر من ذلك؟ قيل: لعلل:

منها: أن الواحد لا يختلف فعله و تدبيره و الاثنين لا يتفق فعلهما و تدبيرهما. و ذلك أنا لم نجد اثنين إلا مختلفي الهمم و الإرادة. فإذا كانا اثنين ثم اختلفت هممهما و إرادتهما و تدبيرهما و كانا كلاهما مفترضي الطاعة لم يكن أحدهما أولى بالطاعة من صاحبه، فكان يكون في ذلك اختلاف الخلق و التشاجر و الفساد، ثم لا يكون أحد مطيعا لأحدهما إلا و هو عاص للآخر، فتعمّ المعصية أهل الأرض، ثم لا يكون لهم مع ذلك السبيل إلى الطاعة و الإيمان و يكونون إنما أتوا في ذلك من قبل الصانع الذي وضع لهم باب الاختلاف و التشاجر، إذ أمرهم باتباع المختلفين.

و منها: أنه لو كانا إمامين كان لكل من الخصمين أن يدعو إلى غير ما يدعو إليه صاحبه في الحكومة، ثم لا يكون

أحدهما أولى بأن يتّبع من صاحبه، فتبطل الحقوق و الأحكام و الحدود.

و منها: أنه لا يكون واحد من الحجتين أولى بالنطق و الحكم و الأمر و النهي من الآخر. فإذا كان هذا كذلك وجب عليهما أن يبتدءا بالكلام و ليس لأحدهما أن يسبق صاحبه بشي ء إذا كانا في الإمامة شرعا واحدا. فإن جاز لأحدهما السكوت جاز السكوت للآخر مثل ذلك. و إذا جاز لهما السكوت بطلت الحقوق و الأحكام و عطّلت الحدود و صار الناس كأنهم لا إمام لهم.» «1»

و قد مرّ البحث في سند الحديث هناك، فراجع. و آثار الصدق و الحقيقة ظاهرة على مضمونه. فكم قد سفكت الدماء المحترمة و هتكت الأعراض و تعطلت مصالح المسلمين في موارد اختلاف الولاة النافذين و إن كانوا بأنفسهم مقدّسين منزّهين، كما لا يخفى على أهل الدراية و الاطلاع على الحوادث التاريخية.

3- و في صحيحة الحسين بن أبي العلاء: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: تكون الأرض ليس فيها إمام؟ قال: لا. قلت: يكون إمامان؟ قال: لا إلا و أحدهما صامت. «2»

______________________________

(1)- عيون أخبار الرضا 2/ 101 الباب 34، الحديث 1. و علل الشرائع 1/ 254، الباب 182 (باب علل الشرائع)، الحديث 9.

(2)- الكافي 1/ 178 كتاب الحجة، باب أن الأرض لا تخلو من حجة، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 412

4- و في البحار عن الصدوق في كمال الدين بسند صحيح، عن ابن أبي يعفور أنه سأل أبا عبد اللّه «ع» هل يترك الأرض بغير إمام؟ قال: لا. قلت: فيكون إمامان؟ قال: لا إلا و أحدهما صامت. «1»

5- و فيه أيضا عنه بسند موثق عن هشام بن سالم، قال: قلت للصادق

«ع»:

هل يكون إمامان في وقت؟ قال: لا إلّا أن يكون أحدهما صامتا مأموما لصاحبه، و الآخر ناطقا إماما لصاحبه. و أما أن يكون إمامين ناطقين في وقت واحد فلا. «2»

6- و فيه أيضا عن بصائر الدرجات بسنده عن عبيد بن زرارة، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: ترك الأرض بغير إمام؟ قال: لا. قلنا: تكون الأرض و فيها إمامان؟

قال: لا إلّا إمامان أحدهما صامت لا يتكلّم، و يتكلم الذي قبله. و الإمام يعرف الإمام الذي بعده. «3»

7- و في صحيح مسلم بسنده عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول اللّه «ص»: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما.» «4» إلى غير ذلك من الروايات.

هذا.

و أمير المؤمنين «ع» مع كراماته الباهرة و فضائله الظاهرة لم يكن يتدخل في الأمور الولائية في عصر النبي «ص» إلا باذنه و تحت أمره و نظره. و كذلك سيد الشهداء «ع» في عصر الإمام المجتبى «ع».

و في خبر عمران بن حصين، عن النبي «ص»: «... ما تريدون من عليّ؟ إن عليا منّي و أنا منه، و هو ولي كل مؤمن من بعدي.» «5» فجعل الولاية له «ع» من بعده.

______________________________

(1)- بحار الأنوار 25/ 106، كتاب الإمامة، باب أنه لا يكون إمامان في زمان واحد ...، الحديث 2.

(2)- بحار الأنوار 25/ 106، باب أنه لا يكون إمامان في زمان واحد ...، الحديث 3.

(3)- بحار الأنوار 25/ 107، باب أنه لا يكون إمامان في زمان واحد ...، الحديث 6.

(4)- صحيح مسلم 3/ 1480، كتاب الإمارة الباب 15 (باب إذا بويع لخليفتين)، الحديث 1853.

(5)- سنن الترمذي 5/ 296، الباب 82 (باب مناقب علي بن أبي طالب) من أبواب المناقب، الحديث 3796.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه

الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 413

و إذا لم تصحّ ولاية إمامين معصومين في عصر واحد مع عصمتهما فكيف تصح الإمامة و الولاية الفعلية المطلقة لعشر فقهاء مثلا في عصر واحد على أمّة واحدة؟!

كيف؟! و لو كان فيهما آلهة إلا اللّه لفسدتا فكيف بتعدد الولاة و السلطات البشرية؟

و مجرد اشتراط الأعلمية في الوالي على القول به لا يكفي في رفع المحذور، لإمكان التساوي في العلم، و لاختلاف أنظار الأمة و أهل الخبرة في تشخيص الأعلم، كما هو المشاهد خارجا في أعصارنا. و لا يرد هذا الإشكال على نظرية الانتخاب، لكون الملاك فيه هو الأكثرية، كما يأتي بيانه في الفصول الآتية.

و الحاصل أن مضارّ تعدد الحاكم و تكثّر مراكز القرار و التصميم في وقت واحد مع اختلاف الآراء و الأنظار كثيرة جدّا، و لا سيما في المواقع الحسّاسة و مظانّ التصادم و القتال و الحرب و الإصلاح. فنصب ولاة بالفعل متعددين مستقلين لعصر واحد و صقع واحد إعانة على التنازع و التشاجر، فلا يصحّ من الشارع الحكيم.

نعم، لو كان تدخّل الفقهاء منحصرا في الأمور الجزئية المحلّية كتعيين القيم للصغار و المجانين مثلا، كما لعله هو المأنوس في أذهان الأكثر من عنوان ولاية الفقيه، أمكن منع التشاجر و النزاع. و لكن محل البحث هو تصدّي الفقيه لجميع شئون الحكومة في مجتمع المسلمين و ترسيم الخطوط الكلّية لجميع البلاد و العباد.

و حينئذ فمضارّ تعدد مركز القرار ظاهرة واضحة.

و بالجملة فاللازم فرض موضوع البحث وسيعا بسعة بلاد المسلمين و نفوسهم.

هذا كله بالنسبة الى الاحتمال الأول.

و يرد على الاحتمال الثاني أوّلا: أنه كيف يعيّن من له حقّ التصدّي فعلا؟ فإن لم يكن طريق إلى تعيينه صار الجعل لغوا، و هو قبيح.

و إن كان بانتخاب الأمّة أو أهل الحلّ و العقد أو خصوص الفقهاء لواحد منهم صار الانتخاب معتبرا و معيارا لتعيين الوالي، فوجب إعماله و تعيين الوالي به. اللهم إلا أن يقال إن النصب أيضا مما لا بدّ منه لمشروعية الولاية و انتهائه إلى اللّه- تعالى-. فالنصب للمشروعية،

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 414

و الانتخاب لتعيين من له التصدّي فعلا. و لكن نقول إنه على أي حال فغير المنتخب لا يجوز له التدخّل، كما هو المفروض.

و ثانيا: أن جعل الولاية حينئذ للباقين لغو قبيح. نعم، الشأنية و الصلوح ثابتة للجميع.

و يرد على الاحتمال الثالث: أنه كيف يعيّن من جعل له الولاية الفعلية؟ فإن لم يكن طريق إلى التعيين صار الجعل لغوا و هو قبيح. و إن قيل إنه بالانتخاب، قلنا فيصير النصب لغوا و الإمامة انعقدت بالانتخاب لا به. اللهم إلا أن يقال بالجمع بينهما، كما مرّ.

فان قلت: تتعين الحكومة الفعلية للأعلم من الفقهاء.

قلت: أولا: يمكن وجود شخصين أو اشخاص متساوين في العلم و الفضيلة.

و ثانيا: إن الناس و كذا أهل الخبرة كثيرا ما يختلفون في تشخيص الأعلم، فيلزم تعدّد الولاة بالفعل في عصر واحد لمنطقة واحدة، فلا تحصل الوحدة و الانسجام بل يختلّ النظام كما مرّ، فلا محيص إلا أن يقال بلزوم الانتخاب العام و تعيّن منتخب الأكثرية للولاية الفعلية، فتدبر.

و يرد على الاحتمال الرابع، و كذا الخامس: أنه مخالف لسيرة العقلاء و المتشرعة، و مما لم يقل به أحد. و قد كنت في مجلس الخبراء في بادي الأمر مدافعا عن هذه الفكرة و لكنه ظهر لي بالتأمّل أن إدارة شئون الأمة و لا سيما في المواقع الحسّاسة المهمّة

تتوقف على وحدة مركز القرار و التصميم. و التعدد يوجب غالبا تعطّل أكثر المصالح. و قد مرّ كلام أمير المؤمنين «ع» أن: «الشركة في الملك تؤدّي إلى الاضطراب.» «1»

و اللّه- تبارك و تعالى- خاطب نبيّه فقال: «وَ شٰاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذٰا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى

______________________________

(1)- الغرر و الدرر 2/ 86، الحديث 1941.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 415

اللّٰهِ.» «1» فجعل العزم و القرار النهائي لشخص النبي الأكرم «ص»، فتدبر.

و الحاصل أن نصب الأئمة- عليهم السلام- للفقهاء في عصر الغيبة بحيث تثبت الولاية الفعلية بمجرد النصب بمحتملاته الخمسة قابل للخدشة ثبوتا. و إذا لم يصح بحسب مقام الثبوت فلا تصل النوبة الى البحث فيه إثباتا. نعم، يصح ترشيحهم لذلك من قبل الشارع حتى لا تحوم الأمّة حول غيرهم، بل يلتفتون اليهم و ينتخبون واحدا منهم و يفوّضون إليه الولاية فيصير بالانتخاب و الاختيار واليا بالفعل. و يجب على الأمة الإقدام على ذلك، بل هو من أهم الفرائض و الدعائم، و تركه من أشدّ المعاصي، لاستتباعه تعطيل الحقوق و الحدود و الأحكام و تسلّط الكفار و العتاة على شئون المسلمين. و يأتي بيان ذلك و الاستدلال عليه بالتفصيل، فانتظر.

الأمر الثاني: لو قلنا بكون جميع الفقهاء الواجدين للشرائط في عصر واحد

منصوبين بالنصب العام من قبل الأئمة «ع» لأمر الولاية كان مقتضى ذلك جواز بل وجوب تصدّي كل واحد منهم بالوجوب الكفائي لشئون الولاية و الرئاسة، من القضاء و إجراء الحدود و التعزيرات، و التصرف في أموال الغيّب و القصّر و نصب القوام لهم و التصدّي لأمور زواجهم و طلاقهم، و المطالبة بالضرائب الإسلامية من الخمس و الزكاة و الجزية و نحوها، بل و الجهاد الابتدائي للدعوة إلى الإسلام على ما قوّيناه فضلا عن الدفاعي،

و إعداد مقدماته من الجنود و القوى، و عقد المعاهدات مع سائر الأمم الى غير ذلك من شئون الحكومة. و وجب قهرا على الأمة الإسلامية إطاعتهم و التسليم لهم و إن لم يكونوا مقلدين لهم في أخذ المسائل الفقهية. بل يجب على كل

______________________________

(1)- سورة آل عمران (3)، الآية 159.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 416

من الفقهاء أيضا إطاعة الآخر فيما حكم به و لا يجوز مزاحمته له، إذ لا يجوز التخلف عن حكم من جعله الإمام المعصوم واليا بالفعل و نصبه لذلك، كما لا يجوز مزاحمته.

فإذا حكم أحدهم في حادثة بحكم لم يجز للآخر الحكم بخلافه. و اذا كانت المصارف على واحد منهم فلا يجوز للآخرين أخذ الضرائب بدون إذنه، فإنه من أشدّ المزاحمات، كما لا يخفى.

هذا إذا أذعنوا بكون الحاكم المتصدي واجدا للشرائط التي اعتبرها الشرع في الوالي.

و أما إذا لم يذعنوا بذلك فلا تجب الإطاعة قهرا و إن أمكن القول بحرمة التجاهر بالمخالفة. و لا يخفى أنه من هذه النقطة أيضا ينشأ التشاجر و الاختلاف و اختلال النظام و فوت المصالح المهمّة لذلك، و ليس هذا الفرض بقليل فإن كثيرا منّا ممن يكثر منه الجهل أو الاشتباه بالنسبة إلى أحوال غيره أو ممن يغلب عليه الهوى أحيانا و لا يخلو في عمق ذاته من نحو من الإعجاب بالنفس و عدم الاعتناء بالغير و التحقير له أو الحسد له و يعسر عليه التسليم لفرد مثله و الإطاعة له إلا من عصمه اللّه- تعالى-. هذا.

و أما إذا قلنا بعدم كون الفقهاء منصوبين للولاية فعلا، للخدشة فيه ثبوتا أو اثباتا، بل قلنا بكون الفقيه الواجد للشرائط أهلا للولاية و صالحا

له و أصلح من غيره، و ما ورد في فضل العلماء و الفقهاء أيضا لا يدل على أكثر من الصلاحية و الترشيح للولاية، و إنما تنعقد ولايتهم بالفعل بانتخاب الأمة بمرحلة واحدة أو بمرحلتين، فلا محالة يصير الوالي بالفعل من الفقهاء من انتخبته الأمّة و فوّضت إليه الأمانة الإلهية. فهو الذي يحقّ له التصدي لشئون الولاية بالفعل، و لا يجوز للباقين و إن وجدوا الشرائط مباشرتها إلّا تحت أمره و نظره، من غير فرق بين الأمور المالية و غيرها و الجزئية و الكلية.

و إذا كانت الأمّة باختيارها هي المفوّضة لأمر الولاية فبالطبع تصير مدافعة عنها و قوة تنفيذية لها، فتستحكم الولاية و يحصل النظام و يدفع الفساد و ينحّى غير الآهلين لها قهرا. و للأمّة عزل الحاكم المنتخب إذا فقد الشرائط أو تخلّف عن

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 417

الوظائف المحوّلة إليه بتفصيل يأتي في الفصول الآتية.

و بالجملة على هذا الفرض أمر الولاية الفعلية بيد الأمة و إن وجب عليهم في مقام الانتخاب رعاية الشرائط التي اعتبرها الشارع في الوالي من الفقاهة و غيرها.

نعم، لو ترك الناس العمل بهذه الفريضة المهمة و لم يسعوا لانتخاب الحاكم الصالح أمكن القول على ما يأتي بوجوب تصدّي الفقهاء الواجدين للشرائط للأمور المعطلة من باب الحسبة، فان الأمور الحسبية لا تنحصر في الأمور الجزئية كحفظ أموال الغيّب و القصّر و نحوها، بل تعيّن القول بذلك كما سيأتي بيانه.

و كيف كان فالولاية في عصر الغيبة مختصّة بالفقيه الجامع للشرائط التي مرّت، إما بالنصب عموما، أو بالانتخاب من قبل الأمّة، أو بالتصدّي للوظائف حسبة مع عدمهما. فلا يجوز تقدّم غيره عليه في ذلك مع وجوده،

بل يجب الايتمار بأوامره، لما مرّ من اعتبار الشروط الثمانية في الوالي فتنطبق قهرا على الفقيه الجامع لها.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 418

تنبيهان
الأوّل- بحث حول تعدد الدولة:

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 1، ص: 418

قد عرفت أنه إذا تعدد الفقهاء الواجدون للشرائط في عصر واحد فالمحتملات فيه خمسة. و قد مرّ مقتضى جميعها.

فان قال قائل: أ ليس من الممكن أن يقيم حكم اللّه غير واحد من الفقهاء في عصر واحد، و لكن نطاق حكم كل واحد منهم عشيرة خاصة أو بلد خاص، فتوجد دويلات صغيرة كلها إسلامية يحكم فيها الإسلام و توجد بينها العلاقات إن لزمت؟ بل يشكل جدّا إجماع جميع المسلمين في عصر واحد على إمام واحد مع اتساع البلدان و تباعدها و تعدّد القوميات و تباين المذاهب و العادات و اللغات.

فهذا احتمال سادس في البين، و قد وقع نظيره في صدر الإسلام. فقد ذكر الطبري في وقائع سنة الأربعين ما هذا لفظه:

«و في هذه السنة- فيما ذكر- جرت بين علي «ع» و بين معاوية المهادنة بعد مكاتبات جرت بينهما ... كتب معاوية إلى عليّ «ع»: أما إذا شئت فلك العراق و لي الشام، و تكفّ السيف عن هذه الأمّة و لا تهريق دماء المسلمين. ففعل ذلك و تراضيا على ذلك، فأقام معاوية بالشام بجنوده يجبيها و ما حولها، و عليّ بالعراق يجبيها و يقسمها بين جنوده.» «1»

و أجاز هذا بعض الفقهاء في بعض الشرائط. فعن عبد القاهر البغدادي أنه

______________________________

(1)- تاريخ الطبري 6/ 3452.

دراسات في

ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 419

قال:

«فقال أصحابنا: لا يجوز أن يكون في الوقت الواحد إمامان واجبا الطاعة، و إنما تنعقد إمامة واحد في الوقت و يكون الباقون تحت رايته. و إن خرجوا عليه من غير سبب يوجب عزله فهم بغاة، إلا أن يكون بين البلدين بحر مانع من وصول نصرة أهل كل واحد منهما إلى الآخرين، فيجوز حينئذ لأهل كل واحد منهما عقد الإمامة لواحد من أهل ناحيته. و زعم قوم من الكرامية أنه يجوز أن يكون في وقت واحد إمامان و أكثر ...» «1»

و عن إمام الحرمين الجويني أنه قال في كتاب الإرشاد:

«ذهب أصحابنا إلى منع عقد الإمامة لشخصين في طرفي العالم ... و الذي عندي فيه أن عقد الإمامة لشخصين في صقع واحد متضايق الخطط و المخالف غير جائز و قد حصل الإجماع عليه. و أما إذا بعد المدى، و تخلّل بين الإمامين شسوع النوى فللاحتمال في ذلك مجال، و هو خارج عن القواطع.» «2»

قلنا: نحن لا نأبى ما ذكرت إن فرض وجود العلقة التامّة بين الدويلات و جعل على رأس الجميع إمام واحد يجمع شملهم و يربطهم و يحكم عليهم في المواقف اللازمة بحكم عام، بحيث يعدّ الجميع دولة واحدة مقتدرة يساند بعضها بعضا. نظير الولايات المتحدة الأمريكية و اتحاد الجماهير السوفياتية.

و أما تعدّد الحكام المستقلين في الرأي و الإرادة في جميع الشؤون بلا زعيم واحد ينظم شتاتهم و يقطع خلافاتهم فمظنة للفرقة و الفشل.

أ لا ترى أن اللّه- تعالى- جعل لكل إنسان أذنين تسمعان، و عينين تبصران، و يدين و رجلين و أعضاء و جهازات مختلفة يعمل كل منها عمله، و لكن جعل له فوق الجميع رأسا

واحدا و عقلا فاردا يدبر الجميع، و لسانا واحدا يعبّر عن منوياته؟

______________________________

(1)- نظام الحكم في الشريعة و التاريخ الإسلامي/ 322.

(2)- نظام الحكم في الشريعة و التاريخ الإسلامي/ 326.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 420

فالإمام رأس الأمة، و عقلها المدبر لها، و لسانها الناطق عنها.

و هل لم تشاهد أن الأجانب و المستعمرين حينما أرادوا ضعف المسلمين و وهنهم و السلطة على بلادهم و ذخائرهم مزّقوهم كل ممزّق، و فرّقوهم دويلات صغار يحكم عليها الخلافات الطائفية و الوطنية و اللغوية و نحوها. و قال أحد زعماء بريطانيا جملته المشهورة: «فرّق تسد.» فبذلك يعرف أن الوحدة حليف القوة و النصر، و أن الفرقة و التعدد مصدر الضعف و الوهن، هذا. و الأخبار الحاكمة بوجوب وحدة الإمام التي قد مر كثير منها تنفي بإطلاقها هذا النحو من تعدد الإمام أيضا، فراجع.

و أما ما مرّ من الطبري من رضا أمير المؤمنين «ع» بقسمة الملك بينه و بين معاوية فعلى فرض صحته فإنما كان بعد حروب وقعت بينهما و تخاذل جنود أمير المؤمنين «ع» و تقاعسهم عن القتال، و إلّا فهو «ع» لم يكن يرضى بحكومة معاوية قطّ، كما يظهر من كتبه «ع» و خطبه.

و إجماع جميع الأمّة في مرحلة واحدة على إمام واحد مع اتساع البلدان و تباعدها و إن اشكل و تعسّر، و لكن يسهل ذلك إن وقع الانتخاب في مرحلتين أو مراحل، فينتخب الخبراء من قبل الناس، و ينتخب الإمام الأعظم من ناحية الخبراء المبعوثين لذلك.

هذا كله على فرض القدرة و الإمكان، و إلا فلو فرض عدم إمكان تأسيس دولة إسلامية واحدة تعم جميع المسلمين فلا إشكال في أن تأسيس دويلة صغيرة أو

دويلات على أساس موازين الإسلام أولى من إهمال الأمور حتى يتحكم على المسلمين و يتغلب عليهم الطواغيت و الجبابرة الأشرار. فيتعين ذلك دفعا للظلم و الفساد، فتدبر.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 421

التنبيه الثاني- نقل كلام ابن طاوس:

اعلم أن مسألة ولاية الفقيه و إقامة الدولة الحقة المطابقة لموازين الإسلام من أعظم المسائل الأساسية في الإسلام، فإنها الوسيلة الوحيدة لحفظ بيضة الإسلام و نظام المسلمين و كيانهم و تنفيذ قوانين الإسلام و أحكامه و إجراء الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر بمفهومهما الواسع. و واضح أن أهمية وجوب المقدمة بأهمية وجوب ذيها.

و لكن فقهاؤنا- رضوان اللّه عليهم- تركوا البحث فيها في الكتب الفقهية بحثا أساسيا واسعا مع ما رأوا من أن أخبارنا ملاء من إرجاع أمور كثيرة إلى السلطان أو الوالي أو الحاكم، و ذكر السّجن أو بيت المال و نحو ذلك من لوازم الحكومة. و هم أيضا أفتوا بمضامينها في الأبواب المختلفة من فقههم.

و السرّ في ذلك أن علماء السنة كان نظرهم واسعا في مسألة الحكومة و شرائط الحاكم، و كان الأكثر منهم يبرّرون الحكومات الدارجة الموجودة في أعصارهم.

و لكن نحن معاشر الشيعة الإمامية حسب اعتقادنا نرى الحكومة في عصر ظهور الأئمة «ع» من حقوقهم. و في عصر الغيبة كان الشيعة و فقهاؤهم مشرّدين غالبا في شدّة و تقية، فكانوا آئسين من رجوع الحكومة اليهم و يرون كأنه بمنزلة أمر ممتنع.

فكان البحث فيها و في فروعها و في شرائط الحاكم و نحو ذلك عندهم بحثا لغوا و بلا فائدة، فلذلك لم يبحث فيها إلا بعض فقهائنا بنحو التطفل و بالنسبة الى التصرفات الجزئية المحلية. فترى الشيخ الأعظم الأنصاري- قدس سره- مثلا يبحث فيها بحثا

ما في مكاسبه في مسألة التصرف في مال الطفل. فكأنّ ولاية الفقيه كانت عندهم نظير ولاية الأب و الجدّ محدودة بدائرة ضيّقة صغيرة، و لم يكن ينقدح في أذهانهم تصدي الفقيه العادل الاقامة دولة مقتدرة في بلاد المسلمين في قبال الدول الجائرة المقتدرة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 422

و قد بلغ يأس فقهائنا من رجوع الأمر إليهم و شدة التقية فيهم إلى حدّ ترى السيد ابن طاوس- قدّس سرّه- يرى نحو إقبال من الحكومة المغولية إليه و إلى علماء الشيعة و إطلاقها لسراحهم في الإرشاد و إجراء بعض الأحكام نحو عناية من اللّه- تعالى- به، و نحو قدرة له أخبر بها الإمام الصادق و تكون مقدمة لظهور وليّ الأمر «ع» و قيامه.

فقال في كتاب الإقبال في أعمال شهر الربيع الأول:

«وجدت حديثا في كتاب الملاحم للبطائني عن الصادق «ع» يتضمّن وجود الرجل من أهل بيت النبوة بعد زوال ملك بني العبّاس يحتمل أن يكون للإشارة إلينا و الإنعام علينا. و هذا ما ذكره بلفظه من نسخة عتيقة بخزانة مشهد الكاظم «ع».

و هذا ما رويناه و رأينا: عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: قال: اللّه أجلّ و أكرم و أعظم من أن يترك الأرض بلا إمام عادل، قال: قلت له: جعلت فداك فأخبرني بما استريح إليه. قال: يا أبا محمّد، ليس يرى أمّة محمّد «ص» فرجا أبدا ما دام لولد بني فلان ملك حتى ينقرض ملكهم. فإذا انقرض ملكهم أتاح اللّه لأمّة محمد «ص» رجلا (برجل خ. ل) منا اهل البيت يشير بالتقى، و يعمل بالهدى، و لا يأخذ في حكمه الرشى. و اللّه إني لأعرفه باسمه و اسم

أبيه. ثم يأتينا الغليظ القصرة، ذو الخال و الشامتين، القائم العادل الحافظ لما استودع، يملأها قسطا و عدلا كما ملأها الفجّار جورا و ظلما. ثم ذكر تمام الحديث.

أقول: و من حيث انقرض ملك بني العباس لم أجد و لم أسمع برجل من أهل البيت يشير بالتقى، و يعمل بالهدى، و لا يأخذ في حكمه الرشى كما قد تفضّل اللّه به علينا باطنا و ظاهرا. و غلب ظني أو عرفت أن ذلك إشارة إلينا ... و قد رجوت أن يكون اللّه- تعالى- برحمته قد شرّفني بذكري في الكتب السالفة على لسان الصادق «ع» ...

و لم يتمكن أحد في هذه الدولة القاهرة (دولة مغول) من العترة الطاهرة كما تمكّنا نحن من صدقاتها المتواترة و استجلاب الأدعية الباهرة و الفرامين المتضمنة لعدلها و رحمتها المتظاهرة.» «1» انتهى كلام الإقبال.

______________________________

(1)- الإقبال/ 71 (طبعة أخرى/ 599)، الباب 4، فصل فيما نذكره مما يختص بيوم 13 من ربيع الأول.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 423

أقول: و بالجملة كان يأس أصحابنا من رجوع الحكومة إليهم سببا لعدم بحثهم في فروع الحكومة و شروطها بحثا واسعا، و لكن بعد ما شملت عناية اللّه للمسلمين في إيران الإسلامية، و نجحت ثورتهم بقيادة الأستاذ الإمام- مد ظله-، و خرجت إيران من تحت نير الاستبداد و الاستعمار الشرقي و الغربي، و انتقضت المعادلات السياسية الدارجة صار البحث في الحكومة الإسلامية بشؤونها المختلفة ضروريا. اللهم إلا أن يتفضل اللّه علينا بظهور امام العصر- عجّل اللّه تعالى فرجه- فيغنينا من هذه الأبحاث العريضة. و قد طرحنا في هذا الكتاب أبحاثا لعلها تكون ناقصة و غير ناضجة، و لا أدّعي صحة جميع ما تبادر

إلى ذهني. فأرجو من الفضلاء الكرام أن يتابعوا الأبحاث حتى تنحلّ المشكلات و الحوادث الواقعة بالتدريج في تدبير الأمور.

و إذا مثّلت لعقلك سعة الحكومة و كثرة مسائلها المستحدثة ظهر لك لزوم أن يكون مبدأ القرار و التصميم فيها واحدا، و أن الشركة تؤدّي إلى الاضطراب، و ان تدخّل كلّ فقيه يوجب الهرج و المرج. نعم، يجب قبل القرار و العزم المشاورة و تبادل الآراء مع المتخصصين في المسائل المختلفة، و لكن صاحب العزيمة رجل واحد، كما يأتي تفصيله في الباب السادس، فانتظر.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 425

الفصل الثالث في ذكر أدلة القائلين بنصب الفقهاء عموما

قد عرفت إلى هنا

أولا: ضرورة الحكومة في جميع الأعصار و أن تعطيلها يساوق بنحو تعطيل الإسلام.

و ثانيا: أنّه يشترط في الحاكم الإسلامي ثمانية شروط لا تنطبق قهرا إلّا على الفقيه الجامع للشرائط.

و ثالثا: أن الولاية لا تنعقد إلّا بالنصب من العالي، أو بالانتخاب من قبل الأمّة على ما يأتي بيانه، و أنّ الانتخاب في طول النصب و في صورة عدمه.

و رابعا: أنّ نصب أمير المؤمنين و الأئمة المعصومين من ولده ثابت عندنا بالأدلة القطعية، فلا اعتبار بالانتخاب في أعصارهم.

و خامسا: أنّ الظاهر من الأصحاب و الأساتذة أنّ الفقهاء أيضا منصوبون في عصر الغيبة بالنصب العام، فهم ولاة بالفعل عندهم بالنصب من قبل الأئمة

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 426

المعصومين «ع» و عرفت منا إجمالا أنّ هذا إنّما يصحّ مع الإمكان ثبوتا، و قيام الدليل عليه إثباتا و الّا وصلت النوبة الى الانتخاب.

و قد مرّ في الفصل الثاني المناقشة في إمكان النصب عموما بحسب مقام الثبوت.

فالآن حان وقت البيان لما ذكروه من الأدلّة لذلك في مقام الإثبات، و هي أمور

فلنتعرض لها و لما أوردوا عليها من المناقشات:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 427

الأمر الأول: مقبولة عمر بن حنظلة

[المقبولة و سندها]

روى الكليني عن محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسين، عن محمد بن عيسى، عن صفوان بن يحيى، عن داود بن الحصين، عن عمر بن حنظلة، قال: «سألت أبا عبد اللّه «ع» عن رجلين من أصحابنا بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحا كما إلى السلطان أو إلى القضاة؛ أ يحلّ ذلك؟ فقال: من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت، و ما يحكم له فإنّما يأخذ سحتا و إن كان حقّا ثابتا له، لأنّه أخذه بحكم الطاغوت و قد أمر اللّه أن يكفر به، قال اللّه- تعالى-: «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ.» قلت: فكيف يصنعان؟ قال: ينظران (إلى) من كان منكم ممّن قد روى حديثنا و نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا، فليرضوا به حكما فإنّي قد جعلته عليكم حاكما، فإذا حكم بحكمنا فلم يقبله منه فإنّما استخفّ بحكم اللّه، و علينا ردّ، و الرادّ علينا الرادّ على اللّه، و هو على حد الشرك باللّه.» «1»

و رواه الشيخ أيضا في التهذيب في موضعين «2» و السند في أحدهما محمد بن يحيى، عن محمد بن الحسن بن شمّون، عن محمد بن عيسى. و في الآخر محمد بن علي بن محبوب، عن محمد بن عيسى ...

و قد تلقى الأصحاب الرواية بالقبول حتّى اشتهرت بالمقبولة. و صفوان بن يحيى

______________________________

(1)- اصول الكافي 1/ 67، باب اختلاف الحديث، الحديث 10؛ و الفروع منه 7/ 412، باب كراهية الارتفاع إلى قضاة الجور من كتاب القضاة، الحديث 5؛ و الوسائل

18/ 98، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 1.

(2)- تهذيب الأحكام 2/ 68 و 91 من طبعه القديم، المطابق مع 6/ 218 و 301، الحديث 514 و 845.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 428

من أصحاب الإجماع، و عن الشيخ في العدّة أنه لا يروي إلا عن ثقة «1».

و بالجملة، الظاهر أنّه لا بأس بالخبر من جهة السند و إن وقع بعض المناقشات في محمد بن عيسى، و داود بن الحصين، و عمر بن حنظلة:

اما محمد بن عيسى اليقطيني ففي تنقيح المقال أنّ فيه قولين:

الأوّل أنّه ضعيف. صرح به جمع، منهم الشيخ في فهرسته و في موضعين من رجاله. قال في الفهرست: «محمد بن عيسى بن عبيد اليقطيني ضعيف، استثناه أبو جعفر بن بابويه من رجال نوادر الحكمة و قال: لا أروي ما يختص بروايته. و قيل إنّه يذهب مذهب الغلاة.» الثاني أنّه ثقة. صرّح به النجاشي فقال: إنّه جليل في أصحابنا، ثقة، عين، كثير الرواية، حسن التصانيف، روى عن أبي جعفر الثاني مكاتبة و مشافهة. و قال الكشي: قال القتيبي: كان الفضل بن شاذان يحبّ العبيدي و يثني عليه و يمدحه و يميل إليه و يقول: ليس في أقرانه مثله «2».

أقول: أما استثناء ابن بابويه فالمستثنى عنده هو ما رواه محمد بن عيسى عن يونس، فلعلّه لم يكن هذا لاعتقاد ضعف فيه، بل للإشكال في سنّه و إدراكه ليونس. و أمّا الرمي بالغلوّ فلا يخفى أنّه شاع في تلك الأعصار رمي بعض الأصحاب الأجلاء أيضا بالغلوّ لاعتقادهم بثبوت بعض المقامات العالية للأئمة «ع». نظير ما ترى في أعصارنا من رمي بعض العرفاء و الفلاسفة بالكفر و الزندقة، فلعلّ المقام

كان من هذا القبيل، فتأمّل.

و أما داود بن الحصين الأسدي (بضم الحاء) ففي تنقيح المقال:

انّ الشيخ عدّه في رجاله من أصحاب الصادق و الكاظم «ع» و قال: إنّه واقفي.

و قال النجاشي: إنّه كوفي، ثقة، روى عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن، كان يصحب أبا العباس البقباق، له كتاب. «3»

______________________________

(1)- راجع عدة الأصول 1/ 386- 387، و تنقيح المقال 2/ 100- 101.

(2)- راجع تنقيح المقال 3/ 167.

(3)- راجع تنقيح المقال 1/ 408.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 429

هذا، و لا يخفى عدم التهافت بين الكلامين، لإمكان كونه واقفيا ثقة.

و أما عمر بن حنظلة، ففي تنقيح المقال:

«عدّه الشيخ تارة من أصحاب الباقر «ع» و أخرى من أصحاب الصادق «ع».

و شرح الحال أنّه لم ينصّ على الرجل في كتب الرجال بشي ء، و لكن روى في الكافي «1» في باب وقت الصلاة عن علي بن إبراهيم، عن محمد بن عيسى، عن يونس، عن يزيد بن خليفة، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع» إنّ عمر بن حنظلة أتانا عنك بوقت، فقال أبو عبد اللّه «ع»: إذا لا يكذب علينا.

و في التهذيب «2» في باب العمل في ليلة الجمعة و يومها عن الحسين بن سعيد، عن فضالة، عن أبان، عن إسماعيل الجعفي، عن عمر بن حنظلة، قال: قلت لأبي عبد اللّه «ع»: القنوت يوم الجمعة؟ فقال: أنت رسولي إليهم في هذا إذا صليتم في جماعة. الحديث. و يفهم من هذين الحديثين توثيقه.» «3»

أقول: و يرد على التمسك بالخبرين أنّ في سند الأوّل يزيد بن خليفة، و هو واقفي على ما صرّح به الشيخ. «4» و لم يثبت وثاقته. و الخبر الثاني راويه نفس عمر بن

حنظلة؛ فكيف يثبت به وثاقته.

نعم، يمكن أن يجعل كثرة روايته عن الأئمة «ع» نحو شاهد على وثاقته، كما قيل.

و كيف كان، فالأصحاب تلقّوا الخبر بالقبول حتّى أطلقوا عليه مقبولة عمر بن حنظلة.

______________________________

(1)- الكافي 3/ 275، باب وقت الظهر و العصر، الحديث 1. (طبعه القديم 1/ 76).

(2)- تهذيب الأحكام 3/ 16، باب العمل في ليلة الجمعة و يومها، الحديث 57 (طبعه القديم 1/ 249).

(3)- تنقيح المقال 2/ 342.

(4)- رجال الطوسي/ 364، (عدّه في أصحاب الكاظم «ع»).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 430

مشهورة أبي خديجة
اشارة

و روى الشيخ بإسناده عن محمد بن علي بن محبوب، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن أبي الجهم، عن أبي خديجة، قال: بعثني أبو عبد اللّه- عليه السلام- إلى أصحابنا فقال: قل لهم: «إيّاكم إذا وقعت بينكم خصومة أو تدارى بينكم في شي ء من الأخذ و العطاء أن تتحاكموا إلى أحد من هؤلاء الفسّاق. اجعلوا بينكم رجلا ممّن قد عرفت حلالنا و حرامنا، فإنّي قد جعلته قاضيا. و إيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضا إلى السلطان الجائر.»

هكذا في التهذيب المطبوع بطبعتيه «1» و لكن في الوسائل: «فإنّي قد جعلته عليكم قاضيا» بإضافة كلمة: «عليكم». فلعله سهو من النسّاخ أو منه، أو أن نسخة التهذيب من صاحب الوسائل كانت كذلك «2».

و روى الصدوق بإسناده عن أحمد بن عائذ، عن أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال، قال: قال أبو عبد اللّه جعفر بن محمد الصادق «ع»: «إيّاكم أن يحاكم بعضكم بعضا إلى أهل الجور، و لكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئا من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإنّي قد جعلته قاضيا فتحاكموا إليه.» و رواه الكليني عن الحسين بن

محمّد، عن معلّى بن محمد، عن الحسن بن علي، عن أبي خديجة مثله إلّا أنّه قال: «شيئا من قضائنا.»

و رواه الشيخ بإسناده عن الحسين بن محمد، مثله. «3»

و أبو الجهم كنية لبكير بن أعين و ثوير بن أبي فاختة، و الأوّل ثقة و الثاني ممدوح.

______________________________

(1)- تهذيب الأحكام- طبعه القديم 2/ 92، كتاب القضاء؛ و طبعه الجديد 6/ 303، باب من الزيادات في القضايا و الأحكام، الحديث 53.

(2)- الوسائل 18/ 100، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 6.

(3)- الوسائل 18/ 4، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 431

و أحمد بن عائذ أيضا ثقة «1».

و إنّما الإشكال في أبي خديجة، فعن الشيخ في الفهرست أنّه ضعيف، و عن النجاشي أنّه قال:

«ثقة ثقة، روى عن أبي عبد اللّه و أبي الحسن «ع»، له كتاب.» «2» هذا.

تفسير الآيات الثلاث، و معنى أولي الأمر
[تمسّك الإمام «ع» في المقبولة بالآية الشريفة]

أقول: حيث إنّ الإمام «ع» تمسّك في المقبولة بالآية الشريفة من القرآن الكريم فالأولى التعرض لها و لمفادها مقدّمة، لنكون في بيان مفاد الخبرين على بصيرة من أمرنا. قال اللّه- تعالى- في سورة النساء: «إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا، وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ، إِنَّ اللّٰهَ نِعِمّٰا يَعِظُكُمْ بِهِ، إِنَّ اللّٰهَ كٰانَ سَمِيعاً بَصِيراً* يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ، فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّٰهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّٰهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ، ذٰلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا* أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا

أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلٰالًا بَعِيداً.» «3»

و لا يخفى أنّ الآيات الثلاث مرتبطة بحسب المضمون جدّا.

[لأمانات في الآية مفهوم عام]

و الظاهر أن الأمانات في الآية مفهوم عام: تشمل أمانات الناس بينهم من الأموال و غيرها، و أمانات اللّه عند عباده من الكتاب العزيز و أوامره و نواهيه، و أمانته عند الولاة؛ فإن الإمامة أمانة إلهيّة عندهم، و هم مأمورون بأداء حقوق الرعيّة و العدل بينهم و اللطف بهم و حملهم على موجب الدين و الشريعة و توفير الصدقات و الغنائم عليهم و تسليم ودائع الإمامة إلى الإمام بعده.

______________________________

(1)- تنقيح المقال 1/ 181 و 197 و 63.

(2)- تنقيح المقال 2/ 5، و الفهرست للطوسي/ 79 (ط. اخرى/ 105) و رجال النجاشي/ 134.

(3)- سورة النساء (4)، الآية 58 و 59 و 60.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 432

و إذا فرض كون الإمامة في مورد بالانتخاب فآراء الناس و بيعتهم أيضا أمانة منهم عند الوالي تستعقب تكليفا خطيرا عليه.

و الأئمة المعصومون من عترة النبي «ص» أيضا كانوا من أنفس الأمانات عند الناس، و من الأسف أنّ الأكثر خانوا في هذه الأمانة الإلهيّة.

و بالجملة، فالآية تدلّ على مفهوم عامّ و إن كان بعض المصاديق أنفس و أهمّ.

و الروايات الواردة من طرق الفريقين في المقام تحمل على بيان المصاديق المهمّة، و تكون من باب الجري و التطبيق فلا تفيد الحصر.

ففي المجمع: «قال أبو جعفر «ع»: إنّ أداء الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج من الأمانة.» «1»

و فيه أيضا: «روي عنهم «ع» أنّهم قالوا: آيتان إحداهما لنا و الأخرى لكم: قال اللّه- تعالى- إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا.

الآية. و قال: يٰا

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.

الآية.» «2»

و في نور الثقلين عن الكافي بسنده، عن بريد العجلى قال: سألت أبا جعفر «ع» عن قول اللّه- عزّ و جلّ-: «إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا، وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ»، قال: إيّانا عنى أن يؤدي الأوّل إلى الإمام الّذي بعده الكتب و العلم و السلاح. «وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ» الذي في أيديكم، ثمّ قال للناس: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»، إيّانا عنى خاصّة. أمر جميع المؤمنين إلى يوم القيامة بطاعتنا «3».

و في الدر المنثور عن زيد بن أسلم في قوله: إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا، قال:

______________________________

(1)- مجمع البيان 2/ 63 (الجزء 3).

(2)- مجمع البيان 2/ 63 (الجزء 3).

(3)- نور الثقلين 1/ 497؛ و الكافي 1/ 276، كتاب الحجة، باب أن الإمام يعرف الإمام ...، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 433

«أنزلت هذه الآية في ولاة الأمر و فيمن ولّى من أمور الناس شيئا.»

و عن شهر بن حوشب، قال:

«نزلت في الأمراء خاصّة». و عن علي بن أبي طالب «ع» قال: «حقّ على الإمام أن يحكم بما أنزل اللّه و أن يؤدّي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحقّ على الناس أن يسمعوا له و أن يطيعوا و أن يجيبوا إذا دعوا.» «1»

و في كتاب أمير المؤمنين «ع» إلى الأشعث بن قيس عامله على آذربيجان:

«و إن عملك ليس لك بطعمة، و لكنّه في عنقك أمانة.» «2»

فظهر بما ذكر أنّ الآية و إن كانت عامّة لفظا و مفهوما فتشمل

جميع الأمانات، و لكن الولاية المفوّضة من قبل اللّه- تعالى- أو من قبل الأمّة من أعظمها، و التكليف بالنسبة إليها خطير.

و لعلّ مقارنة الأمانة في الآية للحكم بالعدل قرينة على إرادة هذا المصداق قطعا، فيكون الحكم بالعدل من شئون الولاية و من فروعها و من مصاديق أداء الأمانة إلى أهلها. فتدبر. هذا كلّه بالنسبة إلى الأمانة.

و أمّا الحكم

فقال الراغب في المفردات:

«حكم، أصله: منع منعا لإصلاح، و منه سمّيت اللجام حكمة الدابة ... و حكمت الدابة: منعتها بالحكمة، و أحكمتها: جعلت لها حكمة ... و الحكم بالشي ء أن تقضي بأنّه كذا أو ليس بكذا، سواء ألزمت ذلك غيرك أو لم تلزمه، قال- تعالى-: «وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ.» ... و يقال: حاكم و حكّام لمن يحكم بين الناس، قال اللّه- تعالى-: «وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ.» و الحكم:

المتخصّص بذلك فهو أبلغ، قال اللّه- تعالى- تعالى-: «أَ فَغَيْرَ اللّٰهِ أَبْتَغِي حَكَماً»، و قال- عزّ و جلّ-: «فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِهٰا.» و إنما قال: حكما و لم يقل:

______________________________

(1)- الدر المنثور 2/ 175.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 839؛ عبده 3/ 7؛ لح/ 366، الكتاب 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 434

حاكما تنبيها أنّ من شرط الحكمين أن يتولّيا الحكم عليهم و لهم حسب ما يستصوبانه من غير مراجعة إليهم في تفصيل ذلك.» «1»

و في المقاييس:

«الحاء و الكاف و الميم أصل واحد، و هو المنع، و أوّل ذلك الحكم و هو المنع من الظلم. و سمّيت حكمة الدابة لأنّها تمنعها ... و الحكمة هذا قياسها لأنها تمنع من الجهل ... و حكّم فلان في كذا إذا جعل أمره إليه.» «2»

و

في النهاية:

«في أسماء اللّه الحكم و الحكيم، هما بمعنى الحاكم و هو القاضي. و الحكيم: فعيل بمعنى فاعل أو هو الذي يحكم الأشياء و يتقنها ... و الحكم: العلم و الفقه و القضاء بالعدل و هو مصدر حكم يحكم ... يقال: أحكمت فلانا أي منعته، و به سمّي الحاكم لأنّه يمنع الظالم.» «3»

و في لسان العرب:

«و الحاكم: منفّذ الحكم، و الجمع حكام.» «4»

أقول: بالتّتبّع في الكتاب و السنة يظهر لك أنّ الحكم و الحكومة و الحاكم و الحكّام كان أكثر استعمالها في القضاء و القاضي، و ربّما استعملت في الولاية العامّة و الوالي أيضا.

و لعلّه من الأوّل قوله- تعالى-: «وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوٰالِ النّٰاسِ بِالْإِثْمِ.» «5»

______________________________

(1)- مفردات الراغب/ 126.

(2)- مقاييس اللغة 2/ 91.

(3)- النهاية لابن الأثير 1/ 418.

(4)- لسان العرب 12/ 142.

(5)- سورة البقرة (2)، الآية 188.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 435

و عن ابن فضال نقلا عن خط أبي الحسن الثاني «ع» في تفسير هذه الآية:

«الحكام: القضاة.» «1»

و كذا قوله: «وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ»، بل و قوله: «يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ» بملاحظة مورد النزول كما يأتي عن قريب.

و قول الصادق «ع» في خبر سليمان بن خالد: «اتّقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء العادل في المسلمين لنبيّ (كنبيّ) أو وصيّ نبيّ.» «2» فتأمّل.

و قول أمير المؤمنين في خطابه لمالك لاختيار القضاة: «ثمّ اختر للحكم بين الناس أفضل رعيّتك ...» «3»

إلى غير ذلك من الاستعمالات.

و من قبيل الثاني ما في نهج البلاغة في الخطبة القاصعة: «فأبدلهم العزّ مكان الذلّ، و الأمن مكان الخوف فصاروا ملوكا حكّاما، و أئمة

أعلاما ... فهم حكام على العالمين و ملوك في أطراف الأرضين.» «4»

و فيه أيضا: «فتقربوا إلى أئمة الضلالة و الدعاة إلى النار بالزور و البهتان، فولّوهم الأعمال و جعلوهم حكّاما على رقاب الناس.» «5»

و ما في البحار عن كنز الكراجكي، قال: قال الصادق «ع»: «الملوك حكّام على الناس، و العلماء حكّام على الملوك.» «6»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 5، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.

(2)- الوسائل 18/ 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 1009؛ عبده 3/ 104؛ لح/ 434، الكتاب 53.

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 802؛ عبده 2/ 177؛ لح/ 296، الخطبة 192.

(5)- نهج البلاغة، فيض/ 666؛ عبده 2/ 214؛ لح/ 326، الخطبة 210.

(6)- بحار الأنوار 1/ 183، كتاب العلم، الباب 1 من أبواب العلم و آدابه، الحديث 92.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 436

و فيه أيضا عن الاختصاص: قال أبو عبد اللّه «ع»: «تكون شيعتنا في دولة القائم «ع» سنام الأرض و حكامها.» «1»

و فيه أيضا عن الخصال بسنده عن علي بن الحسين: «و يكونون حكام الأرض و سنامها.» «2»

و ما في إعلام الورى في خطبة أبي طالب عند تزويجه خديجة لرسول اللّه «ص»:

«الحمد للّه الذي جعلنا من زرع إبراهيم ... و أنزلنا حرما آمنا يجي ء إليه ثمرات كلّ شي ء، و جعلنا الحكّام على الناس.» «3»

إلى غير ذلك من موارد الاستعمال.

و بالجملة، فالحاكم قد يراد به القاضي، و قد يراد به الوالي. و كذا سائر المشتقّات.

و لا يخفى أن الاشتراك معنوي لا لفظي، إذ كلّ منهما بقراره و كلامه القاطع يمنع عن الفساد، و الأوّل شعبة من الثاني، و تكون قوّته الخارجية غالبا بقوّة

الوالي و جنوده، و إلّا فهو بنفسه لا قوّة له على المنع و التنفيذ.

و أما قوله: «أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ»، فقد مرّ تفسيره بالتفصيل في الباب الثاني.

و ملخّص ما ذكرناه هناك أنّ الأمر بإطاعة اللّه- تعالى- ناظر إلى إطاعته في أحكامه. و إطاعة الرسول و الأئمة «ع» في مقام بيان هذه الأحكام ليست أمرا وراء اطاعة اللّه، و أوامرهم في هذا المجال إرشاديّة لا مولويّة. نظير أوامر الفقيه.

نعم، للرسول غير مقام الرسالة مقام الإمامة و الولاية أيضا، و له «ص» و للأئمة بعده مضافا إلى بيان الأحكام الكليّة، أو امر مولوية صادرة عنهم بما أنّهم ولاة الأمر و ساسة العباد. فقوله: «أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» ناظر إلى هذا السنخ من

______________________________

(1)- بحار الأنوار 52/ 372، تاريخ الإمام الثاني عشر، (الباب 27) باب سيره و أخلاقه ...، الحديث 164.

(2)- بحار الأنوار 52/ 317، تاريخ الإمام الثاني عشر، (الباب 27) باب سيره و أخلاقه ...، الحديث 12.

(3)- إعلام الورى/ 85، الباب الخامس.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 437

الأوامر الولائية، و لذا كرّرت لفظة: «أطيعوا».

و المحتملات في «أولي الأمر» ثلاثة:

الأوّل: أن يراد بهم جميع الأمراء و الحكّام مطلقا، كما لعلّه الظاهر ممّا روي عن أبي هريرة أنّه قال:

«هم الأمراء منكم.» «1»

الثاني: أن يراد بهم خصوص الأئمّة الاثني عشر المعصومين «ع» كما وردت بذلك روايات مستفيضة.

الثالث: أن يراد بهم بمناسبة الحكم و الموضوع كلّ من له حقّ الأمر و الحكم شرعا، فمن ثبت له هذا الحقّ شرعا وجبت لا محالة إطاعته في ذلك و إلّا لصار جعل هذا الحقّ له لغوا.

و حقّ الأمر و الحكم لا ينحصر في الإمام المعصوم، بل

يثبت لكلّ من كانت حكومته مشروعة بالنصب أو بالانتخاب.

فكما وجبت إطاعة أمير المؤمنين «ع» مثلا في أوامره الولائية تجب إطاعة المنصوبين من قبله، كمالك الأشتر مثلا.

قال الشيخ الأعظم الأنصاري «قده» في مكاسبه في معنى أولي الأمر:

«الظاهر من هذا العنوان عرفا من يجب الرجوع إليه في الأمور العامّة الّتي لم تحمل في الشرع على شخص خاصّ.» «2»

و لا محالة يتقيّد الأمر بما إذا لم يكن معصية للّه، إذ ليس لوليّ الأمر حقّ الأمر

______________________________

(1)- الدر المنثور 2/ 176.

(2)- المكاسب للشيخ الأنصاري/ 153.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 438

بالمعصية.

و على ما ذكرنا فالفقيه الجامع للشرائط أيضا على فرض ولايته شرعا يصير مصداقا للآية قهرا.

و ما ورد من اختصاص الآية بالأئمة المعصومين «ع» فالمراد به الحصر الإضافي في قبال أئمة الجور المدّعين ما ليس لهم. و الحصر لا ينحصر في الحقيقي فقط.

و كيف يمكن الالتزام بولاية شخص و لو في ظرف خاصّ و لا تجب إطاعته؟ مع أنّ الغرض من جعل المنصب لا يحصل إلّا بالإطاعة و التسليم.

و إن شئت قلت: إنّ إطاعته إطاعة الإمام المعصوم أيضا، فإنّه منصوب من قبله أو مديم طريقته، فتدبر.

و المخاطب في قوله- تعالى-: «فَإِنْ تَنٰازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّٰهِ وَ الرَّسُولِ» «1»، هم المؤمنون المنادون في صدر الآية، و الظاهر منه التنازع الواقع بين أنفسهم لا بينهم و بين أولي الأمر، كما يظهر من بعض علماء السنة.

و يظهر من خبر بريد العجلي أنّ هذا التفسير كان شائعا في عصر الإمام الباقر «ع» أيضا، فتصدّى هو «ع» لردّه حيث قال: «و كيف يأمرهم اللّه- عزّ و جلّ- بطاعة ولاة الأمر و يرخّص في منازعتهم؟ إنّما قيل ذلك

للمأمورين الذين قيل لهم: أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ.» «2»

فهو- تعالى- أوجب عليهم أن يردّوا المنازعات إلى اللّه و الرسول في قبال الذين يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ.

و لعل المراد بالردّ إلى اللّه و الرسول الأخذ بحكم اللّه المنزل على رسوله، و لذا لم يذكر أولوا الأمر ثانيا، إذ ليس لهم أن يشرّعوا حكما في قبال حكم اللّه- تعالى- و ليس إعمال الولاية إلا تطبيق ما حكم اللّه به، لا تشريع حكم جديد. أو لعلّهم لم يذكروا ثانيا لكونهم من فروع الرسول و أغصانه.

______________________________

(1)- سورة النساء (4)، الآية 59.

(2)- الكافي 1/ 276، كتاب الحجة، باب أن الإمام «ع» يعرف الإمام الذي ...، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 439

و ربما ينقدح في الذهن أنّ صدر الآية ذكر توطئة و تمهيدا للذيل، فيكون المراد أنّه لمّا كانت إطاعة اللّه و إطاعة رسوله و أولي الأمر واجبة فلا محالة يجب أن يكون المرجع في المنازعات هو اللّه و رسوله لا الطاغوت الذي أرادوا أن يتحاكموا إليه المذكور في الآية التالية، فتدبّر.

و امّا قوله- تعالى-: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ الآية»، ففي مجمع البيان:

«كان بين رجل من اليهود و رجل من المنافقين خصومة، فقال اليهودي: أحاكم إلى محمد «ص»، لأنه علم أنّه لا يقبل الرشوة و لا يجوز في الحكم، فقال المنافق: لا، بل بيني و بينك كعب بن الأشرف، لأنّه علم أنّه يأخذ الرشوة فنزلت الآية.» «1»

و الطاغوت: فعلوت من الطغيان للمبالغة، ففيه قلب كما لا يخفى. هذا.

و قد تحصّل ممّا ذكرناه أنّ الحكم بالعدل في الآية الأولى من الآيات الثلاث ظاهر في القضاء، و أنّ

مورد الآية الثالثة أيضا هو القضاء، كما أنّ التنازع المذكور في الآية الثانية أيضا يناسب القضاء.

و لكن لا يخفى أنّ القضاء بنفسه ليس قسيما للإمامة و الولاية، بل هو من شئون الإمامة، و كثيرا ما كان الإمام بنفسه يتصدّى له، و تصدّى القضاة له أيضا كان من جهة كونهم منصوبين من قبله.

و قد مرّ في خبر سليمان بن خالد قوله «ع»: «فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء» و في المقبولة: «فتحاكما إلى السلطان أو إلى القضاة.» و رسول اللّه «ص» أيضا كان يقضي بإمامته و ولايته، و كذلك أمير المؤمنين «ع». و قال اللّه- تعالى- مخاطبا لداود النبيّ «ع»: «يٰا دٰاوُدُ إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ، فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ.» «2»

ففرّع جواز الحكم و نفوذه على كونه خليفة.

فيظهر بجميع ذلك أن القضاء من شئون الإمامة و الخلافة.

و الآيات الثلاث كما مرّ مرتبطة بحسب المضمون، و قد مرّ تفسير الأمانة في الآية

______________________________

(1)- مجمع البيان 2/ 66 (الجزء 3).

(2)- سورة ص (38)، الآية 26.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 440

الأولى بالإمامة و الولاية، و كون الحكم بالعدل متفرعا عليها.

و المذكور في الآية الثانية أيضا وجوب إطاعة الرسول و أولي الأمر، يعني الأئمة، و فرع عليها وجوب إرجاع التنازع إلى اللّه و الرّسول.

و يحتمل أن يراد بالتنازع في الآية الأعم من التنازع في الحكم الكلّي و في الموضوع المرتبط بالقضاء.

و الطاغوت في الآية الثالثة أيضا لكونه للمبالغة ظاهر في الوالي الجائر، إذ القاضي بما هو قاض لا قوّة له حتّى يطغى. و لو طغى يكون بالاعتماد على قوّة الوالي و جنوده.

و قال في مجمع البيان في تفسير الآية الأولى:

«أمر اللّه الولاة

و الحكّام أن يحكموا بالعدل و النصفة.»

و في تفسير الآية الثالثة:

«لما أمر اللّه أولي الأمر بالحكم و العدل و أمر المسلمين بطاعتهم وصل ذلك بذكر المنافقين.» «1»

و على هذا فتكون الآيات الثلاث مرتبطة إجمالا بمسألة الإمامة و الولاية الكبرى، و يكون أمر القضاء و الحكم بالعدل في المنازعات من فروعها و أحكامها.

كلام الأستاذ الإمام حول المقبولة:

إذا عرفت تفسير الآيات الثلاث إجمالا فلنرجع إلى بيان دلالة المقبولة، فنقول:

قال الأستاذ الإمام- مدّ ظله- في تقريب الاستدلال بها على نصب الفقيه واليا ما محصّله بتوضيح منّا:

«إن قول الراوي: «بينهما منازعة في دين أو ميراث، فتحاكما إلى السلطان أو إلى

______________________________

(1)- مجمع البيان 2/ 63 و 66 (الجزء 3).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 441

القضاة»، لا شبهة في شموله للمنازعات التي يرجع فيها إلى القضاة، كدعوى أنّ فلانا مديون أو وارث مثلا و إنكار الطرف الآخر ممّا يحتاج إلى الترافع و إقامة البيّنة أو اليمين. و المنازعات التي يرجع فيها إلى الولاة و الأمراء، كالتنازع الحاصل بينهما لأجل عدم أداء دينه أو ميراثه بعد ما كان ثابتا و معلوما ممّا تحتاج إلى إعمال السلطة و القدرة فقط و يكون مرجعها الأمراء و السلاطين. فلو قتل ظالم شخصا من طائفة و وقع النزاع بين الطائفتين فلا مرجع لرفعه إلّا الولاة بقدرتهم. و لذا قال:

«فتحاكما إلى السلطان، أو الى القضاة» و من الواضح عدم تدخّل الخلفاء في ذلك العصر بل مطلقا في المرافعات التي ترجع فيها إلى القضاة، و كذلك العكس. و قول الإمام- عليه السلام-: «من تحاكم إليهم في حقّ أو باطل فإنّما تحاكم إلى الطاغوت»، انطباقه على الولاة أوضح، بل لو لا القرائن لكان الظاهر منه

خصوص الولاة.

و كيف كان، فلا إشكال في دخول الطغاة من الولاة فيه، سيما مع مناسبات الحكم و الموضوع، و مع استشهاده بالآية التي هي ظاهرة فيهم في نفسها.

و قول الراوي بعد ذلك: «فكيف يصنعان» يكون استفسارا عن المرجع في البابين.

و اختصاصه بأحدهما سيّما القضاة في غاية البعد.

و قول الامام- عليه السلام-: «فليرضوا به حكما» يكون تعيينا للحاكم في التنازع مطلقا.

و لو توهّم من قوله: «فليرضوا» اختصاصه بمورد تعيين الحكم فلا شبهة في عدم إرادة خصوصه، بل ذكر من باب المثال، و إلّا فالرجوع إلى القضاة الذي هو المراد جزما لا يعتبر فيه الرضا من الطرفين.

فاتّضح من جميع ذلك أنّه يستفاد من قوله «ع»: «فإنّي قد جعلته عليكم حاكما» أنه «ع» قد جعل الفقيه حاكما فيما هو من شئون القضاء، و ما هو من شئون الولاية.

فالفقيه ولي الأمر في البابين و حاكم في القسمين، سيّما مع عدوله «ع» عن قوله:

«قاضيا» إلى قوله: «حاكما.» بل لا يبعد أن يكون القضاء أيضا أعمّ من قضاء القاضي و من أمر الوالي و حكمه. قال اللّه- تعالى-: «وَ مٰا كٰانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لٰا مُؤْمِنَةٍ إِذٰا

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 442

قَضَى اللّٰهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ.» «1»

و كيف كان فلا ينبغي الإشكال في التعميم للبابين.

و يشهد لذلك أيضا مشهورة أبي خديجة التي مرّت، إذ الظاهر من صدرها إلى قوله:

«فإني قد جعلته قاضيا» هي المنازعات التي يرجع فيها إلى القضاة. و من تحذيره بعد ذلك من الإرجاع إلى السلطان الجائر و جعله مقابلا له بقوله «ع»: «و إيّاكم أن يخاصم بعضكم بعضا إلى السلطان الجائر»، هي المنازعات التي يرجع فيها إلى

السلطان لرفع التجاوز و التعدّي لا لفصل الخصومة».

هذا ما ذكره الأستاذ الإمام- مدّ ظله- لتقريب الاستدلال بالمقبولة و المشهورة على نصب الفقيه واليا و قاضيا.

ثم تعرّض- مدّ ظله- لبعض الشبهات الواردة و الجواب عنه، فقال ما حاصله:

«ثمّ إنّه قد تنقدح شبهة في بعض الأذهان بأنّ أبا عبد اللّه «ع» في أيّام إمامته إذا نصب شخصا أو أشخاصا للإمارة أو القضاء كان أمده إلى زمان إمامته «ع»، و بعد وفاته يبطل النصب.

و فيها ما لا يخفى، فإنّه مع الغض عن أنّ مقتضى المذهب أنّ الإمام إمام حيّا و ميّتا و قائما و قاعدا، إنّ النصب لمنصب الولاية أو القضاء أو نصب المتولي للوقف أو القيم على السفهاء أو الصغار لا يبطل بموت الناصب. إذ من الضروري في طريقة العقلاء أنّه مع تغيير السلطان أو هيئة الدولة و نحوهما لا ينعزل الولاة و القضاة و غيرهم من المنصوبين. نعم للرئيس الجديد عزلهم متى أراد، و مع عدم العزل تبقى المناصب على حالها.

و في المقام لا يعقل هدم الأئمة اللاحقين لنصب الإمام الصادق «ع»، لأنّه يرجع إمّا إلى نصب غير الفقهاء العدول مع كونهم أصلح و أرجح، أو إلى إرجاع الشيعة إلى ولاة الجور و قضاته، أو إلى الإهمال لهذا الأمر الضروري الذي يحتاج إليه الأمم.

و الكل ظاهر الفساد.

______________________________

(1)- سورة الأحزاب (33)، الآية 36.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 443

فمن نصبه الإمام الصادق «ع» منصوب إلى زمان ظهور ولي الأمر- عليه السلام-.

و هنا شبهة أخرى أيضا، و هي أنّ الإمام و إن كان خليفة رسول اللّه و له نصب الولاة و القضاة لكن لم تكن يده مبسوطة، بل كان في سيطرة خلفاء الجور،

فلا أثر لجعل منصب الولاية لأشخاص لا يمكن لهم القيام بأمرها. و أمّا نصب القضاة فله أثر في الجملة.

و فيها أنّه مع وجود الأثر في الجملة لبعض الشيعة و لو سرّا إنّ لهذا الجعل سرّا سياسيا عميقا، و هو طرح حكومة عادلة إلهية و تهية بعض أسبابها حتّى لا يتحيّر المتفكّرون لو وفقهم اللّه لتشكيل حكومة إلهية.

و لقد تصدّى بعض المتفكّرين لطرح الحكومة و تخطيطها في السجن لرجاء تحقّقها في الآتي.

بل الغالب في العظماء من الأنبياء و غيرهم الشروع في الطرح أو العمل من الصفر تقريبا.

و أبو عبد اللّه «ع» قد أسّس بهذا الجعل أساسا قويما للأمّة و المذهب، بحيث لو نشر هذا الطرح و التأسيس في جامعة التشيع و أبلغه الفقهاء و المتفكّرون إلى الناس و لا سيّما إلى الجوامع العلميّة و ذوي الأفكار الراقية لصار ذلك موجبا لانتباه الأمّة و التفاتهم و قيام شخص أو أشخاص لتأسيس حكومة إسلامية عادلة تقطع أيادي الأجانب.» «1» انتهى كلامه- مدّ ظله-.

توضيح لكلام الأستاذ

أقول: قد صار حاصل كلامه- مد ظلّه- أنّ قول السائل: «فتحاكما إلى السلطان، أو إلى القضاة» بملاحظة أن فصل الخصومات كان من وظائف القضاة،

______________________________

(1)- كتاب البيع 2/ 478- 482.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 444

و أنّ سائر الأحكام المتوقّفة على إعمال القوّة و القدرة كانت من شئون الولاة. و كذا قول الإمام «ع»: «فإنّما تحاكم إلى الطاغوت» حيث استعمل لفظ الطاغوت و استشهد بالآية الشريفة، و كذا قوله: «فإنّي قد جعلته عليكم حاكما» بدل قوله: «قاضيا» كل ذلك قرينة على أن المقصود هو تعيين المرجع لجميع الأمور المرتبطة بالولاة التي منها القضاء. فيراد بالحاكم مطلق من يرجع إليه في الأمور

للبتّ و القرار. و إلى هذا البيان أيضا يرجع كلام كل من استدل بالمقبولة في المقام، فتكون المقبولة دليلا على نصب الوالي و القاضي معا، لا بأن يستعمل لفظ الحاكم في المعنيين، بل لأنّ القضاء أيضا من شئون الولاة و لذا قد ينصبون القضاة لذلك و قد يتصدّون له بأنفسهم، كما كان يصنع أمير المؤمنين «ع». و قد مرّ في خبر سليمان بن خالد، عن الصادق «ع»: «إنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء» «1».

و بعبارة أخرى: ليس المراد أن هنا نصبين: نصب الفقيه واليا، و نصبه قاضيا و إن كان ربّما يوهم ذلك كلام الأستاذ- مدّ ظلّه- بل المراد نصبه واليا و لكنّ القضاء أيضا من شئون الوالي.

و يمكن أن يؤيّد كون المراد بالحاكم هو الوالي بقوله «ع»: «عليكم» فإنّ العلوّ إنّما يكون للوالي المتسلّط، و لو أريد القضاء فقط كان المناسب أن يقول: «بينكم.»

و قد مرّ منّا أيضا أنّ الظاهر كون الآيات الثلاث مرتبطة بمسألة الولاية.

و يظهر من قول الإمام «ع»: «من كان منكم»، اعتبار كون الوالي و القاضي للشيعة الإماميّة من الشيعة. و من قوله: «روى حديثنا»، كون روايات العترة و حديثهم أساس حكمه و قضائه. و لا يصدق هذا إلّا على المجتهد المستنبط من الأحاديث، إذ المقلّد أساس علمه فتوى مرجعه لا أحاديث أهل البيت.

و يظهر من قوله: «نظر في حلالنا و حرامنا و عرف أحكامنا» أيضا اعتبار الاجتهاد، إذ لا يصدق على المقلّد المحض أنّه نظر و عرف، فإنّ المتبادر من النظر في الشي ء إعمال الدقة فيه، و من معرفته الإحاطة به تفصيلا. و معنى النظر في حلالهم و حرامهم النظر

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 7، الباب 3 من أبواب

صفات القاضي، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 445

في الفتاوى و الأحكام الصادرة عن الأئمة «ع» و ليس هذا إلّا شأن المجتهد، كما لا يخفى.

و لو تعدّد المجتهد و اختلفوا في الفتيا كان المرجع أفقههم، كما يدلّ على ذلك ذيل المقبولة حيث قال: «فإن كان كلّ رجل اختار رجلا من أصحابنا، فرضيا أن يكونا الناظرين في حقّهما، و اختلفا فيما حكما و كلاهما اختلفا في حديثكم؟ قال:

الحكم ما حكم به أعدلهما و أفقههما و أصدقهما في الحديث و أورعهما، و لا يلتفت إلى ما يحكم به الآخر.» «1»

و لا يخفى انّ من قوله: «أفقههما» أيضا يستفاد اعتبار اصل الفقاهة هذا.

مناقشات حول كلام الاستاذ
اشارة

و لكن مع ذلك كلّه يمكن أن يناقش في الاستدلال بالمقبولة على نصب الفقيه واليا بوجوه:

الأول:

ما ذكرناه في الفصل السابق من الإشكال في النصب العامّ ثبوتا بشقوقه الخمسة، فراجع. و إذا فرض عدم الإمكان ثبوتا لم تصل النوبة إلى مقام الإثبات.

و لو فرض وجود ظاهر يدلّ عليه وجب تأويله بأن يحمل على بيان الصلاحية لا الفعلية، و إنّما تتحقق الفعلية بالرضا و الانتخاب و لذا قال: «فليرضوا به حكما.»

و انّما أمر بذلك ردعا عن انتخاب الجائر أو انتخاب غير من ذكره من الفقيه الواجد للشرائط، فتأمل.

الثاني:

أنّ الولاية بالنصب كانت ثابتة عندنا للإمام الصادق «ع» بنفسه،

______________________________

(1)- الكافي 1/ 67، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، الحديث 10.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 446

و بعده أيضا للأئمة من ولده، فما معنى نصب الفقهاء ولاة بالفعل مع وجوده و ظهوره؟

و لو قيل بعدم السلطة له بالفعل، قلنا إنّ الفقيه المنصوب من قبله أيضا كذلك.

و السائل سأل عن المرجع للمحاكمات في عصر الإمام الصادق «ع»، فلا مجال لأن يقال إنّ النصب منه «ع» كان لعصر الغيبة فإن السؤال على هذا يبقى بلا جواب و يصير المقام من قبيل استثناء المورد و هو قبيح.

نعم يعقل نصب القاضي للمخاصمات الواقعة بين الشيعة لعصر الإمام الصادق «ع» أيضا بعد عدم جواز الرجوع إلى قضاة الجور.

و مورد السؤال أيضا التخاصم، كما أنّ مورد نزول الآية المستشهد بها أيضا كان هو النزاع و التخاصم، كما مرّ.

و المجعول في خبر أبي خديجة بنقليه أيضا هو منصب القضاء.

و المرجع للأمور الحسبيّة و ولاية الغيّب و القصّر و الممتنع أيضا كان هم القضاة، كما هو المتعارف في عصرنا أيضا. و قد ذكر الماوردي و أبو يعلى أن نظر القاضي يشتمل على عشرة أحكام أحدها فصل

الخصومات، فراجع «1».

و ذكر السلطان في المقبولة و مشهورة أبي خديجة أيضا كان من جهة أن المرجع للقضاء في الأمور المهمة المعتنى بها كان هو شخص السلطان، مضافا إلى أن التنفيذ و الإجراء أيضا كان بقدرته و قوّته، و لولاه لم يتمكّن القضاة من تنفيذ أحكامهم.

اللهم إلا أن يجاب عن هذا الإشكال بأنّه ليس المقصود الاستدلال بالمقبولة لجعل الولاية الكبرى للفقيه، بل الإمارة و العمل من قبل الإمام المعصوم، كما في العمّال المنصوبين من قبل الخلفاء. نظير مالك الأشتر من قبل أمير المؤمنين «ع».

فيصح نصب الفقهاء لذلك في عصر الحضور و عصر الغيبة معا غاية الأمر كون تصرّفاتهم في زمن عدم بسط اليد محدودة، فتأمّل.

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية للماوردي/ 70، و الأحكام السلطانية لأبي يعلى/ 65.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 447

الثالث:

أنّ الظاهر أنّ الإمام الصادق «ع» لم يكن بصدد الثورة ضد السلطة الحاكمة في عصره لكى ينصب واليا في قبالها، لعدم مساعدة الظروف على ذلك.

بل كان بصدد رفع مشكلة الشيعة في عصره في باب المخاصمات. كيف؟ و لم يعهد تدخّله «ع» بنفسه في المسائل الولائية المرتبطة بالولاة مع كونه حقّا له عندنا، فكيف ينصب لذلك الفقهاء في عصره؟

و كون النصب لعصر الغيبة دون عصره مساوق للإعراض عن جواب السؤال و لاستثناء المورد و هو قبيح، كما مرّ.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ القضاء كما مرّ ليس منحازا عن الولاية الكبرى، بل هو من شئون الوالي. فالإمام «ع» جعل الولاية الكبرى للفقيه لعصره و لما بعده غاية الأمر أنّ هذا الجعل بالنسبة إلى عصره كان منشئا للأثر بالنسبة إلى خصوص القضاء و الأمور الحسبية فقط، و لعلّه في الأعصار المتأخّرة يفيد

بالنسبة الى جميع الآثار كما تراه في عصرنا حيث تهيأ الجوّ لإقامة دولة إسلامية في إيران.

و يكفي في الابتلاء بموضوع، الابتلاء ببعض شئونه.

و يؤيّد ذلك أنّه «ع» بعد ما أرجع المتخاصمين إلى من وجد الصفات المذكورة و أمر برضاهما به حكما قال: «فإنّي قد جعلته عليكم حاكما.» إذ الظاهر من هذا التعبير أنّ الذيل بمنزلة التعليل لما سبقه، و قد مرّ أن لفظة «عليكم» قرينة على إرادة الولاية و إلّا كان الأنسب أن يقول: «بينكم.» فيكون المراد: «إنّي جعلت الفقيه واليا عليكم»، فهو بجهة ولايته المشروعة يصحّ منه القضاء فيجب أن يرضوا به حكما.

و إنّما قال ذلك مع أنّ قضاء الوالي و قضاته نافذ و لا يشترط فيه رضا الطرفين، لأنّ الوالي المتسلّط و قضاته تكون لحكمهم ضمانة إجرائية و أمّا الوالي الذي نصبه الإمام الصادق «ع» فهو نظير نفس الإمام لم تكن ضمانة إجرائية لحكمه إلّا إيمان الشخص و رضاه، و لأجل ذلك أيضا عبّر بلفظ «الحكم»، الظاهر في قاضي التحكيم المنتخب برضا الطرفين.

و بالجملة، فالذيل كبرى كليّة ذكرت علّة للحكم، فيجب الأخذ بعمومها.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 448

الرابع:

أنّ الحكومة و مشتقّاتها قد غلب استعمالها في الكتاب و السنة في خصوص القضاء، كقوله- تعالى-: «وَ إِذٰا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النّٰاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ»، «1» و قوله:

«وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوٰالِ النّٰاسِ بِالْإِثْمِ.» «2»

و في حديث ابن فضال نقلا عن خطّ أبي الحسن الثاني «ع» في تفسير الآية:

«الحكام: القضاة.» «3»

و قد مرّ في خبر سليمان بن خالد عن الإمام الصادق «ع»: «اتّقوا الحكومة، فإنّ الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء.» «4» و قد مرّ في

أوائل هذا الفصل في تفسير الآيات الثلاث بعض كلمات أهل اللغة و موارد الاستعمال للحكم و الحاكم و الحكّام، فراجع.

بل يمكن أن يقال: إن إطلاق الحاكم و الحكّام على الوالي و الولاة كقوله «ع»:

«فصاروا ملوكا حكّاما، و أئمة أعلاما»، «5» و قوله: «و جعلوهم حكّاما على رقاب الناس» «6»، و قوله «ع»: «الملوك حكّام على الناس، و العلماء حكّام على الملوك» «7»، و نحو ذلك من موارد الاستعمال أيضا كان بملاحظة أنّ القضاء و فصل الخصومات كان من أهمّ شئون الولاة. و القضاة أيضا إنّما كانوا يتصدّون لذلك بنصبهم و بالنيابة عنهم.

و بالجملة، ليس إطلاق الحاكم على الوالي بالاشتراك اللفظي، أو بان ينخلع اللفظ عن معنى القضاء و يستعمل في الوالي مجازا. بل من جهة أنّ الوالي قاض حقيقة و أن القضاء من أهمّ شئونه و لا تتمّ الولاية إلّا به.

فيكون قوله: «حاكما» في المقبولة مساوقا لقوله: «قاضيا» في خبر أبي خديجة بنقليه.

______________________________

(1)- سورة النساء (4) الآية 58.

(2)- سورة البقرة (2)، الآية 188.

(3)- الوسائل 18/ 5، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.

(4)- الوسائل 18/ 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.

(5)- نهج البلاغة، فيض/ 802؛ عبده 2/ 177؛ لح/ 296، الخطبة 192.

(6)- نهج البلاغة، فيض/ 666؛ عبده 2/ 215، لح/ 326، الخطبة 210.

(7)- بحار الأنوار 1/ 183، كتاب العلم، الباب 1 من أبواب العلم و آدابه، الحديث 92.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 449

و التعليل كان بملاحظة أنّ القضاء لم يكن إلّا لنبيّ أو وصي نبيّ كما في خبر سليمان بن خالد و غيره، و لا يكون مشروعا إلّا باجازة الوصيّ و نصبه. و مورد السؤال

أيضا المنازعات. فالإمام الصادق «ع» أرجع المتنازعين من الشيعة إلى الفقيه و أمر بوجوب الرضا به حكما من جهة أنه- عليه السلام- بولايته المطلقة الثابتة عندنا جعله قاضيا، فصار قضاؤه بذلك مشروعا فلم يجز التخلّف عنه. و قد مرّ آنفا وجه الأمر بالرضا و التعبير بالحكم.

و ليس ذكر السلطان في المقبولة و خبر أبي خديجة دليلا على إرادة الأعمّ من القضاء بعد كون السؤال عن تكليف المتنازعين.

و إنّما ذكر السلطان من جهة أن الرجوع إلى القاضي المنصوب من قبل السلطان نحو رجوع إلى السلطان، و لأنّه ربّما كان السلطان بنفسه يتصدّى للقضاء في الأمور المهمّة.

و التنازع سواء كان لادعاء طرف و إنكار آخر أو كان لاستنكاف أحد عن أداء دينه بعد معلوميّته كان مرجعه القضاة، و كذلك جميع الأمور الحسبية كما هو المتعارف في أعصارنا أيضا. كما قد يشهد بذلك خبر إسماعيل بن سعد عن الرضا «ع»: «و عن الرجل يصحب الرجل في سفر فيحدث به حدث الموت و لا يدرك الوصية كيف يصنع بمتاعه و له أولاد صغار و كبار، أ يجوز أن يدفع متاعه و دوابّه إلى ولده الأكابر أو إلى القاضي، و إن كان في بلدة ليس فيها قاض كيف يصنع؟» «1»

إذ يظهر بذلك أنّ مرجع أمر الصغار كان هو القاضي. و قد مرّ الإشارة إلى كلام الماوردي و أبي يعلى و أنّهما جعلا تكليف القاضي أوسع من فصل الخصومات.

و على هذا فما ذكره الأستاذ الإمام- مدّ ظلّه- في بيان المقبولة من تقسيم التنازع الى قسمين و إرادة استفادة جعل الولاية الكبرى من هذا الطريق قابل للخدشة

______________________________

(1)- الوسائل 13/ 475، الباب 88 من أحكام الوصايا، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و

فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 450

جدّا، فتأمّل.

و قد تحصّل ممّا ذكرناه بطوله أنّ المقبولة، و كذا خبر أبي خديجة بنقليه كليهما في مقام نصب القاضي للشيعة الإمامية لرفع مشاكلهم في الأمور التي كانت ترتبط بالقضاة بعد ما حرّم عليهم الرجوع الى قضاة الجور. فلا يصحّ الاستدلال بهما لإثبات الولاية المطلقة بالنصب.

فإن قلت: التعبير بالطاغوت و الاستشهاد بالآية الشريفة لا يناسبان إرادة خصوص القضاء.

قلت: الرجوع إلى قضاة الجور و الاعتناء بهم و بحكمهم كان في الحقيقة رجوعا إلى السلاطين. فإنّ القضاة كانوا من أذنابهم و منصوبين من قبلهم، و قوّتهم كانت بقوّتهم. ألا ترى أنّ من رجع إلى أحد العمّال في دولة و اعتنى به بما أنّه عامل هذه الدولة يصدق عليه أنّه اعتنى بهذه الدولة و أمضى مشروعيتها. و مورد نزول الآية أيضا كان هو القضاء، كما مرّ.

فان قلت: استعمال حرف الاستعلاء في قوله: «عليكم» يناسب الولاية المطلقة، لما مرّ من أنّ المناسب للقضاء أن يقال: «بينكم».

قلت: ليس استعمال حرف الاستعلاء في القضاء غلطا، إذ في القضاء أيضا يوجد نحو استيلاء و استعلاء. فإنّ القاضي المنصوب من قبل السلطان له علوّ و قدرة بقدرة من نصبه. و القاضي المنصوب من قبل الإمام الصادق «ع» أيضا له نحو قدرة معنوية لوجوب العمل بحكمه و التسليم له، فيصحّ استعمال حرف الاستعلاء على أيّ تقدير.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 451

الخامس:

أنّ الظاهر كون المخاطب في «منكم» و «عليكم» خصوص الشيعة الإماميّة الاثنى عشرية، كما يشهد بذلك كلمة: «أصحابنا» في كلام السائل.

و الشيعة في عصر الإمام الصادق «ع» كانوا قليلين جدّا مستهلكين بين سائر المسلمين، فلم يمكن تحقّق دولة و حكومة لهم.

فيعلم بذلك أنّ الإمام «ع» لم يكن بصدد نصب الوالي، بل كان غرضه رفع مشكلة الشيعة في منازعاتهم فأرجعهم إلى تعيين قاضي التحكيم بأن يختاروا رجلا منهم و يرضوا به حكما. و لو كان بصدد نصب الوالي لكان المناسب نصبه على جميع الأمّة لا على الشيعة فقط.

اللّهم إلّا أن يقال، كما مرّ في كلام الأستاذ- مدّ ظلّه-: إنّ نظر الإمام الصادق «ع» لم يكن مقصورا على عصره فقط، بل كان بصدد طرح حكومة عادلة إلهية و بيان شرائطها و مواصفاتها حتّى لا يتحيّر المفكّرون لو وفّقهم اللّه- تعالى- لإقامة دولة حقّة و لو في الأعصار الآتية. و يكفي في صحة هذا الجعل بنحو يشمل عصره أيضا ترتّب بعض الآثار في عصره، أعني الأمور المرتبطة بالقضاة من القضاء و الأمور الحسبيّة و نحوها، فتدبّر.

السادس:

سلّمنا أنّ الحكم بمشتقّاته بحسب الوضع و المفهوم يعمّ القضاء و غيره مما يشتمل على البتّ و الفصل و لكن لمّا كانت المقبولة سؤالا و جوابا متعرضة لمسألة المنازعة في الأموال و القضاء فيها، فالقضاء هو القدر المتيقن من الكلام، و لا دليل على إرادة الأعمّ.

و التمسك بالإطلاق إنّما يجري في الموضوعات لا في المحمولات.

فلو قيل: «النار حارة» بلا ذكر قيد نحكم بكون الموضوع طبيعة النار بإطلاقها فتشمل جميع الأفراد، و لا نحكم بكون المحمول جميع مراتب الحرارة و أفرادها. و لو قال المولى: «أكرم عالما» نجري فيه مقدّمات الحكمة فنقول: كان المولى في مقام البيان و جعل الموضوع لحكمه طبيعة العالم فيثبت الإطلاق، و نتيجته كفاية أيّ عالم كان.

و أما إذا قال: «زيد عالم» فلا يجري الإطلاق في المحمول، و لا نحكم بكونه عالما بكل ما يحتمل كونه عالما به.

دراسات في

ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 452

فكذلك إذا قال: «الفقيه حاكم أو خليفتي أو حجتي أو وارثي أو أميني أو نحو ذلك» لا يثبت به إلّا الحاكمية أو الخلافة أو نحوهما بالإجمال بلا عموم و شمول.

نعم، لو لم يوجد في البين قدر متيقّن و كان المولى في مقام بيان الوظيفة و التكليف حكمنا بالإطلاق و إلّا صار الجعل لغوا. و أمّا مع وجود القدر المتيقّن فلا لغويّة و لا إطلاق. هذا.

و لكن يمكن أن يقال: إنّا لا نرى فرقا بين الموضوعات و بين المحمولات. إذ لو كان المولى في مقام الإهمال و الإجمال فلا إطلاق أصلا. و إن كان في مقام البيان فإن لم يوجد قدر متيقّن ثبت الإطلاق في كليهما. و إن وجد القدر المتيقّن في البين فإن قلنا بأنّ وجوده مضرّ بالإطلاق لم يثبت الإطلاق لا في الموضوع و لا في المحمول، و إن لم يكن مضرّا به ثبت الإطلاق في كليهما. فالفرق بينهما بلا وجه.

و الحقّ أنّه لو كانت هنا قرينة لفظية متّصلة أو لبّيّة بيّنة بحيث كانت كاللفظيّة المتّصلة منعت هذه من انعقاد الإطلاق قهرا.

و أمّا صرف وجود القدر المتيقّن بعد إعمال الدقّة فلا يصلح مانعا من انعقاد الإطلاق و لا حجّة لرفع اليد منه من غير فرق بين الموضوع و غيره.

فلو قال المولى: «جئني برجل راكبا» و كان في مقام البيان من كلّ جهة فكما تجري مقدّمات الحكمة في الرجل و يثبت فيه الإطلاق و نتيجته التخيير و العموم البدلي بالنسبة الى كلّ رجل فكذلك تجري في المجي ء به و في الركوب أيضا، فلا يتعيّن نحو خاصّ من المجي ء أو الركوب بل يتخيّر المكلف بين أنواع كلّ

منهما.

و لو قال: «أكرم عالما» فكما تجري مقدّمات الحكمة في الموضوع و نتيجته كفاية أيّ عالم كان فكذلك تجري في متعلّق الحكم أعني الإكرام و نتيجته كفاية أي نوع من الإكرام.

و في مقام الإنشاء قد يجعل المتعلق للحكم محمولا في القضية فيقال مثلا: «زيد مكرم» و يراد وجوب إكرامه فلو كان في مقام البيان يثبت الإطلاق في المحمول بلا إشكال.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 453

نعم، الإطلاق ربّما ينتج العموم الاستغراقي و ربّما ينتج العموم البدلي، و هذا بحسب اختلاف الموارد، كما لا يخفى.

هذا مضافا إلى أنّ قوله: «جعلته عليكم حاكما» يصير مفاده أنّ «حاكميّة الفقيه مجعولة» فتصير الحاكميّة موضوعا للجعل، اللّهم إلّا أن يقال هذا خلط بين الموضوع المصطلح في علم الأصول و الموضوع المصطلح في علم النحو، و الحاكميّة بحسب المفاد محمول على الفقيه و إن جعلت في القضية موضوعا.

و قد تلخّص ممّا ذكرناه هنا أنّ الحكم بالإطلاق مع تحقّق مقدّماته لا يفرق فيه بين الموضوع و بين غيره، و أنّ كون القضاء هو القدر المتيقّن من لفظ الحاكم في المقبولة لا يوجب حمله على خصوص القضاء، و كون المورد خصوص المنازعة أيضا لا يوجب الاختصاص فإنّ المورد لا يخصّص بعد كون الجواب عامّا. فالإشكال السادس مدفوع و باطل من أساسه.

السابع:

أنّ لفظ الحكم في المقبولة ظاهر في قاضي التحكيم، أي المحكّم من قبل المتخاصمين، فيكون المراد بالحاكم أيضا ذلك لتتلائم الجملتان.

و على هذا فليس في المقبولة نصب لا للوالي و لا للقاضي. و ليس لفظ: «الجعل» هنا بمعنى الإنشاء و الإيجاد، بل بمعنى القول و التعريف. فيصير محصّل كلام الإمام «ع» أنّي أقول لكم و أرشدكم أنّ

الرجل الكذائي صالح لأن تختاروه و ترضوا به حكما بينكم.

قال في لسان العرب في معاني الجعل:

«جعل الطين خزفا و القبيح حسنا: صيّره إيّاه. و جعل البصرة بغداد: ظنها إياه ...

و قوله: «و جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا»، قال الزجّاج: الجعل هاهنا بمعنى القول و الحكم على الشي ء. كما تقول: قد جعلت زيدا أعلم الناس، أي قد و صفته بذلك و حكمت به.» «1»

______________________________

(1)- لسان العرب 11/ 111.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 454

أقول: يظهر من الأخبار المستفيضة أنّ القضاء لا يجوز و لا ينفذ إلّا من النبيّ أو الوصيّ، ففي خبر إسحاق بن عمار، عن أبي عبد اللّه «ع» قال أمير المؤمنين «ع» لشريح: «يا شريح، قد جلست مجلسا لا يجلسه (ما جلسه خ. ل) إلّا نبيّ أو وصيّ نبيّ أو شقيّ.» «1»

و في خبر سليمان بن خالد عنه «ع»، قال: «اتقوا الحكومة، فإن الحكومة إنّما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين لنبيّ (كنبيّ خ. ل) أو وصيّ نبيّ.» «2»

و على هذا فلأحد أن يقول إنّ الإمام الصادق «ع» قد صار بصدد نصب الفقيه قاضيا ليصحّ و ينفذ قضاؤه، و في الحقيقة يصير وصيّا للوصيّ، و أوصى للمتخاصمين من الشيعة أن يختاروه و يرضوا به حكما في قبال قضاة الجور. و قد مرّ أن اعتبار الرضا لعلّه يكون من جهة أنّه ليس لقضاء هذا القاضي لعدم سلطته ضمانة إجرائية سوى رضا الطرفين و إيمانهما، و بهذه الملاحظة أيضا عبّر عنه بالحكم. فيصير مفاد كلام الإمام «ع» أنّه يحرم عليكم الرجوع إلى قضاة الجور، و يجب عليكم تحكيم رجل منكم وجد الصفات المذكورة، و يجب الرضا بقضائه لأنّي

جعلته قاضيا أو واليا فصار قضاؤه مشروعا نافذا بذلك.

و بالجملة، الظاهر من الجملة تحقّق النصب، كما هو الظاهر من مشهورة أبي خديجة أيضا. و جعل الجعل في الحديث بمعنى القول خلاف الظاهر جدّا. و ما ذكرناه في الفصل السابق من الخدشة ثبوتا في نصب الوالي بنحو العموم لا يجري في نصب القاضي، فإنّ عمل القاضي محدود فيمكن تعدد القضاة بتعدّد الفقهاء، و كلّ منهم يعمل بتكليفه في ظرف خاصّ و منطقة محدودة، و هذا بخلاف الولاية بالمفهوم الوسيع الشامل لجميع أعمال الولاة.

و الحاصل أنّه لا يترتب كثير إشكال على جعل الإمام الصادق «ع» جميع الفقهاء في عصره و الأعصار المتأخرة قضاة ينفذ قضاؤهم.

و أما جعل الجميع ولاة نافذي الكلمة في جميع ما يرجع إلى الولاة من الأمور فهو الذي يوجب الاختلاف و الهرج و المرج، كما مرّ.

______________________________

(1) الوسائل 18/ 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.

(2) الوسائل 18/ 7، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 455

و قد طال الكلام في البحث في المقبولة، و تحصّل لك إمكان الخدشة في الاستدلال بها لنصب الفقهاء ولاة بالفعل.

نعم، بعد ما أثبتنا ضرورة الحكومة في جميع الأعصار و عدم جواز تعطيلها و دلّت المقبولة على حرمة التسليم للطواغيت و الرجوع اليهم يظهر منها قهرا أنّ المتعيّن للولاية هو الواجد للصفات التي ذكرها الإمام «ع»، فيجب على الأمّة انتخابه و لا مجال لانتخاب غيره.

و بالجملة، دلالة المقبولة على أنّ الصالح للولاية و المتعيّن لها إجمالا هو الفقيه الجامع للشرائط ممّا لا إشكال فيه، و انّما الإشكال في أنّ فعليتها تتحقّق بالنصب من قبل الإمام «ع» أو

بالانتخاب من قبل الأمّة.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّه إذا فرض عدم صحة القضاء بدون النصب و عدم نفوذه فعدم نفوذ الولاية بدون النصب يثبت بطريق أولى، فإن القضاء شأن من شئون الوالي و فرع من فروع الولاية، فتدبّر.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 456

تتمة نقل كلام الأستاذ آية اللّه العظمى البروجردي و نقده
اشارة

اعلم أنّ السيد الأستاذ المرحوم آية اللّه العظمى البروجردي- طاب ثراه-،- على ما كتبنا عنه في سنة 1367 الهجرية القمرية في تقريرات لبحثه سميناه: البدر الزاهر في صلاة الجمعة و المسافر، المطبوع في تلك الأيّام- ذكر مقبولة عمر بن حنظلة دليلا على ولاية الفقيه، ثمّ ذكر كلاما في هذا الباب نرى هنا نقل ملخّصه تتميما للفائدة و أداء لبعض حقوقه- طاب ثراه- قال:

«إن اثبات ولاية الفقيه و بيان الضابطة لما يكون من شئون الفقيه و من حدود ولايته يتوقف على

تقديم أمور:
الأول: إنّ في المجتمع أمورا لا تكون من وظائف الأشخاص و لا ترتبط بهم،

بل تكون من الأمور العامّة الاجتماعية التي يتوقّف عليها حفظ نظام المجتمع، كالقضاء و الولاية على الغيّب و القصّر و نحوها و حفظ النظام الداخلي و سدّ الثغور و الأمر بالجهاد و الدفاع عند هجوم الأعداء و نحو ذلك، فليست هذه الأمور ممّا يتصدّى لها كل شخص بل تكون من وظائف قيّم المجتمع و من بيده أزمّة الأمور الاجتماعيّة.

الثاني: لا يبقى شك لمن تتبّع قوانين الإسلام و ضوابطه في أنّه دين سياسيّ اجتماعي،

و ليست أحكامه مقصورة على العباديات المحضة المشرّعة لتكميل الأفراد و تأمين سعادة الآخرة فقط، بل يكون أكثر أحكامه مرتبطة بسياسة المدن و تنظيم الاجتماع و تأمين سعادة هذه النشأة أو جامعة للحسنيين و مرتبطة بالنشأتين، و ذلك كأحكام المعاملات و السياسات و الجزائيات من الحدود و القصاص و الديات، و الأحكام القضائية، و الضرائب التي يتوقّف عليها حفظ دولة الإسلام كالأخماس

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 457

و الزكوات و نحوهما.

و لأجل ذلك اتّفق الخاصّة و العامّة على أنّه يلزم في محيط الإسلام وجود سائس و زعيم يدبّر أمور المسلمين. بل هو من ضروريات الإسلام و إن اختلفوا في شرائطه و خصوصيّاته و أن تعيينه من قبل رسول اللّه «ص» او بالانتخاب العموميّ.

الثالث: لا يخفى أن سياسة المدن و تأمين الجهات الاجتماعيّة

في دين الإسلام لم تكن منحازة عن الجهات الروحانية و الشؤون المربوطة بتبليغ الأحكام و إرشاد المسلمين، بل كانت السياسة فيه من الصدر الأوّل مختلطة بالدّيانة و من شئونها.

فكان رسول اللّه «ص» بشخصه يدبّر أمور المسلمين و يسوسهم و يرجع إليه لفصل الخصومات و كان ينصب الحكّام و العمّال للولايات و يطلب الأخماس و الزكوات و نحوهما من الماليات، و هكذا كانت سيرة الخلفاء من بعده الراشدين و غيرهم و كانوا في بادي الأمر يعملون بالوظائف السياسية في مراكز الإرشاد و الهداية كالمساجد، فكان امام المسجد بنفسه أميرا لهم، و بعد ذلك أيضا استمرت السيرة على بناء المسجد الجامع قرب دار الإمارة. و كان الخلفاء و الأمراء بأنفسهم يقيمون الجمعات و الأعياد، بل و يدبّرون أمر الحج و مواقفه، حيث إنّ العبادات الثلاث مع كونها عبادية قد احتوت على فوائد سياسيّة لا يوجد نظيرها في غيرها.

و هذا النّحو من الخلط بين الجهات الروحيّة و الجهات السياسية من خصائص الإسلام و ميزاته.

الرابع: قد تلخص ممّا ذكرناه:

1- أنّ لنا حاجات اجتماعية تكون من وظائف سائس الاجتماع و قائده. 2- و أنّ الديانة المقدسة الإسلامية لم تهمل هذه الأمور، بل اهتمت بها أشدّ الاهتمام و شرّعت بلحاظها أحكاما كثيرة و فوّضت إجراءها إلى سائس المسلمين. 3- و أنّ سائس المسلمين في بادي الأمر لم يكن إلّا شخص النبيّ الأكرم «ص» ثمّ الخلفاء بعده.

و حينئذ فنقول: إنّه لمّا كان من معتقداتنا معاشر الشيعة الإماميّة أنّ خلافة رسول اللّه «ص» و زعامة المسلمين من بعده كانت للأئمة الاثني عشر «ع» و أن رسول اللّه «ص» لم يهمل أمر الخلافة بل عين لها من بعده أمير المؤمنين «ع» ثمّ انتقلت منه إلى أولاده عترة الرسول فكانوا هم المراجع الأحقّاء للأمور السياسيّة

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 458

و الاجتماعيّة و كان على المسلمين الرجوع إليهم و تقويتهم في ذلك، فلا محالة كان هذا مركوزا في أذهان أصحاب الأئمة «ع» أيضا و كان أمثال زرارة و محمد بن مسلم من فقهاء أصحاب الأئمة و ملازميهم لا يرون المرجع لهذه الأمور إلّا الأئمة «ع» أو من نصبوه لذلك، فلذلك كانوا يراجعون إليهم فيما يتّفق لهم مهما أمكن كما يعلم ذلك بمراجعة أحوالهم.

إذا عرفت هذه المقدمات فنقول:

لمّا كان هذه الأمور و الحوائج الاجتماعيّة ممّا يبتلى بها الجميع مدّة عمرهم غالبا و لم يكن الشيعة في عصر الأئمة «ع» متمكنين من الرجوع إليهم «ع» في جميع الأحوال، كما يشهد بذلك مضافا إلى تفرقهم في البلدان عدم كون الأئمة «ع» مبسوطي اليد بحيث يرجع اليهم في كلّ وقت لأيّ حاجة اتّفقت، فلا محالة يحصل لنا القطع بأنّ أمثال زرارة و محمد بن مسلم و غيرهما من خواصّ الأئمة

«ع» سألوهم عمّن يرجع إليه في مثل تلك الأمور إذا لم يتمكّنوا منهم «ع»، و نقطع أيضا بأنّ الأئمة «ع» لم يهملوا هذه الأمور العامة البلوى التي لا يرضى الشارع بإهمالها بل نصبوا لها من يرجع إليه شيعتهم إذا لم يتمكّنوا منهم «ع» و لا سيّما مع علمهم «ع» بعدم تمكّن أغلب الشيعة من الرجوع إليهم بل عدم تمكّن الجميع في عصر الغيبة التي كانوا يخبرون عنها غالبا و يهيّئون شيعتهم لها.

و هل لأحد أن يحتمل انهم «ع» نهوا شيعتهم عن الرجوع إلى الطواغيت و قضاة الجور و مع ذلك أهملوا لهم هذه الأمور و لم يعيّنوا من يرجع إليه الشيعة في فصل الخصومات و التصرّف في أموال الغيّب و القصّر و الدفاع عن حوزة الإسلام و نحو ذلك من الأمور المهمّة التي لا يرضى الشارع بإهمالها؟

و كيف كان، فنحن نقطع بأن صحابة الأئمة «ع» سألوهم عمّن يرجع إليه الشيعة في تلك الأمور مع عدم التمكن منهم «ع» و أنّ الأئمة «ع» أيضا أجابوهم و نصبوا للشيعة مع عدم التمكّن منهم «ع» أشخاصا يتمكّنون منهم إذا احتاجوا.

غاية الأمر سقوط تلك الأسئلة و الأجوبة من الجوامع الحديثيّة التي بأيدينا، و لم يصل إلينا إلّا ما رواه عمر بن حنظلة و أبو خديجة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 459

و إذا ثبت بهذا البيان النصب من قبلهم «ع» و أنّهم لم يهملوا هذه الأمور المهمّة التي لا يرضى الشارع بإهمالها (و لا سيما مع إحاطتهم بحوائج شيعتهم في عصر الغيبة) فلا محالة يتعيّن الفقيه لذلك، إذ لم يقل أحد بنصب غيره. فالأمر يدور بين عدم النصب و بين نصب الفقيه العادل، و إذا

ثبت بطلان الأوّل بما ذكرناه صار نصب الفقيه مقطوعا به و تصير مقبولة ابن حنظلة أيضا من شواهد ذلك.

و إن شئت ترتيب ذلك على النظم القياسي فصورته هكذا: إمّا إنّه لم ينصب الأئمة «ع» أحدا لهذه الأمور العامّة البلوى و أهملوها، و إما إنّهم نصبوا الفقيه لها، لكنّ الأوّل باطل فثبت الثاني.

فهذا قياس استثنائي مؤلّف من قضيّة منفصلة حقيقيّة، و حمليّة دلّت على رفع المقدّم، فينتج وضع التالي و هو المطلوب.

و بما ذكرناه يظهر أن مراده «ع» بقوله في المقبولة: «حاكما» هو الذي يرجع إليه في جميع الأمور العامّة الاجتماعيّة التي لا تكون من وظائف الأفراد و لا يرضى الشارع أيضا بإهمالها (و لو في عصر الغيبة و عدم التمكن من الأئمة «ع») و منها القضاء و فصل الخصومات، و لم يرد به خصوص القاضي.

و لو سلّم فنقول: إنّ المترائى من بعض الأخبار أنّه كان شغل القضاء ملازما عرفا لتصدّي سائر الأمور العامّة البلوى، كما يظهر من خبر إسماعيل بن سعد عن الرضا «ع»: «و عن الرجل يصحب الرجل في سفر فيحدث به حدث الموت و لا يدرك الوصية كيف يصنع بمتاعه و له أولاد صغار و كبار، أ يجوز أن يدفع متاعه و دوابّه إلى ولده الأكابر أو إلى القاضي، و إن كان في بلدة ليس فيها قاض كيف يصنع؟ ...» «1»

و بالجملة، كون الفقيه العادل منصوبا من قبل الأئمة «ع» لمثل تلك الأمور العامّة المهمّة التي يبتلى بها العامّة ممّا لا إشكال فيه إجمالا بعد ما بيّناه، و لا نحتاج في إثباته إلى مقبولة ابن

______________________________

(1)- الوسائل 13/ 475، الباب 88 من أحكام الوصايا، الحديث 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية،

ج 1، ص: 460

حنظلة. غاية الأمر كونها أيضا من الشواهد، فتدبّر.» «1»

أقول: أمّا ما ذكره- طاب ثراه-

من كون الأئمة الاثني عشر ولاة في الأمور السياسيّة و الاجتماعيّة بالاستحقاق و النصب فحقّ عندنا، و محلّ بحثه الكتب الكلاميّة.

و أمّا أنّ أصحاب الأئمة «ع» كانوا يرجعون إليهم فيما يتّفق لهم من هذه الأمور السياسية فأمر يحتاج إلى تتبّع، و لا يتيسّر لي ذلك فعلا.

و أمّا ما ذكره أخيرا من أنّ الأئمة «ع» إمّا إنّهم لم ينصبوا لهذه الأمور أحدا و أهملوها، أو إنّهم نصبوا الفقيه لذلك و إذا ثبت بطلان الأوّل صار نصب الفقيه مقطوعا به.

ففيه أنّ طريق انعقاد الولاية إن كان منحصرا في النصب من العالي كما هو الظاهر منه- طاب ثراه- بل من سائر الأعاظم المتعرضين للمسألة كان ما ذكره صحيحا.

و أمّا إن نوقش في ذلك و قيل بما قوّيناه من أنّها تنعقد بانتخاب الأمّة أيضا غاية الأمر كونه في طول النصب و في صورة عدمه فنقول: لعلّ الأئمة- عليهم السلام- أحالوا الأمور الولائيّة في عصر الغيبة إلى انتخاب الأمّة، غاية الأمر لزوم كون المنتخب واجدا للشرائط و الصفات التي اعتبرها الشارع في الوالي.

فعلى الأمّة في عصر الغيبة أن يختاروا فقيها جامعا للشرائط و يولّوه على أنفسهم.

و باختيارهم و توليتهم يصير واليا بالفعل. و لا يبقى محذور في البين، فانتظر ما نحرّره في الفصل الرابع من هذا الباب دليلا على صحّة الانتخاب و اعتباره.

______________________________

(1)- البدر الزاهر/ 52.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 461

الأمر الثاني: حديث اللهم ارحم خلفائي

مما استدلّ به على نصب الفقهاء ولاة بالفعل ما رواه الصدوق في آخر الفقيه، قال: قال أمير المؤمنين «ع»: قال رسول اللّه «ص»: «اللّهم ارحم خلفائي.» قيل:

يا رسول اللّه، و من خلفاؤك؟ قال: «الذين يأتون من بعدي يروون حديثي و سنّتى.» «1»

و رواه

أيضا في أواخر المعاني عن أبيه، عن علي بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن الحسين بن يزيد النوفلي، عن علي بن داود اليعقوبي، عن عيسى بن عبد اللّه بن محمد بن عمر بن علي بن أبي طالب، عن أبيه، عن جدّه، عن علي بن أبي طالب «ع» قال: «قال رسول اللّه «ص»: «اللّهم ارحم خلفائي، اللّهم ارحم خلفائي، اللّهم ارحم خلفائي.» قيل له: يا رسول اللّه ...» «2»

و رواه في المجالس عن الحسين بن احمد بن إدريس، قال: حدثنا أبي، عن محمد بن أحمد بن يحيى بن عمران الأشعري، عن محمد بن حسان الرازي، عن محمد بن علي عن عيسى بن عبد اللّه العلوي العمري، عن أبيه، عن آبائه، عن علي «ع» قال: قال رسول اللّه «ص»: «اللّهم ارحم خلفائي»- ثلاثا- قيل: يا رسول اللّه، و من خلفاؤك؟ قال: «الذين يبلّغون حديثي و سنّتي ثمّ يعلمونها أمّتي.» «3»

______________________________

(1)- الفقيه 4/ 420، باب النوادر، الحديث 5919.

(2)- معاني الأخبار 2/ 374، الباب 423 (باب معنى قول النبي: «اللهم ارحم خلفائي»- ثلاثا).

(3)- الأمالي للصدوق/ 109، المجلس 34، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 462

و رواه أيضا في العيون عن أبي الحسن محمد بن علي بن الشاه الفقيه المرورودي، قال: حدثنا أبو بكر بن محمد بن عبد اللّه النيسابوري، قال: حدثنا أبو القاسم عبد اللّه بن أحمد بن عامر بن سليمان (سلمويه خ. ل) الطائي، قال: حدثنا أبي، قال: حدثني علي بن موسى الرضا «ع».

و حدثنا أبو منصور أحمد بن ابراهيم بن بكر الخوري، قال: حدثنا أبو إسحاق إبراهيم بن هارون (مروان خ. ل) بن محمد الخوري، قال: حدثنا جعفر بن محمد

بن زياد الفقيه الخوري، قال: حدثنا أحمد بن عبد اللّه الهروي الشيباني، عن الرضا «ع».

و حدثني أبو عبد اللّه الحسين محمد الأشناني الرازي، قال: حدثنا علي بن محمد بن مهرويه القزويني، عن داود بن سليمان الفراء، عن علي بن موسى الرضا «ع»، عن آبائه، عن علي بن أبي طالب، قال: «قال رسول اللّه «ص»: «اللّهم ارحم خلفائي.» قيل له: «و من خلفاؤك؟ قال: «الذين يأتون من بعدي و يروون أحاديثي و سنّتي فيعلّمونها الناس من بعدي.» «1»

و رواه في المستدرك عن صحيفة الرضا «ع» مثل ما في العيون، و عن عوالي اللئالي أيضا مثله. و زاد في آخره: «أولئك رفقائي في الجنة.» «2»

و في البحار عن منية المريد: قال رسول اللّه «ص»: «رحم اللّه خلفائي.» فقيل:

يا رسول اللّه، و من خلفاؤك؟ قال: «الذين يحيون سنّتي و يعلّمونها عباد اللّه.» «3»

و في كنز العمال: «رحمة اللّه على خلفائي. قيل: و من خلفاؤك يا رسول اللّه؟ قال: الذين يحيون سنّتي و يعلّمونها الناس.» (ابو نصر السجزى في الإبانة، و ابن عساكر، عن

______________________________

(1)- عيون أخبار الرضا 2/ 37، الباب 31، الحديث 94. و روى ما في الفقيه و المعاني و الأمالي و العيون في الوسائل 18/ 65 و 66 و 100 الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 50 و 53، و الباب 11 منها، الحديث 7. و جعل رواية المعاني مثل ما في العيون، و ليست كذلك على ما في العيون المطبوع، فراجع.

(2)- مستدرك الوسائل 3/ 182، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 10 و 11.

(3)- بحار الأنوار 2/ 25 الباب 8 من كتاب العلم، الحديث 83، عن منية المريد/ 12.

دراسات في ولاية الفقيه و

فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 463

الحسن بن علي) «1»

و بالجملة، كثرة أسناد الحديث لعلّها توجب الاطمينان بصدوره إجمالا.

مضافا إلى أن الصدوق في الفقيه إذا أسند الحديث بنحو الجزم إلى المعصوم- عليه السلام- كما في المقام ظهر منه أنّه كان قاطعا بصدوره عنه أو كان له حجة شرعيّة على ذلك.

نعم، لو عبّر بقوله: «روي عنه» مثلا أمكن كون الإرسال مضرّا.

و قال «قده» في أوّل الفقيه:

«و لم أقصد فيه قصد المصنّفين في إيراد جميع ما رووه، بل قصدت إلى إيراد ما أفتى به و أحكم بصحّته و أعتقد فيه أنّه حجة فيما بيني و بين ربّي. و جميع ما فيه مستخرج من كتب مشهورة عليها المعوّل و إليها المرجع.» «2»

هذا كله بالنسبة إلى سند الحديث.

و أما الدلالة فنقول: إنّ أمهات شئون النّبيّ الأكرم «ص» كانت ثلاثة:

الأوّل: تبليغ آيات اللّه و أحكامه و إرشاد الناس. الثّاني: فصل الخصومات و القضاء بينهم. الثالث: الولاية عليهم و تدبير أمورهم.

و إطلاق الخلافة عنه «ص» يقتضي العموم لجميع الشؤون الثلاثة لو لم نقل بكون الأخير هو القدر المتيقّن، إذ المعهود من لفظ الخلافة عنه في صدر الإسلام كان هو الخلافة عنه في الرئاسة العظمى على الأمّة و تدبير أمورهم. و الخلفاء جمع الخليفة.

و هل يحتمل أحد أنّ المفاد من لفظ الجمع كان يغاير المفاد من المفرد سنخا؟

و توهّم إرادة خصوص الأئمة الاثني عشر في غاية الوهن، إذ التعبير عنهم «ع»

______________________________

(1)- كنز العمال 10/ 229، الباب 3 من كتاب العلم من قسم الأقوال، الحديث 29209.

(2)- الفقيه 1/ 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 464

برواة الحديث غير معهود فإنّهم عترة النبي «ص» و آله و خزّان علمه.

و

ليس المراد من قوله «ع»: «يروون حديثي و سنّتي»: الحفّاظ لألفاظ الحديث نظير المسجّلات، بل المتفقّهون في أقواله و سنّته.

و يشهد لذلك قوله في بعض النقول: «فيعلمونها الناس من بعدي.» إذ التعليم شأن من درى الرواية و تفهّمها. بل ربّ راو لا يعلم بكون ما يرويه كلاما للنبيّ «ص» و سنّة له حقيقة، فإنّ تشخيص السنّة الصادقة عن الأخبار المختلقة أو المحرّفة، و معرفة ما هو الحقّ من الأخبار المتعارضة إنّما هو من شئون أهل الدراية و الفقه و أهل التحقيق و المعرفة، كما لا يخفى على علماء الرجال و الدراية.

هذا مضافا إلى أنّه بمناسبة الحكم و الموضوع يظهر لنا عدم إرادة الراوي المحض، إذ لا يناسب جعل منصب خلافة النّبيّ الأكرم «ص» لمن لا شأن له إلّا حفظ ألفاظ النبي «ص» بلا دراية و درك لمفاهيمها و تفقّه فيها، كما هو واضح.

فإن قلت: قوله: «يروون حديثي و سنّتي»، و كذلك قوله: «فيعلّمونها الناس من بعدي» قرينة على إرادة الخلافة في خصوص بيان الروايات و تعليم الأحكام.

قلت: أوّلا: لم يكن النّبيّ «ص» راويا حتّى يخلفه الرواة في الرواية.

و ثانيا: إنّ الظاهر أنّ الذيل ذكر معرّفا للخلفاء لا محدّدا للخلافة، فيكون المراد توصيف من له أهلية الخلافة عنه «ص» و إن كانت الخلافة مطلقة.

بل النّبيّ «ص» أيضا كان الملاك المهمّ لخلافته المطلقة عن اللّه معارفه و علومه و تعليماته، و كذلك أبونا آدم «ع».

أ لا ترى أنّ اللّه- تعالى- بعد ما قال للملائكة: «إنّي جاعل في الأرض خليفة»، و قال الملائكة: «نحن نسبّح بحمدك و نقدّس لك» قال- تعالى-: «وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمٰاءَ كُلَّهٰا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلٰائِكَةِ فَقٰالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمٰاءِ هٰؤُلٰاءِ إِنْ كُنْتُمْ صٰادِقِينَ ...»

«1»؟ إذ يظهر من الآيات

______________________________

(1)- سورة البقرة (2)، الآية 30 و 31.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 465

أنّ الحجر الأساسي للخلافة عن اللّه هو الإحاطة العلمية، فتدبّر.

فإن قلت: إنّما ينعقد الإطلاق في الموضوعات بإجراء مقدّمات الحكمة و لا يجري في المحمولات؛ فإذا قال المولى: «أكرم عالما» ينعقد الإطلاق إذا كان في مقام البيان، بخلاف ما إذا قال: «زيد عالم»، فإنّه لا يحمل على كونه عالما بكلّ شي ء.

و الخلفاء في الحديث الشريف بمنزلة المحمول، فلا يؤخذ فيه بالإطلاق. و القدر المتيقّن منه هو الخلافة في التعليم و الإرشاد، كما يدلّ عليه ذيل الحديث.

قلت: قد مرّ هذا الاعتراض في عداد الاعتراضات على المقبولة، و قلنا هناك:

إنّا لا نرى فرقا بين الموضوع و المحمول في ذلك، إذ المولى إن لم يكن في مقام البيان لم ينعقد إطلاق أصلا. و إن كان في مقام البيان فإن لم يكن في البين قدر متيقّن حكمنا بالإطلاق حذرا من حمل كلامه على الإجمال و اللغوية. و إن وجد قدر متيقّن فإن أضرّ وجوده بالإطلاق أضرّ في المقامين، و إن لم يضرّ به لم يضرّ مطلقا فالفرق بين الموضوع و المحمول بلا وجه. و قد مرّ أنّ الحقّ أنّه لو كان هنا قرينة لفظيّة متصلة أو لبّية بيّنة بحيث كانت كاللفظيّة المتّصلة أضرّت هذه بانعقاد الإطلاق، و أمّا صرف وجود المتيقّن واقعا بعد إعمال الدقة فلا يضرّ بانعقاده، فتدبّر.

فإن قلت: مقتضى إطلاق الخلافة في المقام أن يكون للفقيه مثل ما للنبيّ الأكرم «ص» من الولاية و الأولويّة بالنسبة الى الأموال و النفوس. و بعبارة أخرى:

يكون الفقيه في خلافته عن رسول اللّه «ص» نظير أمير المؤمنين «ع» في

خلافته عنه، و هل يمكن الالتزام بذلك؟

قلت: نبوّته «ص» و رسالته من خصائصه التي لا يشاركه فيهما أحد، كما أنّ الفضائل المعنويّة و الكرامة الذاتيّة له و كذلك للأئمة المعصومين «ع» من خصائصهم.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 466

و لكنّ البحث ليس في هذه الكمالات الذاتيّة، بل الكلام هنا في الولاية الاعتباريّة الجعليّة التي بها يتكفّل الشخص بتدبير الأمور و سياسة البلاد و العباد و تنفيذ مقرّرات الإسلام و حدوده و تعيين الأمراء و القضاة و جباية الضرائب و نحو ذلك من وظائف الولاة.

و ليست الولاية الاعتباريّة كما مرّ في الباب الثاني ميزة و أثرة، بل هي مجرّد وظيفة و مسئوليّة خطيرة، و لا يفرق في ذلك بين النّبيّ «ص» و الأئمة «ع» بل و الفقيه الجامع للشرائط الذي تحمّل هذه المسؤوليّة، فله و عليه مثل ما لهم و عليهم فيما يرجع إلى الوظائف السياسيّة.

فهل لأحد أن يحتمل مثلا أنّ النّبيّ «ص» يجلد الزاني مأئة جلدة و الفقيه يجلده أقلّ من ذلك؟ أو أنّ ما يطلب منه النّبيّ «ص» الزكاة غير ما يطلب منه الفقيه؟ أو أنّ النّبي «ص» له أن يعيّن الأمراء و القضاة للبلاد و الفقيه ليس له ذلك؟ إلى غير ذلك من وظائف الولاة.

هذه غاية تقريب الاستدلال بالحديث الشريف، و لكن مع ذلك كلّه في النفس منه شي ء: فإنّ قوله «ع»: «فيعلّمونها الناس من بعدي» له ظهور قويّ في تحديد الخلافة و أن الغرض منها هو الخلافة عنه «ص» في التعليم و التبليغ. و الاحتفاف بما يصلح للقرينيّة مانع من انعقاد الإطلاق. فإثبات الخلافة عنه «ص» في الولاية و القضاء يحتاج إلى دليل أقوى من ذلك.

و عدم

وجود الذيل في بعض النقول لا يوجب الحكم بالإطلاق فيه، إذ الظاهر كون الجميع رواية واحدة ربّما نقلت تامّة و ربّما نقلت مقطّعة، و التقطيع في نقل الأحاديث كان شائعا، فتدبّر.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 467

الأمر الثالث: حديث العلماء ورثة الأنبياء، و ما يقرب منه

1- ما رواه في الكافي عن محمد بن الحسن و علي بن محمد، عن سهل بن زياد.

و محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد جميعا عن جعفر بن محمد الأشعري، عن عبد اللّه بن ميمون القدّاح. و علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حماد بن عيسى عن القداح، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: قال رسول اللّه «ص»: «من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك اللّه به طريقا إلى الجنّة، و إنّ الملائكة لتضع أجنحتها لطالب العلم رضا به، و إنّه يستغفر لطالب العلم من في السماء و من في الأرض حتّى الحوت في البحر، و فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر النجوم ليلة البدر، و إنّ العلماء ورثة الأنبياء، إنّ الأنبياء لم يورّثوا دينارا و لا درهما و لكن ورّثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظّ وافر.» «1»

و الرواية ببعض طرقها صحيحة، كما لا يخفى على أهله.

و رواه في البحار عن أمالي الصدوق، عن المكتّب، عن عليّ، عن أبيه، عن القداح، عن الصادق، عن أبيه، عن آبائه «ع»، قال: قال رسول اللّه، و ذكر مثله.

و عن ثواب الأعمال، عن أبيه، عن عليّ، عن أبيه مثله. و عن بصائر الدرجات، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن حماد بن عيسى، عن القداح مثله «2».

و الظاهر سقوط حماد من سند الصدوق، كما يظهر من ملاحظة سند الكافي.

2- و في الكافي

عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن محمد بن

______________________________

(1)- الكافي 1/ 34، كتاب فضل العلم، باب ثواب العالم و المتعلم، الحديث 1.

(2)- بحار الأنوار 1/ 164، الباب 1 من كتاب العلم، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 468

خالد، عن أبي البختري، عن أبي عبد اللّه، قال: «إن العلماء ورثة الأنبياء. و ذاك أن الأنبياء لم يورّثوا درهما و لا دينارا و إنّما أورثوا أحاديث من أحاديثهم، فمن أخذ بشي ء منها فقد أخذ حظّا وافرا. فانظروا علمكم هذا عمّن تأخذونه، فإنّ فينا أهل البيت في كلّ خلف عدولا ينفون عنه تحريف الغالين، و انتحال المبطلين، و تأويل الجاهلين.» «1»

و السند لا بأس به إلّا أبو البختري، فإنّه ضعيف اللّهم إلّا أن يكون نقل أحمد بن محمد بن عيسى و الكليني موجبا للوثوق بالصدور. و في العوائد عبّر عنه بالصحيحة و هو سهو.

3- و في نهج البلاغة: «و قال «ع»: إنّ أولى الناس بالأنبياء أعلمهم بما جاؤوا به.» «2»

4- و في البحار عن العوالي، قال النبي «ص»: «علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل.» «3»

5- و في فقه الرضا: «و روي أنّه (العالم) قال: منزلة الفقيه في هذا الوقت كمنزلة الأنبياء في بني إسرائيل.» «4»

6- و في العوائد عن جامع الأخبار عن النبي «ص» أنّه قال: «أفتخر يوم القيامة بعلماء أمتي فأقول: علماء أمتي كسائر أنبياء قبلي.» «5»

و تقريب الاستدلال بهذه الروايات أنّ كون العلماء ورثة للأنبياء أو أولى الناس بهم أو كالأنبياء يقتضي أن ينتقل إليهم و يكون لهم كلّ ما كان للأنبياء من الشؤون إلّا ما ثبت عدم صحّة انتقاله أو عدم انتقاله. و إن شئت

قلت: المراد انتقال الشؤون العامّة إلى العلماء لا الشؤون الفرديّة.

______________________________

(1)- الكافي 1/ 32. نقله الوسائل 18/ 53، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2، و رواه عن البصائر أيضا.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1129؛ عبده 3/ 171؛ لح/ 484، الحكمة 96. و رواه الآمدي أيضا في الغرر و الدرر 2/ 409، الحديث 3056، و ج 2/ 505، الحديث 3453.

(3)- بحار الأنوار 2/ 22، الباب 8 من كتاب العلم، الحديث 67.

(4)- فقه الرضا/ 338، في ذيل الديات، باب حق النفوس.

(5)- العوائد/ 186.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 469

و من الأنبياء نبيّنا «ص» و إبراهيم، و موسى و غيرهم ممّن كان لهم الولاية العامّة، و قد قال اللّه- تعالى- في حقّ نبيّنا «ص»: «النبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم.»

و لا نريد بالولاية في المقام الولاية التكوينيّة أو الفضائل المعنويّة و الكمالات الذاتيّة غير القابلة للانتقال، بل الولاية الاعتباريّة القابلة للانتقال و التوارث عند العقلاء، كما يشهد له ما في نهج البلاغة: «أرى ترائي نهبا.» «1»

فإطلاق الروايات يقتضي انتقال الولاية التي كانت للنبيّ «ص» إلى علماء أمّته.

و الاعتراض بعدم جريان الإطلاق في المحمولات قد مرّ و مرّ الجواب عنه بعدم الفرق بينها و بين الموضوعات، فراجع ما ذكرناه في جواب المناقشة السادسة على المقبولة.

و دعوى كون المراد بالعلماء خصوص الأئمة الاثني عشر، كما ربّما يشهد بذلك ما في خبر جميل عن أبي عبد اللّه «ع»: «نحن العلماء و شيعتنا المتعلّمون و سائر الناس غثاء.» «2»

مدفوعة أوّلا: بعدم الدليل على الاختصاص. و خبر جميل لعلّه يراد به العلماء الكاملون في العلم و إلّا فيكثر ذكر العلماء و الفقهاء في الأخبار مع وجود القرائن على

عدم إمكان الانطباق على الأئمة الاثني عشر.

و ثانيا: بأن قوله «ع» في صحيحة القدّاح: «من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك اللّه به طريقا إلى الجنّة» «3»، و قوله «ع» في خبر أبي البختري: «فمن أخذ بشي ء منها فقد أخذ حظّا وافرا ...» «4» ظاهران في عدم إرادة الأئمة «ع»، كما لا يخفى.

فإن قلت: المتبادر من قوله «ع»: «ورثة الأنبياء»، وراثتهم لهم بما هم أنبياء، أعني دخالة الوصف العنواني في الموضوع، و شأن الأنبياء بما هم أنبياء ليس إلّا الإنباء و التبليغ.

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 46؛ عبده 1/ 26؛ لح/ 48، الخطبة 3.

(2)- الكافي 1/ 34، كتاب فضل العلم، باب أصناف الناس، الحديث 4.

(3)- الكافي 1/ 34. كتاب فضل العلم، باب ثواب العالم و المتعلم، الحديث 1.

(4)- الوسائل 18/ 53، الباب 8 من أبواب صفات القاضي، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 470

قلت: بل المتبادر من لفظ الأنبياء في المقام كونه عنوانا مشيرا إلى الذوات الخارجيّة، فكأنّه قال: العلماء ورثة إبراهيم و موسى و عيسى و محمد «ص» مثلا.

و لو قيل كذلك كان الظاهر منه الوراثة في جميع شئونهم إلّا ما ثبت خلافه.

هذا مضافا إلى أنّ الموضوع لأولوية نبيّنا «ص» في الآية الشريفة هو عنوان نبوّته، فمقتضى وراثة العلماء منه انتقال الأولويّة إليهم.

هذه غاية تقريب الاستدلال بالروايات المذكورة.

و لكن لا يخفى أنّ الظاهر عدم كون الجملة إنشائية متضمّنة للجعل و التشريع، بل خبريّة حاكية عن أمر تكويني و هو انتقال العلم إلى العلماء. و لسان الروايات لسان بيان الفضيلة للعلم و التعلّم و الطالبين للعلم، كما يشهد بذلك قوله: «إنّ الأنبياء لم يورّثوا دينارا و لا درهما و لكن

ورثوا العلم، فمن أخذ منه أخذ بحظّ وافر.» فالمراد بالوراثة هي الوراثة في العلوم و المعارف. و مع وجود هذه القرينة المتصلة يشكل الحمل على الإنشاء و إثبات جميع شئون الأنبياء لهم بالجعل و التشريع.

هذا مضافا إلى أنّ ما يشترك فيه جميع الأنبياء هو العلم بالمعارف و الأحكام.

و أمّا الولاية فلا دليل على ثبوتها للجميع و لا سيّما في الأنبياء الموجودين في عصر و صقع واحد، ككثير من أنبياء بني إسرائيل. و عدم دخالة الوصف العنواني في الموضوع و كونه عنوانا مشيرا خلاف الظاهر جدّا.

و كيف كان فالاستدلال بالروايات المذكورة لإثبات نصب الفقيه واليا بالفعل في غاية الإشكال، فتدبّر.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 471

الأمر الرابع: حديث الفقهاء حصون الإسلام

روى في الكافي، عن محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن ابن محبوب، عن علي بن أبي حمزة، قال: سمعت أبا الحسن موسى بن جعفر «ع» يقول: «إذا مات المؤمن بكت عليه الملائكة و بقاع الأرض التي كان يعبد اللّه عليها و أبواب السماء الّتي كان يصعد فيها بأعماله و ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدها شي ء، لأنّ المؤمنين الفقهاء حصون الإسلام كحصن سور المدينة لها.» «1»

و ليس في السند من يناقش فيه إلّا علي بن أبي حمزة، و هو من عمد الواقفة.

و المشهور بين الفقهاء و علماء الرجال ضعفه، و لكن الراوي عنه هنا هو ابن محبوب و قد عدّوه ممّن أجمعت العصابة على تصحيح ما يصحّ عنه، مضافا إلى ما عن الشيخ في العدّة من أنّ الطائفة عملت بأخبار علي بن أبي حمزة، و عن ابن الغضائري في ابنه الحسن:

«أبوه أوثق منه.»

و روى عنه كثيرا الأعاظم من أصحابنا، كصفوان و ابن

أبي عمير و البزنطي و ابن محبوب و غيرهم من الأجلّاء «2»، فلعلّ ذلك كلّه يوجب الوثوق بخبره و إن كان فاسد المذهب، و لعلّ النقل كان في حال استقامته، فإنّ الوقف حدث بعد وفات الإمام الكاظم «ع». هذا.

______________________________

(1)- الكافي 1/ 38، كتاب فضل العلم، باب فقد العلماء، الحديث 3.

(2)- راجع تنقيح المقال 2/ 262.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 472

و من المحتمل سقوط لفظ الفقيه من صدر الرواية، فإنّ الجهات المذكورة في الرواية تناسب موت الفقيه، و الذيل أيضا قرينة على ذلك، و كذلك قوله في مرسلة ابن أبي عمير، عن الصادق «ع»: «إذا مات المؤمن الفقيه ثلم في الإسلام ثلمة لا يسدّها شي ء.» «1» هذا.

و قد روى الرواية بعينها في فروع الكافي عن عدة من أصحابنا، عن سهل بن زياد. و علي بن إبراهيم، عن أبيه جميعا عن ابن محبوب، عن علي بن رئاب، قال:

سمعت أبا الحسن الأول «ع» يقول، و ذكر الحديث و أسقط لفظ الفقهاء. «2» و السند صحيح. و لكن إذا دار الأمر بين الزيادة و النقيصة فأصالة عدم الزيادة مقدمة عند العقلاء، لأنّ الخطأ بالسقط كثير بخلاف الزيادة فإنّها بلا وجه. و عرفت أنّ الأمور و الجهات المذكورة في الرواية و لا سيّما قوله: «ثلم في الإسلام ثلمة»، و قوله: «حصون الإسلام» إنّما تناسب موت الفقيه لا موت كلّ مؤمن. و مرسلة ابن أبي عمير أيضا شاهدة على ذلك، فتدبّر.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 1، ص: 472

و أما

بيان الدلالة، فنقول: إنّ الإسلام كما مرّ بالتفصيل في الباب الثالث ليس مقصورا على أحكام عباديّة و مراسيم شخصيّة فقط، بل له أحكام كثيرة- غاية الكثرة- في المعاملات، و الضرائب الإسلاميّة، و كيفية تنظيم العائلة، و سياسة المدن، و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و الجهاد و الدفاع، و فصل الخصومات، و الحدود و القصاص و الديات و نحو ذلك.

و ليس حفظ الإسلام بالاعتزال في زاوية و التلاعب بالكتب فحسب. و إنّما يحفظ باستنباط الأحكام، و نشرها، و تعليمها، و تطبيقها على الحوادث الواقعة و الموضوعات المستحدثة، و إجرائها و تنفيذها، و بسط العدالة، و إجراء الحدود الشرعيّة، و سدّ الثغور، و دفع هجمات الأعداء و رفعها، و جمع الضرائب و صرفها في

______________________________

(1)- الكافي 1/ 38، كتاب فضل العلم، باب فقد العلماء، الحديث 2.

(2)- الكافي 3/ 254، باب النوادر من كتاب الجنائز، الحديث 13.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 473

مصالح المسلمين. و لا يحصل جميع ذلك إلّا بإقامة الدولة و تحصيل القدرة و نصب العمّال و القضاة و نحو ذلك. و هكذا صنع رسول اللّه «ص» و «لَكُمْ فِي رَسُولِ اللّٰهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ.» «1»

و هل يصدق على فقيه اعتزل الناس و قبع في زاوية من زوايا داره و لم يهتمّ بأمور المسلمين و لم يسع في إصلاح شئونهم بل أطلق المجال و العرصات لأعداء الإسلام و المسلمين فأغاروا عليهم و أراقوا دماءهم و أهلكوا الحرث و النسل و منعوا من بثّ الإسلام و إعلاء كلمته و نشر كتبه كما صنعت الصهاينة في فلسطين و لبنان، و الروس في أفغانستان مثلا- فهل يصدق على مثل هذا الفقيه أنّه حصن

الإسلام كحصن سور المدينة لها؟!

فالسعي في إقامة الدولة الحقّة واجب بلا إشكال و المكلف به جميع المسلمين، و القائد لهم في ذلك و المتصدّي لإقامتها هو الفقيه الجامع للشرائط.

و كما أنّ «الجنود بإذن اللّه حصون الرعيّة ... و ليس تقوم الرعيّة إلّا بهم» كما في نهج البلاغة «2» فكذلك الفقهاء يكون وزانهم وزان الجنود في حفظ الإسلام و المسلمين.

و قد قال أمير المؤمنين «ع»- على ما في نهج البلاغة-: «لو لا حضور الحاضر و قيام الحجة بوجود الناصر و ما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم و لا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها.» «3»

فيظهر بذلك أنّ وظيفة العلماء في قبال تعدّي الظالمين و حرمان المظلومين خطيرة جدّا و لا يجوز لهم إهمال هذا السنخ من المسائل الاجتماعيّة.

هذه غاية تقريب الاستدلال بالحديث الشريف لنصب الفقهاء ولاة.

______________________________

(1)- سورة الأحزاب (33)، الآية 21.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1003؛ عبده 3/ 100؛ لح/ 432، الكتاب 53.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 52؛ عبده 1/ 31؛ لح/ 50، الخطبة 3.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 474

و لكن لأحد أن يقول: نعم، الولاية على المسلمين حقّ للفقهاء، و هم المتعيّنون لإقامة الدولة و حفظ الإسلام و لكن لا يتعيّن كون ذلك بالنصب من قبل الأئمة «ع» قهرا، بل لعلّ المراد بذلك أنّه يجب عليهم ترشيح انفسهم و إعداد القوى، و يجب على المسلمين القيام و التعاون و انتخابهم لذلك. كما يجب على أهل المدينة و قيّمها بناء السور للمدينة حفظا لها من الهجمات. فيصير المنتخب بانتخاب الأمّة واليا. و كما أنّه ليس للمدينة إلا سور واحد فكذلك ليس لمجتمع المسلمين إلّا وال واحد بالفعل،

و هو الذي انتخبه المسلمون من بين الفقهاء، و الباقون لهم الصلاحيّة فقط. و قد مرّ في الفصل السابق الإشكال ثبوتا في النصب العامّ، فراجع.

نعم، لو تقاعس المسلمون عن العمل بهذه الوظيفة المهمّة وجب على الفقهاء التصدّي لشئونها حسبة، كما يأتي تفصيله.

و يمكن أن يقال أيضا إنّ المتبادر من حفظ الإسلام و القدر المتيقّن منه إنّما هو النشاط العلمى بالنسبة إلى أحكامه من الاستنباط و التفسير و التبليغ و دفع الشبهات عنها و نشر الكتب و نحو ذلك. و أمّا الإجراء و التنفيذ في المجتمع فهو أمر آخر لا يعلم كونه مشمولا للحديث.

و هل الإمام الصادق «ع» مثلا الذي بيّن معارف الإسلام و أحكامه و ربّى فقهاء كثيرين لم يكن حصنا للإسلام؟ اللّهم إلّا أن يقال: إنّ «الحصون» مطلق، فيشمل بإطلاقه حفظ الإسلام علما و سياسة و تنفيذا، فلا وجه للأخذ بالقدر المتيقّن منه، و الإمام الصادق «ع» قال: «لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود.» «1» كما مرّ في محلّه.

______________________________

(1)- الكافي 2/ 243، باب في قلة عدد المؤمنين، من كتاب الإيمان و الكفر، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 475

الأمر الخامس: حديث الفقهاء أمناء الرسل

روى في الكافي عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي، عن السكوني، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»: «الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا.

قيل: يا رسول اللّه، و ما دخولهم في الدنيا؟ قال: اتباع السلطان، فإذا فعلوا ذلك فاحذروهم على دينكم.» «1»

و رواه في المستدرك أيضا، عن دعائم الإسلام، عن جعفر بن محمد، عن آبائه، عن رسول اللّه «ص». «2»

و رواه أيضا عن نوادر الراوندي بإسناده الصحيح، عن

موسى بن جعفر، عن آبائه، عن رسول اللّه «ص» «3». و رواه في البحار عن نوادر الراوندي أيضا. «4» الّا انّ في الدعائم و النوادر: «فاحذروهم على أديانكم».

و في كنز العمال عن علي «ع»: «الفقهاء أمناء الرسل ما لم يدخلوا في الدنيا و يتّبعوا السلطان، فاذا فعلوا ذلك فاحذروهم» «5». هذا.

و سند الكلينيّ موثوق به قد اعتمد فقهاؤنا على هذا السند في الابواب المختلفة من الفقه.

______________________________

(1)- الكافي 1/ 46، كتاب فضل العلم، باب المستاكل بعلمه ...، الحديث 5.

(2)- مستدرك الوسائل 3/ 187، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 5.

(3)- مستدرك الوسائل 2/ 437، الباب 35 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 8.

(4)- بحار الأنوار 2/ 36، الباب 9 من كتاب العلم، الحديث 38.

(5)- كنز العمال 10/ 183، الباب 2 من كتاب العلم من قسم الأقوال، الحديث 28953.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 476

بيان الاستدلال بالرواية هو أنّ أهمّ شئون الرسل و منهم رسولنا الأكرم «ص» على ما مرّ منّا ثلاثة: بيان أحكام اللّه- تعالى-، و فصل الخصومات، و إجراء العدالة الاجتماعية بإقامة دولة حقّة على أساس أحكام اللّه- تعالى- و قوانينه العادلة كما صنع رسول اللّه «ص». و ليس شأن الرسل مجرد بيان أحكام اللّه فقط.

و على هذا فالفقيه إذا جعل أمينا للرسل صار أمينا لهم في جميع شئونهم العامّة على ما يقتضيه إطلاق اللفظ. و الاعتراض بعدم جريان الإطلاق في المحمولات قد مرّ الجواب عنه بالتفصيل، و أنّه لا فرق بينها و بين الموضوعات.

و قد مرّ في تفسير قوله- تعالى-: «إِنَّ اللّٰهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمٰانٰاتِ إِلىٰ أَهْلِهٰا» أخبار يظهر منها كون الولاية من أوضح مصاديق الأمانة.

و مرّ

في رواية العلل في بيان علل جعل أولي الأمر قوله «ع»: «منها: أن الخلق لمّا وقفوا على حدّ محدود و أمروا أن لا يتعدّوا ذلك الحدّ لما فيه من فسادهم لم يكن يثبت ذلك و لا يقوم إلّا بأن يجعل عليهم فيه أمينا يمنعهم من التعدّي و الدخول فيما حظر عليهم.» فعبّر عن الوالي بالأمين.

و يمكن أن يقال: إنّ همّ كلّ رسول صلاح أمّته، و لا تصلح الأمّة و لا تبقى إلّا بدولة عادلة تدبّر أمورها و تضمّن بقاءها، فمعنى كون الفقهاء أمناء الرسل كونهم أمناء في حفظ الأمّة، و الأمانة المفوضة إلى الفقيه هي أمّة الرسول، فيجب تأمين صلاحها و بقائها بإقامة الدولة العادلة. هذا.

و لكن بعد اللتيا و التي، يمكن الخدشة في الاستدلال بالرواية على مسألة الولاية أوّلا بما مرّ من الإشكال ثبوتا. و ثانيا بأنّه بالتعمّق في ذيلها يظهر أنّ المراد بيان الفقيه الذي يعتمد عليه في بيان أحكام اللّه- تعالى-.

فالفقيه الملتزم بالدين المستقل بالرأي يكون أمينا يعتمد عليه في بيان الأحكام، و الفقيه الداخل في الدنيا المتبع للسلطان تجب الحذر منه في الدين فإنّ علماء السوء المرتزقة من السلاطين يحرّفون كلام اللّه و يأوّلونه على وفق أهواء

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 477

السلاطين فلا اعتبار لآرائهم و فتاواهم.

و الحاصل أنّ لفظ الأمناء و إن كان مطلقا و لكنّ احتفافه بما يصلح للقرينيّة، أعني قوله: «فاحذروهم على دينكم» يمنع من انعقاد الإطلاق. هذا مضافا إلى أنه «ص» لو قال: «أمنائي» أمكن ادعاء كونه إنشاء لنصب الفقهاء من أمّته، و أمّا قوله: «أمناء الرسل» فظهوره في الإنشاء ضعيف كما لا يخفى، فتدبّر.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه

الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 478

الأمر السادس: حديث و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا

روى الصدوق في كتاب كمال الدين، قال: حدثنا محمد بن محمد بن عصام الكليني، قال: حدثنا محمد بن يعقوب الكليني، عن إسحاق بن يعقوب، قال:

سألت محمد بن عثمان العمري أن يوصل لي كتابا قد سألت فيه عن مسائل أشكلت عليّ، فورد التوقيع بخط مولانا صاحب الزمان «ع»: «أمّا ما سألت عنه- أرشدك اللّه و ثبّتك- من أمر المنكرين لي من أهل بيتنا و بني عمّنا ... و أمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنّهم حجّتي عليكم و أنا حجة اللّه عليهم.» «1»

و في غيبة الشيخ الطوسي «قده»:

«أخبرني جماعة عن جعفر بن محمد بن قولويه و أبي غالب الزراري و غيرهما، عن محمد بن يعقوب الكليني، عن إسحاق بن يعقوب، و في آخره: «و أنا حجة اللّه عليكم.» «2»

و رواه في آخر الاحتجاج أيضا عن محمد بن يعقوب الكليني و قال: «و أنا حجة اللّه.» «3»

و سند الشيخ لا بأس به. و ابن عصام و إن لم يذكر في كتب الرجال بمدح و لكنّ كونه من مشايخ الصدوق و نقله عنه مترضيا عليه لعلّه يكفي في الاعتماد عليه.

و إنّما الاشكال في إسحاق بن يعقوب، فإنّه مجهول. و الرواية بمضمونها و إن

______________________________

(1)- كمال الدين 2/ 483، الباب 45، الحديث 4.

(2)- الغيبة للشيخ الطوسي/ 176.

(3)- الوسائل 18/ 101، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 9.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 479

كانت تدلّ على جلالته، و لكن الراوي لها نفسه.

اللّهم إلّا أن يقال إن نقل الكليني عنه يدلّ على اعتماده عليه. و لكن في النفس منه شي ء و هو أنّ الكليني لم يذكر الرواية

في الكافي، فما هو الوجه في ذلك؟

و المراد برواة حديثنا في الحديث ليس الرواة لألفاظ حديثهم بلا تفهّم و تفقّه لمفاده نظير ضبط المسجلات، بداهة أن الإمام «ع» لم يرجع أصحابه إلى الروايات بل إلى الرواة، و قال: «إنهم حجتي» و لم يقل: «رواياتهم حجتي». و لا معنى لإرجاع الأصحاب إلى حفّاظ الألفاظ بلا درك لمفاهيمها، فلا محالة يراد بذلك الفقهاء المستند فقههم إلى روايات العترة، الحاكية لسنّة رسول اللّه «ص»، في قبال الفتاوى الصادرة عن الأقيسة و الاستحسانات الظنيّة غير المعتبرة.

قال الشيخ المحقّق الأنصاري «قده» في المكاسب في تقريب الاستدلال بالرواية على ولاية الفقيه:

«فإنّ المراد بالحوادث ظاهرا مطلق الأمور التي لا بدّ من الرجوع فيها عرفا أو عقلا أو شرعا إلى الرئيس، مثل النظر في أموال القاصرين لغيبة أو موت أو صغر أو سفه.

و أمّا تخصيصها بخصوص المسائل الشرعية فبعيد من وجوه:

منها: أن الظاهر وكول نفس الحادثة إليه ليباشر أمرها مباشرة أو استنابة، لا الرجوع في حكمها إليه.

و منها: التعليل بكونهم حجّتي عليكم و أنا حجّة اللّه، فإنّه إنّما يناسب الأمور التي يكون المرجع فيها هو الرأي و النظر. فكان هذا منصب ولّاه الإمام من قبل نفسه لا أنّه واجب من قبل اللّه- سبحانه- على الفقيه بعد غيبة الإمام و إلّا كان المناسب أن يقول: إنهم حجج اللّه عليكم. كما وصفهم في مقام آخر بأنّهم أمناء اللّه على الحلال و الحرام.

و منها: أنّ وجوب الرجوع في المسائل الشرعيّة إلى العلماء الذي هو من بديهيات الإسلام من السلف إلى الخلف ممّا لم يكن يخفى على مثل إسحاق بن يعقوب حتّى يكتبه في عداد مسائل أشكلت عليه، بخلاف وجوب الرجوع في المصالح العامّة

دراسات في ولاية

الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 480

إلى رأي أحد و نظره فإنّه يحتمل أن يكون الإمام «ع» قد و كله في غيبته إلى شخص أو أشخاص من ثقاته في ذلك الزمان.

و الحاصل أنّ الظاهر أنّ لفظ الحوادث ليس مختصا بما اشتبه حكمه و لا بالمنازعات.» «1» انتهى بيانه «قده».

أقول: و إن شئت قلت: إطلاق الرجوع إلى رواة حديثهم يقتضي الرجوع إليهم في أخذ الروايات و في أخذ الفتاوى، و في فصل الخصومات و رفع المنازعات، و في تنفيذ الأحكام الشرعيّة و إجرائها و إعمال الولاية حسب اختلاف الحاجات و الموارد.

و ظاهر المقابلة بين حجيّة نفسه و حجّيتهم أيضا تساوي اللفظين بحسب المفهوم و الانطباق. و الإمام المعصوم حجة عندنا في الإفتاء و في القضاء و في إعمال الولاية، و لا يجوز التخلّف عنه في المراحل الثلاث بلا إشكال. فكلّ ما ثبت له من قبل اللّه- تعالى- من الشؤون الثلاثة يثبت للفقهاء أيضا من قبل الإمام «ع».

و الاعتراض بعدم جريان الإطلاق في المحمولات قد مرّ الجواب عنه بالتفصيل، و أنّه لا نرى فرقا بينها و بين الموضوعات. و على هذا فيجوز التّمسك بكل من إطلاق الحكم و إطلاق العلّة، أعني قوله: «فإنّهم حجّتي عليكم».

هذه غاية تقريب الاستدلال بالتوقيع الشريف.

أقول: يمكن أن يناقش في الاستدلال أوّلا: بما مرّ في الفصل السابق من الإشكال في مقام الثبوت، و أن جعل الولاية الفعليّة لجميع الفقهاء في عصر واحد بمحتملاته الخمسة قابل للخدشة، فراجع.

______________________________

(1)- المكاسب للشيخ الأنصاري/ 154.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 481

و ثانيا: أنّه بالرجوع الى التوقيع يظهر أنّ كتاب إسحاق بن يعقوب إلى الناحية المقدّسة كان مشتملا على أسئلة كثيرة

معهودة للسائل، و في كلّ جواب منه «ع» أشير الى سؤال منها. فاللام في قوله: «و أمّا الحوادث الواقعة» لعلّها إشارة إلى حوادث وقعت في السؤال و لا يعلم ما هي، فلعلّها كانت حوادث خاصّة فيشكل الحمل على الاستغراق. اللّهم إلّا أن يقال إنّ عموم التعليل يقتضي كونهم حجّة في جميع الحوادث، فتأمّل.

و ثالثا: أنّ القدر المتيقّن من الجواب بمناسبة الحكم و الموضوع هو الأحكام الشرعيّة للحوادث، فإن رواياتهم «ع» مناشئ و مدارك لاستنباط الأحكام الشرعيّة الكليّة. فالأخذ بالإطلاق مع وجود القدر المتيقّن و ما يصلح للقرينيّة مشكل، فتأمّل.

و رابعا: أنّ الظاهر من الحجيّة أيضا هو الاحتجاج بالنسبة إلى كشف الأحكام الكليّة الواقعيّة. و تعليل الإمام «ع» بكونهم حجّتي عليكم لعلّه من جهة أنّه «ع» هو المأمور أوّلا ببيان أحكام اللّه- تعالى- و الفقهاء نوّاب عنه في ذلك.

و خامسا: أنّ المراد بالحوادث التي أرجعها «ع» إلى الفقهاء لا يخلو إمّا أن يراد بها بيان الأحكام الكليّة للحوادث الواقعة، أو فصل الخصومات الجزئية و الأمور الحسبيّة الجزئية التي كان يرجع فيها أيضا إلى القضاة كتعيين الولي للقاصر و الممتنع، أو الحوادث الأساسيّة المرتبطة بالدول كالجهاد و علاقات الأمم و تدبير أمور البلاد و العباد و نحوها، فعلى الأوّلين لا يرتبط الحديث بأمر الولاية الكبرى، كما هو واضح. و على الثالث يحتاج في حلّ الحوادث إلى إقامة دولة و تحصيل قدرة.

فيصير مفاد الحديث وجوب الرجوع إلى الفقهاء و تقويتهم و تحصيل الشوكة لهم حتّى يتمكّنوا من حلّ الحادثة و إلّا كان الرجوع اليهم لغوا.

و على هذا فتحصل الولاية لهم بالانتخاب لا بالنصب. فلا مجال للاستدلال

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 482

بالتوقيع

الشريف على نصب الفقيه.

نعم، يدلّ على صلاحيّة الفقيه و أنّه المتعيّن للانتخاب، فلا يجوز الرجوع إلى غيره و انتخابه لذلك، فتأمّل.

1- و من قبيل التوقيع الشريف بوجه ما ما رواه الكشي بسنده عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «اعرفوا منازل الرجال منّا على قدر رواياتهم عنّا.» «1»

2- و في أواخر الاحتجاج عن الحسن العسكري «ع» في حديث طويل قيل لأمير المؤمنين «ع»: «من خير خلق اللّه بعد أئمة الهدى و مصابيح الدجى؟ قال: العلماء إذا صلحوا.» «2»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 108، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 37.

(2)- الاحتجاج للطبرسي 2/ 255 (من طبعه القديم).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 483

الأمر السابع: حديث العلماء حكّام على الناس

روى في الغرر و الدرر عن أمير المؤمنين «ع» قال: «العلماء حكّام على الناس.» «1»

أقول: قد مرّ في فصل اعتبار العلم في الوالي أنّ المحتملات في الرواية ثلاثة:

الأوّل: أن تحمل الجملة على الإخبار و يراد بها بيان فضل العلم و العلماء و أنّ العلماء بحسب الأغلب يحكمون على قلوب الناس، و الناس تبع لهم بالطبع من غير فرق بين المذاهب و الملل و بين طبقات المجتمع، فأهل كلّ مذهب و جميع طبقات المجتمع حتّى الملوك يكون الحاكم على عقولهم و أفكارهم علماءهم. بل لا ينحصر ذلك في علم الأديان أيضا، فالعلم بفنونه و شعبه يكون محكّما في المجتمع، و المجتمع بطبقاته المختلفة يعيش تحت ظلّ العلوم الرافعة لحاجاته. فالجملة نظير قوله «ع»:

«العلم حاكم و المال محكوم عليه.» «2»

الثاني: أن تحمل على الإنشاء و يراد بها جعل منصب الحكومة و الولاية للعلماء.

نظير جعلها لأمير المؤمنين «ع» بقوله: «من كنت مولاه فعلي مولاه.»

______________________________

(1)- الغرر و الدرر 1/ 137، الحديث 506.

(2)-

نهج البلاغة، فيض/ 1155؛ عبده 3/ 187؛ لح/ 496، الحكمة 147.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 484

الثالث: أن تحمل على الإنشاء أيضا و يراد بها إيجاب انتخاب العلماء للحكومة و تعيّنهم لذلك بحكم الشرع.

و الاستدلال بالرواية على نصب الفقهاء يتوقّف على الاحتمال الثاني، و أن يراد بالعلماء فيها خصوص فقهاء الإسلام و لا دليل على تعيّنهما. و إذا جاء الاحتمال بطل الاستدلال. هذا مضافا إلى أن مقتضاه أن يكون أمير المؤمنين «ع» في هذه الجملة قد جعل منصب الحكومة لجميع العلماء في جميع الأعصار. فلو كان في عصر واحد ألف عالم مثلا يكون الجميع حكاما منصوبين، و هذا بعيد بل لعلّه مقطوع الفساد و قد مرّ الإشكال فيه ثبوتا في الفصل السابق، فراجع. هذا.

و في البحار عن كنز الكراجكي، قال: قال الصادق «ع»: «الملوك حكّام على الناس، و العلماء حكّام على الملوك.» «1» و لا يخفى أنّ قوله: «الملوك حكّام على الناس» يراد به الإخبار قطعا، فلعلّه قرينة على إرادة الإخبار في الجملة الثانية أيضا لوحدة السياق، بل قرينة على المراد في الخبر السابق أيضا. فلا مجال للاستدلال بالروايتين في المقام.

و قد مرّ شرح الروايتين في فصل اعتبار العلم في الحاكم أيضا، فراجع.

______________________________

(1)- بحار الأنوار 1/ 183، الباب 1 من كتاب العلم، الحديث 92.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 485

الأمر الثامن: حديث مجاري الأمور و الأحكام على أيدي العلماء

روى في تحف العقول عن أبي عبد اللّه الحسين «ع» في خطبة طويلة يخاطب بها علماء عصره. قال: و يروى عن أمير المؤمنين «ع»: «... و أنتم أعظم الناس مصيبة لما غلبتم عليه من منازل العلماء لو كنتم تشعرون. ذلك بأن مجاري الأمور و الأحكام

على أيدي العلماء باللّه الأمناء على حلاله و حرامه. فأنتم المسلوبون تلك المنزلة، و ما سلبتم ذلك إلّا بتفرقكم عن الحقّ و اختلافكم في السنة بعد البيّنة الواضحة. و لو صبرتم على الأذى و تحمّلتم المؤونة في ذات اللّه كانت أمور اللّه عليكم ترد و عنكم تصدر و إليكم ترجع، و لكنّكم مكّنتم الظلمة من منزلتكم ...» «1»

و حيث إنّ الرواية عالية المضامين، كثيرة البركات ذكرناها بطولها مع شرحها في الباب الرابع في فصل اعتبار العلم في الحاكم، فراجع ما ذكرناه هناك. و قد مرّ ما ذكره بعض الأعاظم من أنّ المراد بالعلماء باللّه في هذه الرواية خصوص الأئمة المعصومين- سلام اللّه عليهم أجمعين- و عرفت أنّه خلاف الظاهر جدّا، فراجع هناك.

و المقصود بالعلماء باللّه الأمناء على حلاله و حرامه: الفقهاء الملتزمون بالشريعة و التكاليف.

و الاستدلال بالرواية في المقام مبنيّ على كون المراد بالجملة نصب العلماء لتدبير أمور المسلمين.

و لكنّك عرفت بطلان ذلك، إذ لازمه أن يكون جميع العلماء المخاطبين في عصر

______________________________

(1)- تحف العقول/ 237.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 486

صدور هذه الخطبة حكّاما منصوبين مع أنّ الإمام المنصوب عندنا كان نفسه الشريف المخاطب لهم.

فالظاهر أنّ الجملة و إن كانت خبرية وقعت في مقام الإنشاء و بيان التكليف، فيراد أنّ المرجع لأمور المسلمين يجب أن يكون هم العلماء الملتزمين و لكنّ تفرّقهم في الحقّ و اختلافهم في السنة و فرارهم من الموت و إعجابهم بالحياة و بعبارة أخرى عدم التزامهم بتكاليفهم قد مكّن الظلمة من منزلتهم و سلّطهم على المسلمين.

و بالجملة، فالمقصود أنّ جريان الأمور يجب أن يكون بيد العلماء باللّه بأن يتّحدوا و يتعاونوا مع المسلمين فيقيموا دولة

عادلة و بقيادتهم و ثورتهم يخرجون الظلمة من عرصة السياسة و الحكم.

فالواجب على العلماء ترشيح أنفسهم للمناصب، و الواجب على المسلمين انتخابهم لذلك و تقويتهم و طرد الحكام غير المؤهلين.

و إن شئت قلت: إن الرواية في مقام بيان أنّ الحكومة على المسلمين للعلماء الأمناء، و أما كونها بالنصب أو بالانتخاب فمسكوت عنه، فلعلّها تكون بالانتخاب، فتدبّر.

فهذه روايات استدل بها الأصحاب على كون الفقهاء منصوبين للولاية في عصر الغيبة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 487

ذكر اخبار اخر ربما يتوهم دلالتها على النصب:

و هنا روايات كثيرة أيضا وردت من طرق الفريقين في فضل العلم و العالم ذكر المحقّق النراقي في العوائد بعضا منها في هذا الباب، فلنذكر بعضا من هذه الروايات في هذه المناسبة و إن كان لا دلالة لها على مسألة الولاية بوجه.

1- ففي العوائد عن المجمع، عن النبي «ص»: «فضل العالم على الناس كفضلي على أدناهم.» «1»

2- و في البحار عن منية المريد: قال مقاتل بن سليمان: وجدت في الإنجيل أنّ اللّه- تعالى- قال لعيسى «ع»: «عظّم العلماء و اعرف فضلهم، فإنّي فضّلتهم على جميع خلقي إلّا النبيّين و المرسلين كفضل الشمس على الكواكب، و كفضل الآخرة على الدنيا، و كفضلي على كلّ شي ء.» «2»

3- و فيه عن العوالي، قال النبي «ص»: «إنّ اللّه لا ينتزع العلم انتزاعا و لكن ينتزعه بموت العلماء حتّى إذا لم يبق منهم أحد اتّخذ الناس رؤساء جهالا، فأفتوا الناس بغير علم فضلّوا و أضلّوا.» «3»

4- و فيه عن العوالي، قال النبي «ص»: «فقيه واحد أشدّ على إبليس من ألف عابد.» «4»

______________________________

(1)- العوائد/ 186.

(2)- بحار الأنوار 2/ 25، الباب 8 من كتاب العلم، الحديث 91، و منية المريد/ 30.

(3)- بحار الأنوار

2/ 24، الباب 8 من كتاب العلم، الحديث 74.

(4)- بحار الأنوار 1/ 177، الباب 1 من كتاب العلم، الحديث 48.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 488

5- و في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري «ع»، قال: «و أشدّ من يتم هذا اليتيم يتيم ينقطع عن إمامه لا يقدر على الوصول إليه و لا يدري كيف حكمه فيما يبتلى به من شرائع دينه. ألا فمن كان من شيعتنا عالما بعلومنا، و هذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره، ألا فمن هداه و أرشده و علّمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى. حدثني بذلك أبي، عن آبائه، عن رسول اللّه «ص».

و قال علي بن أبي طالب «ع»: من كان من شيعتنا عالما بشريعتنا و أخرج ضعفاء شيعتنا من ظلمة جهلهم إلى نور العلم الذي حبوناه به جاء يوم القيامة و على رأسه تاج من نور يضي ء لأهل جميع تلك العرصات ...

قال الحسن بن علي «ع»: فضل كافل يتيم آل محمد المنقطع عن مواليه الناشب في تيه الجهل يخرجه من جهله و يوضح له ما اشتبه عليه على فضل كافل يتيم يطعمه و يسقيه كفضل الشمس على السهى.

و قال الحسين بن علي «ع»: ما كفل لنا يتيما قطعته عنّا محبتنا باستتارنا فواساه من علومنا الّتي سقطت إليه حتّى أرشده و هداه إلّا قال اللّه- تعالى- له: يا أيّها العبد الكريم المواسي، أنا أولى بالكرم اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كلّ حرف علّمه ألف ألف قصر و ضمّوا إليها ما يليق بها من سائر النعم ...

و قال موسى بن جعفر «ع»: فقيه واحد ينقذ يتيما من أيتامنا المنقطعين عنّا و عن

مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه أشدّ على إبليس من ألف عابد ...

و قال علي بن محمّد: لو لا من يبقى بعد غيبة قائمكم من العلماء الداعين إليه و الدّالّين عليه و الذابّين عن دينه بحجج اللّه ... لما بقي أحد إلّا ارتد عن دين اللّه ... أولئك هم الأفضلون عند اللّه- عز و جلّ.» «1»

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في فضل العلم و العالم و التعليم.

______________________________

(1)- التفسير المنسوب الى الإمام العسكري «ع»/ 114 (- المطبوع بهامش تفسير علي بن إبراهيم)، ذيل الآية 83 من سورة البقرة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 489

أقول: عدم دلالة هذه الروايات على نصب الفقيه واليا واضح. بل نحن قد ناقشنا في دلالة الروايات السابقة التي استدلّ بها الأساتذة أيضا حتّى في المقبولة التي هي رأسها.

نعم، دلالة جميع هذه الروايات على تقدم الفقيه على غيره و صلاحيّته لذلك و أنّه أصلح من غيره ممّا لا إشكال فيها.

و قد مرّ بالتفصيل لزوم الحكومة و ضرورتها و عدم جواز إهمالها و أنّه يشترط في الحاكم شروط ثمانية منها الفقاهة بل الأفقهيّة، و أنّ الولاية تنعقد إمّا بالنصب من العالي أو بانتخاب الأمّة، فإن ثبت النصب فهو و إلّا وصلت النوبة إلى الانتخاب.

بل لو تقاعست الأمّة عن العمل بهذه الوظيفة المهمّة كان على الفقيه تصدّي شئون الولاية بقدر الإمكان حسبة. فالفقيه مقدم على غيره على أيّ حال.

و ليس عدم اطلاع الفقهاء غالبا على رموز السياسة و التدبير عذرا في انعزالهم عن ميدان السياسة، بل يجب عليهم تعلّمها و كسبها مقدّمة لأداء الواجب.

و بالجملة، فدلالة هذه الروايات بكثرتها على صلاحيّة الفقيه و أصلحيّته من غيره ممّا لا إشكال

فيها.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 490

نقل كلام العوائد في المقام:

قال في العوائد- بعد ذكر الأخبار و دعوى أنّ كلّ ما كان للنبي «ص» و الإمام الذين هم سلاطين الأنام و حصون الإسلام فيه الولاية و كان لهم فللفقيه أيضا ذلك إلّا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما- قال- رحمه اللّه-:

«فالدليل عليه بعد ظاهر الإجماع حيث نصّ به كثير من الأصحاب بحيث يظهر منهم كونه من المسلّمات ما صرّح به الأخبار المتقدّمة من كونه وارث الأنبياء، أو أمين الرسل، و خليفة الرسول، و حصن الإسلام، و مثل الأنبياء و بمنزلتهم، و الحاكم و القاضي و الحجة من قبلهم، و أنّه المرجع في جميع الحوادث، و أنّ على يده مجاري الأمور و الأحكام، و أنّه الكافل لأيتامهم الذين يراد بهم الرعية.

فإنّ من البديهيّات الّتي يفهمه كلّ عاميّ و عالم و يحكم به، أنّه إذا قال نبيّ لأحد عند مسافرته أو وفاته: فلان وارثي، و مثلي و بمنزلتي، و خليفتي، و أميني، و حجّتي و الحاكم من قبلي عليكم، و المرجع لكم في جميع حوادثكم، و بيده مجاري أموركم و أحكامكم، و هو الكافل لرعيّتي، فإنّ له كلّ ما كان لذلك النبيّ في أمور الرعيّة و ما يتعلّق بأمّته، بحيث لا يشك فيه أحد و يتبادر منه ذلك.

كيف لا!؟ مع أنّ أكثر النصوص الواردة في حقّ الأوصياء المعصومين المستدلّ بها في مقامات إثبات الولاية و الإمامة المتضمنين لولاية جميع ما للنبيّ فيه الولاية ليس متضمنا لأكثر من ذلك سيما بعد انضمام ما ورد في حقّهم أنّهم خير خلق اللّه بعد الأئمة «ع»، و أفضل الناس بعد النّبيّين، و فضلهم على الناس كفضل

اللّه على كلّ شي ء، و كفضل الرسول على أدنى الرعيّة.

و إن أردت توضيح ذلك فانظر إلى أنّه لو كان حاكم أو سلطان في ناحية و أراد المسافرة إلى ناحية أخرى و قال في حقّ شخص بعض ما ذكر فضلا عن جميعه

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 491

فقال: فلان خليفتي، و بمنزلتي و مثلي، و أميني، و الكافل لرعيّتي، و الحاكم من جانبي و حجتي عليكم، و المرجع في جميع الحوادث لكم، و على يده مجاري أموركم و أحكامكم فهل يبقى لأحد شكّ في أنّ له فعل كلّ ما كان للسلطان في أمور رعيّة تلك الناحية إلّا ما استثناه؟ و ما أظنّ أحدا يبقى له ريب في ذلك و لا شكّ و لا شبهة.

و لا يضرّ ضعف تلك الأخبار بعد الانجبار بعمل الأصحاب و انضمام بعضها ببعض و ورود أكثرها في الكتب المعتبرة.» «1»

أقول: قد نقلنا كلام العوائد بطوله لأنّه أحسن بيان لدلالة الروايات السابقة، و لكن لا يخفى وجود مغالطة ما في البين، إذ ليست هذه الجملات مجتمعة متعاقبة في رواية واحدة حسبما سردها في العوائد. بل كلّ جملة منها ذكرت في رواية مستقلة مع قرينة متّصلة صالحة لتقييدها بجهة خاصّة غير جهة الولاية الكبرى، كما مرّ تفصيل ذلك.

فإن أراد «قده» الاستدلال بالروايات للنصب و الولاية الفعلية جرت المناقشات فيها.

نعم، إن أراد دلالتها على أصلحيّة الفقيه بل تعيّنه و أنّه على الانتخاب أيضا يكون مقدّما على غيره و متعيّنا لذلك صحّ ما ذكره.

و على هذا فالأحوط مع تعدّد الفقهاء الواجدين للشرائط تعيّن الإمامة لخصوص من انتخبته الأمّة لذلك، و عدم جواز مزاحمة غيره له بل عدم جواز تصرّف غير

المنتخب في شئون الولاية بدون إذن المنتخب بالفعل من غير فرق بين الأمور الماليّة و غيرها.

و يعجبني هنا نقل كلام للعوائد أيضا يناسب المقام، قال:

«نرى كثيرا من غير المحتاطين من أفاضل العصر و طلّاب الزمان إذا وجدوا في أنفسهم قوّة الترجيح و الاقتدار على التفريع يجلسون مجلس الحكومة و يتولّون أمور

______________________________

(1)- العوائد/ 188.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 492

الرعيّة، فيفتون لهم في مسائل الحلال و الحرام و يحكمون بأحكام لم يثبت لهم وجوب القبول عنهم كثبوت الهلال و نحوه و يجلسون مجلس القضاء و المرافعات و يجرون الحدود و التعزيرات و يتصرّفون أموال اليتامى و المجانين و السفهاء و الغيّاب و يتولّون أنكحتهم و يعزلون الأوصياء و ينصبون القوّام و يقسّمون الأخماس و يتصرّفون المال المجهول مالكه و يوجرون الأوقاف العامّة إلى غير ذلك من لوازم الرئاسة الكبرى، و تراهم ليس بيدهم فيما يفعلون دليل و لم يهتدوا في أعمالهم إلى سبيل، بل اكتفوا بما رأوا و سمعوا من العلماء الأطياب، فيفعلون تقليدا بلا اطلاع لهم على محطّ فتاويهم، فيهلكون و يهلكون. أذن اللّه لهم أم على اللّه يفترون؟» «1»

______________________________

(1)- العوائد/ 185.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 493

الفصل الرابع من الباب الخامس فيما يمكن أن يستدل به لصحّة انعقاد الإمامة بانتخاب الأمّة و هي أمور:

الأمر الأول: حكم العقل

الذي هو أمّ الحجج، فإنّه يحكم بالبداهة بقبح الفوضى و الهرج و الفتنة، و وجوب إقامة النظام و حفظ المصالح العامّة الاجتماعيّة، و بسط المعروف و رفع الظلم و الفساد، و الدفاع عن المجتمع في قبال الهجمات و الإغارات. و لا يحصل ذلك كلّه إلّا تحت ظل دولة صالحة عادلة نافذة ذات شوكة و قدرة تحقّق كيانهم.

و لا تستقرّ الدولة إلّا بخضوع الأمّة في قبالها و

الإطاعة لها، فيجب تحقيق جميع ذلك بحكم العقل. و كلّ ما حكم به العقل حكم به الشرع، كما قرّر في محلّه.

و الدولة لا تخلو من أن توجد بالنصب من قبل اللّه- تعالى- مالك الملوك و الأمّة، أو بقهر قاهر على الأمّة، أو بالانتخاب من قبلها.

فإن تحقّقت بالنصب فلا كلام لما قدّمناه و بيّناه مرارا من تقدّمه على الانتخاب، و لكنّ المفروض في المقام عدمه أو عدم ثبوته بالأدلة.

و الثاني ظلم على الأمّة يحكم العقل بقبحه، فإنّه خلاف سلطنة الناس على أموالهم و نفوسهم، و لا يحكم العقل أيضا بوجوب الخضوع و الإطاعة له.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 494

فيتعين الثالث، أعني الانتخاب و هو المطلوب.

و لأجل ذلك استمرت سيرة العقلاء في جميع الأعصار و الظروف على الاهتمام بذلك و تعيين الولاة و الحكام بانتخاب ما هو الأصلح و الأليق بنظرهم و إظهار التسليم و الإطاعة له بالبيعة و نحوها من الطرق، و لم تخل حياة البشر حتّى في الغابات و في العصور الحجرية أيضا من دويلة ما تحقّق كيانهم و تدافع عن مصالحهم.

و اللّه- تعالى- جعل في الإنسان غريزة الانتخاب، و مدح عباده على إعمال هذه الغريزة و انتخاب المصداق الأحسن فقال: «فَبَشِّرْ عِبٰادِ* الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ.» «1»

الأمر الثاني: استمرار سيرة العقلاء

في جميع الأعصار و الظروف على الاستنابة في بعض الأعمال، و على تفويض ما يعسر إنفاذه مباشرة إلى من يقدر عليه و يتيسّر له. و من جملة ذلك، الأمور العامّة التي يحتاج اليها المجتمع أو خوطب بها المجتمع و يتوقّف إنفاذها على مقدّمات كثيرة و قوات متعاضدة، كالدفاع عن البلاد و إيجاد الطّرق و وسائل الارتباط و المخابرات العامّة و

نحوها ممّا لا يتيسّر لكلّ فرد فرد تحصيلها شخصا و مباشرة، فينتخبون لذلك واليا متمكنا و يفوضونها إليه و يساعدونه على تحصيلها. و من هذا القبيل أيضا إجراء الحدود و التعزيرات و فصل الخصومات، حيث إنّه لا يتيسّر لكلّ فرد فرد التصدّي لها، بل يوجب ذلك الهرج و المرج و اختلال النظام، فيفوض إجراؤها و تنفيذها إلى من يتبلور فيه كلّ المجتمع، و هو الوالي المنتخب من قبلهم. فوالي المجتمع كأنّه ممثل لهم و نائب عنهم في إنفاذ الأمور العامّة.

و الاستنابة و التوكيل أمر عقلائي استمرّت عليه السيرة في جميع الأعصار و أمضاه الشرع أيضا.

______________________________

(1)- سورة الزمر (39)، الآية 17 و 18.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 495

و في نهج البلاغة في كتاب له «ع» إلى أصحاب الخراج: «فإنّكم خزّان الرعيّة و وكلاء الأمّة و سفراء الأئمّة.» «1»

فعبّر «ع» عن أصحاب الخراج الذين هم شعبة من شعب الولاة بوكلاء الأمّة، فتأمّل.

الأمر الثالث: فحوى قاعدة السلطنة،

فإنّ العقل العملي يشهد و يحكم بسلطة الناس على الأموال التي حازوها أو أنتجوها بنشاطاتهم، و استمرّت سيرة العقلاء أيضا على الالتزام بذلك في حياتهم و معاملاتهم و يحكمون بحرمة التعدّي على مال الغير و كونه ظلما، و قد نفّذ الشرع أيضا ذلك بحيث صار هذا من مسلّمات فقه الفريقين يتمسّكون بها في الأبواب المختلفة.

و روى في البحار عن عوالي اللئالي، عن النبي «ص» أنّه قال: «إنّ الناس مسلّطون على أموالهم.» «2»

و في رواية أبي بصير عن أبي عبد اللّه «ع»: «إن لصاحب المال أن يعمل بماله ما شاء ما دام حيّا. الحديث.» «3»

إلى غير ذلك من الروايات الّتي يستفاد منها هذه القاعدة الشاملة.

فإذا فرضنا أن الناس مسلّطون على

أموالهم بحيث يكون لهم التصرّف فيها إلّا ما حرّمه اللّه- تعالى- و ليس لغيرهم أن يتصرّفوا في مال الغير إلّا باذنه، فهم بطريق أولى مسلّطون على أنفسهم و ذواتهم. فإنّ السلطة على الذات قبل السلطة على المال بحسب الرتبة، بل هي العلّة و الملاك لها، حيث إنّ مال الإنسان محصول عمله،

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 984؛ عبده 3/ 90؛ لح/ 425، الكتاب 51.

(2)- بحار الأنوار 2/ 272، الباب 33 من كتاب العلم، الحديث 7.

(3)- الوسائل 13/ 381، الباب 17 من أحكام الوصايا، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 496

و عمله نتيجة فكره و قواه، فهو بملكه لذاته و فكره و قواه تكوينا يملك أمواله المنتجة منها. و اللّه- تعالى- خلق الإنسان مسلّطا على ذاته حرّا مختارا، فليس لأحد أن يحدّد حرّيات الأفراد أو يتصرّف في مقدّراتهم بغير إذنهم. و للأفراد أن ينتخبوا الفرد الأصلح و يولّوه على أنفسهم، بل يجب ذلك بعد ما حكم العقل بأنّ المجتمع لا بدّ له من نظام و حكم و أنّهما من ضروريات حياة البشر.

و لا يخفى أنّ توافق أنظار المجتمع و تعاضدها في تشخيص لياقة الشخص و كفايته يوجب كون التشخيص أقرب إلى الواقع و أوقع في النفوس و أشدّ بعثا على الإطاعة و الخضوع و انتظام أمر الأمّة.

نعم، مع وجود الإمام المنصوص عليه كما هو معتقدنا في الأئمّة الاثني عشر لا مجال للانتخاب، كما مرّ. كما أنّ شارع الإسلام بعد ما شرّع في الوالي شروطا خاصّة يجب أن يكون الانتخاب في إطارها و مع رعايتها، فلا يصحّ انتخاب الفاقد لها.

الأمر الرابع: إنّ انتخاب الأمّة للوالي و تفويض الأمور إليه و قبول الوالي لها نحو معاقدة

و معاهدة بين الأمّة و بين الوالي، فيدلّ على صحتها و نفاذها جميع

ما دلّ على صحّة العقود و نفاذها من بناء العقلاء، و قوله- تعالى-: «يٰا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» «1»، و قول الإمام الصادق «ع» في صحيحة عبد اللّه بن سنان: «المسلمون عند شروطهم إلّا كلّ شرط خالف كتاب اللّه- عز و جل- فلا يجوز.» «2» و نحوه غيره بناء على شمول الشرط للقرار الابتدائي أيضا كما لا يبعد.

لا يقال: وجوب الوفاء بالعقد يتوقّف على كون العمل المعقود عليه تحت اختيار

______________________________

(1)- سورة المائدة (5)، الآية 1.

(2)- الوسائل 12/ 353، الباب 6 من أبواب الخيار، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 497

الطرفين و ممّا يقبل العقد عليه، و كون الولاية و الحكم في اختيار الأمّة و صحّة تفويضهم إيّاها إلى الغير أوّل الكلام.

فإنّه يقال: قد مرّ أنّ تعيين الوالي من قبل المجتمع و تفويض الولاية إلى الغير من قبلهم كان أمرا رائجا متعارفا في جميع الأعصار و القرون شائعا بين القبائل و العشائر و الأمم حتّى في الغابات و العصور الحجرية أيضا، و هي أمر اعتباري قابل للإنشاء و كانوا ينشئونها بالبيعة و نحوها.

و الآية الشريفة ناظرة إلى العقود العقلائية المتعارفة بينهم، فيستدلّ بها على صحّة كل عقد عقلائي إلّا ما دلّ الدليل على بطلانه كالانتخاب مع وجود النصّ على خلافه، فتدبّر.

الأمر الخامس: ما دلّ من الآيات و الروايات على الحث على الشورى

و الأمر بها في الأمر و الولاية كقوله- تعالى-: «وَ الَّذِينَ اسْتَجٰابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ أَمْرُهُمْ شُورىٰ بَيْنَهُمْ.» «1»

و عن رسول اللّه «ص»: «إذا كانت أمراؤكم خياركم و اغنياؤكم سمحاءكم و أموركم شورى بينكم فظهر الأرض خير لكم من بطنها.» «2»

و في العيون عن الرضا «ع» بإسناده عن النبي «ص» قال: «من جاءكم يريد أن

يفرّق الجماعة و يغصب الأمّة أمرها و يتولّى من غير مشورة فاقتلوه، فإنّ اللّه قد أذن ذلك.» «3»

إذ الظاهر منه ثبوت الولاية بالمشورة بناء على كون المراد المشورة في التصدّي لأصل الولاية لا المشورة في إعمالها. هذا.

______________________________

(1)- سورة الشورى (42)، الآية 38.

(2)- سنن الترمذي 3/ 361، الباب 64 من أبواب الفتن، الحديث 2368؛ و تحف العقول/ 36.

(3)- عيون أخبار الرضا 2/ 62، الباب 31، الحديث 254.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 498

و كلمة الأمر في الآية الشريفة و في الروايات ينصرف إلى الحكومة، أو هي القدر المتيقّن منه.

فعن رسول اللّه «ص»: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة.» «1»

و في نهج البلاغة: «فلما نهضت بالأمر نكثت طائفة.» «2»

و في كتاب الحسن المجتبى «ع» إلى معاوية: «ولّاني المسلمون الأمر بعده.» «3»

إلى غير ذلك من موارد استعمال الكلمة.

و على هذا فالولاية تنعقد بشورى أهل الخبرة و انتخابهم و يتعقّبه انتخاب الأمّة قهرا، فإنّ انتخاب أهل الخبرة لأحد إذا كانوا منتخبين من قبل الأمّة أو معتمدين عندها يستعقب بالطبع غالبا رضا الأمّة و انتخابها أيضا، كما هو المشاهد في جميع الملل.

و قد جعل أكثر المسلمين الشورى أساسا للخلافة بعد النبيّ الأكرم «ص»، و نحن الشيعة الإماميّة و إن ناقشناهم في ذلك لثبوت النصّ عندنا على ولاية أمير المؤمنين «ع» و الأئمة من ولده. و لكن عند فقد النصّ كما في عصر الغيبة إن قلنا بدلالة المقبولة و نظائرها على النصب العامّ فهو و إلّا وصلت النوبة إلى الشورى قهرا بمقتضى عموم الآية و الروايات.

لا يقال: الموضوع في الآية الأمور المضافة إلى المؤمنين. و كون الولاية منها أوّل الكلام لأنّها عهد اللّه- تعالى- كما يشهد

به قوله في قصّة إمامة إبراهيم و طلبه إيّاها لذرّيّته: «لٰا يَنٰالُ عَهْدِي الظّٰالِمِينَ». فالولاية و الإمامة أمر اللّه و عهده، لا أمر المؤمنين.

فإنّه يقال: لا منافاة بين كونها أمر اللّه و عهده بعناية، و بين كونها من أمور الأمّة كما يشهد بذلك مضافا إلى وضوح ارتباطها بهم التعبيرات الواردة في الأخبار و قد مرّ بعض منها.

______________________________

(1)- صحيح البخاري 3/ 91، كتاب المغازي، باب كتاب النبي «ص» إلى كسرى و قيصر.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 51؛ عبده 1/ 31؛ لح/ 49، الخطبة 3.

(3)- مقاتل الطالبيين/ 36.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 499

لا يقال: يحتمل أن يراد بالآية، الشورى في إجراء الأمر و تنفيذه لا في أصل عقده كما هو المراد قطعا في قوله- تعالى- مخاطبا لنبيّه: «وَ شٰاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ، فَإِذٰا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّٰهِ.» «1» اذ الولاية في عصر النّبيّ «ص» كانت له قطعا و كان هو بنفسه واليا على المسلمين بجعل اللّه- تعالى- و لكنّ اللّه أمره بالمشاورة معهم في تنفيذ الأمور و إجرائها إكراما لهم و لكونها أبعث لهم في مرحلة الإطاعة و العمل.

فإنّه يقال: إطلاق الآية يقتضي مطلوبيّة الشورى و نفاذها في أصل الولاية و في فروعها و إجرائها. و العلم بالمقصود في الآية الأخرى المخاطب بها شخص النّبيّ الأكرم «ص» لا يوجب رفع اليد عن الإطلاق في هذه الآية.

نعم، يبقى الإشكال في كيفية إجراء الشورى و الجواب عن الاعتراضات التي أوردوها في المقام. و سيأتي التعرّض لها في فصل مستقل، فانتظر.

الأمر السادس: الآيات و الروايات المتضمّنة للتكاليف الاجتماعيّة

التي لوحظ فيها مصالح المجتمع الإسلامي بما هو مجتمع و خوطب بها الأمّة مع توقّف تنفيذها على القدرة و بسط اليد.

فإنّ المجتمع بما أنّه مجتمع

و إن لم يكن له بالنظر الدقّي الفلسفي وجود واقعي وراء وجودات الأفراد و لكنّه عند علماء الاجتماع يتمتّع بواقعيّة عرفيّة عقلائيّة.

و يعتبر له في قبال الفرد وجود، و عدم، و حياة، و موت، و رقيّ، و انحطاط، و حقوق و واجبات.

و قد اعتنى القرآن الكريم بتواريخ الأمم كاعتنائه بقصص الأشخاص. و الشريعة الإسلاميّة كما أوجبت على الفرد في حياته الفرديّة واجبات عباديّة و غيرها فكذلك

______________________________

(1)- سورة آل عمران (3)، الآية 159.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 500

وضعت على عاتق المجتمع واجبات و تكاليف خوطبت بها الأمّة الاسلاميّة.

قال اللّه- تعالى-: «وَ قٰاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللّٰهِ الَّذِينَ يُقٰاتِلُونَكُمْ وَ لٰا تَعْتَدُوا.» «1»

و قال: «وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا، فَإِنْ بَغَتْ إِحْدٰاهُمٰا عَلَى الْأُخْرىٰ فَقٰاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّٰى تَفِي ءَ إِلىٰ أَمْرِ اللّٰهِ، فَإِنْ فٰاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا، إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.» «2»

و قال: «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِبٰاطِ الْخَيْلِ، تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللّٰهِ وَ عَدُوَّكُمْ ...» «3»

و قال: «وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ.» «4»

و قال: «وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا جَزٰاءً بِمٰا كَسَبٰا نَكٰالًا مِنَ اللّٰهِ.» «5»

و قال: «إِنَّمٰا جَزٰاءُ الَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلٰافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ...» «6»

و قال: «الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ.» «7»

إلى غير ذلك من التكاليف التي خوطب بها المجتمع و روعي فيها مصالحه.

و حيث إنّ تنفيذها يتوقف على جماعة متفرغة لذلك و قدرة متركزة

و جهاز حكم يتولّى ذلك فلا محالة يجب على المجتمع الإسلامي أن يقوم بتشكيل دولة مقتدرة و يفوّض إليها مهمّة القيام بهذه التكاليف و الوظائف، إذ لا يعقل أن يتوجّه إلى المجتمع التكليف و لا يكون على عاتقه إعداد ما يتوقّف الامتثال عليه، فيجب عليه

______________________________

(1)- سورة البقرة (2)، الآية 190.

(2)- سورة الحجرات (49)، الآية 9.

(3)- سورة الأنفال (8)، الآية 60.

(4)- سورة آل عمران (3)، الآية 104.

(5)- سورة المائدة (5)، الآية 38.

(6)- سورة المائدة (5)، الآية 33.

(7)- سورة النور (24)، الآية 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 501

ذلك من جهة المقدّمية، و ليس لكلّ فرد التصدّي لأدائها ارتجالا، للزوم الهرج و المرج.

الأمر السابع: ما دلّ على استخلاف اللّه- تعالى- للإنسان

، و استعماره في أرضه، و وراثة الإنسان لها.

1- قال اللّه- تعالى-: «هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلٰائِفَ فِي الْأَرْضِ.» «1»

2- و قال: «أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذٰا دَعٰاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفٰاءَ الْأَرْضِ.» «2»

3- و قال: «وَعَدَ اللّٰهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصّٰالِحٰاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ، وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضىٰ لَهُمْ.» «3»

4- و قال: «وَ إِذْ قٰالَ رَبُّكَ لِلْمَلٰائِكَةِ إِنِّي جٰاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» «4» بناء على إرادة نوع آدم لا شخصه كما قيل.

تقريب الاستدلال هو أنّ الخلافة عن اللّه- تعالى- في أرضه تستلزم بإطلاقها جواز تصرّف الإنسان فيها تكوينا بالإحياء و الاستنماء، و تشريعا بالحكومة عليها.

و قد فرّع اللّه- تعالى- جواز الحكم لداود في أرضه على جعله خليفة.

5- فقال: «يٰا دٰاوُدُ، إِنّٰا جَعَلْنٰاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النّٰاسِ بِالْحَقِّ.» «5»

فيظهر من الآية الشريفة أنّه لو لا خلافته عن اللّه- تعالى- لم يحقّ له الحكم في أرضه.

______________________________

(1)- سورة فاطر

(35)، الآية 39.

(2)- سورة النمل (27)، الآية 62.

(3)- سورة النور (24)، الآية 55.

(4)- سورة البقرة (2)، الآية 30.

(5)- سورة ص (38)، الآية 26.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 502

6- و قال- تعالى-: «هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهٰا.» «1»

و عمران الأرض إنّما يكون بإحيائها و عمرانها تكوينا، و بإجراء العدل فيها.

فتشمل الآية للحكومة العادلة أيضا و لذا قال رسول اللّه «ص»: «ساعة إمام عدل أفضل من عبادة سبعين سنة. و حدّ يقام للّه في الأرض أفضل من مطر أربعين صباحا.» «2»

هذا مضافا إلى أنّ العمران التكويني لا يحصل عادة إلّا في ظل نظام العدل و الحكومة الصالحة الحافظة للحقوق و المانعة عن الإفساد.

7- و قال- تعالى-: «وَ لَقَدْ كَتَبْنٰا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهٰا عِبٰادِيَ الصّٰالِحُونَ.» «3»

8- و قال: «قٰالَ مُوسىٰ لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّٰهِ وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلّٰهِ يُورِثُهٰا مَنْ يَشٰاءُ مِنْ عِبٰادِهِ، وَ الْعٰاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ.» «4»

9- و قال: «وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوٰارِثِينَ.» «5»

و وراثة الأرض تقتضي عمرانها و إدارتها تكوينا، و تشريعا بالحكم فيها.

و بالجملة، يستفاد من هذه الآيات الشريفة أنّ للإنسان أن يزاول العمران و التّصرفات التكوينيّة في الأرض، و كذا الحكومة فيها و القيادة الاجتماعيّة بسبب خلافته عن اللّه- تعالى- و وراثته للأرض. هذا.

و لكن لأحد أن يمنع كون المقصود بالخلائف و الخلفاء الخلافة عن اللّه- تعالى-.

إذ لعلّ المراد بها خلافة جيل عن جيل و نسل عن نسل، نظير قوله: «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ*

______________________________

(1)- سورة هود (11)، الآية 61.

(2)- الوسائل 18/ 308، الباب 1 من أبواب مقدمات الحدود، الحديث 5.

(3)- سورة الأنبياء

(21)، الآية 105.

(4)- سورة الأعراف (7)، الآية 128.

(5)- سورة القصص (28)، الآية 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 503

وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مٰا يَشٰاءُ» «1»، و قوله: «فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتٰابَ» «2».

و أمّا قوله- تعالى-: «إِنِّي جٰاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً» «3» فيحتمل أن يراد به آدم النّبيّ «ص» و لا يسري إلى ولده. و ليس في اعتراض الملائكة بقولهم: «أَ تَجْعَلُ فِيهٰا مَنْ يُفْسِدُ فِيهٰا وَ يَسْفِكُ الدِّمٰاءَ»، دلالة على إرادة نوع آدم. إذ لعلّ اعتراضهم بذلك كان من جهة اطلاعهم على طبع آدم النّبي «ص» و أنّه بالطبع يولد له نسل يوجد فيهم الفساد و سفك الدماء، فتأمّل.

و يحتمل بعيدا أن يراد من الآية جعل آدم خليفة للجنّ و النسناس الذين كانوا قبله في الأرض، و الملائكة شاهدوا إفسادهم و سفكهم للدماء فقاسوا بهم أولاد آدم هذا.

و لأحد أيضا أن يمنع الإطلاق في قوله- تعالى-: «وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيهٰا» أيضا بتقريب أن العمران ظاهر في التكوينيّ فقط، فلا تدلّ الآية على تفويض الحكومة الى الناس، و مثله الكلام في وراثة الأرض أيضا، فتدبّر.

الامر الثامن: ما في نهج البلاغة لما أرادوا بيعته بعد قتل عثمان

قال «ع»: «دعوني و التمسوا غيري ... و اعلموا إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم و لم أصغ إلى قول القائل و عتب العاتب، و إن تركتموني فأنا كأحدكم، و لعلّي أسمعكم و أطوعكم لمن ولّيتموه أمركم، و أنا لكم وزيرا خير لكم منّي أميرا.» و نحوه في تاريخ الطبرى و الكامل لابن الاثير. «4»

يظهر من الحديث أنّ الأمر أمر المسلمين و أنّ توليته بأيديهم.

______________________________

(1)- سورة الأنعام (6)، الآية 133.

(2)- سورة الأعراف (7)، الآية 169.

(3)- سورة البقرة (2)، الآية 30.

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 271؛ عبده

1/ 182؛ لح/ 136، الخطبة 92. و نحوه في تاريخ الطبري 6/ 3076، و الكامل لابن الأثير 3/ 193.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 504

لا يقال: هذا منه «ع» جدل في قبال المنكرين لنصبه «ع».

فإنّه يقال: نعم، و لكنّه ليس جدلا بأمر باطل خلاف الواقع، بل النصّ كما عرفت مقدّم على الانتخاب، و حيث إنّهم لم يسلّموا نصبه «ع» ذكر الانتخاب المتأخّر عنه رتبة. و سيأتي توضيح ذلك في بحث البيعة، فانتظر.

الامر التاسع: ما في تاريخ الطبري بسنده عن محمد بن الحنفية،

قال:

«كنت مع أبي حين قتل عثمان فقام فدخل منزله فأتاه أصحاب رسول اللّه «ص» فقالوا: إنّ هذا الرجل قد قتل، و لا بدّ للناس من إمام، و لا نجد اليوم أحدا أحقّ بهذا الأمر منك، لا أقدم سابقة و لا أقرب من رسول اللّه «ص». فقال: «لا تفعلوا، فإنّي أكون وزيرا خير من أن أكون أميرا.» فقالوا: لا و اللّه، ما نحن بفاعلين حتّى نبايعك.

قال: «ففي المسجد، فإنّ بيعتي لا تكون خفيّا (خفيّة) و لا تكون إلّا عن رضى المسلمين.» «1»

فجعل- عليه السلام- لرضى المسلمين اعتبارا و جعل الإمامة ناشئة منه.

الأمر العاشر: ما في الكامل بعد ما مرّ منه:

«و لمّا أصبحوا يوم البيعة، و هو يوم الجمعة، حضر الناس المسجد و جاء عليّ «ع»

______________________________

(1)- تاريخ الطبري 6/ 3066.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 505

فصعد المنبر و قال: «أيّها الناس- عن ملأ و أذن- إنّ هذا أمركم ليس لأحد فيه حقّ إلّا من أمّرتم، و قد افترقنا بالأمس على أمر و كنت كارها لأمركم فأبيتم إلّا أن أكون عليكم، ألا و إنّه ليس لي دونكم إلّا مفاتيح مالكم، و ليس لي أن آخذ درهما دونكم.» «1»

الأمر الحادي عشر: ما في نهج البلاغة:

«و إنّما الشورى للمهاجرين و الأنصار، فإن اجتمعوا على رجل و سمّوه إماما كان ذلك (للّه) رضا، فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين، و ولّاه اللّه ما تولّى.» «2»

الأمر الثاني عشر: ما في كتاب أمير المؤمنين «ع» إلى شيعته:

«و قد كان رسول اللّه «ص» عهد إليّ عهدا فقال: يا بن أبي طالب لك ولاء أمّتي، فإن ولّوك في عافية و أجمعوا عليك بالرضا فقم بأمرهم، و إن اختلفوا عليك فدعهم و ما هم فيه.» «3»

فإن الولاء و إن كان لأمير المؤمنين «ع» بالنصب عندنا و يدلّ عليه الخبر أيضا، و لكن يظهر منه أنّ لتولية الأمّة أيضا أثرا و أنّ الأمر أمرهم فيكون في طول النصّ و في الرتبة المتأخرة، فتأمّل.

______________________________

(1)- الكامل لابن الأثير 3/ 193. و رواه الطبري أيضا مقطعا 6/ 3077 و 3067.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 840؛ عبده 3/ 8؛ لح/ 367، الكتاب 6.

(3)- كشف المحجّة لابن طاوس/ 180.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 506

الأمر الثالث عشر: ما في شرح ابن أبي الحديد عن رسول اللّه «ص»

أنّه قال: «إن تولّوها عليّا تجدوه هاديا مهديّا.» «1»

فنسب «ص» التولية إلى الأمّة.

الأمر الرابع عشر: ما في كتاب الحسن بن علي- عليهما السلام- إلى معاوية:

«إنّ عليّا لما مضى لسبيله ... ولّاني المسلمون الأمر بعده ... فدع التمادي في الباطل و ادخل فيما دخل فيه الناس من بيعتي فإنّك تعلم أنّي أحقّ بهذا الأمر منك.» «2»

يظهر من الحديث أنّ التولية حقّ للمسلمين. و الاعتراض على ذلك بكونه جدلا قد مرّ الجواب عنه و يأتي أيضا.

الأمر الخامس عشر: ما في كتاب صلح الحسن «ع» مع معاوية:

«صالحه على أن يسلّم إليه ولاية أمر المسلمين على أن يعمل فيهم بكتاب اللّه و سنة رسوله «ص» و سيرة الخلفاء الصالحين. و ليس

______________________________

(1)- شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد 11/ 11.

(2)- مقاتل الطالبيين/ 35.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 507

لمعاوية بن أبي سفيان أن يعهد الى أحد من بعده عهدا، بل يكون الأمر من بعده شورى بين المسلمين.» «1»

يظهر من الحديث أنّه مع عدم التمكّن من العمل بالنّصّ بأيّ دليل كان تصل النوبة إلى شورى المسلمين و آرائهم، فتأمّل.

الأمر السادس عشر: ما رويناه بطرق مختلفة عن رسول اللّه «ص» أنّه قال:

«ما ولّت أمّة قطّ أمرها رجلا و فيهم أعلم منه إلّا لم يزل أمرهم يذهب سفالا حتّى يرجعوا إلى ما تركوا.» «2»

إذ دلالته على كون الأمر أمر الأمة و أنّ توليته بأيديهم واضحة.

الأمر السابع عشر: ما في العيون عن الرضا «ع» بإسناده عن النبي «ص» قال:

«من جاءكم يريد أن يفرّق الجماعة و يغصب الأمّة أمرها و يتولّى من غير مشورة فاقتلوه.» «3»

إذ الظاهر من إضافة الأمر إلى الأمّة كون اختياره بيدها، فتأمّل.

______________________________

(1)- بحار الأنوار 44/ 65 الباب 19 (باب كيفية المصالحة) من تاريخ الإمام الحسن المجتبى، الرقم 13.

(2)- كتاب سليم بن قيس/ 118، و غيره، فراجع فصل اعتبار العلم في الحاكم.

(3)- عيون أخبار الرضا 2/ 62، الباب 31، الحديث 254.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 508

الأمر الثامن عشر: ما مرّ عن البخاري و غيره من قول النبي «ص»:

«لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة.» «1»

و دلالته كسابقه.

الأمر التاسع عشر: ما في كتاب سليم عن أمير المؤمنين «ع» قال:

«و الواجب في حكم اللّه و حكم الإسلام على المسلمين بعد ما يموت إمامهم أو يقتل ... أن لا يعملوا عملا و لا يحدثوا حدثا و لا يقدموا يدا و لا رجلا و لا يبدءوا بشي ء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماما عفيفا عالما ورعا عارفا بالقضاء و السنّة يجمع أمرهم ...» «2»

حيث يظهر من الحديث وجوب اختيار الناس و كونه منشئا للأثر و لكن في الرتبة المتأخرة عن اختيار اللّه، فإذا لم يكن منصوب كما في زمان الغيبة مثلا فاختيار الناس هو الذي تنعقد به الإمامة، فراجع تمام الحديث.

الأمر العشرون: ما في كتاب أعاظم الكوفة إلى سيّد الشهداء «ع»

و ما في جوابه «ع»:

______________________________

(1)- صحيح البخاري 3/ 91 كتاب المغازي، باب كتاب النبي «ص» إلى كسرى و قيصر.

(2)- كتاب سليم بن قيس/ 182.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 509

ففي كتابهم إليه:

«أمّا بعد فالحمد للّه الذي قصم عدوّك الجبّار العنيد الذي انتزى على هذه الأمّة فابتزّها أمرها و غصبها فيئها و تأمّر عليها بغير رضى منها.»

و في جوابه «ع» إليهم: «و إنّي باعث إليكم أخي و ابن عمّي و ثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فإن كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأي ملأكم و ذوي الحجى و الفضل منكم على مثل ما قدّمت به رسلكم و قرأت في كتبكم فإنّي أقدم إليكم وشيكا.» «1»

فأعاظم الكوفة أمثال حبيب بن مظاهر عدّوا الإمامة أمر الأمّة و اعتبروا فيها رضاها، و الإمام «ع» جعل الملاك رأي الملأ و ذوي الحجى و الفضل، أي أهل الحلّ و العقد المستعقب قهرا لرضا الأمّة و رأيها.

الأمر الحادي و العشرون:

ما في الدعائم عن جعفر بن محمد «ع» أنّه قال: «ولاية أهل العدل الذين أمر اللّه بولايتهم، و توليتهم و قبولها و العمل لهم فرض من اللّه.» «2»

إذ الظاهر منه أنّ التولية من قبل الأمّة فريضة من اللّه- تعالى- فتكون صحيحة نافذة قهرا.

الأمر الثاني و العشرون:

ما في تاريخ اليعقوبي في غزوة موتة عن بعضهم ما ملخّصه أنّ رسول اللّه «ص»

______________________________

(1)- إرشاد المفيد/ 185، و الكامل لابن الأثير 4/ 20 و 21.

(2)- دعائم الإسلام 2/ 527، كتاب آداب القضاة.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 510

قال: «أمير الجيش زيد بن حارثة، فإن قتل فجعفر بن أبي طالب؛ فإن قتل فعبد اللّه بن رواحة، فإن قتل فليرتض المسلمون من أحبّوا.» «1»

فوّض «ص» انتخاب الأمير بعد ابن رواحة إلى أنفسهم، فيظهر منه صحة ذلك و انعقاد الإمارة له بأحكامها و لوازمها التي منها لزوم التسليم و الطاعة.

الأمر الثالث و العشرون: ما في سنن أبي داود بسنده عن أبي سعيد الخدري

أن رسول اللّه «ص» قال:

«إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمّروا أحدهم.» «2» و بسنده عن أبي هريرة عنه «ص» نحوه.

و في مسند أحمد عن عبد اللّه بن عمرو انّ رسول اللّه «ص» قال: «لا يحلّ لثلاثة نفر يكونون بأرض فلاة إلّا أمّروا عليهم أحدهم.» «3»

فيعلم بذلك أنّ الاجتماع لا يصلح و لا ينتظم إلّا بأمير و أنّه تصلح الأمّة لانتخابه إذا لم يكن منصوبا.

الأمر الرابع و العشرون: ما في معاهدة النبيّ «ص» مع أهل مقنا:

«و ان ليس عليكم أمير إلّا من أنفسكم أو من أهل رسول اللّه و السلام.» «4»

و ظاهره انتخابهم لأحد من أنفسهم.

______________________________

(1)- تاريخ اليعقوبي 2/ 49. و روى نحوه الماوردي أيضا في الأحكام السلطانية/ 13.

(2)- سنن أبي داود 2/ 34، كتاب الجهاد، باب في القوم يسافرون يؤمّرون أحدهم.

(3)- مسند أحمد 2/ 177.

(4)- الوثائق السياسية/ 120، الرقم 33.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 511

إلى غير ذلك من الموارد التي يعثر عليها المتتبّع في خلال الروايات.

و اعلم أنّه ليس الغرض هو الاستدلال بكلّ واحد واحد من هذه الأخبار المتفرقة حتّى يناقش في سندها أو دلالتها، بل المقصود أنّه يستفاد من خلال مجموع هذه الأخبار الموثوق بصدور بعضها إجمالا كون انتخاب الأمّة أيضا طريقا عقلائيا لانعقاد الإمامة و الولاية، و قد أمضاه الشارع أيضا فلا ينحصر الطريق في النصب من طرف المقام العالي، و إن تقدّمت رتبته على الانتخاب و لا مجال للانتخاب مع وجوده.

الأمر الخامس و العشرون: فحوى ما أفتوا به من الاختيار و الانتخاب فيما إذا تعدّد المفتي

أو القاضي أو إمام الجماعة، و جواز انتخاب قاضي التحكيم من قبل المترافعين.

اللّهم إلّا أن يقال إن الانتخاب هنا بعد تحقّق النصب العامّ و تحقق المشروعية به.

الأمر السادس و العشرون: آيات و أخبار البيعة بكثرتها

على ما هو الأظهر من كونها من طرق إنشاء الولاية و عقدها.

و حيث إنّ البيعة بنفسها مسألة مهمّة اعتنى بها في الكتاب و السنّة فالأولى البحث فيها و في ماهيتها في فصل مستقلّ فنقول:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 513

الفصل الخامس في البيعة

اشارة

هل البيعة وسيلة لإنشاء الولاية و إعطائها للوالي، أو أنّها وسيلة للاعتراف بالولاية المتحققة و تقوية لها، أو أنّها ميثاق بين فردين أو قبيلتين أو بين الوالي و أمّته بالنسبة إلى أمر ما من الأمور الإجرائيّة و التنفيذية، أو أنّها قد تكون لعقد الولاية و قد تكون لغيره؟ وجوه:

فلنتعرّض أوّلا لبعض الآيات و الروايات المتعرّضة لها، ثمّ نبحث في ماهيتها.

فنقول:

[بعض الآيات المتعرّضة للبيعة]

1- قال اللّه- عزّ و جلّ-: «لَقَدْ رَضِيَ اللّٰهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبٰايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ، فَعَلِمَ مٰا فِي قُلُوبِهِمْ، فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثٰابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً.» «1»

2- و قال: «إِنَّ الَّذِينَ يُبٰايِعُونَكَ إِنَّمٰا يُبٰايِعُونَ اللّٰهَ، يَدُ اللّٰهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ، فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمٰا يَنْكُثُ عَلىٰ نَفْسِهِ، وَ مَنْ أَوْفىٰ بِمٰا عٰاهَدَ عَلَيْهُ اللّٰهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً.» «2»

______________________________

(1)- سورة الفتح (48)، الآية 18.

(2)- سورة الفتح (48)، الآية 10.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 514

و الآيتان واردتان في بيعة الحديبية في السنة السادسة من الهجرة. و سمّيت بيعة الرضوان أخذا من الآية.

و المراد بما في قلوبهم هو الخوف من المشركين، أو صدق النيّة و الصبر.

و بالسكينة: سكون النفس و الطمأنينة. و قوله: «يَدُ اللّٰهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ» تأكيد للجملة التي قبله، فكأنه جعل يده «ص» يد اللّه، أو أنّه لما جعل بيعته «ص» بيعة اللّه فكأنّه خيّل له- تعالى- يد وقعت فوق أيديهم في المبايعة. و قيل: معناه أنّ قوة اللّه- تعالى- في نصر نبيّه فوق نصرهم إيّاه، أي ثق بنصر اللّه لا بنصرتهم فلا يضرك نكثهم. و يحتمل أيضا أن يراد باليد القوة و القدرة، و يراد أنّ قوة اللّه فوق قوّتهم فهو يقوّيهم بقوّته. هذا.

و يظهر من الآية أنّ البيعة بنفسها و

إن كان لها أهميّتها و لكن طبعها يحتمل كلا من الوفاء و النكث. و الأجر العظيم إنّما هو في إبقائها بالوفاء. فلا اعتناء ببيعة من بايع رسول اللّه «ص» ثمّ نكثها و انقلب على عقبيه.

[بعض الروايات المتعرّضة للبيعة]

3- و في مسند أحمد:

«قلت لسلمة بن الأكوع على أيّ شي ء بايعتم رسول اللّه «ص» يوم الحديبية؟ قال:

بايعناه على الموت.» «1»

4- و فيه أيضا عن جابر:

«بايعنا نبيّ اللّه يوم الحديبية على أن لا نفرّ.» «2»

5- و في المجمع عن عبد اللّه بن معقل:

«لم يبايعهم على الموت و إنّما بايعهم على أن لا يفرّوا.» «3»

6- و قال اللّه- تعالى-: «يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذٰا جٰاءَكَ الْمُؤْمِنٰاتُ يُبٰايِعْنَكَ عَلىٰ أَنْ لٰا يُشْرِكْنَ بِاللّٰهِ شَيْئاً وَ لٰا يَسْرِقْنَ وَ لٰا يَزْنِينَ وَ لٰا يَقْتُلْنَ أَوْلٰادَهُنَّ وَ لٰا يَأْتِينَ بِبُهْتٰانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ وَ لٰا يَعْصِينَكَ

______________________________

(1)- مسند أحمد 4/ 51. و نحوه في الدر المنثور 6/ 74 عن معقل بن يسار، و عن سمرة.

(2)- مسند أحمد 3/ 292.

(3)- مجمع البيان 5/ 117 (الجزء 9).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 515

فِي مَعْرُوفٍ فَبٰايِعْهُنَّ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللّٰهَ، إِنَّ اللّٰهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ.» «1»

7- و في تفسير نور الثقلين عن الكافي بسند صحيح، عن أبان، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «لما فتح رسول اللّه «ص» مكّة بايع الرجال ثمّ جاءت النساء يبايعنه، فأنزل اللّه- عزّ و جلّ-: «يٰا أَيُّهَا النَّبِيُّ.» الآية ... قالت أمّ حكيم ... يا رسول اللّه، كيف نبايعك؟ قال: إنّني لا أصافح النساء، فدعا بقدح من ماء فأدخل يده ثمّ أخرجها فقال: أدخلن أيديكنّ في هذا الماء.» «2»

و روي فيه روايات أخر أيضا بهذا المضمون.

8- و روي

عن البخاري، عن عائشة، قالت: «كان النبي «ص» يبايع النساء بالكلام بهذه الآية أن لا يشركن باللّه شيئا. و ما مسّت يد رسول اللّه «ص» يد امرأة قطّ إلّا امرأة يملكها.» «3»

9- و روي أنّه «ص» كان إذا بايع النساء دعا بقدح فغمس يده فيه ثمّ غمسن أيديهنّ فيه. و قيل إنّه كان يبايعهن من وراء الثوب. «4»

و بالجملة، فبيعة رسول اللّه في الحديبية و في فتح مكة ذكرتا في القرآن، فيعلم بذلك كون البيعة من الأمور التي يهتمّ بها في الإسلام.

10- و في سيرة ابن هشام عن الزهري ما حاصله:

«إن رسول اللّه «ص» أتى بني عامر بن صعصعة، فدعاهم إلى اللّه و عرض عليهم نفسه، فقال له رجل منهم: ... إن نحن بايعناك على أمرك ثمّ أظهرك اللّه على من خالفك أ يكون لنا الأمر من بعدك؟ قال: «الأمر إلى اللّه يضعه حيث يشاء.»

قال: فقال: أ فتهدف نحورنا للعرب دونك فإذا أظهرك اللّه كان الأمر لغيرنا،

______________________________

(1)- سورة الممتحنة (60)، الآية 12.

(2)- نور الثقلين 5/ 307.

(3)- صحيح البخاري 4/ 247، كتاب الأحكام، باب بيعة النساء. و روى عنه في نور الثقلين 5/ 309.

(4)- نور الثقلين 5/ 309، تفسير سورة الممتحنة، الحديث 36، و مجمع البيان 5/ 276 (الجزء 9 من التفسير).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 516

لا حاجة لنا بأمرك. فأبوا عليه.» «1»

و الظاهر من لفظ الأمر هو القيادة و الحكومة، فيظهر من الرواية أنّ البيعة كانت على الحكم، أو على قبول الرسالة المستتبعة للحكم.

11- و فيه أيضا في بيعة العقبة الأولى:

«فبايعوا رسول اللّه «ص» على بيعة النساء، و ذلك قبل أن تفترض عليهم الحرب.» «2»

12- و عن عبادة

بن الصامت، قال:

«كنت فيمن حضر العقبة الأولى و كنا اثني عشر رجلا فبايعنا رسول اللّه «ص» على بيعة النساء، و ذلك قبل أن تفترض الحرب.» «3»

و المراد ببيعة النساء مضمون الآية في سورة الممتحنة، حيث لم يذكر فيها الجهاد.

13- و فيه في بيعة العقبة الثانية:

«فتكلم رسول اللّه «ص» فتلا القرآن و دعا إلى اللّه و رغّب في الإسلام ثمّ قال:

«أبايعكم على أن تمنعوني ممّا تمنعون منه نساءكم و أبناءكم.» قال فأخذ البراء بن معرور بيده ثمّ قال: نعم ... فبايعنا يا رسول اللّه، فنحن و اللّه أبناء الحروب و أهل الحلقة ... قال كعب: و قد قال رسول اللّه: أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيبا ليكونوا على قومهم بما فيهم فأخرجوا منهم اثني عشر نقيبا ... قال ابن إسحاق و حدثني عاصم بن عمر بن قتادة أنّ القوم لمّا اجتمعوا لبيعة رسول اللّه قال العباس بن عبادة بن نضلة الأنصاري اخو بني سالم بن عوف: يا معشر الخزرج، هل تدرون علا م تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم. قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر و الأسود من الناس ... قالوا: ابسط يدك فبسط يده فبايعوه ... فقال كعب بن مالك: فلمّا بايعنا رسول اللّه «ص» صرخ الشيطان من رأس العقبة بأنفذ صوت سمعته قط: يا أهل الجباجب- و الجباجب: المنازل- هل لكم في مذمّم و الصباة

______________________________

(1)- سيرة ابن هشام 2/ 66.

(2)- سيرة ابن هشام 2/ 73.

(3)- سيرة ابن هشام 2/ 75.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 517

معه قد اجتمعوا على حربكم.» «1»

أقول: 14- و روى القصة في إعلام الورى، و في آخرها عن علي بن إبراهيم:

«فلما اجتمعوا و بايعوا رسول

اللّه صاح بهم إبليس يا معشر قريش و العرب، هذا محمد و الصباة من الأوس و الخزرج على هذه العقبة يبايعونه على حربكم.» «2»

15- و لمّا فتح رسول اللّه «ص» مكّة جلس للبيعة على الصّفا و عمر بن الخطاب تحته، و اجتمع الناس لبيعة رسول اللّه «ص» على الإسلام، فكان يبايعهم على السمع و الطاعة للّه و لرسوله فيما استطاعوا، فكانت هذه بيعة الرجال. و أما بيعة النساء فإنّه لمّا فرغ من الرجال بايع النساء فأتاه منهن نساء من نساء قريش ... «3»

هذا كلّه بعض ما يرتبط ببيعة النبي «ص» المذكورة في القرآن و الحديث.

16- و في الاحتجاج في قصّة غدير خم و خطبة النبي «ص» عن الباقر «ع»:

«و كذلك أخذ رسول اللّه «ص» البيعة لعليّ «ع» بالخلافة على عدد أصحاب موسى، فنكثوا البيعة ...

فأقمه للناس علما و جدّد عهده و ميثاقه و بيعته و ذكّرهم ما أخذت عليهم من بيعتي و ميثاقي الذي واثقتهم و عهدي الذي عهدت إليهم من ولاية وليّي و مولاهم و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة علي بن أبي طالب «ع» ... فأقم يا محمد عليّا علما و خذ عليهم البيعة ...

معاشر الناس، قد بيّنت لكم و أفهمتكم و هذا عليّ يفهمكم بعدي. ألا و إنّ عند انقضاء خطبتي أدعوكم إلى مصافقتي على بيعته و الإقرار به ثمّ مصافقته بعدي. ألا و إنّي قد بايعت اللّه، و عليّ قد بايعني، و أنا آخذكم بالبيعة له عن اللّه- عزّ و جلّ-، و من نكث فإنّما

______________________________

(1)- سيرة ابن هشام 2/ 84.

(2)- إعلام الورى/ 40، الفصل السابع.

(3)- الكامل لابن الأثير 2/ 252.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 518

ينكث على نفسه ...

معاشر الناس، فاتّقوا اللّه و بايعوا عليّا أمير المؤمنين «ع» و الحسن و الحسين و الأئمّة، كلمة طيّبة باقية يهلك اللّه من غدر و يرحم اللّه من و فى ...

فنادته القوم سمعنا و أطعنا على أمر اللّه و أمر رسوله بقلوبنا و ألسنتنا و أيدينا، و تداكّوا على رسول اللّه و على عليّ «ع» فصافقوا بأيديهم ... و صارت المصافقة سنّة و رسما يستعملها من ليس له حقّ فيها.» «1» هذا.

17- و في إرشاد المفيد:

«و من كلامه (عليّ) «ع» حين تخلّف عن بيعته عبد اللّه بن عمر بن الخطاب، و سعد بن أبي وقّاص، و محمد بن مسلمة، و حسّان بن ثابت، و أسامة بن زيد ما رواه الشعبي، قال: لمّا اعتزل سعد و من سمّيناه أمير المؤمنين، و توقّفوا عن بيعته حمد اللّه و أثنى عليه ثمّ قال: أيّها الناس، إنّكم بايعتموني على ما بويع عليه من كان قبلي، و إنّما الخيار للناس قبل أن يبايعوا؛ فإذا بايعوا فلا خيار لهم، و إنّ على الإمام الاستقامة و على الرّعيّة التسليم.

و هذه بيعة عامّة من رغب عنها رغب عن دين الإسلام و اتّبع غير سبيل أهله، و لم تكن بيعتكم إيّاي فلتة، و ليس أمري و أمركم واحدا و إنّي أريدكم للّه و أنتم تريدونني لأنفسكم.» «2»

و روى القطعة الأخيرة في نهج البلاغة، فراجع «3».

18- و في نهج البلاغة: «فأقبلتم إليّ إقبال العوذ المطافيل على أولادها تقولون: البيعة، البيعة. قبضت يدي فبسطتموها و نازعتكم يدي فجذبتموها. اللّهم إنّهما قطعاني و ظلماني و نكثا بيعتي و ألّبا الناس عليّ.» «4»

______________________________

(1)- الاحتجاج للطبرسي 1/ 34- 41.

(2)- إرشاد المفيد/ 116.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 417؛ عبده

2/ 26؛ لح/ 194، الخطبة 136.

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 420؛ عبده 2/ 28؛ لح/ 195، الخطبة 137، و لكن في الفيض و الصالح: «قبضت كفّي» بدل «قبضت يدي». و كذا في الصالح: «فجاذبتموها» بدل «فجذبتموها».

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 519

أقول: العوذ جمع العائذ: الحديثة النتاج. و المطفل: ذات الطفل، و جمعها مطافيل. و التأليب: التحريض و الإفساد.

19- و في نهج البلاغة أيضا: «و بسطتم يدي فكففتها و مددتموها فقبضتها ثمّ تداككتم عليّ تداك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها، حتّى انقطعت النعل و سقط الرداء و وطئ الضعيف و بلغ من سرور الناس ببيعتهم إيّاي أن ابتهج بها الصغير و هدج إليها الكبير و تحامل نحوها العليل و حسرت إليها الكعاب.» «1»

أقول: الهدج: مشية الضعيف. و حسرت، أي كشفت الجواري عن وجوهها متوجّهة إلى البيعة. و الكعاب كسحاب: الجارية حين يبدو ثديها للنهود. و كشفهن حدث عن شوقهن و إسراعهن.

20- و في نهج البلاغة أيضا في كتابه «ع» إلى طلحة و الزبير: «أمّا بعد، فقد علمتما- و إن كتمتما- أنّى لم أرد الناس حتى أرادوني، و لم أبايعهم حتى بايعوني، و إنّكما ممّن أرادني و بايعني، و إنّ العامّة لم تبايعني لسلطان غالب و لا لعرض حاضر. فإن كنتما بايعتماني طائعين فارجعا و توبا إلى اللّه من قريب. و إن كنتما بايعتماني كارهين فقد جعلتما لي عليكما السبيل بإظهاركما الطاعة و إسراركما المعصية.» «2»

21- و فيه أيضا في كتابه إلى معاوية: «إنّه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار و لا للغائب أن يردّ، و إنّما الشورى

للمهاجرين و الأنصار، فإن اجتمعوا على رجل و سمّوه إماما كان ذلك (للّه) رضا. فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منه، فإن أبى قاتلوه على اتباعه غير سبيل المؤمنين و ولّاه اللّه ما تولّى.» «3»

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 722؛ عبده 2/ 249؛ لح/ 350 و 351، الخطبة 229.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1035؛ عبده 3/ 122؛ لح/ 445، الكتاب 54.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 840؛ عبده 3/ 8؛ لح/ 366، الكتاب 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 520

22- و فيه أيضا في كتابه «ع» إلى معاوية: «لأنّها بيعة واحدة لا يثنّى فيها النظر و لا يستأنف فيها الخيار. الخارج منها طاعن، و المرويّ فيها مداهن.» «1»

إلى غير ذلك ممّا ورد في بيعة أمير المؤمنين- عليه السلام-. و كتب التاريخ كالطبري و الكامل و الإرشاد، و كذا نهج البلاغة و غيرها من الكتب ملاء من ذلك، فراجع نهج البلاغة مضافا إلى ما مرّ، الخطب 8- 34- 37- 73- 136- 172- 173- 218، و الكتب 1- 8- 75 «2». و سيأتي بعضها في أثناء البحث.

23- و في إرشاد المفيد بسنده عن أبي إسحاق السبيعي و غيره، قالوا:

«خطب الحسن بن علي «ع» في صبيحة الليلة التي قبض فيها أمير المؤمنين «ع» ...

ثمّ جلس فقام عبد اللّه بن العباس «ره» بين يديه فقال: معاشر النّاس، هذا ابن نبيّكم و وصيّ إمامكم فبايعوه، فاستجاب له الناس فقالوا: ما أحبّه إلينا و أوجب حقّه علينا، و بادروا إلى البيعة له بالخلافة.» «3»

24- و بعد ما كتب أهل الكوفة إلى الحسين بن علي «ع» أنّه ليس علينا إمام فأقبل لعلّ اللّه أن يجمعنا

بك على الحقّ، و بعث هو «ع» ابن عمّه مسلم بن عقيل إلى الكوفة رائدا و ممثّلا له أقبلت الشيعة تختلف إلى مسلم، فلمّا اجتمع اليه منهم جماعة قرأ عليهم كتاب الحسين «ع» و هم يبكون و بايعه الناس حتّى بايعه منهم ثمانية عشر ألفا، فكتب مسلم إلى الحسين «ع» يخبره ببيعة ثمانية عشر ألفا و يأمره بالقدوم. «4»

و بيعتهم لا محالة كانت على قبول إمامة الحسين «ع» و طاعته.

25- و روى الصدوق في العيون بسنده إلى الريان بن شبيب:

أنّ المأمون لمّا أراد أن يأخذ البيعة لنفسه بإمرة المؤمنين، و لأبي الحسن علي بن موسى الرضا «ع» بولاية العهد، و للفضل بن سهل بالوزارة، أمر بثلاثة كراسي

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 843؛ عبده 3/ 9؛ لح/ 367، الكتاب 7.

(2)- راجع نهج البلاغة، مع شرحه للشيخ محمد عبده، ج 1 ص 38، 80، 85 و 120، و ج 2 ص 26، 104، 105 و 228، و ج 3 ص 3، 9 و 149.

(3)- إرشاد المفيد/ 170.

(4)- راجع إرشاد المفيد/ 186.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 521

فنصبت لهم فلمّا قعدوا عليها أذن للناس فدخلوا يبايعون، فكانوا يصفقون بأيمانهم على أيمان الثلاثة من أعلى الإبهام إلى الخنصر و يخرجون، حتّى بايع في آخر الناس فتى من الأنصار فصفق بيمينه من أعلى الخنصر إلى أعلى الإبهام، فتبسم أبو الحسن «ع» ثمّ قال: كلّ من بايعنا بايع بفسخ البيعة غير هذا الفتى فإنّه بايعنا بعقدها. فقال المأمون: و ما فسخ البيعة من عقدها؟ قال أبو الحسن «ع»: عقد البيعة من أعلى الخنصر إلى أعلى الإبهام، و فسخها من أعلى الإبهام إلى أعلى الخنصر. قال: فماج

الناس في ذلك و أمر المأمون بإعادة الناس إلى البيعة على ما وصفه أبو الحسن «ع».

و قال الناس: كيف يستحقّ الإمامة من لا يعرف عقد البيعة؟ إنّ من علم أولى بها ممّن لا يعلم. قال: فحمله ذلك على ما فعله من سمّه «ع».

و رواه عنه في نور الثقلين. «1»

26- و في خبر أبي بصير، عن أبي جعفر «ع» في أمر القائم «ع»: «فو اللّه لكأنّي أنظر إليه بين الركن و المقام يبايع الناس بأمر جديد و كتاب جديد و سلطان جديد من السماء.» «2»

و لعلّ المراد بالأمر الجديد الحكومة الإسلاميّة الصالحة العادلة أو خالص الإسلام و مصفّاه الذي أتى به النبي «ص». و بالكتاب الجديد القرآن الكريم بشرحه و تفسيره بإملاء رسول اللّه «ص» و خطّ أمير المؤمنين «ع»، كما ورد بذلك أخبار كثيرة، و إلّا فالكتاب الذي بأيدينا حقّ لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.

27- و في خبر عبيد بن زرارة، عن أبي عبد اللّه «ع» أنّه قال: «ينادى باسم القائم «ع» فيؤتى و هو خلف المقام فيقال له: قد نودي باسمك فما تنتظر؟ ثمّ يؤخذ بيده فيبايع.» «3»

28- و في خبر السّراج، عن أبي عبد اللّه «ع»: «فيظهر عند ذلك صاحب هذا الأمر

______________________________

(1)- عيون أخبار الرضا 2/ 238، الباب 59، الحديث 2. و رواه عنه نور الثقلين 5/ 60.

(2)- غيبة النعماني/ 175 (طبعة أخرى/ 262)، الباب 14 (باب ما روي في العلامات ...)، الحديث 22.

(3)- غيبة النعماني/ 176 (طبعة أخرى/ 263)، الباب 14، الحديث 25.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 522

فيبايعه الناس و يتبعونه.» «1»

إلى غير ذلك من الروايات.

و

ليست البيعة في عصر ظهور المهدي «ع» للتقيّة أو الجدل بلا إشكال. فيعلم بذلك كون البيعة منشأ للأثر في تثبيت الحكومة و الخلافة قطعا، فتدبّر.

و كيف كان فقد ظهر بالآيات و الأخبار المتواترة إجمالا عناية النّبي «ص» و اهتمامه بالبيعة التي كانت نحو معاهدة بين الرئيس و أمّته قبل الهجرة و بعدها، و هكذا أمير المؤمنين و الأئمّة من ولده و المسلمون جميعا.

و الظاهر أنّها لم تكن من مخترعات الإسلام، بل كانت من رسوم العرب و عاداتها الممضاة في الإسلام، بل لعلّها كانت معمولا بها في سائر الأمم أيضا.

و قد أكّد الكتاب و السنّة وجوب الوفاء بها و حرمة نكثها، كما يظهر مما مرّ.

29- و في أصول الكافي عن محمد الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «من فارق جماعة المسلمين و نكث صفقة الإمام جاء إلى اللّه- عزّ و جلّ- أجذم.» «2»

و في ذيل الصفحة:

«في بعض النسخ: صفقة الإبهام. و الأجذم: المقطوع اليد.»

30- و عن الخصال أنّ النبي «ص» قال: «ثلاث موبقات: نكث الصفقة، و ترك السنّة، و فراق الجماعة.» «3»

______________________________

(1)- غيبة النعماني/ 181 (طبعة أخرى/ 270)، الباب 14، الحديث 43.

(2)- الكافي 1/ 405، كتاب الحجة، باب ما أمر النبي «ص» بالنصيحة لأئمة المسلمين، الحديث 5.

(3)- بحار الأنوار 27/ 68، الباب 3 (باب ما أمر به النبي ...) من كتاب الإمامة، الحديث 4.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 523

الكلام في ماهيّة البيعة

لا يخفى انّ البيع و البيعة مصدران لباع، و حقيقتهما واحدة؛ فكما أنّ البيع معاملة خاصّة تنتج تبادل المالين فكذلك المبايع للرئيس كأنّه ببيعته له يجعل ماله و إمكاناته تحت تصرّفه و يتعهّد هو في قبال ذلك بالسعي في

إصلاح شئونه و تأمين مصالحه، فكأنّها نحو تجارة بينهما.

و أنت تعلم أنّ المتعاملين حسب المتعارف يتقاولان أوّلا في مقدار العوضين و خصوصيّاتهما، و يتعقب ذلك الرضا من الطرفين، و لكن المقاولة و الرضا من مقدّمات المعاملة، و حقيقة المعاملة إنّما تتحقق بإنشائها بالإيجاب و القبول أو بالمعاطاة أو بمصافقة الأيدي أو نحو ذلك.

فالمصافقة كانت من طرق إنشاء المعاملة عندهم، كما هو المعروف في أعصارنا أيضا في كثير من البلاد و القبائل، و كانت من أحكمها و أتقنها بحيث يقبح عندهم نقضها.

و على هذا فالذي ينسبق إلى الذهن في ماهية البيعة أنّها كانت وسيلة لإنشاء التولية بعد ما تحقّقت المقاولة و الرضا؛ فكانت القبائل إذا أحسّت بالاحتياج إلى رئيس لحفظ نظامها و الدفاع عنها في قبال الأجانب اجتمعت عند من تراه أهلا لذلك فتقاولوا و ذكروا الحاجات و الشروط، و بعد حصول التراضي كانوا ينشئون ما تقاولوا عليه و تراضوا به بمصافقة الأيدي. و بالإنشاء كانت تثبت الولاية، كما في البيع طابق النعل بالنعل. و كما أنّ المصافقة بالأيادي في البيع كانت إحدى الطرق للإنشاء و لكنّها أحكم الطرق عندهم فكذلك في الولاية، فلذا كانوا يهتمّون بخصوص البيعة.

فهذا، الذي نفهمه في تصوير ماهيّة البيعة، و لعلّه المستفاد من كلمات أهل اللغة أيضا.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 524

1- قال الراغب في المفردات:

«بايع السلطان: إذا تضمن بذل الطاعة له بما رضخ له، و يقال لذلك: بيعة و مبايعة.» «1»

2- و في نهاية ابن الأثير:

«و في الحديث أنّه قال: ألا تبايعوني على الإسلام، هو عبارة عن المعاقدة عليه و المعاهدة؛ كأنّ كلّ واحد منهما باع ما عنده من صاحبه و أعطاه خالصة نفسه

و طاعته و دخيلة أمره. و قد تكرّر ذكرها في الحديث.» «2»

3- و في الصحاح:

«بايعته من البيع و البيعة جميعا، و التبايع مثله.» «3»

4- و في لسان العرب:

«و البيعة: الصفقة على إيجاب البيع، و على المبايعة و الطاعة. و البيعة: المبايعة و الطاعة. و قد تبايعوا على الأمر كقولك: أصفقوا عليه. و بايعه عليه مبايعة: عاهده.

و بايعته من البيع و البيعة جميعا، و التبايع مثله. و في الحديث أنه قال: ألا تبايعوني على الإسلام، هو عبارة عن المعاقدة و المعاهدة؛ كأنّ كلّ واحد منهما باع ما عنده من صاحبه و اعطاه خالصة نفسه و طاعته و دخيلة أمره.» «4»

5- و في مقدمة ابن خلدون:

«فصل في معنى البيعة: اعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة؛ كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمر نفسه و أمور المسلمين، و لا ينازعه في شي ء من ذلك، و يطيعه فيما يكلّفه به من الأمر على المنشط و المكره. و كانوا إذا بايعوا الأمير و عقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيدا للعهد فأشبه ذلك فعل البائع و المشتري فسمّى بيعة؛ مصدر باع. و صارت البيعة مصافحة بالأيدي. هذا مدلولها في عرف

______________________________

(1)- المفردات للراغب/ 66.

(2)- النهاية لابن الأثير 1/ 174.

(3)- الصحاح للجوهري 3/ 1189.

(4)- لسان العرب 8/ 26.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 525

اللغة و معهود الشرع، و هو المراد في الحديث في بيعة النّبيّ «ص» ليلة العقبة و عند الشجرة و حيثما ورد هذا اللفظ.» «1»

6- و قال العلّامة الطباطبائي- قدس سره- في تفسير الميزان:

«و الكلمة مأخوذة من البيع بمعناه المعروف؛ فقد كان من دأبهم أنّهم إذا أرادوا إنجاز البيع

أعطى البائع يده للمشتري، فكأنّهم كانوا يمثّلون بذلك نقل الملك بنقل التّصرّفات التي يتحقّق معظمها باليد إلى المشتري بالتصفيق. و بذلك سمّي التصفيق عند بذل الطاعة بيعة و مبايعة. و حقيقة معناه إعطاء المبايع يده للسلطان مثلا ليعمل به ما يشاء.» «2»

فإن قلت: ما ذكرت من كون التولية نحو عقد و تجارة بين الوالي و الأمّة و أنّ البيعة و المصافقة كانت وسيلة لإنشائها و تنجيزها كما في البيع و إن كان قريبا إلى الذهن و ربّما يلوح من كلمات أهل اللغة أيضا و لكن نحن نعلم أنّ الرسالة و الولاية لرسول اللّه «ص» و كذلك الإمامة لأمير المؤمنين و الأئمة من ولده عندنا لم تحصلا بتفويض الأمّة و بيعتهم بل بجعل اللّه- تعالى- و نصبه، بايعت الأمّة أم لا.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 1، ص: 525

فأهل المدينة في بيعة العقبة الأولى أو الثانية مثلا لم يريدوا تفويض النبوّة أو الرئاسة إلى النّبيّ «ص» و إنّما بايعوه بعد قبول نبوّته و زعامته على العمل بما جاء به و الدفاع عنه، فكانت البيعة تأكيدا للاعتراف القلبي و ميثاقا بينهما على تنفيذ ما التزموا به.

قلت: نعم، رسول اللّه «ص» كان رسولا للّه و وليّا من قبل اللّه- تعالى- بلا إشكال و إن لم تبايعه الأمّة و لم تسلّم له، و كذلك الإمامة لأمير المؤمنين و الأئمة من ولده عندنا.

______________________________

(1)- مقدمة ابن خلدون/ 147، الفصل 29 من الفصل الثالث من الكتاب الأول.

(2)- تفسير الميزان 18/ 274، (في تفسير «إِنَّ الَّذِينَ يُبٰايِعُونَكَ إِنَّمٰا

يُبٰايِعُونَ اللّٰهَ»).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 526

و لكن لما ارتكز في أذهان الناس على حسب عادتهم و سيرتهم ثبوت الرئاسة و الزعامة بتفويض الأمّة و بيعتهم و كانت البيعة أوثق الوسائل لإنشائها و تنجيزها في عرفهم طالبهم النبيّ «ص» بذلك لتحكيم ولايته خارجا، فإن تمسّك الناس بما عقدوه بأنفسهم و التزامهم بوفائه و احتجاجهم به أكثر و أوثق بمراتب.

فالمراد بالتأكيد إيجاد ما هو الوسيلة لتحقّق الولاية عند الناس أيضا ليكون تحقّق المسبّب أقوى و أحكم، و لا محالة يترتّب عليه الإطاعة و التسليم خارجا.

و الظاهر أن البيعة لرسول اللّه «ص» كانت على حكمه و ولايته لا على رسالته، إذ الرسالة يكفي فيها الإيمان و التصديق، فتدبّر.

و بالجملة، إذا كان لتحقّق أمر طريقان و كان أحدهما أعهد عند الناس و أوثق و أنفذ فإيجاده بالطريقين يوجب تأكّده قهرا، كما هو مقتضى اجتماع العلل على معلول واحد.

و قد عرفت منّا أنّ الإمامة كما تحصل بنصب اللّه تحصل بنصب الأمّة أيضا بالبيعة.

و على هذا فإمامة أمير المؤمنين «ع» و إن تحققت عندنا بنصب اللّه أو نصب الرسول، و لكن لمّا كان إنشاؤها و جعلها من قبل الأمّة بالبيعة ممّا يوجب تأكّدها و أوقعيتها في النفوس و استسلام الناس لها خارجا و إمكان الاحتجاج بها فلذا أخذ له رسول اللّه «ص» البيعة بعد نصبه على ما مرّ. و في سورة الفتح أطلق على البيعة عهد اللّه حيث قال: «وَ مَنْ أَوْفىٰ بِمٰا عٰاهَدَ عَلَيْهُ اللّٰهَ. الآية.» «1» و كم له مناسبة مع كلمة «عهدي» المراد به الإمامة في قوله «لٰا يَنٰالُ عَهْدِي الظّٰالِمِينَ.» «2» فتدبر.

و لو قيل- كما لا يبعد- بكون البيعة وسيلة

لإنشاء الميثاق مطلقا و لو على بعض الأمور الجزئية الإجرائية.

______________________________

(1)- سورة الفتح (48)، الآية 10.

(2)- سورة البقرة (2)، الآية 124.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 527

قلنا: نفس الولاية و الرئاسة أيضا من أظهر مصاديق الميثاق، فإذا كان المقام مقام جعل الولاية كما في قصة غدير خم و في بيعة أمير المؤمنين «ع» بعد عثمان كانت البيعة حينئذ وسيلة لإنشاء الولاية.

و إنشاء ما جعله اللّه- تعالى- ممّا لا مانع منه، فإنّ الإنشاء خفيف المؤونة و الغرض منه تأكيد ما جعله اللّه- تعالى-.

و ما يقال من أن تمسّك أمير المؤمنين «ع» لإثبات خلافته في مكاتباته و مناشداته ببيعة المهاجرين و الأنصار وقع منه جدلا، فلا يراد منه أنّه- عليه السلام- لم يكن يرى للبيعة أثرا و أنّها كانت عنده كالعدم. بل الجدل منه «ع» كان في تسليم ما كان يزعمه الخصم من عدم النصب من قبل اللّه- تعالى-.

و قد مرّ منا أن الانتخاب من قبل الأمّة إنّما يعتبر في طول النصب من اللّه.

فلو كان هنا إمام منصوب من قبل اللّه- تعالى- فانتخاب الأمّة لغيره ممّا لا أثر له فإنّ أمر اللّه قبل أمرنا.

و كيف كان فالبيعة ممّا تتحقّق به الولاية إجمالا. كيف! و لو لم يكن لها أثر في تثبيت الإمامة و تحقيقها فلم طلبها رسول اللّه «ص» لنفسه و لأمير المؤمنين «ع»؟

و لم كان أمير المؤمنين «ع» يصرّ عليها في بعض الموارد؟ و لم يبايع صاحب الأمر «ع» بعد ظهوره بالسيف و القدرة؟

و ما قد يقال من أنّها لتأكيد النصب فمآله إلى ما نقول أيضا، إذ لو لم يكن يترتّب عليها تحقيق الإمامة لم تكن مؤكّدة فإنّ الشي ء الأجنبي عن الشي ء

لا يؤكّده و إنّما يطلق المؤكّد على السبب الوارد على سبب آخر.

نعم، البيعة باليد احدى الوسائل لإنشاء الولاية و تنجيزها و هي أتقنها عند الناس و لكن لا تتعين، لكفاية الإنشاء باللفظ و بالمكاتبة أيضا كما في البيع و سائر المعاملات. هذا.

و قد مرّ في خبر الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع» أنّه قال: «من فارق جماعة المسلمين

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 528

و نكث صفقة الإمام جاء إلى اللّه أجذم.» «1»

و عن النبي «ص» أنّه قال: «ثلاث موبقات: نكث الصفقة، و ترك السنّة، و فراق الجماعة.» «2»

[المراد بنكث البيعة]

و المراد بنكث الصفقة نقض الإمامة المستعقب للخروج عن الطاعة، فإنّ الإمامة كما عرفت منصب جعليّ اعتباريّ و إنّما تتبلور خارجا في طاعة الأمّة و تسليمهم. فالخروج عن طاعة الإمام نقض لإمامته خارجا، فتدبّر.

كما أنّ المراد بالإمام، الإمام العدل الواجد لشرائط الإمامة لا أمثال يزيد و الوليد.

و المراد بالجماعة جماعة الحقّ لا كلّ جماعة، كما يشهد بذلك مضافا إلى حكم العقل و مذاق الشرع أخبار مستفيضة كخبر علي بن جعفر، عن أخيه موسى بن جعفر، عن آبائه «ع» قال: قال رسول اللّه «ص»: «من فارق جماعة المسلمين فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه. قيل: يا رسول اللّه و ما جماعة المسلمين؟ قال: جماعة أهل الحقّ و إن قلّوا.» «3»

و في مرفوعة العلويّ قيل لرسول اللّه «ص»: ما جماعة أمّتك؟ قال: «من كان على الحقّ و إن كانوا عشرة.» «4»

و في مرفوعة ابن حميد: جاء رجل إلى أمير المؤمنين «ع» فقال: أخبرني عن السنّة و البدعة، و عن الجماعة و عن الفرقة. فقال أمير المؤمنين «ع»: «السنّة ما سنّ رسول اللّه «ص»،

و البدعة ما أحدث من بعده. و الجماعة أهل الحقّ و إن كانوا قليلا، و الفرقة أهل الباطل و إن كانوا كثيرا.» «5»

______________________________

(1)- الكافي 1/ 405، كتاب الحجة، باب ما أمر النبي «ص» بالنصيحة لأئمة المسلمين، الحديث 5.

(2)- بحار الأنوار 27/ 68. الباب 3 (باب ما أمر به النبيّ ...) من كتاب الإمامة، الحديث 4.

(3)- بحار الأنوار 27/ 67. الباب 3 (باب ما أمر به النبيّ ...) من كتاب الإمامة، الحديث 1.

(4)- بحار الأنوار 2/ 266، الباب 32 (باب البدعة و السّنة ...) من كتاب الإمامة، الحديث 22.

(5)- بحار الأنوار 2/ 266، الباب 32 (باب البدعة و السّنة ...) من كتاب العلم، الحديث 23.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 529

و في كنز العمال عن سليم بن قيس العامري، قال: «سأل ابن الكوّاء عليّا عن السنّة و البدعة، و عن الجماعة و الفرقة. فقال: «يا ابن الكوّاء، حفظت المسألة فافهم الجواب: السنّة و اللّه سنّة محمّد «ص»، و البدعة ما فارقها. و الجماعة و اللّه مجامعة أهل الحقّ و إن قلّوا، و الفرقة مجامعة أهل الباطل و إن كثروا.» «1»

إلى غير ذلك من الأخبار.

كيف! و قد ثار السبط الشهيد على يزيد و جماعته، و ثار زيد على هشام و جنده و القيام على الباطل و الفساد واجب مع القدرة كما مرّ في فصل الجهاد و يأتي في الفصل السادس أيضا بالتفصيل.

و قال الامام الصادق «ع» لسدير الصيرفي: «و اللّه يا سدير، لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود.» و كانت الجداء سبعة عشر. «2»

و عن أمير المؤمنين «ع» أنّه قال: «اعرفوا اللّه باللّه و الرسول بالرسالة و أولي

الأمر بالمعروف و العدل و الاحسان.» «3»

فأهل المنكر و الجور لا ولاية لهم و لا كرامة لجماعتهم.

______________________________

(1)- كنز العمال 1/ 378، الباب 2 من كتاب الإيمان من قسم الأفعال الحديث 1644.

(2)- الكافي 2/ 243، باب في قلة عدد المؤمنين من كتاب الإيمان و الكفر، الحديث 4.

(3)- نور الثقلين 1/ 501 في ذيل تفسير آية أطيعوا اللّه ...

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 531

الفصل السادس في ستّ عشرة مسألة مهمة يجب الالتفات إليها و البحث فيها

[خلاصة في نصب الإمام في كل زمان]

قد تحصّل لك مما ذكرناه بطوله أن الإمامة تنعقد بالنصّ بلا إشكال.

و الظاهر أن علماء السنة أيضا لا ينكرون صحة انعقادها بالنصّ و إنما ناقشوا في تحقق الصغرى.

و الظاهر من أصحابنا الإمامية المتعرضين لمسألة الإمامة عدم انعقادها بغير النص، و لكنّا قوّينا انعقاد الإمامة بالمعنى الأعم بانتخاب الأمّة أيضا، و لكن لا مطلقا بل في صورة عدم النص، و مع رعاية الشروط الثمانية التي مرّ اعتبارها في الإمام.

فالانتخاب مقيّد و محدود من وجهين، و يكون في الرتبة المتأخرة عنهما.

فمع وجود الإمام المنصوب كما هو معتقدنا في أمير المؤمنين و الأئمة المعصومين من ولده «ع» لا مجال لانتخاب غيره و لا يصير بذلك إماما مفترض الطاعة.

و في عصر الغيبة حيث إنّ الإمامة بالمعنى الأعم لا تتعطل و تجب إقامة الدولة الحقة في كلّ عصر و زمان- كما مرّ تفصيل ذلك- فلو فرض كون الفقهاء العدول الواجدين للشرائط منصوبين من قبل الأئمة «ع» لهذا المنصب فعلا و ثبت ذلك بالأدلة كما ادعاه الأعاظم الباحثون في المسألة فهو، و إلّا كانت ولاية الفقيه

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 532

الواجد للشرائط ثابتة بانتخاب الأمة و توليتها له، و وجب عليهم السعي في التعرف عليه و

ترشيحه لذلك و انتخابه بمرحلة واحدة أو بمرحلتين.

و قد مرّ في الفصل الثالث البحث الوافي فيما استدلوا به لنصب الفقيه من قبل الأئمة «ع» كمقبولة عمر بن حنظلة و نحوها، فراجع.

و قد يتوهّم أن طريق انعقاد الإمامة ينحصر في انتخاب الأمة فقط، و الذي ثبت بالنصّ من اللّه- تعالى- أو رسوله هو الترشيح و بيان الفرد الأصلح فقط، إذ ما لم يتحقق انتخاب الأمة و تسليمها و بيعتها لم تتحقق فعلية الإمامة و إمكان القبض و البسط و التصرفات الولائية.

أقول: قد مرّ منّا في التنبيه الرابع من تنبيهات الباب الثاني أن للإمامة مراتب ثلاث:

الأولى: مرتبة الصلوح و الشأنية.

الثانية: المنصب المجعول للشخص اعتبارا من قبل من له ذلك.

الثالثة: السلطة الفعلية الحاصلة بمبايعة الناس و متابعتهم. فأمير المؤمنين «ع» مثلا عندنا منصوب من قبل رسول اللّه «ص» في غدير خمّ و جعل له منصب الإمامة كما جعل للرسول منصب الأولوية و لإبراهيم الخليل منصب الإمامة، و كانت الولاية ثابتة لهم بالنصب و إن فرض انه لم يتابعهم أحد. و نظير ذلك ثبوت منصب الولاية شرعا للأب و الجد بالنسبة إلى مال الصغير و إن منعهما ظالم من التصرف فيه.

[أسئلة و اعتراضات]

اشارة

إذا عرفت ما ذكرناه فنقول هنا أسئلة و اعتراضات يجب الالتفات إليها و الجواب عنها:

الأولى: هل الترشيح بمقدار الكفاية للولاية الكبرى

و لشعبها من القضاء و الوزارة و إمارة الجند و نحوها لمن وجد الشرائط واجب و لا يجوز اعتزال الكل فيصيرون بذلك عصاة كما هو مقتضى الوجوب الكفائي، أو لا يجب ذلك بل- كما ربّما نسمعه من

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 533

بعض المعاصرين- يكون الاعتزال عنها أحوط و إن بدا للإسلام و المسلمين ما بدا؟!

الثانية: ما هو الفرق بين الحكومة الاسلامية، و بين الحكومة الديموقراطية

المتداولة في عصرنا المعبّر عنها بحكومة الشعب على الشعب؟

الثالثة: هل الشروط الثمانية التي اعتبرناها في الوالي تجب رعايتها تكليفا فقط

بحيث يترتّب العصيان على تركها، أو انّه لا بدّ منها وضعا بحيث إن للمنتخب و إن أطبقت عليه الأمة لو فقد الشرائط أو بعضها لم يصر بالانتخاب إماما واجب الاطاعة و كان انتخابه كالعدم كما هو الظاهر من التعبير بالشرط؟

الرابعة: على فرض اللّابدّيّة الوضعية فهل هي شروط واقعية أو علمية فقط؟

فعلى الأوّل لو فرض رعايتها حين الانتخاب ثم انكشف الخلاف بطل الانتخاب و لم يترتب عليه أثر. و على الثاني لا يبطل كما في بعض شروط الصلاة أو شرط العدالة في إمام الجماعة مثلا.

الخامسة: إذا لم يوجد من يجتمع فيه جميع الشروط

- و المفروض أن الامامة و الولاية لا يجوز تعطيلها. فوجد بعض الشروط في بعض و بعضها في آخر كما إذا كان أحدهما أعلم مثلا و الآخر أقوى في التدبير أو أشجع فما هو التكليف حينئذ؟

و قد تعرّض للمسألة ابن سينا في الشفاء و الماوردي و أبو يعلى كما يأتي.

السادسة: قد يقال إنه لو كانت الشورى و الانتخاب من قبل الأمّة مصدرا للولاية شرعا

كان على شارع الإسلام تشفيف الأمّة بالنسبة إلى هذا الأمر المهمّ و بيان شرائطه و حدوده كمّا و كيفا، مع أنّك لا تجد في الكتاب و السنة إلّا مجرّد عنوان الشورى بنحو الإهمال و الإجمال بلا تعرض لمواردها و حدودها و كيفية أخذ الآراء و المقدار اللازم منها.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 534

السابعة: إنّ من معضلات الانتخاب أنّ أكثر أفراد المجتمع جاهلون غالبا

بالنسبة إلى المسائل السياسية و أهلها و ليس لهم استقلال في التفكير فتغلب عليهم العواطف و الأحاسيس الآنيّة و تؤثّر فيهم الدعايات الكاذبة، و قد لا يكون للأكثر منهم التزام ديني و تعهد أخلاقي فيمكن اشتراء آرائهم بالتطميع المالي و الوعود البرّاقة أو التأثير عليهم بأساليب غريزية و إراءة الفتيات و الأفلام المنكرة و نحو ذلك، و قد لا تكون لهم شجاعة و قوة نفسانية فيؤثر فيهم النفوذ المحلّى و التهديدات و نحو ذلك، كما هو المشاهد في أعصارنا حتّى في بعض الأمم التي يدّعي أنها راقية. ففي الحقيقة لا تكون الآراء و الأصوات ناشئة عن انتخاب أصيل و اختيار من الناخبين.

الثامنة: هل الملاك في الانتخاب على القول به هو رأي الجميع، أو الأكثر،

أو جميع أهل الحل و العقد، أو أكثرهم، أو رأي الحاضرين في بلد الإمام كالمدينة مثلا في العصر الأوّل؟ ما هو الحقّ في المسألة؟

التاسعة: إن حصول الإطباق و الاتفاق مما يندر جدا بل لعلّه لا يقع،

و الأخذ بالأكثرية و لا سيما النسبية منها أو النصف بإضافة الواحد يوجب سحق حقوق الأقليّة و ضياعها، فكيف المخلّص؟

ثمّ إنه ليس هنا مجتمع إلّا و يوجد فيه الغائبون و القاصرون و من يولد بعد الانتخاب، فكيف ينفذ انتخاب غيرهم بالنسبة إليهم؟ و كيف تحفظ حقوقهم في الثروات و الأموال العامة كالمعادن و الغابات و المفاوز و نحوها مما خلقه اللّه لكافة الناس؟ فهذه مشكلة عظيمة ربما لم يجد المفكرون لها مخلصا مقنعا.

العاشرة: لو قيل باعتبار الأكثرية في قبال الأقليّة

فلو فرض أن المفكرين و المثقفين و أهل الصلاح و السداد في طرف الأقليّة، و الهمج الرعاع و ضعفاء العقول في طرف الأكثرية- كما لعلّه الغالب في كثير من البلاد- فهل تقدم الأكثريّة الكذائية على الأقليّة الصالحة؟ و بعبارة أخرى: هل الاعتبار بالكميّة أو بالكيفيّة؟

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 535

الحادية عشرة: إذا كان هنا أمور لا يجوز لآحاد الأمّة التصدّي لها و مباشرتها،

كإجراء الحدود و التعزيرات و القضاء و إصدار الأحكام الولائية في موارد الاضطرار مثلا، فكيف يجوز للحاكم المنتخب من قبل الأمّة التصدّي لها مع أن ولايته من قبلهم و هو فرع لهم؟ و كيف يزيد الفرع على الأصل و يتصدّى هو لما لم يكن لهم أن يتصدّوا له بأنفسهم و كيف يفوّضونه إليه؟

الثانية عشرة: على فرض كفاية رأي الأكثرية لو فرض تقاعس الأكثرية

و استنكافهم عن الاشتراك في الانتخابات فما هو التكليف؟ و هل يكفي حينئذ انتخاب الأقلية و ينفذ بالنسبة إلى الجميع أو يجبر الأكثرية من قبل الحاكم المتسلّط فعلا بالانتخاب السابق على الشركة في الانتخابات؟

الثالثة عشرة: إذا لم تقدم الأمّة على الانتخاب و لم يكن إجبارها،

و لم نقل بكون الفقيه منصوبا بالفعل من قبل الأئمة- عليهم السلام- فهل تبقى الأمور معطّلة أو يجب على كلّ فقيه من باب الحسبة التصدّي لما أمكنه من هذه الأمور؟

الرابعة عشرة: هل الانتخاب عقد جائز من قبيل التوكيل فيجوز للأمة فسخه و نقضه مهما أرادت،

أو هو عقد لازم من قبيل البيع و نحوه فلا يجوز نقضه إلّا مع تخلّف الوالي عمّا شرط عليه؟

الخامسة عشرة: هل يشترط في الناخبين أيضا شروط معيّنة وراء العقل و التميّز،

أو يكون الانتخاب حقّا لكلّ مسلم مميّز بل و غير المسلمين أيضا؟ و قد ذكر الماوردي و ابو يعلى شروطا للناخبين أيضا، كما يأتي.

السادسة عشرة: هل يجوز للأمّة مواجهة الإمام و الوالي و القيام و الثورة عليه

و الكفاح المسلح إذا فقد بعض الشرائط كالعدالة مثلا، أو لا يجوز، أو يفصل بين

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 536

الشروط، أو بين ما إذا خيف على بيضة الإسلام و أساسه و بين غيره، أو بين الأخطاء الجزئية و الانحرافات الأساسية؟

فهذه ستة عشر سؤالا سردناها بالإجمال فلنتعرض لها و لأجوبتها بالتفصيل.

فنقول:

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 537

[الجواب عن الأسئلة]

المسألة الأولى الظاهر أن وجوب الترشيح للولاية و لشعبها لمن يقدر عليها واضح،

إذ الحكومة كما عرفت من ضروريات حياة البشر، و عليها يتوقّف حفظ كيان الإسلام و المسلمين و حفظ ثغورهم و بلادهم و دفع الكفار و الطواغيت عنهم. و تعطيلها يوجب تضييع الحقوق و تعطيل الحدود و الأحكام و الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر.

و بعبارة أخرى يوجب تعطيل الإسلام بمفهومه الوسيع.

فإن اخترنا كون الفقهاء الواجدين للشرائط منصوبين من قبل الأئمة- عليهم السلام- للولاية، فعليهم التصدّي لشئونها كفاية، و على المسلمين إطاعتهم و التسليم لهم فيما يرتبط بأمر الحكومة.

و إن قلنا بصلوحهم لذلك فقط، و أن الولاية الفعلية تتوقف على انتخاب الأمّة، فعليهم عرض أنفسهم و على المسلمين ترشيحهم و انتخابهم. و التارك لذلك من الفريقين مع الإمكان عاص بلا إشكال، كما هو مقتضى الوجوب الكفائي.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 538

المسألة الثانية تفترق الحكومة الإسلامية عن الحكومة الديموقراطية بوجهين أساسين:
الأول: أنّه يشترط في حاكم المسلمين مطلقا،

سواء كان بالنصب أو بالانتخاب، أن يكون أعلم الناس و أعدلهم و أتقاهم و أقواهم بالأمر و أبصرهم بمواقع الأمور و بالجملة أجمعهم للفضائل. ففي عصر النبي «ص» كان هو بنفسه إماما للمسلمين و أولى بالمؤمنين من أنفسهم، و بعده كانت الإمامة عندنا حقّا للأئمة الاثني عشر «ع» على ما فصل في الكتب الكلامية. و في عصر الغيبة للفقيه العادل العالم بزمانه البصير بالأمور و الحوادث الحافظ لحقوق الناس حتّى الأقليّات غير المسلمة، فلا يجوز للأمّة انتخاب غيره. و قد مرّ تفصيل الشروط و أدلّتها في الباب السابق، فراجع.

و بالجملة في صورة عدم النصب تكون آراء الأمّة معتبرة و لكنّها في طول الشروط المذكورة و في الرّتبة المتأخرة عنها، فلا تصحّ إمامة الفاقد لها.

الثاني: أنّ الحكومة الإسلاميّة بشعبها الثلاث:

من التشريع و التنفيذ و القضاء تكون في إطار قوانين الإسلام و موازينه و ليس لها أن تتخلف عمّا حكم به الإسلام قيد شعرة. فالحكومة مشروطة مقيدة، و الحاكم في الحقيقة هو اللّه- تعالى- و الدين الحنيف بمقرراته الجامعة. و لذا يعبّر عنها بالحكومة الثئوقراطية في قبال الحكومة الديموقراطية. فالمراد بالحكومة الثئوقراطيّة حكومة القانون الإلهي، لا حكومة رجال الدين حكومة استبدادية على نحو ما كان لرجال الكنيسة و البابا في القرون الوسطى. هذا.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 539

و لو فرض وجود أقلّيّات من غير المسلمين أيضاً. فالإسلام بقوانينه الجامعة قد ضمن حقوقهم أيضا على ما فصّل في محلّه.

قال اللّه- تعالى-: «إِنِ الْحُكْمُ إِلّٰا لِلّٰهِ.»* و قال: «أَلٰا لَهُ الْحُكْمُ.» «1»

و قال: «... وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ ... وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الظّٰالِمُونَ ... وَ

مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْفٰاسِقُونَ.» «2»

و قال مخاطبا لنبيّه «ص»: «وَ أَنْزَلْنٰا إِلَيْكَ الْكِتٰابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمٰا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتٰابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ، فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ وَ لٰا تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ عَمّٰا جٰاءَكَ مِنَ الْحَقِّ ... وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ وَ لٰا تَتَّبِعْ أَهْوٰاءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ إِلَيْكَ.» «3»

إلى غير ذلك من الآيات الشريفة.

فهذان الأمران خصيصتان للحكومة الإسلامية.

و أما في الحكومة الديموقراطية الغربية فلا تقيد للشعب و لا للحاكم، لا بالنسبة إلى إيدئولوجية خاصة، و لا بالنسبة إلى المصالح النوعية و الفضائل الأخلاقيّة، بل ترى الشعب ينتخب من يجري و ينفّذ نواياه و أهواءه. و الحاكم لا يتخلف عن ذلك قهرا، فيكون الشعب بأهوائه منشأ للتشريع و التنفيذ معا. و الحاكم يكيّف نفسه وفق أهواء الشعب و إن خالفت مصالحهم الواقعية و مصالح النوع و الفضائل الأخلاقية.

فما أكثر الحكام الذين تجاوبوا مع أهواء شعبهم و تجاهلوا نداءات الضمير و الوجدان طمعا في الانتخاب المجدّد!!

و أما الحاكم الإسلامي فبعدله و تقواه لا يتخلف قهرا عن أحكام اللّه- تعالى- و عن الحق و الفضيلة، و لا يفكّر في الانتخاب المجدد إذا فرض توقفه على الانحراف

______________________________

(1)- سورة الأنعام (6)، الآية 57 و 62.

(2)- سورة المائدة (5)، الآية 44، 45 و 47.

(3)- سورة المائدة (5)، الآية 48 و 49.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 540

و التخطّي عن الحقّ.

بل واضح أن انحرافه يوجب سقوط عدالته و عدم جواز انتخابه قهرا، فتدبّر.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 541

المسألة الثالثة هل الشروط الثمانية التي اعتبرناها في الوالي تجب رعايتها تكليفا فقط حين الانتخاب،

أو لا بدّ منها وضعا بحيث يبطل

الانتخاب و لا تنعقد الإمامة بدونها؟

فنقول: أمّا على القول بنصب الفقهاء من قبل الأئمة المعصومين «ع» فلا إشكال في المسألة، إذا المنصوب هو العنوان الواجد للشرائط المذكورة على ما تقتضيه الأدلة، و غير الواجد لم ينصب فلا يكون واليا.

و أمّا على القول بالانتخاب فظاهر الآيات و الروايات المتعرضة للأوصاف أيضا كونها في مقام بيان الحكم الوضعي و أن الإسلام و الفقاهة و العدالة و غيرها شروط للوالي، فلا تنعقد الولاية لمن فقدها و إن اختاروه بآرائهم. فتأمّل في قوله- تعالى-:

«لَنْ يَجْعَلَ اللّٰهُ لِلْكٰافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا.» «1»

و قوله: «لٰا يَنٰالُ عَهْدِي الظّٰالِمِينَ.» «2»

و قوله: «وَ لٰا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لٰا يُصْلِحُونَ.» «3»

و قوله حكاية عن يوسف النبي «ع»: «اجْعَلْنِي عَلىٰ خَزٰائِنِ الْأَرْضِ، إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ.» «4»

و قول الرسول الأكرم «ص»: «لا تصلح الإمامة إلّا لرجل فيه ثلاث خصال: ورع

______________________________

(1)- سورة النساء (4)، الآية 141.

(2)- سورة البقرة (2)، الآية 124.

(3)- سورة الشعراء (26)، الآية 151 و 152.

(4)- سورة يوسف (12)، الآية 55.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 542

يحجزه عن معاصي اللّه، و حلم يملك به غضبه، و حسن الولاية على من يلي.» «1»

و قول أمير المؤمنين «ع»: «لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج و الدماء و المغانم و الأحكام و إمامة المسلمين، البخيل فتكون في أموالهم نهمته، و لا الجاهل فيضلهم بجهله ...» «2»

و قول الإمام المجتبى «ع» في خطبته بمحضر معاوية: «إنما الخليفة من سار بكتاب اللّه و سنّة نبيّه «ص» و ليس الخليفة من سار بالجور.» «3»

و قول سيد الشهداء «ع» في جوابه لأهل الكوفة: «فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب، القائم

بالقسط، الدائن بدين الحقّ ...» «4»

الى غير ذلك من الآيات و الروايات المتعرضة للشرائط.

و الأمر و النهي في هذا السنخ من الأمور أيضا ظاهران في الإرشاد إلى الشرطيّة و المانعيّة. هذا.

و لكن المسألة لا تخلو من غموض، إذ لو فرض أن الأمّة و لو لعصيانهم اختاروا أميرا غير واجد للشرائط و أطبقوا عليه و انتخبوه و بايعوه، و فرض أنّه ينفّذ مقررات الإسلام و لا يتخلف عنها فهل تبطل إمامته و يجوز لهم نقض بيعته و التخلف عنه؟! مشكل جدّا، إذ الخطأ و الاشتباه و كذا العصيان مما يكثر وقوعها في أفراد البشر، و جواز نقض البيعة و التخلف عنها حينئذ يوجب تزلزل النظام و عدم قراره أصلا، فلا يقاس المقام بما إذا ظهر التخلف في المبيع ذاتا أو وصفا كما إذا باع الشي ء على أنه خلّ فبان أنه خمر أو على أنه صحيح فبان معيبا، حيث يحكمون فيهما بفساد البيع أو الخيار فيه، فتأمّل.

و بذلك يظهر وجه الإشكال في المسألة التالية أيضا.

قال الماوردي:

______________________________

(1)- الكافي 1/ 407، كتاب الحجة، باب ما يجب من حق الإمام ...، الحديث 8.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 407؛ عبده 2/ 19؛ لح/ 189، الخطبة 131.

(3)- مقاتل الطالبيين/ 47.

(4)- إرشاد المفيد/ 186.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 543

«و لو ابتدءوا بيعة المفضول مع وجود الأفضل نظر؛ فإن كان ذلك لعذر دعا إليه- من كون الأفضل غائبا أو مريضا أو كون المفضول أطوع في الناس و أقرب في القلوب- انعقدت بيعة المفضول و صحت إمامته. و إن بويع لغير عذر فقد اختلف في انعقاد بيعته و صحة إمامته؛ فذهبت طائفة منهم الجاحظ إلى أن بيعته لا تنعقد لأنّ

الاختيار إذا دعا إلى أولى الأمرين لم يجز العدول عنه إلى غيره مما ليس بأولى كالاجتهاد في الأحكام الشرعية. و قال الأكثر من الفقهاء و المتكلمين تجوز إمامته و صحت بيعته و لا يكون وجود الأفضل مانعا من إمامة المفضول إذا لم يكن مقصرا عن شروط الإمامة، كما يجوز في ولاية القضاء تقليد المفضول مع وجود الأفضل لأن زيادة الفضل مبالغة في الاختيار و ليست معتبرة في شروط الاستحقاق.» «1»

و ما ذكره غير مورد البحث و لكنه يقرب منه كما لا يخفى.

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية للماوردي/ 8.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 544

المسألة الرابعة هل الشروط واقعية أو علمية فقط

كما في اشتراط العدالة في إمام الجماعة؟

فنقول: إذا فرض استنباط الشرطية من الأدلة فظاهرها شرطية نفس هذه الأوصاف لا إحرازها و العلم بها كما هو واضح.

نعم، يقع الإشكال على الانتخاب، إذ لو أحرزت الأمة جامعيّة الفرد للشرائط و اختاروه بآرائهم ثم انكشف الخلاف فكيف ينقضون بيعتهم و يتخلفون عنها بعد ما جعلوه إماما و بايعوه؟ و هل لا يصير تجويز هذا الأمر وسيلة لتخلّف بعض الناس عن إمامهم مستمسكا بهذا العذر؟ فيلزم الهرج و المرج.

و بالجملة فالحكم في المسألتين لا يخلو من غموض.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 545

المسألة الخامسة إذا فرض وجود بعض الشرائط في بعض و بعضها في آخر

و لم يوجد الواجد للجميع فما هو التكليف حينئذ؟

قال الماوردي في الأحكام السلطانية:

«و لو كان أحدهما أعلم و الآخر أشجع روعي في الاختيار ما يوجبه حكم الوقت؛ فإن كانت الحاجة إلى فضل الشجاعة أدعى لانتشار الثغور و ظهور البغاة كان الأشجع أحقّ. و إن كانت الحاجة إلى فضل العلم أدعى لسكون الدهماء و ظهور أهل البدع كان الأعلم أحق.»

و نحو ذلك في الأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى الفرّاء «1».

و قال ابن سينا في الشفاء:

«و المعوّل عليه الأعظم، العقل و حسن الإيالة، فمن كان متوسطا في الباقي و متقدما في هذين بعد أن لا يكون غريبا في البواقي و صائرا إلى اضدادها فهو أولى ممن يكون متقدما في البواقي و لا يكون بمنزلته في هذين، فيلزم أعلمهما أن يشارك أعقلهما و يعاضده، و يلزم أعقلهما أن يعتضد به و يرجع إليه؛ مثل ما فعل عمر و عليّ- عليه السلام-.» «2»

أقول: عندنا فيما ذكره ابن سينا من المثال نقاش؛ و قد قال أمير المؤمنين «ع» على ما في نهج البلاغة: «و اللّه

ما معاوية بأدهى منّي و لكنّه يغدر و يفجر. و لو لا كراهيّة الغدر لكنت من أدهى الناس.» «3»

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية للماوردي/ 7، و لأبي يعلى/ 24.

(2)- الشفاء/ 452 (طبعة أخرى/ 564)، أواخر الإلهيات، فصل في الخليفة و الإمام.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 648؛ عبده 2/ 206؛ لح/ 318، الخطبة 200.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 546

و قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه:

«و اعلم أن قوما ممن لم يعرف حقيقة فضل أمير المؤمنين «ع» زعموا أن عمر كان أسوس منه «ع»، و إن كان هو أعلم من عمر، و صرّح الرئيس أبو علي بن سينا بذلك في الشفاء.» «1» هذا.

و موارد التزاحم لا تنحصر فيما ذكروه من الأمثلة بل هي كثيرة جدّا بلحاظ الشروط الثمانية المعتبرة في الإمام، كما لا يخفى.

و الظاهر أن هذا البحث لا مجال له على القول بالنصب من قبل الأئمة «ع»، إذ المستفاد من أدلّته المذكورة هو نصب الفقيه الجامع للشرائط و لا دليل على نصب غيره. فإذا لم يوجد الجامع لها فإن قلنا بصحة الانتخاب في هذه الصورة جرى البحث و إلّا وجب كفاية على من يقدر، التصدّي للشئون من باب الحسبة، كما يأتي وجهه. هذا.

و الظاهر صحة الانتخاب و عموم أدلته لهذه الصورة أيضا.

لا يقال: أدلة اعتبار الشروط الثمانية في الوالي مخصّصة لهذه العمومات بل لها نحو حكومة عليها.

فإنه يقال: لا يبعد كونها بنحو تعدّد المطلوب؛ فمع إمكان الشرائط يجب رعايتها وجوبا شرطيا و لا تنعقد الإمامة لغير الواجد، و لكن مع عدم التمكن منها يكون أصل انتخاب الحاكم مطلوبا شرعا لعدم جواز تعطيل الحكومة و شدة اهتمام الشارع بها.

و حمل المطلق على المقيّد

إنّما هو فيما إذا أحرزت وحدة الحكم في الجملتين، و في الأمور المهمّة الضرورية على أي تقدير، لا تحرز وحدته لاحتمال تعدد المطلوب؛ نظير ما إذا قال المولى لعبده: «أنقذ ابني الأسير بوسيلة كذا.» فإذا فرض أن العبد لا يتمكّن من الوسيلة الخاصّة السريعة فهل لا يجب عليه إنقاذه بغير هذه الوسيلة

______________________________

(1)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 10/ 212.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 547

و يجوز له تركه رأسا؟ لا أظن أن أحدا يلتزم بذلك.

و لا يخفى أن الحكومة من هذا القبيل؛ فتأمّل في أدلّتها الدّالّة على ضرورتها و اهتمام الشارع بها و عدم جواز تعطيلها و لا سيّما مثل كلام أمير المؤمنين «ع»: «هؤلاء يقولون لا إمرة إلّا للّه و إنّه لا بدّ للناس من أمير برّ أو فاجر.» «1»

و قوله «ع»: «وال ظلوم خير من فتنة تدوم.» «2» إلى غير ذلك من الأدلة.

و على هذا فلا يجوز تعطيل الحكومة على أي حال و لكن يجب رعاية الشرائط مهما أمكن. و مع عدم التمكن من الواجد للجميع يجب رعاية الأهمّ فالأهمّ من ناحية نفس الشرائط و من ناحية الظروف و الحاجات. فالعقل و الإسلام و قوة التدبير بل و العدالة من أهم الشرائط، كما أن الحاجات و الظروف أيضا كما أشار إليه الماوردي و ابو يعلى مختلفة. و التشخيص لا محالة محوّل إلى الخبراء في كلّ عصر و مكان.

و من أهم موارد التزاحم و أكثرها ابتلاء التزاحم بين الفقاهة، و بين القوة و حسن التدبير كما تعرض له ابن سينا و إن ناقشنا في مثاله.

و لعلّ الثاني أهم، إذ النظام و تأمين المصالح و دفع الكفار و

الأجانب لا تحصل إلّا بالقوة و حسن التدبير و السياسة. و حيث فرض تحقق الإسلام و العدالة فيه فهما يلزمانه قهرا بتعلّم الأحكام من أهلها و عدم الإقدام بغير علم.

و يمكن أن يفصّل بحسب الشرائط و بحسب الأزمنة و الأمكنة، كما قال الماوردي و ابو يعلى.

فقد تكون الأوضاع بحرانية متأزّمة و الأجواء السياسية مسمومة، فيكون الاحتياج إلى القوة و حسن التدبير أكثر.

و قد يكون الأمر بالعكس، فتكون الشرائط و الأوضاع عاديّة و الأجواء سليمة و لكن الاحتياج إلى التقنين و التشريع و الاطلاع على الموازين الإسلاميّة بأدلّتها أو رفع الاشتباهات و البدع الظاهرة كثير جدّا، فتلزم الفقاهة و الاطلاع العميق على مقررات الإسلام و موازينه، فتدبر.

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 125؛ عبده 1/ 87؛ لح/ 82، الخطبة 40.

(2)- الغرر و الدرر 6/ 236، الحديث 10109.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 548

المسألة السادسة قد يعترض بأنّه لو كانت الشورى و الانتخاب من قبل الأمّة مصدرا للولاية شرعا

كان على شارع الإسلام تثقيف الأمة و تنويرها بالنسبة إلى هذا الأمر المهمّ و بيان حدوده و شرائطه و كيفيّاته.

و يمكن أن يجاب عن هذا الاعتراض بأن عدم التحديد للشورى و الانتخاب بحسب الكيفية و مواصفات الناخب كما و كيفا و غير ذلك و عدم صوغهما في قالب معيّن يجب أن يعدّ من ميزات الشريعة السمحة السهلة و من مزاياها البارزة، حيث أراد الشارع بقاءها إلى يوم القيامة و انطباقها على مختلف الأعصار و البلاد و الظروف الاجتماعيّة و الإمكانات الموجودة.

فحال تعيين الوالي حال سائر شرائط الحياة و البقاء من الغذاء و اللباس و الدواء و السكنى و وسائل السفر و الاستضاءة و غير ذلك من لوازم المعيشة، حيث لا تتقدر بقدر خاص و شكل معين لاقتضاء كل ظرف شكلا

معيّنا.

فأنت ترى أن الانتخاب للوالي الأعظم و أخذ الآراء له بالوضع الممكن فعلا لم يكن متيسّرا في تلك الأعصار، و كل يوم توجد امكانيات جديدة.

و الأمّة الإسلامية حيث جاءت في آخر الزمان فقد انتهت إليها تجارب الأمم السابقة و امتازت عن سائر الأمم بحسب التفكير و التعقل، فيجوز بيان الأصول لها و إحالة الخصوصيّات إلى تشخيص المتشرعين أنفسهم.

و طبع الشريعة الباقية الدائمة يقتضي بيان الأصول و إحالة الأشكال و القوالب و الخصوصيات إلى المتشرعة المطلعين على الحاجات و الإمكانات و الظروف.

و أصل الشورى قد ورد في الكتاب و السنة مؤكدا كما مرّ.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 549

و في كلام أمير المؤمنين «ع»: «و إنما الشورى للمهاجرين و الأنصار؛ فإن اجتمعوا على رجل و سمّوه إماما كان ذلك (للّه) رضا.» «1»

و قال أيضا: «و لعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامّة الناس فما إلى ذلك سبيل، و لكن أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثمّ ليس للشاهد أن يرجع و لا للغائب أن يختار.» «2»

فهو «ع» تعرض لبعض خصوصيات الشورى أيضا و جعل الملاك شورى أهل الحلّ و العقد و أهل العلم و المعرفة، و لا يخفى أن شورى أهل الحلّ و العقد تستعقب غالبا رضا جميع الأمّة أو أكثرهم قهرا.

و لعل هذا كان في صورة عدم إمكان تحصيل آراء الأمة مباشرة، و أمّا مع إمكان تحصيلها بمرحلة واحدة أو بمرحلتين كما في أعصارنا فالواجب تحصيلها لتكون الحكومة أقوى و أحكم.

و كيف كان فما هو الواجب على الشارع الحكيم بيان أصل الشورى و الحثّ عليها؛ و قد بيّن. و أمّا الكيفيات و الخصوصيات و الشرائط فمفوضة إلى العقلاء

و أهل العلم الواقفين على حاجات الزمان و الظروف و الإمكانيّات.

و لا يخفى أنّ تبيين جميع الفروع و الأحكام في الإسلام من العبادات و المعاملات و السياسات و نحوها أيضا كان على هذا النحو. فكما أنّه ليس في الكتاب و السنة اقتصاد منظم مدوّن و إنّما وردت فيها كليات و أصول رتّبها و شرحها الفقهاء، و صاغها في القوالب الخاصّة علماء الاقتصاد حسب ظروف الزمان، فكذلك الأمر في الحكومة و الدولة، حيث ترى أصولها و شرائط الحاكم و مواصفاته مذكورة في الكتاب و السنة كما مرّ. و كذلك الشورى و بعض خصوصياتها.

فعلى الفقهاء جمع الأدلة و بيانها، و على المتخصصين في فنون السياسة و الواقفين على ظروف الزمان و إمكاناتها تطبيقها على أساس الإمكانات المختلفة المتكاملة بحسب الظروف و الأمكنة و الأزمنة كسائر الحاجات الاجتماعية و غيرها.

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 840؛ عبده 3/ 8؛ لح/ 367، الكتاب 6.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 558؛ عبده 2/ 105؛ لح/ 248، الخطبة 173.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 550

و لم يكن الانتخاب على أساس الشورى أمرا مستحدثا بل كان رائجا بين العقلاء كما مرّ؛ ففوض الشرع إليهم الكيفيّات و الخصوصيّات.

و قد أراد شارع الإسلام انفتاح باب الاجتهاد و بقاء المجتهدين في جميع الأعصار ليبقى الفقه ناميا و يتكامل بتكامل الزمان و ظهور الموضوعات الحديثة.

و عن الإمام الصادق «ع»: «إنّما علينا أن نلقي إليكم الأصول و عليكم أن تفرّعوا.» «1»

و عن الرضا «ع»: «علينا إلقاء الأصول و عليكم التفريع.» «2»

______________________________

(1)- الوسائل 18/ 41، الباب 6 من أبواب صفات القاضي (كتاب القضاء)، الحديث 51.

(2)- الوسائل 18/ 41، الباب 6 من أبواب صفات القاضي، الحديث 52.

دراسات في

ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 551

المسألة السابعة قد يقال إنّ من معضلات الانتخاب أنّ أكثر الناس بسطاء تؤثّر فيهم الدعايات الكاذبة،

أو لا يكون لهم تقوى فتشترى آراؤهم بالتطميع، أو لا يكون فيهم شجاعة و قوة نفسية فتشترى الآراء بالتهديدات.

و يمكن أن يجاب عن ذلك أولا: بالنقض بانتخاب المفتي و مرجع التقليد، حيث فوّض ذلك إلى الأمة و الطريق إليه هو العلم الشخصي، أو الشياع المفيد له، أو شهادة أهل الخبرة العدول.

و ثانيا: بأن جهل الناخبين و بساطتهم أو عدم صلاحهم لا يضرنا كثيرا بعد ما بيّنا أن المنتخب في الحكومة الإسلامية يشترط فيه شروط خاصة من الإسلام و العدالة و الفقاهة و غير ذلك من الشروط الثمانية، فلا تنعقد الولاية لفاقدها.

و في مقام العمل و التنفيذ أيضا يكون الحاكم مقيدا بموازين الإسلام و مقرراته و ليس له حرّية مطلقة.

نعم، يبقى احتمال اشتباه الناخبين أو تعمّدهم لانتخاب حاكم فاسد.

و يمكن أن يجبر ذلك بإحالة تشخيص واجد الشرائط الى هيئة متخصّصة، نظير هيئة المحافظة على الدستور الذين هم من أهل الخبرة في دستور إيران الإسلامية.

فلا يصلح للانتخاب و لا ينتخب إلّا من يرشّح من قبلهم لذلك.

نعم، ترد هذه الاعتراضات جدّا على الديموقراطية الغربية، حيث لا تقيد فيها

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 552

بإيدئولوجية خاصة. و الأساس و المحور فيها هو أهواء الناخبين و مشتهياتهم كيف ما كانت، فتدبّر.

و ثالثا: بأن لنا أن نشترط في الناخبين شروطا خاصة كما هو عند الماوردي و أبي يعلى؛ حيث شرطا فيهم العدالة و العلم و التدبير المؤديين إلى اختيار من هو للإمامة أصلح. و سيأتي بيانه في المسألة الخامسة عشرة. و لعل مرجع ذلك إلى كون الرأي لأهل الحل و العقد لا لجميع الأمّة. و

سيأتي البحث فيه.

و رابعا: أنّ معرفة الأمّة جميعا لشخص واحد و الاطلاع على حقيقة حاله و انتخابه مباشرة ممّا يمكن أن يصادف إشكالات و عقبات.

و لكن معرفة أهل كلّ بلد لفرد خبير أو أفراد خبراء من أهل بلدهم و صقعهم مما يسهل جدّا و لا سيما بعد الترشيح و الاعلام الصحيح من أهل الصلاح، فتنتخب الأمة الخبراء العدول، و الخبراء ينتخبون الوالي الأعظم فيكون الانتخاب ذا مرحلتين كما هو متعارف في أعصارنا و مذكور في دستور إيران الإسلامية لانتخاب القائد. «1»

و بالجملة، الأمة جميعا يشتركون في الانتخابات فلا تختص بأهل الحل و العقد، و لكن النتيجة تحصل في المرحلة الثانية. و الاطمينان بالصحة في هذه الصورة أكثر و أقوى بمراتب، إذ الخبراء قلّما يحتمل فيهم ما كان يحتمل في البسطاء من الأمّة.

و احتمال رعاية الخبراء لمصالحهم الفردية دون مصالح المجتمع و المصالح النفس الأمريّة، يدفعه اشتراط العدالة فيهم مضافا إلى الخبرة، فتدبّر.

______________________________

(1)- راجع دستور إيران الإسلامية، الأصل 107.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 553

المسألة الثامنة هل الملاك في الانتخاب آراء الجميع، أو الأكثر،
اشارة

أو جميع أهل الحلّ و العقد أو أكثرهم، أو آراء الحاضرين في بلد الإمام؟ وجوه.

و التحقيق أن يقال: إنه بعد ما أثبتنا صحة الانتخاب و انعقاد الإمامة به عند عدم النصّ نقول: إن حصول الإطباق و الاتفاق في مقام الانتخاب على فرد واحد ممّا يندر جدّا لو لم نقل بعدم وقوعه عادة و لا سيّما في المجتمعات الكبيرة و إن فرض كون جميعهم أهل علم و صلاح، أو قلنا بأن الرأي يختص بأهل العلم و الصلاح و لا اعتبار بآراء غيرهم.

و ذلك لاختلاف الأنظار و السلائق في هذا السنخ من الأمور. فلا مجال لحمل الأدلّة الدّالة

على صحة الإمامة بالانتخاب على صورة حصول الإطباق فقط.

و قد استمرت سيرة العقلاء في جميع الأعصار و الأصقاع على تغليب الأكثريّة

على الأقليّة في هذه الموارد، فتكون الأدلّة الشرعية التي أقمناها على صحة الانتخاب إمضاء لهذه السيرة قهرا.

و قد حكي:

أن النبي «ص» في غزوة أحد مع كون نظره «ص» الشخصي هو عدم الخروج من المدينة إلّا أنّه لما رأى «ص» أن رأي الأكثر هو الخروج أخذ بآرائهم و ترك رأيه و رأي الأقلّ. «1»

و بعبارة أخرى: بعد فرض ضرورة الحكومة في حفظ النظام و حفظ الحقوق،

______________________________

(1)- راجع الكامل لابن الأثير 2/ 150.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 554

و عدم تحقق النصب من العالي، و عدم تحقق الإطباق من قبل الأمة يدور الأمر بين تعطيل الحكومة أو الأخذ بآراء الأكثرية أو بآراء الأقليّة، و حيث إنّ الأوّل يوجب اختلال النظام و تضييع الحقوق بأجمعها فالأمر يدور بين الأخيرين، و لا إشكال في ترجّح الأكثريّة على الأقليّة من وجهين: من الوجهة الحقوقية و من جهة الكشف عن الواقع، إذ تأمين حقوق الأكثر أهمّ و أوجب، وجهة الكشف في آرائهم أيضا أقوى كما لا يخفى. فترجيح الأقليّة على الأكثرية يوجب ترجيح المرجوح على الراجح و هو قبيح.

و في نهج البلاغة: «و الزموا السواد الأعظم، فإن يد اللّه على الجماعة. و إيّاكم و الفرقة، فإنّ الشاذّ من الناس للشيطان كما أنّ الشاذّ من الغنم للذئب.» «1»

و في مقبولة عمر بن حنظلة في الخبرين المتعارضين: «و يترك الشاذّ الذي ليس بمشهور عند أصحابك، فإن المجمع عليه لا ريب فيه.» «2»

و روى الترمذي في الفتن من سننه عن رسول اللّه «ص»: «إنّ اللّه لا يجمع أمّتي- أو قال: أمّة محمّد- على ضلالة، و يد اللّه على الجماعة. و

من شذّ شذّ إلى النار.» «3»

و في كنز العمال، عن ابن عباس و ابن عمر: «لا يجمع اللّه أمر أمّتي على ضلالة أبدا، اتّبعوا السواد الأعظم يد اللّه على الجماعة. من شذ شذّ في النار.» «4»

و عن أسامة بن شريك: «يد اللّه على الجماعة، فإذا اشتذّ الشاذّ منهم اختطفه الشيطان، كما يختطف الذئب الشاة الشاذّة من الغنم.» «5»

فيستأنس من جميع ذلك أنّه في مقام تعارض الأكثرية و الأقليّة الشاذّة يؤخذ

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 392؛ عبده 2/ 11؛ لح/ 184، الخطبة 127.

(2)- الكافي 1/ 68، كتاب فضل العلم، باب اختلاف الحديث، الحديث 10.

(3)- سنن الترمذي 3/ 315، الباب 7 من أبواب الفتن، الحديث 2255.

(4)- كنز العمال 1/ 206، الباب 2 من كتاب الإيمان من قسم الأقوال، الحديث 1030.

(5)- كنز العمال 1/ 206، الباب 2 من كتاب الإيمان من قسم الأقوال، الحديث 1032.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 555

بالأكثريّة.

نعم، يقع الإشكال في سحق حقوق الأقليّة و الغيّب و القصّر و من يولد بعد الانتخاب. و يأتي الجواب عنه في المسألة الآتية.

و بالجملة، الاتفاق في مقام الانتخاب ممّا لا يحصل غالبا و لا يلزم قطعا، بل تتبع آراء الأكثريّة و تقدم على الأقليّة.

[اللازم هل هو شركة الأمّة في مرحلة واحدة لانتخاب الوالي مباشرة، أو في مرحلتين]

نعم، يقع الكلام في أنّ اللازم هل هو شركة الأمّة في مرحلة واحدة لانتخاب الوالي مباشرة، أو في مرحلتين بأن تنتخب العامّة الخبراء، و الخبراء ينتخبون الوالي الأعظم، أو أنّ الانتخاب وظيفة و حقّ لأهل الحلّ و العقد فقط، أو الحاضرين في بلد الإمام فقط إمّا لعدم إمكان شركة الجميع فيلزم تعطيل الإمامة و لو لمدّة أو لأنّه يشترط في الناخبين أن يكونوا أهل علم و عدالة و تدبير

فلا تصحّ شركة الجميع و لا تلزم؟ في المسألة وجوه:

1- ففي نهج البلاغة: «و لعمري لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامّة الناس فما إلى ذلك سبيل. و لكن أهلها يحكمون على من غاب عنها، ثم ليس للشاهد أن يرجع و لا للغائب أن يختار.» «1»

و المراد بأهلها أهل الإمامة أو أهل المدينة المنوّرة. و لعلّ الثاني أظهر بقرينة قوله: «غاب عنها». و لازم الاحتمال الأوّل عدم كون العامّة أهلا لتعيين الإمامة أصلا، بل له أهل خاصّ فينطبق قهرا على أهل الحلّ و العقد المنطبق في ذلك العصر على المهاجرين و الأنصار.

و الظاهر أنّه «ع» أشار بقوله: «ليس للشاهد أن يرجع» إلى نكث طلحة و الزبير، و بقوله: «و لا للغائب أن يختار» إلى معاوية و أمثاله المتأبّين عن البيعة له.

2- و فيه أيضا في كتابه «ع» إلى معاوية: «إنه بايعني القوم الذين بايعوا أبا بكر و عمر و عثمان على ما بايعوهم عليه، فلم يكن للشاهد أن يختار و لا للغائب أن يردّ. و إنّما الشورى للمهاجرين

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 558؛ عبده 2/ 105؛ لح/ 248، الخطبة 173.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 556

و الأنصار؛ فإن اجتمعوا على رجل و سمّوه إماما كان ذلك (للّه) رضا. فإن خرج عن أمرهم خارج بطعن أو بدعة ردّوه إلى ما خرج منه. فإن أبى قاتلوه على اتّباعه غير سبيل المؤمنين و ولّاه اللّه ما تولّى.» «1»

و في كتاب وقعة صفين لنصر بن مزاحم، و الإمامة و السياسة لابن قتيبة: «أمّا بعد، فإن بيعتي بالمدينة لزمتك و أنت بالشام، لأنّه بايعني القوم.» «2» و ذكرا نحو ما في نهج البلاغة.

و في

ذيل كلامه «ع» إشارة إلى قوله- تعالى-: «وَ مَنْ يُشٰاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدىٰ وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مٰا تَوَلّٰى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ سٰاءَتْ مَصِيراً.» «3»

قال ابن أبي الحديد المعتزلي في شرحه:

«و اعلم أن هذا الفصل دالّ بصريحه على كون الاختيار طريقا إلى الإمامة، كما يذكره أصحابنا المتكلمون ...

فأمّا الإمامية فتحمل هذا الكتاب منه «ع» على التقية و تقول: إنّه ما كان يمكنه أن يصرّح لمعاوية في مكتوبه بباطن الحال و يقول أنا منصوص عليّ من رسول اللّه «ص» و معهود إلى المسلمين أن أكون خليفة فيهم بلا فصل فيكون في ذلك طعن على الأئمة المتقدمين و تفسد حاله مع الذين بايعوه من أهل المدينة. و هذا القول من الإمامية دعوى لو عضدها دليل لوجب أن يقال بها و يصار إليها، و لكن لا دليل لهم على ما يذهبون إليه من الأصول التي تسوقهم إلى حمل هذا الكلام على التقية.» «4»

أقول: دليل الإماميّة التصريحات الكثيرة منه «ص» على أمير المؤمنين «ع» في المواقف المختلفة من أوّل بعثته إلى حين وفاته، و قد ذكرنا نموذجا منها في أوائل

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 840؛ عبده 3/ 8؛ لح/ 366، الكتاب 6.

(2)- وقعة صفين/ 29، و الإمامة و السياسة 1/ 84.

(3)- سورة النساء (4)، الآية 115.

(4)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 14/ 36.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 557

الكتاب «1» في بيان قوله- تعالى-: «النَّبِيُّ أَوْلىٰ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ.»

و هو «ص» قد أراد إبرام ذلك بالكتابة عند وفاته، فدعا بدواة و قرطاس و لكنهم خالفوه في ذلك.

و كيف كان فعند الشيعة الإماميّة إمامة أمير المؤمنين «ع»

ثابتة بالنص، و كان «ع» يحاجّ بذلك في خطبه و كتبه أيضا. و كلامه في هذا المقام و في أمثاله صدر عنه تقية أو مماشاة و جدلا. و لكن قد عرفت منا أنّه ليس معنى الجدل هنا بطلان البيعة بالكليّة و كونها كالعدم، بل الاختيار و البيعة أيضا طريق إلى الإمامة و لكنه في طول النص و في صورة عدمه. فالمماشاة هنا ليست بتسليم ما ليس حقّا أصلا بل بتسليم عدم النصّ مع كونه ثابتا، فراجع ما حررناه في فصل البيعة.

و على أيّ حال فهذا الكلام منه «ع» أيضا يدل على عدم الاحتياج إلى بيعة جميع الأمّة و كفاية بيعة أهل الحل و العقد المنطبق في ذلك العصر على المهاجرين و الأنصار، كما لا يخفى.

3- و فيما وقع بين أمير المؤمنين «ع» و معاوية في صفين أنّ معاوية قال:

«إن كان الأمر كما يزعمون فما له ابتزّ الأمر دوننا على غير مشورة منّا و لا ممّن هاهنا معنا؟» فقال عليّ- عليه السلام-: «إنّما الناس تبع المهاجرين و الأنصار و هم شهود المسلمين في البلاد على ولايتهم و أمر دينهم، فرضوا بي و بايعوني و لست أستحلّ أن أدع ضرب معاوية يحكم على الأمّة و يركبهم و يشقّ عصاهم.» فرجعوا (أي القرّاء) إلى معاوية فأخبروه بذلك فقال: «ليس كما يقول؛ فما بال من هاهنا من المهاجرين و الأنصار لم يدخلوا في هذا الأمر فيؤامروه.» فانصرفوا إلى عليّ «ع» فقالوا له ذلك و أخبروه فقال عليّ «ع»: «و يحكم، هذا للبدريين دون الصحابة. ليس في الأرض بدريّ إلّا قد بايعني و هو معي أو قد قام و رضى.» «2»

و قوله: «ضرب معاوية» أي مثله و شبيهه. و يحتمل

أن يكون بمعنى السير، و أن

______________________________

(1)- راجع ص 37 و ما بعدها من الكتاب.

(2)- وقعة صفين/ 189 و شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4/ 17.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 558

تكون الكلمة مصحّفة عن «حزب».

و الظاهر من كلامه «ع» أن حقّ البيعة و الرأي ليس لعامّة المسلمين، بل لفئة خاصّة منهم. و لعلّ الحصر بالبدريين كان لبقائهم على العدالة و الصرافة و الدفاع عن الحقّ، أو لكونهم من الصحابة الأوّلين السابقين، فكان وقوفهم و اطلاعهم على موازين الإسلام و أهدافه و أهداف النبي الأكرم أكثر.

4- و في تاريخ الخلفاء للسيوطي فيما وقع بعد قتل عثمان و بلوغ خبره إلى أمير المؤمنين «ع» قال:

«و جاء الناس يهرعون إليه فقالوا له: نبايعك، فمدّ يدك، فلا بدّ من أمير، فقال عليّ «ع»: «ليس ذلك إليكم، إنما ذلك إلى أهل بدر فمن رضي به أهل بدر فهو خليفة.» فلم يبق أحد من أهل بدر إلّا أتى عليّا فقالوا له: ما نرى أحدا أحقّ بها منك، مدّ يدك نبايعك، فبايعوه.» «1»

أقول: و العبارة صريحة في أنّ الانتخاب حقّ لفئة خاصة.

5- و في كتاب الإمامة و السياسة لابن قتيبة قريب من ذلك، قال:

«فقام الناس فأتوا عليّا «ع» في داره فقالوا: نبايعك، فمدّ يدك، لا بد من أمير فأنت أحق بها فقال: ليس ذلك إليكم، إنما هو لأهل الشورى و أهل بدر، فمن رضي به أهل الشورى و أهل بدر فهو الخليفة فنجتمع و ننظر في هذا الأمر، فأبى ان يبايعهم ...» «2»

6- و في الكامل لابن الأثير في خطاب أمير المؤمنين لابنه الحسن «ع»: «و أمّا قولك: «لا تبايع حتّى يبايع أهل الأمصار»، فإنّ

الأمر أمر أهل المدينة و كرهنا أن يضيع هذا الأمر.» «3»

و ظهوره في اختصاص الحقّ أيضا ظاهر.

______________________________

(1)- تاريخ الخلفاء/ 109.

(2)- الإمامة و السياسة لابن قتيبة 1/ 47.

(3)- الكامل لابن الأثير 3/ 223.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 559

نعم، يحتمل بعيدا أن يكون هذا الكلام، و كذا قوله: «إنّما الناس تبع المهاجرين و الأنصار.» خبرا لا إنشاء. فهو- عليه السلام- بعد أن انعقدت إمامته بالنصّ أراد بيان أنّ بيعة أهل المدينة تكفي في تثبيت الأمر و ارتفاع الخلاف، لكون الناس تابعين لهم قهرا فلا حاجة إلى بيعة أهل الأمصار، و لم يرد بيان انعقاد الإمامة بالبيعة و أنّ البيعة حقّ أهل المدينة فقط، فتأمّل.

7- و في تاريخ الطبري بعد قتل عثمان:

«فلما اجتمع لهم أهل المدينة قال لهم أهل مصر: أنتم أهل الشورى، و أنتم تعقدون الإمامة، و أمركم عابر على الأمّة؛ فانظروا رجلا تنصبونه و نحن لكم تبع. فقال الجمهور: علي بن أبي طالب نحن به راضون.» «1» و نحوه في الكامل «2».

8- ما مرّ من جواب سيد الشهداء «ع» لكتب أهل الكوفة: «و إنّي باعث إليكم أخي و ابن عمّي و ثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل. فإن كتب إليّ أنّه قد اجتمع رأي ملئكم و ذوي الحجى و الفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم و قرأت في كتبكم فإنّي أقدم إليكم وشيكا.» «3»

إلى غير ذلك من الروايات و الكلمات الظاهرة في اختصاص الشورى و البيعة بالمهاجرين و الأنصار، أو بأهل المدينة، أو بالبدريين، أو بأهل الحجى و الفضل و أن الإمامة تنعقد ببيعتهم خاصة و لا يحتاج إلى بيعة العامة و رضاهم.

و ما يختلج بالبال عاجلا

في هذه الروايات أمور:

الأوّل: أن يحمل جميع هذه الروايات و أمثالها مما مرّ في فصل البيعة على التقية أو كونها من باب الجدل.

______________________________

(1) تاريخ الطبري 6/ 3075 طبع ليدن؛.

(2) الكامل لابن الأثير 3/ 192.

(3)- إرشاد المفيد/ 185، و الكامل لابن الأثير 4/ 21.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 560

أقول: قد عرفت منّا أنّ إمامة أمير المؤمنين و الأئمّة من ولده «ع» عندنا كانت بالنص و أن الإمامة تنعقد بالانتخاب و البيعة أيضا و لكن في صورة عدم النص.

فالجدل في هذه الروايات ليس بتسليم ما ليس بحقّ أصلا، بل بتسليم كون المورد مورد عدم النص و الاحتياج إلى الانتخاب.

الثاني: أن يقال إنّ الشورى بطبعها تستدعي كون المشاور من أهل الخبرة و الاطلاع و لا سيما في الأمور المهمة كالولاية، فليس لكل أحد الشركة في الشورى و انتخاب الوالي، بل يشترط في الناخب أن يكون من أهل العلم و التدبير و العدالة كما قاله الماوردي و أبو يعلى.

و حيث إن المهاجرين و الأنصار كانوا في المدينة مع النبي «ص» في جميع المواقف و المراحل و كانوا واقفين على سننه و أهدافه فلذلك خصّوا بهذا الأمر.

و لعلّ التخصيص بالبدريين في بعض الروايات كان باعتبار كونهم من الصحابة الأوّلين، فكان وقوفهم و اطلاعهم أكثر أو لبقائهم على صفة العدالة و الدفاع عن الحق و إظهاره.

و بالجملة، فانتخاب الوالي يرتبط بأهل الخبرة و أهل الحلّ و العقد لا بالجميع.

فوزانه وزان جميع الأمور التخصّصية التي يرجع فيها إلى الأخصّاء.

الثالث: أن يقال: إنّ انتخاب الوالي حقّ لجميع الأمّة لا لفئة خاصّة، و لكنه يجب أن يكون بمرحلتين: فالعامّة تنتخب الخبراء العدول، و الخبراء ينتخبون الإمام و الوالي؛

فإن معرفة العامة لشخص واحد و الاطلاع على حقيقة حاله و انتخابه مباشرة مما يمكن أن يواجه ببعض العقبات، إذ لعلّ الأكثر جاهلون بالسياسة و أهلها، أو تغلب عليهم العواطف الآنية و تؤثّر فيهم الدعايات، أو لا يكون لهم تديّن و تقوى فتشترى آراؤهم بالتطميع و الوعود البرّاقة، أو لا يكون لهم قوة و شجاعة فيؤثّر فيهم التهديدات. فلا يبقى اطمينان بهذا النحو من الانتخاب العمومي.

فلا محالة يكون الانتخاب المباشر حقّا لخصوص الخبراء و أهل الحل و العقد

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 561

بشرط التقوى و العدالة. و العامّة تنتخب الخبراء أو ترضى بانتخابهم. و معرفة كلّ فرد لفرد من أهل صقعه و بلده مما يسهل جدّا.

بل في تلك الأعصار السابقة لم يكن اشتراك الجميع في الانتخابات ميسورا أصلا، لبعد البلاد و فقد الوسائل؛ كما قال أمير المؤمنين «ع»: «لئن كانت الإمامة لا تنعقد حتى تحضرها عامّة الناس فما إلى ذلك سبيل.» «1»

و لكن كان انتخاب المهاجرين و الأنصار السابقين موردا لرضا العامّة. فكان هذا في حكم وقوع الانتخاب بمرحلتين.

و أما في أعصارنا فحيث يمكن اشتراك الجميع فلا محالة يرشّح الخبراء العدول فينتخبون من قبل الأمّة، ثمّ ينتخب الخبراء الإمام و القائد الأعظم، كما هو المقرّر في دستور إيران الإسلامية.

و بالجملة، حيث إنّ الأمر أمر جميع الأمّة فالواجب رضا الجميع بل شركتهم مع الإمكان و لو بمرحلتين، و قد قال اللّه- تعالى-: «وَ أَمْرُهُمْ شُورىٰ بَيْنَهُمْ.» «2» و الظاهر منه اتحاد مرجع الضميرين؛ فكما أن الأمر أمر جميع الأمّة فالشورى أيضا يجب أن تكون بينهم جميعا.

نعم، ظاهر بعض الروايات التي مرّت ربّما لا يساعد على هذا المعنى، إذ الظاهر

منها كون انتخاب الوالي من وظائف أهل الحلّ و العقد و لا يرتبط بالعامّة أصلا بل عليهم القبول و التسليم.

و لكنّ الاحتياط و الحرص على استحكام الأمر و الحكومة يقتضيان شركة الجميع و لكن بمرحلتين جمعا بين الحقين و الدليلين. اللّهم إلّا أن تكون الأمّة بأجمعها أو بأكثريتها على درجة عالية من التعقّل و الوعي السياسي و التقوى و العدالة، فيكفي حينئذ الانتخاب مباشرة في مرحلة واحدة. فكأن الجميع صاروا حينئذ من أهل

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 558؛ عبده 2/ 105؛ لح/ 248، الخطبة 173.

(2)- سورة الشورى (42)، الآية 38.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 562

الحلّ و العقد، فتدبّر.

ثم على فرض كون الانتخاب حقا للجميع فلا محالة تتساوى فيه جميع الطبقات من الغنى و الفقير، و الشيخ و الشابّ، و الأسود و الأبيض، و الشريف و الوضيع، كسائر الأحكام من النكاح و الطلاق و الإرث و الحدود و القصاص و الديات و نحو ذلك، فإن الاختلاف الطبقي لا أثر له في الإسلام.

بل لعلّه لا فرق في المقام بين الرجل و المرأة، فإن اختلافهما في بعض الأحكام بدليل، لا يقتضي إسراءه إلى المقام. و القاعدة تقتضي التساوي إلّا فيما ثبت خلافه.

و السرّ في ذلك أن الولاية نظام للمجتمع، و المرأة جزء منه، كما هو واضح.

مضافا إلى أن انتخاب الحاكم من قبيل التوكيل و يجوز للمرأة توكيل غيرها بلا إشكال، فتأمّل.

و ما مرّ من عدم صحة ولايتها لا يدلّ على عدم الرأي لها في عداد الرجال، لوضوح الفرق بين المقامين. و قد بايع رسول اللّه «ص»- بعد فتح مكة و البيعة لرجالها- النساء أيضا بأمر من اللّه- تعالى- في الكتاب الكريم «1»

كما مرّ. اللّهم إلّا أن يقال إن البيعة له كانت بيعة الإطاعة و التسليم لا بيعة الانتخاب و التعيين، و لم يعهد بعده «ص» شركة النساء في البيعة لتعيين الولاة. هذا.

و أما شمول ما ورد من النهي عن مشاورتهن للمقام فغير واضح، إذ المقام يرتبط بالنظام الذي هي جزء منه، كما عرفت. و من المحتمل أن يكون النهي مختصا بما إذا كانت المشورة مقدمة للتصميم و القرار في الأمور المهمّة و اقتنع بالمشورة معها، و حيث إن الإحساس فيها يغلب على الفكر فلا محالة لا يصلح رأيها بانفرادها لأن يكون منشأ للقرار، فتأمل. هذا.

و لو قلنا باشتراط العلم و التدبير و العدالة في الناخب كما سيأتي البحث فيه فلا محالة يقع التفاوت بين واجد الصفات و فاقدها.

______________________________

(1)- سورة الممتحنة (60)، الآية 12.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 563

المسألة التاسعة [أن الاتفاق ممّا لا يحصل غالبا]

و ممّا يعترض به على الشورى و الانتخاب أن الاتفاق ممّا لا يحصل غالبا.

و الأخذ بالأكثريّة و لا سيما النسبية منها أو النصف بإضافة الواحد يوجب ضياع حقوق الأقليّة.

و في خبر الكناسي، عن أبي جعفر «ع»: «لا تبطل حقوق المسلمين فيما بينهم.» «1»

و في خبر أبي عبيدة، عن أبي جعفر «ع»: «لا يبطل حق امرئ مسلم.» «2»

هذا مضافا إلى أنّه قلّما يوجد مجتمع لا يكون فيه الغيّب و القصّر و من يولد بعد الانتخابات فكيف ينفذ انتخاب غيرهم بالنسبة اليهم؟ و كيف يحفظ حقوقهم في الأموال العامّة التي خلقها اللّه- تعالى- لكافة الناس كالمعادن و المفاوز و الغابات و نحوها؟

و لا يجري هذا الإشكال في الإمام المنصوب من قبل اللّه- تعالى- و لو بالواسطة، فإنّه- تعالى- مالك الملوك و حكمه نافذ في

حق الجميع بلا إشكال. هذا.

و يمكن أن يجاب عن هذا الاعتراض بأن الإنسان مدني بالطبع و له مضافا إلى الحياة الفردية و الحياة العائلية حياة اجتماعية. و لا تتم له الحياة إلا في ظل المجتمع بإمكانيّاته. و لازم استقرار الاجتماع و انتظامه تحديد المصالح و الحرّيّات الفردية في إطار المصالح الاجتماعية.

______________________________

(1)- الوسائل 14/ 210، الباب 6 من أبواب عقد النكاح و أولياء العقد، الحديث 9.

(2)- الوسائل 19/ 65، الباب 35 من أبواب القصاص، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 564

و دخول الإنسان في الحياة الاجتماعية و في ظل المجتمع يقتضي طبعا التزامه بكلّ لوازمها. و إذا بدت فكرتان مختلفتان في حفظ النظام و تأمين المصالح العامة فحفظ النظام و استقراره يتوقّف قهرا على ترجيح إحداهما على الأخرى في مقام العمل.

و في هذه الصورة لا مناص من تغليب الأكثريّة على الأقليّة، و عليه استمرت سيرة العقلاء أيضا في جميع الأعصار و الأمصار كما مرّ. إذ تغليب الأقليّة ترجيح للمرجوح على الراجح و العقل يحكم بقبحه.

فالأقليّة الداخلة في المجتمع بدخولها فيه كأنّها التزمت بقبول فكرة الأكثرية في مقام العمل، و التنازل عن فكرة نفسها عند تزاحم الفكرتين.

ففي الحقيقة وقع الإطباق و الاتفاق على الأخذ بفكرة الأكثريّة في مقام العمل و إن أذعنت الأقليّة ببطلانها ذاتا.

نظير ما إذا استدعى الإنسان تبعية دولة خاصّة، فإنّها تقتضي التزامه بمقررات هذه الدولة. أو ساهم في مؤسسة تجارية مبتنية على برنامج خاصّ، فإنّ نفس مساهمته في هذه المؤسسة التزام منه ببرامجها و أحكامها.

و بالجملة، لكل من أقسام الحياة الفردية و العائلية و الاجتماعية لوازم و أحكام.

و التزام الإنسان بكل منها و وروده فيها التزام منه بآثارها

و لوازمها. فكما أنّ التزامه بالحياة العائليّة التزام منه بآثارها من تحديد الحريات الفرديّة و الالتزام بأداء حقوق العائلة من الزوجة و الأولاد، فكذلك وروده في الحياة الاجتماعية و الاستمتاع من إمكانياتها التزام منه بلوازمها، و من جملتها قبول فكرة الأكثريّة و ترجيحها عند التزاحم في المسائل الاجتماعية المختلفة التي من أهمّها مسألة انتخاب الحاكم. فإنّه أمر أذعن به العقلاء و اختاروه حلا للمعضلة، حيث إن الأمر يدور بين اختلال النظام أو الأخذ بإحدى الفكرتين، و الأوّل ممّا لا يجوز عقلا و شرعا، فيتعيّن الأخذ بالاكثريّة، لترجّح آراء الأكثريّة على آراء الأقليّة من وجهين، كما مرّ.

و قد مرّ بالتفصيل بيان استمرار سيرة العقلاء على تعيين الحاكم بالانتخاب، و أقمنا أدلّة كثيرة على إمضاء الشارع لهذه الطريقة عند فقد النص. و حصول

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 565

الاتفاق في مقام الانتخاب لحاكم خاص ممّا يقلّ و يندر جدّا لو لم نقل بعدم وقوعه عادة، فلا مجال لحمل الأدلّة على هذه الصورة فلا محالة يكفي الأكثريّة. و الشارع الحكيم أمضى هذه السيرة بلوازمها.

ثم لو قلنا بالانتخاب بمرحلة واحدة مباشرة فالمراد بالأكثريّة فيها أكثريّة المجتمع. و إن قلنا بمرحلتين فالمراد بها في المرحلة الأولى أكثرية المجتمع و في المرحلة الثانية أكثريّة أهل الخبرة. هذا.

و كما أن حصول الاتفاق مما لا يقع عادة فعدم وجوب الغيّب و القصّر و من يولد بعد الانتخاب أيضا ممّا لا يقع عادة و لا سيّما في المجتمع الكبير. فيعلم بذلك نفوذ انتخاب الأكثرية بالنسبة إلى الأقليّة، و كذا بالنسبة إلى الغيّب و القصّر و المتولّد بعد الانتخاب. كلّ ذلك لاستمرار سيرة العقلاء على ذلك و إمضاء الشارع

الحكيم لها بما مرّ من الأدلّة.

و السرّ في جميع ذلك أنّ المجتمع بما أنّه مجتمع له لوازم و أحكام خاصّة عند العقلاء، و لا يحصل النظم و الاستقرار فيه إلّا مع الالتزام بها. و المفروض أن الشارع المقدس أيضا أمضاها حفظا للنظام و الحقوق بقدر الإمكان.

و لا يضرّ تضرّر الأقليّة أو القصّر أحيانا في ظل المجتمع و مقرّراته بعد ما يكون غنمهما ببركة المجتمع أكثر بمراتب. و من له الغنم فعليه الغرم؛ يحكم بذلك الوجدان و العقل.

و قد عرفت أن الأولى و الأحوط كون الانتخاب للوالي بمرحلتين؛ فالعامّة ينتخبون الخبراء العدول، و الخبراء ينتخبون الوالي. و عقل الخبراء و الوالي و عدالتهم يقتضيان رعايتهم لحقوق الغيّب و القصّر و من يولد بعد الانتخاب أيضا حتّى في الثروات العامّة كالمعادن و المفاوز و نحوهما، فتدبّر.

فإن قلت: قد ورد في آيات كثيرة من الكتاب العزيز نفي العلم أو العقل عن الأكثر، كقوله- تعالى-: «قُلْ إِنَّمٰا عِلْمُهٰا عِنْدَ اللّٰهِ وَ لٰكِنَّ أَكْثَرَ النّٰاسِ لٰا يَعْلَمُونَ.» «1»

______________________________

(1)- سورة الأعراف (7)، الآية 187.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 566

و قوله: «وَ لٰكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللّٰهِ الْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لٰا يَعْقِلُونَ.» «1»

إلى غير ذلك من الآيات الشريفة، فكيف تقول باعتبار آراء الأكثريّة و إثبات الولاية بها؟

قلت: يظهر بالمراجعة أنّ موارد الآيات المذكورة هي المسائل الغيبية التي أخفى علمها عن العامة، كصفات الباري و أفعاله و مسائل القضاء و القدر و خصوصيّات القيامة، أو التقاليد و عادات الجاهليّة المخالفة للعقل و الوجدان و نحو ذلك.

فلا تشمل العقود و المقرّرات الاجتماعية التي لا محيص عنها في استقرار الحياة ثمّ لا مجال فيها لتقديم الأقليّة على الأكثريّة.

كيف! و إلّا لزم تعطيل الحكومة أو تقديم المرجوح على الراجح، و كلاهما واضح البطلان.

ثمّ لو فرض إطلاق الآيات المذكورة بحيث تشمل المسائل الحقوقيّة و الاجتماعية أيضا و عدم انصرافها عنها فنقول: إنّ الأقليّة العالمة العاقلة ليست متميزة منحازة، بل هي متفرقة منتشرة في خلال المجتمع، فإذا انقسم المجتمع إلى أكثريّة و أقليّة في الانتخابات فلا محالة يكون عدد أهل العلم و العقل في طرف الأكثريّة أكثر من عددهم في الطرف الآخر، فيكون الرجحان لآراء الأكثريّة أيضا. و هذا واضح لمن تدبّر. و عليك بالرجوع إلى ما حرّرناه في المسألة الثامنة أيضا لاشتباك المسألتين ارتباط كلّ منهما بالأخرى.

______________________________

(1)- سورة المائدة (5)، الآية 103.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 567

المسألة العاشرة [لو فرض أنّ أهل التفكير و الصلاح كانوا في طرف الأقليّة]

على القول باعتبار الأكثريّة- كما اخترناه- فلو فرض أنّ أهل التفكير و السداد و الثقافة و الصلاح كانوا في طرف الأقليّة، و كان الهمج الرعاع و ضعفاء العقول في طرف الأكثريّة- كما لعلّه الغالب في كثير من البلاد- فهل تقدّم هذه الأكثريّة الكذائية على الأقليّة الصالحة أيضا؟ و بعبارة أخرى هل الاعتبار حينئذ بالكميّة أو بالكيفية؟

و يمكن أن يجاب عن ذلك بأن ما فرضته نادر جدّا، إذ لا ننكر إمكان كون أكثر الناس في زمان أو مكان خاصّ بسطاء غير مطّلعين على فنون السياسة أو غير صالحين و لكن الأقليّة المفكرة الصالحة كما مرّ ليست متميّزة منحازة بل هي منتشرة في خلال المجتمع، فإذا افترقت الأمّة فرقتين في مقام الانتخاب فبالطبع يكون عدد الأفراد الصالحين المفكرين في خلال الأكثريّة أكثر من عددها في طرف الأقليّة، فيكون الرجحان لآراء الأكثريّة أيضا و لو بلحاظ أفرادها المفكرين الصالحين.

نعم، لو فرض انحياز الأقليّة الصالحة

المفكرة في مقام الانتخاب أمكن القول بتقدمها على الأكثريّة غير الصالحة و لا سيّما على القول باشتراط العدالة و العلم و التدبير في الناخبين كما قال به الماوردي و أبو يعلى، أي على القول بكون الانتخاب حقّا لأهل الحل و العقد كما مرّ بيانه في المسألة الثامنة.

و يمكن أن يحمل كلام أمير المؤمنين «ع»: «و إنما الشورى للمهاجرين و الأنصار، فإن اجتمعوا على رجل و سمّوه إماما كان ذلك (للّه) رضا» «1» على هذا الفرض حيث إن

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 840؛ عبده 3/ 8؛ لح/ 367، الكتاب 6.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 568

المهاجرين و الأنصار و لا سيما البدريين منهم كانوا هم الواقفين على مذاق الشرع و سياسة الإسلام، و كانوا منحازين عن سائر الفرق الذين كانوا حديثي العهد بالإسلام و لم يتركز الإسلام بعد في أعماق قلوبهم، فتأمّل.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 569

المسألة الحادية عشرة [كيف يجوز للحاكم المنتخب التصدّي لأمور الأمة و هو فرع لهم و الفرع لا يزيد على الأصل]

إذا كان هنا أمور لا يجوز لآحاد الأمّة التصدّي لها و مباشرتها كإجراء الحدود و التعزيرات و القضاء و اصدار الأحكام الولائية في موارد الاضطرار و نحو ذلك فكيف يجوز للحاكم المنتخب من قبل الأمّة التصدّي لها و هو فرع لهم و منصوب من قبلهم، و الفرع لا يزيد على الأصل؟

و يمكن أن يجاب عن ذلك بأنّ التكاليف الشرعيّة على قسمين: تكاليف فرديّة، و تكاليف اجتماعيّة. فالصّلاة مثلا تكليف فرديّ و إن كان الخطاب فيها بلفظ العموم و الجمع كقوله: «أَقِيمُوا الصَّلٰاةَ.»* «1» فإنه ينحلّ إلى أوامر متعددة بعدد المكلفين و العامّ فيها عامّ استغراقيّ.

و أما التكاليف الاجتماعية فهي الوظائف التي خوطب بها المجتمع بما هو مجتمع و

روعي فيها مصالحه و العامّ فيها عامّ مجموعيّ.

ففي قوله- تعالى-: «وَ السّٰارِقُ وَ السّٰارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمٰا» «2»، و قوله: «الزّٰانِيَةُ وَ الزّٰانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وٰاحِدٍ مِنْهُمٰا مِائَةَ جَلْدَةٍ» «3»، و قوله: «وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِبٰاطِ الْخَيْلِ» «4»، و قوله: «وَ قٰاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمٰا يُقٰاتِلُونَكُمْ كَافَّةً» «5»، و نحو ذلك يكون الخطاب متوجها إلى المجتمع و يكون التكليف على عاتقه بما هو مجتمع، و ليس التكليف متوجها الى

______________________________

(1)- سورة الروم (30)، الآية 31 و سورة المزمّل (73)، الآية 20.

(2)- سورة المائدة (5)، الآية 38.

(3)- سورة النور (24)، الآية 2.

(4)- سورة الأنفال (8)، الآية 60.

(5)- سورة التوبة (9)، الآية 36.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 570

كلّ فرد فرد. فلا محالة يجب أن يكون المتصدّي لامتثاله قيّم المجتمع و من يتمثّل و يتبلور فيه المجتمع إمّا بجعل اللّه- تعالى- أو بانتخاب نفس الأمّة.

هذا مضافا إلى أنّ تنفيذ كلّ واحد من هذه التكاليف يستدعي تشخيص الموضوع و إحرازه، و الأنظار في هذه الموارد تختلف كثيرا، و أكثر الناس لا يخلون من الأهواء و كثيرا ما يستعقب تصدّي كلّ فرد لها التنازع و الخصام و الهرج و المرج، فلأجل ذلك منع الشارع من تصدّي الأفراد لها بل جعلها وظيفة لممثّل المجتمع، قطعا لمادة النزاع و الفساد.

و أنت ترى أن العقلاء ربّما يحيلون الأمور التي لا يتّفق فيها الآراء و يتنافس فيها الأهواء إلى شخص معتمد متفق عليه و يظهرون التسليم له في كلّ ما حكم به، فيرتفع بذلك النزاع و التشاجر. فهذا أمر استقرت عليه سيرتهم.

و بالجملة، الشارع الحكيم وضع هذه التكاليف على عاتق المجتمع رعاية لمصالحه،

فيجب أن يتصدّى لها ممثّل المجتمع و من صار قيّما له، إمّا بجعل اللّه- تعالى-، أو بانتخاب المجتمع. فلا يجوز تصدّي الأفراد لها لعدم كون التكليف متوجها الى الأفراد و لاستلزامه التنازع و الفساد، فارتفع الإشكال من أصله و أساسه.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 571

المسألة الثانية عشرة على فرض تقاعس الأكثرية و استنكافهم عن الاشتراك في الانتخابات فما هو التكليف حينئذ،

و هل يكفي انتخاب الأقليّة و ينفذ على الجميع أو يجبر الأكثرية على الاشتراك؟

و يمكن أن يجاب بأنّه بعد ما ثبتت ضرورة الحكومة و كونها من أهم الفرائض لتوقّف حفظ الحقوق و تنفيذ سائر الفرائض عليها فإن كان هنا حاكم منصوص عليه فهو، و إلّا وجب على من وجد فيه الشرائط، ترشيح نفسه لذلك و وجب على سائر المسلمين السعي لتعيينه و انتخابه.

و التقاعس عن ذلك معصية كبيرة فيجوز للحاكم المنتخب في المرحلة السابقة إجبارهم على ذلك، كما هو المتعارف في بعض البلاد في عصرنا.

و لو فرض عدم إمكان ذلك فتقاعس الأكثريّة و ابتدر الأقليّة إلى الانتخاب فإن كان منتخبهم واجدا للشرائط وجب على الأكثريّة إمّا التسليم له أو انتخاب فرد آخر واجد للشرائط و يصير التسليم له على الفرض الأوّل انتخابا له في الحقيقة.

بل لو فرض عصيان الجميع و عدم إمكان إجبارهم وجب على من وجد فيه الشرائط التصدّي لوظائف الحكومة حسبة بنحو الوجوب الكفائي، كما يأتي بيانه و وجب على الآخرين مساعدته على ذلك.

و الظاهر وضوح كل ذلك بعد ما بيّناه من ضرورة الحكومة في جميع الأعصار و عدم جواز تعطيلها.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 572

المسألة الثالثة عشرة إذا لم تقدم الأمّة على الانتخاب

و لم يمكن إجبارهم و لم نقل بكون الفقيه منصوبا بالفعل من قبل الأئمة «ع» فهل تبقى الأمور العامة معطّلة، أو يجب من باب الحسبة تصدّي كلّ فقيه لما أمكنه من هذه الأمور؟

أقول: الظاهر عدم الإشكال في وجوب تصدّي الفقهاء الواجدين للشرائط للأمور المعطّلة من باب الحسبة إذا أحرز عدم رضا الشارع الحكيم بإهمالها و تركها في أيّ ظرف من الظروف.

و لا تنحصر الأمور الحسبيّة في الأمور الجزئية، كحفظ أموال الغيّب

و القصّر مثلا. إذ حفظ نظام المسلمين و ثغورهم و دفع شرور الأعداء عنهم و عن بلادهم و بسط المعروف فيهم و قطع جذور المنكر و الفساد عن مجتمعهم من أهم الفرائض و من الأمور الحسبيّة التي لا يرضى الشارع الحكيم بإهمالها قطعا، فيجب على من تمكّن منها أو من بعضها التصدّي للقيام بها و إذا تصدّى واحد منهم لذلك وجب على باقي الفقهاء فضلا عن الأمة مساعدته على ذلك.

و العجب ممّن يهتمّ بحفظ دراهم معدودة للصغير أو الغائب من باب الحسبة و لا يهتمّ بحفظ كيان الإسلام و نظام المسلمين و ثغورهم و بلادهم، و هل هذا إلّا نحو من قصور الفهم و عدم نيل بمذاق الشرع و أهدافه؟!

و الفقهاء العدول الواجدون للشرائط هم القدر المتيقّن لهذه الأمور، لصلوحهم للحكومة و تحقّق الشرائط فيهم على ما مرّ من الأدلّة. فهم مقدّمون على غيرهم كما لا يخفى.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 573

فإن قلت: إذا سلّمنا أن شئون الحكومة لا تتعطّل على أيّ حال و أنّه إذا فقد النصّ و الانتخاب وجب على الفقهاء التصدّي لها حسبة فلأحد أن يقول: لا يبقى على هذا وجه لوجوب إقدام الأمّة على الانتخاب، إذ المفروض عدم تعطل الحكومة.

قلت: فعليّة الحكومة تحتاج إلى قوّة و قدرة حتّى يتمكّن الحاكم من إجراء الحدود و تنفيذ الأحكام، و واضح أن بيعة الأمّة و انتخابهم ممّا يوجب قوّة الحكومة و نجدتها. و أمّا المتصدّي حسبة فكثيرا ما لا يجد قدرة تنفيذية فيتعطّل قهرا كثير من الشؤون، فتدبّر.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 574

المسألة الرابعة عشرة هل الانتخاب للوالي عقد جائز

من قبيل الوكالة فيجوز للأمّة فسخه و نقضه مهما

أرادت، أو هو عقد لازم من قبيل البيع فلا يجوز نقضه إلّا مع تخلّف الوالي عمّا شرط عليه و تعهّده؟

أقول: كنت قد كتبت في سالف الزمان في هامش كتابي المسمّى بالبدر الزاهر المطبوع سابقا ما هذا لفظه:

«و أما الانتخاب العمومي فلا يغني عن الحق شيئا و لا يلزم الوجدان أحدا على إطاعة منتخب الأكثرية، إذ المنتخب بمنزلة الوكيل، و الموكل ليس ملزما على إطاعة وكيله، بل له أن يعزله متى شاء. هذا بالنسبة إلى الأكثرية، و أما بالنسبة إلى الأقليّة فالأمر أوضح، إذ لا يجب على أحد بحسب الوجدان أن يطيع وكيل غيره.

و على هذا فيختلّ النظام فلا بدّ لتنظيم الاجتماع من وجود سائس تجب بحسب الوجدان إطاعته و ينفّذ حكمه و لو كان بضرر المحكوم عليه، و ليس ذلك إلّا من كانت حكومته و ولايته بتعيين اللّه- تعالى- و من شئون سلطنته المطلقة و لو بوسائط كالفقيه العادل المنصوب من قبل الأئمة «ع» المتعيّنين بتعيين رسول اللّه «ص» الذي جعله اللّه أولى بالمؤمنين من أنفسهم.» «1» هذا ما كتبناه سابقا.

و قد كنت أرى آنذاك أن الانتخاب و البيعة لا تؤثر شيئا و لا تعطي لصاحبها حقّا حتّى مع عدم النّصّ فضلا عن وجوده.

و لكن التعمق في أدلّة إقامة الدولة و نصوص البيعة و استقرار السيرة عليها و غير

______________________________

(1)- البدر الزاهر/ 55.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 575

ذلك كما مرّ منّا بالتفصيل يلزمنا بالقول بصحّة الانتخاب مع عدم وجود النصّ.

و بما أنّ النصّ على نصب أمير المؤمنين «ع» و الأئمة من ولده «ع» ثابت عندنا بلا إشكال فلا مجال للانتخاب مع وجودهم و ظهورهم.

أما في أعصارنا فمع عدم النصّ

يصحّ الانتخاب أو يجب لما أقمناه من الأدلّة، و يكون عقدا شرعيا بين الأمّة و بين المنتخب يجب الوفاء به بحكم الفطرة مضافا إلى قوله- تعالى-: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ.» «1»

و كما أن الوجدان يلزمنا بإطاعة الإمام المنصوب يلزمنا بإطاعة الإمام المنتخب أيضا، فإن طبع ولاية الأمر إذا كانت عن حقّ يقتضي الإطاعة و إلّا لما تمّ الأمر و لما حصل النظام. و الشرع أيضا بإمضائه للانتخاب يلزمنا بالإطاعة. و قد استظهرنا في تفسير قوله- تعالى-: «أَطِيعُوا اللّٰهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ» «2» شمول الآية بعمومها لكل من صار ولي الأمر عن حقّ و إن كان بالانتخاب إذا كان واجدا للشرائط و كان انتخابه على أساس صحيح، فراجع. «3»

و بالجملة لا فرق في حكم الوجدان بين الإمام المنصوب و الإمام المنتخب مع فرض صحّة الانتخاب و إمضاء الشرع له.

و الانتخاب و إن أشبه الوكالة بوجه بل هو قسم من الوكالة بالمعنى الأعمّ، أعني إيكال الأمر إلى الغير أو تفويضه إليه، و في كتاب أمير المؤمنين «ع» إلى أصحاب الخراج «فإنكم خزّان الرعيّة و وكلاء الأمّة و سفراء الأئمة.» «4»

و لكن إيكال الأمر إلى الغير قد يكون بالإذن له فقط، و قد يكون بالاستنابة بأن يكون النائب وجودا تنزيليا للمنوب عنه و كأنّ العمل عمل المنوب عنه، و قد يكون بإحداث الولاية و السلطة المستقلة للغير مع قبوله.

و الأوّل ليس عقدا، و الثاني عقد جائز على ما ادّعوه من الإجماع، و أمّا الثالث

______________________________

(1)- سورة المائدة (5)، الآية 1.

(2)- سورة النساء (4)، الآية 59.

(3)- راجع ص 64 و ما بعدها من الكتاب.

(4)- نهج البلاغة، فيض/ 984؛ عبده 3/ 90؛ لح/ 425، الكتاب 51.

دراسات في ولاية

الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 576

فلا دليل على جوازه بل إطلاق قوله- تعالى-: «أَوْفُوا بِالْعُقُودِ» «1» يقتضي لزومه.

كيف و استيجار الغير للعمل أيضا نحو توكيل له مع لزومه قطعا. و قد مرّ في فصل البيعة أن البيعة و البيع من باب واحد و المادّة واحدة؛ فحكمها حكمه و البيع لازم قطعا.

و طبع الولاية أيضا يقتضي اللزوم و الثبات و إلّا لم يحصل النظام. و سيرة العقلاء أيضا استقرت على ترتيب آثار اللزوم عليها، بحيث يذمّون الناقض لها- اللهم إلا مع تخلف الوالي عن تكاليفه و تعهداته- و قد مرّ في خبر الحلبي، عن أبي عبد اللّه «ع» أنّه قال: «من فارق جماعة المسلمين و نكث صفقة الإمام جاء إلى اللّه أجذم.» «2» و في نهج البلاغة:

«و أمّا حقّي عليكم فالوفاء بالبيعة، و النصيحة في المشهد و المغيب، و الإجابة حين أدعوكم و الطاعة حين آمركم.» «3»

نعم، لو كان الانتخاب موقتا فالولاية تنقضي بانقضاء الوقت، كما لا يخفى.

هذا.

و أمّا كفاية آراء الأكثريّة و نفاذها حتّى بالنسبة إلى الأقليّة فقد مرّ بيانه في المسألة التاسعة، و محصّله أنّ الفرد بدخوله في الحياة الاجتماعية قد التزم بكل لوازمها التي منها تغليب الأكثريّة على الأقليّة عند التزاحم، فالأقليّة في الحقيقة قد التزمت بالتنازل عن فكرة نفسها و قبول فكرة الأكثرية في مقام العمل و إن اعتقدت بطلانها ذاتا. ففي الحقيقة وقع الإطباق و الاتّفاق على كون فكرة الأكثريّة مدار العمل، فلا إشكال.

______________________________

(1)- سورة المائدة (5)، الآية 1.

(2)- الكافي 1/ 405 كتاب الحجة، باب ما أمر النبي بالنصيحة لأئمة المسلمين، الحديث 5.

(3)- نهج البلاغة، فيض/ 114؛ عبده 1/ 80؛ لح/ 79، الخطبة 34.

دراسات في ولاية الفقيه و

فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 577

المسألة الخامسة عشرة هل يشترط في الناخب شرط خاصّ،

أو يكون الانتخاب حقّا لكلّ مسلم مميّز، بل و غير المسلمين أيضا إذا كانوا في بلاد المسلمين و في ذمّتهم؟

قال الماوردي في الأحكام السلطانية:

«فصل: فإذا ثبت وجوب الإمامة ففرضها على الكفاية كالجهاد و طلب العلم، فإذا قام بها من هو من أهلها سقط فرضها عن الكافة. و إن لم يقم بها أحد خرج من الناس فريقان: أحدهما: أهل الاختيار حتى يختاروا إماما للامة، و الثاني: أهل الإمامة حتّى ينتصب أحدهم للإمامة ...

فأمّا أهل الاختيار فالشروط المعتبرة فيهم ثلاثة: أحدها: العدالة الجامعة لشروطها، و الثاني: العلم الذي يتوصّل به إلى معرفة من يستحقّ الإمامة على الشروط المعتبرة فيها، و الثالث: الرأي و الحكمة المؤدّيان إلى اختيار من هو للإمامة أصلح و بتدبير المصالح أقوم و أعرف. و ليس لمن كان في بلد الإمام على غيره من أهل البلاد فضل مزية يقدّم بها عليه. و إنما صار من يحضر ببلد الإمام متولّيا لعقد الإمامة عرفا لا شرعا، لسبوق علمهم بموته، و لأنّ من يصلح للخلافة في الأغلب موجودون في بلده.» «1»

و قال القاضي أبو يعلى الفراء في الأحكام السلطانية:

«و هي فرض على الكفاية، مخاطب بها طائفتان من الناس: إحداهما: أهل الاجتهاد (الاختيار. ظ) حتى يختاروا. و الثانية: من يوجد فيه شرائط الإمامة حتى ينتصب أحدهم للإمامة. أمّا أهل الاختيار فيعتبر فيهم ثلاثة شروط: أحدها:

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية/ 5.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 578

العدالة. و الثاني: العلم الذي يتوصل به إلى معرفة من يستحقّ الإمامة. و الثالث:

أن يكون من أهل الرأي و التدبير المؤدّيين إلى اختيار من هو للإمامة أصلح. و ليس لمن كان في بلد

مزية على غيره من أهل البلاد يتقدّم بها. و إنّما صار من يختصّ ببلد الامام متولّيا لعقد الإمامة، لسبق علمه بموته، و لأنّ من يصلح للخلافة في الغالب موجودون في بلده.» «1»

أقول: حيث إن الإمام المنتخب يشترط فيه الفقاهة و العدالة و السياسة و نحوها كما مرّ، و حيث إنّ المترقب منه هو تنفيذ قوانين الإسلام و أحكامه و إدارة شئون المسلمين على أساس مقرراته العادلة لا كيف ما شاء و أراد، فلا محالة قد يقرب في الذهن اشتراط كون الناخب عادلا ملتزما مطّلعا على أحوال الرجال و أوصافهم.

و إلّا فلو كان الأكثر غير مبالين بمقررات الإسلام أو كانوا من البسطاء و الجهّال فلربّما باعوا آراءهم و أصواتهم بمتاع الدنيا و شئونها، أو اغترّوا بالدعايات الكاذبة، أو تأثّروا بالتهديدات، و أنتج ذلك كلّه انتقال الملك و القدرة إلى أهل الجور و الفساد كما نشاهده في أكثر البلاد.

و قد مرّ في المسألة الثامنة الروايات من نهج البلاغة و غيره، الدّالّة على كون الشورى و البيعة و الرأي للمهاجرين و الأنصار، أو لأهل المدينة، أو للبدريين، أو لأهل الحجى و الفضل، فراجع.

و هذا كله يدلّ على ما ذكرناه؛ فإن المهاجرين و الأنصار كانوا من أهل الخبرة و من أهل الحل و العقد. و أهل المدينة المنوّرة و البدريون كانوا مع النبي «ص» في جميع المواقف و المراحل، فكانوا مطّلعين على سننه و أهدافه و إلّا فليس لمدينة يثرب بما هي هي خصوصية بلا إشكال. هذا.

و في أعصارنا يمكن حلّ المشكلة بأن يحال إلى هيئة المحافظة على الدستور- و هم فقهاء عدول من أهل الخبرة- تعيين الواجدين للشروط من المرشحين و إعلامهم

______________________________

(1)- الأحكام السلطانية/ 19.

دراسات في ولاية

الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 579

للأمّة فتنتخب الأمّة واحدا منهم، كما في دستور إيران بالنسبة إلى رئيس الجمهورية، أو بأن يتحقّق الانتخاب بمرحلتين فتنتخب الأمّة الخبراء، و الخبراء الإمام، كما في دستور إيران في انتخاب القائد و الزعيم. فيندر الاشتباه و الخطأ حينئذ، إذ معرفة أهل كلّ بلد لفرد خبير من أهل بلدهم و صقعهم أيسر من معرفة المستحق للولاية الكبرى، فتأمّل.

و كيف كان فإحالة الانتخاب إلى العامّة بلا تحديد في البين مع فرض كون الأكثر من أهل الأهواء و الأجواء أو جهلاء بالمصالح و المفاسد مشكلة جدّا. و في كلام سيد الشهداء- عليه السلام- حينما نزل كربلاء: «الناس عبيد الدنيا، و الدين لعق على ألسنتهم؛ يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الدّيّانون.» «1»

نعم، لو فرض كون الأكثر أهل عدالة و علم و وعي سياسي لم يبق إشكال في البين، كما لا يخفى. و عليك بمراجعة ما حرّرناه في المسألة الثامنة.

______________________________

(1)- نفس المهموم/ 111.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 580

المسألة السادسة عشرة هل يجوز للأمّة الكفاح المسلّح و الخروج على الحاكم المتسلّط
اشارة

إذا فقد بعض الشرائط كالعدالة مثلا، أو لا يجوز، أو يفصل بين الشروط المهمّة و غيرها، أو بين ما إذا خيف على أساس الإسلام و بيضته و بين غيره، أو بين الأخطاء الجزئية و الانحرافات الأساسيّة؟ وجوه.

و ربما ظهر حكم المسألة إجمالا ممّا ذكرناه في الباب الثالث في فصل الجهاد و في فصل توجيه الأخبار التي ربّما يدّعى ظهورها في وجوب السكوت و السكون في عصر الغيبة، و في الباب الرابع حينما تعرضنا لاشتراط العدالة في الحاكم «1».

و لكن الأولى أن نتعرض للمسألة هنا بصورة مستقلة، و نكتفي فيها ببيان متوسط و نحيل التفصيل إلى

محلّه، فنقول:

قد يظهر من بعض الأخبار و الفتاوى من السنة وجوب الإطاعة و التسليم في قبال الحاكم و إن كان جائرا فاجرا

، و عدم جواز الخروج عليه. فلنذكر من ذلك بعض النماذج:

1- فروى مسلم في صحيحه بسنده عن حذيفة بن اليمان، قال: «قلت:

يا رسول اللّه، إنا كنّا بشرّ فجاء اللّه بخير فنحن فيه، فهل من وراء هذا الخير شرّ؟

قال: نعم. قلت: هل وراء ذلك الشر خير؟ قال: نعم. قلت: فهل وراء ذلك الخير شرّ؟ قال: نعم. قلت: كيف؟ قال: يكون بعدي أئمة لا يهتدون بهداي و لا يستنّون بسنّتي و سيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس. قال: قلت: كيف أصنع

______________________________

(1)- راجع الفصل 6 من الباب الرابع.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 581

يا رسول اللّه إن أدركت ذلك؟ قال: تسمع و تطيع للأمير، و إن ضرب ظهرك و أخذ مالك فاسمع و أطع.» «1»

أقول: لو كان هنا إمام عادل حقّ ضرب ظهر رجل مجرم حدّا أو تعزيرا و أخذ منه الزكاة مثلا و لو قهرا عليه فإطاعته واجبة قطعا.

و أما الطواغيت الشياطين الذين لا يهتدون بهدى النبي «ص» فكيف يجب إطاعتهم مع ظلمهم و تعدّيهم؟ و هل لا يكون هذا الأمر مخالفا لصريح القرآن الكريم الناهي عن إطاعة المسرف المفسد؟ و سيأتي توضيحه.

2- و روى فيه أيضا بسنده أنّ سلمة بن يزيد الجعفي سأل رسول اللّه «ص» فقال: «يا نبي اللّه، أ رأيت إن قامت علينا أمراء يسألونا حقّهم و يمنعونا حقّنا فما تأمرنا؟

فأعرض عنه، ثم سأله فأعرض عنه، ثم سأله في الثانية أو في الثالثة فجذبه الأشعث بن قيس و قال: «اسمعوا و أطيعوا، فإنّما عليهم ما حمّلوا و عليكم ما حمّلتم.» «2»

و في رواية أخرى فيه: «فجذبه الأشعث بن قيس فقال رسول اللّه «ص»:

اسمعوا و أطيعوا، فإنّما عليهم ما حمّلوا و عليكم ما حمّلتم.» «3»

3- و فيه أيضا عن عبادة بن الصامت، قال: «دعانا رسول اللّه «ص» فبايعناه، فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع و الطاعة في منشطنا و مكرهنا و عسرنا و يسرنا و أثرة علينا و أن لا ننازع الأمر أهله. قال: «إلّا أن تروا كفرا بواحا عندكم من اللّه فيه برهان.» «4»

قال النووي في شرحه:

______________________________

(1)- صحيح مسلم 3/ 1476، كتاب الإمارة، الباب 13، الحديث 1847.

(2)- صحيح مسلم 3/ 1474، كتاب الإمارة، الباب 12، الحديث 1846.

(3)- صحيح مسلم 3/ 1475، كتاب الإمارة، الباب 12، في حديث آخر ذيل حديث 1846.

(4)- صحيح مسلم 3/ 1470، كتاب الإمارة، الباب 8، في حديث آخر ذيل حديث 1840 (الرقم 42).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 582

«في معظم النسخ بواحا بالواو، و في بعضها براحا، و الباء مفتوحة فيهما و معناهما كفرا ظاهرا.» «1»

4- و فيه أيضا عن عوف بن مالك، عن رسول اللّه «ص» قال: «خيار أئمتكم الذين تحبّونهم و يحبّونكم و يصلّون عليكم و تصلّون عليهم. و شرار أئمتكم الذين تبغضونهم و يبغضونكم و تلعنونهم و يلعنونكم. قيل: يا رسول اللّه، أ فلا ننابذهم بالسيف؟ فقال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة. و إذا رأيتم من ولاتكم شيئا تكرهونه فاكرهوا عمله و لا تنزعوا يدا من طاعة.» «2»

5- و فيه أيضا عن أمّ سلمة أن رسول اللّه «ص» قال: «ستكون أمراء فتعرفون و تنكرون. فمن عرف برئ و من أنكر سلم، و لكن من رضي و تابع. قالوا: أ فلا نقاتلهم؟ قال:

لا، ما صلّوا.» «3»

قيل: إن المراد بقوله: «فمن عرف برئ» أنّ من

عرف المنكر فله طريق إلى البراءة من إثمه و عقوبته بأن يغيّره بيده أو بلسانه أو بقلبه.

و في رواية أخرى: «فمن كره فقد برئ.» «4» و عليه فالمعنى واضح.

6- و فيه أيضا عن ابن عباس، عن رسول اللّه «ص»، قال: «من كره من أميره شيئا فليصبر عليه فإنّه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرا فمات عليه إلّا مات ميتة جاهلية.» «5»

7- و فيه أيضا عن نافع، قال: جاء عبد اللّه بن عمر إلى عبد اللّه بن مطيع حين كان من أمر الحرّة ما كان زمن يزيد بن معاوية، فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن و سادة، فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدّثك حديثا سمعت

______________________________

(1)- شرح صحيح مسلم للنووي 8/ 34 (المطبوع بهامش إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري.).

(2)- صحيح مسلم 3/ 1481، كتاب الإمارة، الباب 17، الحديث 1855.

(3)- صحيح مسلم 3/ 1480، كتاب الإمارة، الباب 16، الحديث 1854.

(4)- صحيح مسلم 3/ 1481، كتاب الإمارة، الباب 16.

(5)- صحيح مسلم 3/ 1478، الباب 13 من كتاب الإمارة، الحديث 1849.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 583

رسول اللّه «ص» يقوله، سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «من خلع يدا من طاعة لقي اللّه يوم القيامة لا حجّة له، و من مات و ليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية.» «1»

و في حاشية الصحيح:

«قال السنوسي: و في هذا دليل على أن مذهب عبد اللّه بن عمر كمذهب الأكثرين في منع القيام على الإمام و خلعه إذا حدث فسقه، أمّا إذا كان فاسقا قبل عقدها فاتفقوا على أنّها لا تنعقد له، لكن إذا انعقدت له تغلّبا أو اتفاقا و وقعت كما اتفق ليزيد صار بمنزلة

من حدث فسقه بعد انعقادها له، فيمتنع القيام عليه.

و يدلّ على ذلك ذكر ابن عمر الحديث في سياق الإنكار على ابن مطيع في قيامه على يزيد.

و قد احتج من أجاز القيام بخروج الحسين، و ابن الزبير، و أهل المدينة على بني أمية.

و احتج الأكثر على المنع بأنّه الظاهر من الأحاديث كما ترى، و بأن القيام ربما أثار فتنة و قتالا و انتهاك حرم، كما اتفق ذلك في وقعة الحرّة.» «2»

أقول: فاجعة الحرّة من أفجع الحوادث التاريخية التي سوّدت تاريخ يزيد و بني أميّة بعد فاجعة كربلاء فقد هجم فيها جند يزيد بن معاوية بأمره على مدينة الرسول و مهبط الوحي و فيها صحابة النبي «ص» من المهاجرين و الأنصار و التابعون لهم بإحسان و أهل بيت رسول اللّه «ص» فقتلوا فيها آلافا من المسلمين و أغاروا عليهم و أباح يزيد المدينة لجنده ثلاثة أيّام حتّى روي أنّها ولدت ألف امرأة في واقعة الحرة من غير أزواج.

كما هجم جند يزيد على مكّة بالمجانيق و العرادات و هدموا البيت الشريف و أحرقوه. و قد أفرط يزيد في سفك الدماء و شرب المسكرات و الفسق و الفجور.

و عبد اللّه بن مطيع كان ممن ثار على يزيد لذلك، فأنكر ذلك عليه عبد اللّه بن

______________________________

(1)- صحيح مسلم 3/ 1478، الباب 13 من كتاب الإمارة، الحديث 1851.

(2)- حاشية الصحيح 6/ 22 (المجلد الثاني)، باب الأمر بلزوم الجماعة (من طبعة أخرى بمصر).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 584

عمر و خطّأه. و تخطئته له في الحقيقة تخطئة لقرّة عين الرسول السبط الشهيد أيضا في قيامه و ثورته.

ثم لو صحّ ما حدثه ابن عمر من لزوم كون البيعة

في العنق فما هو عذره و عذر أمثاله في التخلّف عن بيعة أمير المؤمنين «ع»؟!

و أعجب من ذلك التخلّف عن بيعة مظهر الزهد و التقوى و باب علم النبي «ص»، و البيعة لمثل حجاج سفّاك الدماء بمسّ رجله كما في ابن أبي الحديد «1».

كما أن من أظهر مظالم التاريخ تخطئة الخروج على مثل يزيد من جانب، و تبرير عمل الخارجين على أمير المؤمنين أخي رسول اللّه «ص» مع بيعة المهاجرين و الأنصار له من جانب آخر مع ما ترتب على خروجهم من إهدار دماء المسلمين في الجمل و صفين. و كيف لم يمسّ هذا الخروج قداسة الخارجين و كرامتهم! هذا.

8- و في كتاب الخراج لأبي يوسف القاضي، عن الحسن البصري، قال رسول اللّه «ص»: «لا تسبّوا الولاة، فإنّهم إن أحسنوا كان لهم الأجر و عليكم الشكر و إن أساءوا فعليهم الوزر و عليكم الصبر، و إنّما هم نقمة ينتقم اللّه بهم ممن يشاء فلا تستقبلوا نقمة اللّه بالحميّة و الغضب و استقبلوها بالاستكانة و التضرع.» «2»

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية؛ ج 1، ص: 584

9- و في سنن أبي داود، عن أبي هريرة، قال رسول اللّه «ص»: «الجهاد واجب عليكم مع كلّ أمير برّا كان أو فاجرا، و الصلاة واجبة عليكم خلف كلّ مسلم برّا كان أو فاجرا و إن عمل الكبائر.» «3»

إلى غير ذلك من الروايات الظاهرة في وجوب التسليم لحكام الجور و عدم جواز الخروج عليهم.

و هذه الروايات تشبه بوجه الأخبار المستفيضة الواردة بطرقنا المذكورة في الباب

______________________________

(1)- شرح

نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13/ 242.

(2)- كتاب الخراج لأبي يوسف/ 10.

(3)- سنن أبي داود 2/ 17، كتاب الجهاد، باب في الغزو مع أئمة الجور.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 585

الثالث عشر من جهاد الوسائل و الباب الثاني عشر من جهاد المستدرك المستدلّ بها على وجوب السكوت و السكون في عصر الغيبة، و قد ذكرنا المراد منها بالتفصيل في الفصل الرابع من الباب الثالث من هذا الكتاب، فراجع.

نعم، ظاهر هذه الأخبار الواردة بطرقنا- لو سلّم ظهورها- ليس إلّا عدم جواز التحرك و الخروج ضدّ الطواغيت. و أمّا الأخبار الواردة من طرق السنة فظاهر كثير منها وجوب الإطاعة و التسليم أيضا في قبالهم. هذا.

10- و في شرح النووي لصحيح مسلم في ذيل ما مرّ من رواية عبادة بن الصامت، قال:

«و معنى الحديث: لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم و لا تعترضوا عليهم إلّا أن تروا منهم منكرا محقّقا تعلمونه من قواعد الإسلام، فإذا رأيتم ذلك فأنكروه عليهم و قولوا بالحق حيث ما كنتم، و أمّا الخروج عليهم و قتالهم فحرام بإجماع المسلمين و إن كانوا فسقة ظالمين. و قد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، و أجمع أهل السنة أنّه لا ينعزل السلطان بالفسق.

و أمّا الوجه المذكور في كتب الفقه لبعض أصحابنا أنّه ينعزل و حكي عن المعتزلة أيضا فغلط من قائله مخالف للإجماع.

قال العلماء: و سبب عدم انعزاله و تحريم الخروج عليه ما يترتّب على ذلك من الفتن و إراقة الدماء و فساد ذات البين فتكون المفسدة في عزله أكثر منها في بقائه ...

فلو طرأ على الخليفة فسق قال بعضهم: يجب خلعه إلّا أن يترتّب عليه فتنة و حرب، و قال

جماهير أهل السنة من الفقهاء و المحدثين و المتكلّمين: لا ينعزل بالفسق و الظلم و تعطيل الحقوق و لا يخلع و لا يجوز الخروج عليه بذلك، بل يجب وعظه و تخويفه للأحاديث الواردة في ذلك.» «1»

11- و حكى العلامة الأميني- طاب ثراه- في الغدير عن الباقلاني في التمهيد أنه قال:

______________________________

(1)- شرح صحيح مسلم للنووي 8/ 34، (المطبوع بهامش إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري).

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 586

«قال الجمهور من أهل الإثبات و أصحاب الحديث: لا ينخلع الإمام بفسقه و ظلمه بغصب الأموال، و ضرب الأبشار، و تناول النفوس المحرّمة، و تضييع الحقوق و تعطيل الحدود، و لا يجب الخروج عليه بل يجب وعظه و تخويفه و ترك طاعته في شي ء ممّا يدعو إليه من معاصي اللّه. و احتجّوا في ذلك بأخبار كثيرة متظافرة عن النبي «ص» و عن الصحابة في وجوب طاعة الأئمة و إن جاروا و استأثروا بالأموال.» «1»

12- و قال القاضي أبو يعلى الفراء الحنبلي في الأحكام السلطانية:

«و قد روي عن الإمام أحمد ألفاظ تقتضي إسقاط اعتبار العدالة و العلم و الفضل فقال- في رواية عبدوس بن مالك القطان-: «و من غلبهم بالسيف حتّى صار خليفة و سمّي أمير المؤمنين لا يحلّ لأحد يؤمن باللّه و اليوم الآخر أن يبيت و لا يراه إماما عليه، برّا كان أو فاجرا، فهو أمير المؤمنين.» و قال أيضا في رواية المروزي: «فإن كان أميرا يعرف بشرب المسكر و الغلول يغزو معه، إنّما ذاك له في نفسه.» «2»

13- و قال فيه أيضا:

«و إذا وجدت هذه الصفات حالة العقد ثمّ عدمت بعد العقد نظرت فإن كان جرحا في عدالته و هو

الفسق، فإنّه لا يمنع من استدامة الإمامة، سواء كان متعلقا بأفعال الجوارح و هو ارتكاب المحظورات و إقدامه على المنكرات اتباعا لشهوته أو كان متعلقا بالاعتقاد و هو المتأوّل لشبهة تعرض يذهب فيها إلى خلاف الحق.» «3»

14- و في المغني لابن قدامة الحنبلي حكاية عن أحمد:

«فإن كان القائد يعرف بشرب الخمر و الغلول يغزى معه، إنما ذلك في نفسه.

و يروى عن النبي «ص»: إن اللّه ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر.» «4»

______________________________

(1)- الغدير 7/ 137، عن التمهيد/ 186.

(2)- الأحكام السلطانية/ 20.

(3)- الأحكام السلطانية/ 20.

(4)- المغنى لابن قدامة 10/ 371.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 587

15- و في العقد الفريد:

«قالوا: إذا زادك السلطان إكراما فزده إعظاما، و إذا جعلك عبدا فاجعله ربّا.» «1»

فهذه نماذج من الروايات و الفتاوى المحكية عن السنة الظاهرة في عدم جواز الخروج على الوالي إذا صار فاسقا أو جائرا بل يجب التسليم له و إطاعته و الصبر عليه. و قد رأيت بعضهم أنّه ادعى الإجماع على ذلك.

16- نعم، حكى أبو بكر الجصاص الحنفي في أحكام القرآن مخالفة أبي حنيفة لما ذكر فقال نقلا عنه:

«كان مذهبه مشهورا في قتال الظلمة و ائمة الجور، و لذلك قال الأوزاعي: احتملنا أبا حنيفة على كلّ شي ء حتى جاءنا بالسيف، يعني قتال الظلمة، فلم نحتمله.

و كان من قوله: وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر فرض بالقول، فإن لم يؤتمر له فبالسيف على ما روي عن النبي «ص».

و سأله إبراهيم الصائغ- و كان من فقهاء أهل خراسان و رواة الأخبار و نسّاكهم- عن الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فقال: هو فرض و حدّثه بحديث عن عكرمة، عن ابن عباس أن النبي «ص»

قال: «أفضل الشهداء حمزة بن عبد المطلب و رجل قام إلى إمام جائر فأمره بالمعروف و نهاه عن المنكر فقتل.»

فرجع إبراهيم إلى مرو و قام إلى أبي مسلم صاحب الدولة فأمره و نهاه و أنكر عليه ظلمه و سفكه الدماء بغير حقّ فاحتمله مرارا ثمّ قتله.

و قضيّته في أمر زيد بن علي مشهورة و في حمله المال إليه و فتياه الناس سرّا في وجوب نصرته و القتال معه و كذلك أمره مع محمد و إبراهيم ابني عبد اللّه بن الحسن.

و قال لأبي إسحاق الفزاري حين قال له: لم أشرت على أخي بالخروج مع إبراهيم حتّى قتل؟ قال: مخرج أخيك أحبّ إليّ من مخرجك، و كان أبو إسحاق قد خرج إلى البصرة. و هذا إنّما انكره عليه اغمار أصحاب الحديث الذين بهم فقد الأمر

______________________________

(1)- العقد الفريد 1/ 18.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 588

بالمعروف و النهي عن المنكر حتّى تغلّب الظالمون على أمور الإسلام.» «1»

أقول: الظاهر أن مراده بأصحاب الحديث: الحنابلة الآخذون بظواهر ما مرّ من الأخبار.

17- و قال أبو الحسن الماوردي في الأحكام السلطانية:

«و الذي يتغيّر به حاله فيخرج به عن الإمامة شيئان: أحدهما: جرح في عدالته، و الثاني: نقص في بدنه. فأمّا الجرح في عدالته و هو الفسق فهو على ضربين:

أحدهما: ما تابع فيه الشهوة. و الثاني: ما تعلّق فيه بشبهة.

فأمّا الأوّل منهما فمتعلق بأفعال الجوارح و هو ارتكابه للمحظورات و إقدامه على المنكرات تحكيما للشهوة و انقيادا للهوى؛ فهذا فسق يمنع من انعقاد الإمامة و من استدامتها، فاذا طرأ على من انعقدت إمامته خرج منها، فلو عاد إلى العدالة لم يعد إلى الإمامة إلّا بعقد جديد.

و قال بعض المتكلمين: يعود إلى الإمامة بعوده إلى العدالة من غير أن يستأنف له عقد و لا بيعة، لعموم ولايته و لحوق المشقة في استيناف بيعته.

و أمّا الثاني منهما فمتعلق بالاعتقاد المتأوّل بشبهة تعترض فيتأول لها خلاف الحق.

فقد اختلف العلماء فيها، فذهب فريق منهم إلى أنها تمنع من انعقاد الإمامة و من استدامتها و يخرج بحدوثه منها، لأنه لما استوى حكم الكفر بتأويل و غير تأويل وجب أن يستوي حال الفسق بتأويل و غير تأويل. و قال كثير من علماء البصرة: إنّه لا يمنع من انعقاد الإمامة و لا يخرج به منها، كما لا يمنع من ولاية القضاء و جواز الشهادة.» «2»

18- و قال أبو محمد ابن حزم الأندلسي- بعد ما صار بصدد توجيه الروايات التي مرّت:

«و الواجب إن وقع شي ء من الجور و إن قلّ أن يكلّم الإمام في ذلك و يمنع منه،

______________________________

(1)- أحكام القرآن للجصاص 1/ 81.

(2)- الأحكام السلطانية/ 17.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 589

فإن امتنع و راجع الحق و أذعن للقود من البشرة أو من الأعضاء، و لإقامة حدّ الزنا و القذف و الخمر عليه فلا سبيل إلى خلعه و هو إمام كما كان، لا يحلّ خلعه. فان امتنع من إنفاذ شي ء من هذه الواجبات عليه و لم يراجع وجب خلعه و إقامة غيره ممّن يقوم بالحق، لقوله- تعالى-: «تَعٰاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوىٰ وَ لٰا تَعٰاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوٰانِ.» «1» و لا يجوز تضييع شي ء من واجبات الشرائع.» «2»

19- و في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي في شرح قول أمير المؤمنين «ع»: «لا تقاتلوا الخوارج بعدي» قال:

«و عند أصحابنا أن الخروج

على أئمة الجور واجب، و عند أصحابنا أيضا أنّ الفاسق المتغلّب بغير شبهة يعتمد عليها لا يجوز أن ينصر على من يخرج عليه ممّن ينتمي إلى الدين و يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر، بل يجب أن ينصر الخارجون عليه و إن كانوا ضالّين في عقيدة اعتقدوها بشبهة دينية دخلت عليهم، لأنّهم أعدل منه و أقرب إلى الحق. و لا ريب في تلزم الخوارج بالدين، كما لا ريب في أن معاوية لم يظهر عنه مثل ذلك.» «3»

20- و عن شرح المقاصد لإمام الحرمين:

«إن الإمام إذا جار و ظهر ظلمه و غشّه، و لم يرعو لزاجر عن سوء صنيعه فلأهل الحلّ و العقد التواطؤ على ردعه و لو بشهر السلاح و نصب الحروب.» «4»

______________________________

(1)- سورة المائدة (5)، الآية 2.

(2)- الفصل في الملل و الأهواء و النحل 4/ 175.

(3)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 5/ 78.

(4)- نظام الحكم و الإدارة في الإسلام لباقر شريف القرشى/ 54.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 590

البحث في أمرين
اشارة

و كيف كان فهناك أمران يجب البحث فيهما إجمالا:

الأول: أنّه لا يجوز إطاعة الجائر الفاسق في فسقه و جوره.

الثاني: أنّه هل يجوز القيام و الكفاح المسلّح ضده أم لا؟

أما الأمر الأول [إنه لا يجوز إطاعة الجائر الفاسق في فسقه و جوره]

فنقول: إن الحاكم الفاسق الجائر لا يجب بل لا يجوز إطاعته فيما أمر به من الجور و المعصية. و الظاهر عدم الإشكال في ذلك. و يكفيك:

1- قوله- تعالى-: «وَ مَنْ يُشٰاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مٰا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدىٰ وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مٰا تَوَلّٰى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ سٰاءَتْ مَصِيراً.» «1» فتأمّل.

2- و قوله- تعالى-: «وَ لٰا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لٰا يُصْلِحُونَ.» «2»

3- و قوله- تعالى- في اعتذار أهل النار: «وَ قٰالُوا رَبَّنٰا إِنّٰا أَطَعْنٰا سٰادَتَنٰا وَ كُبَرٰاءَنٰا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا.» «3»

الى غير ذلك من الآيات التي مرّت في الباب السابق.

______________________________

(1)- سورة النساء (4)، الآية 115.

(2)- سورة الشعراء (26)، الآية 151 و 152.

(3)- سورة الأحزاب (33)، الآية 67.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 591

4- و في نهج البلاغة: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.» «1»

5- و عن الفقيه، قال: و من ألفاظ رسول اللّه «ص»: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.» «2»

6- و عن العيون بسنده عن الرضا، عن آبائه «ع»، قال: قال رسول اللّه «ص»:

«من أرضى سلطانا بما أسخط اللّه خرج من دين اللّه.» «3»

7- و في الوسائل عن أبي جعفر «ع» في قول اللّه- تعالى-: «اتَّخَذُوا أَحْبٰارَهُمْ وَ رُهْبٰانَهُمْ أَرْبٰاباً مِنْ دُونِ اللّٰهِ»، قال: «و اللّه ما صلّوا لهم و لا صاموا و لكن أطاعوهم في معصية اللّه.» «4»

8- و في صحيح مسلم بسنده عن ابن عمر، عن النبي «ص» أنه قال: «على

المرء المسلم السمع و الطاعة فيما أحبّ و كره، إلّا أن يؤمر بمعصية، فإن أمر بمعصية فلا سمع و لا طاعة.» «5»

9- و فيه أيضا بسنده عن عليّ «ع»: «إنّ رسول اللّه «ص» بعث جيشا و أمّر عليهم رجلا فأوقد نارا و قال: ادخلوها فأراد ناس أن يدخلوها و قال الآخرون: إنّا قد فررنا منها. فذكر ذلك لرسول اللّه «ص» فقال للذين أرادوا أن يدخلوها: «لو دخلتموها لم تزالوا فيها إلى يوم القيامة، و قال للآخرين قولا حسنا، و قال: لا طاعة في معصية اللّه، إنّما الطاعة في المعروف.» «6»

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 1167؛ عبده 3/ 193؛ لح/ 500، الحكمة 165.

(2)- الوسائل 11/ 422، الباب 11 من أبواب الأمر و النهي و ...، الحديث 7.

(3)- الوسائل 11/ 422، الباب 11 من أبواب الأمر و النهي و ...، الحديث 9.

(4)- الوسائل 18/ 96، الباب 10 من أبواب صفات القاضي، الحديث 25.

(5)- صحيح مسلم 3/ 1469، كتاب الإمارة، الباب 8، الحديث 1839. و روى نحوه البخاري أيضا 4/ 234، كتاب الأحكام.

(6)- صحيح مسلم 3/ 1469، كتاب الإمارة، الباب 8، الحديث 1840، و نحوه رواية أخرى عنه «ع».

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 592

10- و في كنز العمّال عن أحمد عن أنس، قال: «لا طاعة لمن لم يطع اللّه.» «1»

إلى غير ذلك من الأخبار المتظافرة، فراجع.

و أمّا ما دلّ على وجوب إطاعة أولي الأمر فإنّما يدلّ على وجوب الإطاعة و التسليم لمن يكون له ولاية الأمر و حقّ الأمر، و الجائر الفاسق ليس وليّا للأمر بمقتضى ما مرّ من الأدلّة على شرائط الوالي، و ليس لأحد حقّ الأمر فيما نهى اللّه عنه، فتدبر.

و

أما ما على أفواه بعض أعوان الظلمة من أن المأمور معذور فاعتذار شيطاني لا أساس له لا في الكتاب و السنة، و لا في العقل و الفطرة.

______________________________

(1)- كنز العمال 6/ 67، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14872.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 593

الأمر الثاني [هل يجوز القيام و الكفاح المسلّح ضد الحاكم الجائر أم لا]
اشارة

إن الحاكم إذا صدرت عنه معصية أو صار جائرا بعد ما كانت حكومته مشروعة في بادئ الأمر فالظاهر أنّه لا يمكن القول بانعزاله عن الولاية قهرا، أو بجواز الخروج عليه بمجرد صدور معصية جزئية أو ظلم منه في مورد خاص أو صدور أمر منه بهما مع بقاء النظام على ما كان عليه من كونه على أساس موازين الإسلام.

و هذا من غير فرق بين أن تكون المعصية الجزئية في محاوراته و أموره الشخصيّة أو في تكاليفه بالنسبة إلى المجتمع، و من غير فرق في ذلك بين الوالي الأعظم المنتخب و بين الوزراء و المدراء و الأمراء و العمّال المنصوبين من قبله.

بداهة أنّ الحكّام غير المعصومين يكثر منهم صدور الهفوات و الأخطاء و المزالق و لا سيّما من العمّال المنصوبين من قبل الوالي الأعظم، و ربّما يكون لبعضهم اعتذار أو تأويل أو اختلاف في الفتوى أو في تشخيص الموضوع.

فالحكم بالانعزال القهري أو الخروج عليهم، بل العصيان و التخلّف عن أوامرهم المشروعة بلا ضابطة معينة يكون مخلا بنظام المسلمين و وحدتهم و يوجب الفوضى و الهرج و المرج و إراقة الدماء و إثارة الفتن في كلّ صقع و ناحية في كلّ يوم بل في كلّ ساعة، و لا سيّما بالنسبة إلى الأمراء و العمال لكثرتهم و كثرة المزالق فيهم.

بل يمكن الخدشة في صدق عنوان الفاسق أو

الجائر أو الظالم على هذا الشخص، إذ المتبادر من هذه العناوين هو الوصف الثبوتي و الملكة، لا صدور المبدأ و لو دفعة ما، فتأمّل. بل ربما يصح إطلاق العادل عليه أيضا بناء على كونه عبارة عن الملكة.

فالظاهر في هذه الموارد بقاء المنصب المفوض إليه و وجوب النصح و الإرشاد و وجوب إطاعتهم فيما يرتبط بشؤون الأمّة من التكاليف و إن لم تجز إطاعتهم في الجور

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 594

و المعصية، كما مرّ.

و بالجملة، التخلفات عن الموازين الشرعية مختلفة؛ فقد يكون التخلف جزئيّا في مورد خاصّ، و قد يكون انحرافا أساسيّا.

و الظاهر أنّه يجري في المسألة، المراتب المذكورة في باب النهي عن المنكر من الإنكار بالقلب و باللسان ثمّ باليد بمراتبها بقدر الإمكان إلى أن تصل النوبة في النهاية إلى الخروج و القيام بالسيف بل المسألة من مصاديق الباب بمفهومه الوسيع.

و في الحديث أنّه قيل لرسول اللّه «ص»: «أيّ الجهاد أحبّ إلى اللّه- عزّ و جلّ-؟» فقال «ص»: «كلمة حق تقال لإمام جائر.» «1»

و عن رسول اللّه «ص» أنه قال: «الدين النصيحة.» قلنا: لمن؟ قال: «للّه و لكتابه و لرسوله و لأئمة المسلمين و عامّتهم.» «2»

و الحاصل أنّه إذا أخطأ الحاكم خطأ جزئيا أو عصى معصية جزئية لا تمسّ أصول الشريعة و مصالح الإسلام و المسلمين بل كان أساس عمله و حكمه الكتاب و السنة فلا يجب بل لا يجوز الخروج عليه و لا يحكم بانعزاله أيضا، و إنّما يجب الإرشاد و النصح مع احتمال الإصرار. نعم، في الوزراء و المدراء و العمال يجوز للوالي الأعظم عزلهم إذا رآه صلاحا.

و أما إذا انحرف الحاكم انحرافا أساسيّا عن موازين

الإسلام و العدالة و صار متهتكا و جعل أساس حكمه الاستبداد و الهوى، و جعل مال اللّه دولا و عباده خولا، أو صار عميلا للاستعمار و منفّذا لأهواء الكفرة و الأجانب و تغلّبوا من هذا الطريق على سياسة المسلمين و ثقافتهم و اقتصادهم، و لم يرتدع هو بالنصح و التذكير بل لم يزده ذلك إلّا عتوا و استكبارا- و إن فرض أنّه يظهر الإسلام باللسان بل و يتعبّد ببعض المراسيم الظاهريّة من الصلاة و الحج و الشعارات الإسلاميّة، كما تراه و نراه في أكثر الملوك و الرؤساء في بلاد المسلمين في أعصارنا- ففي الوزراء و الأمراء و العمال يرفع

______________________________

(1)- مسند أحمد 5/ 251.

(2)- صحيح مسلم 1/ 74، كتاب الإيمان، الباب 23، الحديث 55.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 595

أمرهم إلى الوالي الذي نصبهم حتّى يكون هو الذي يعزلهم إن رآه صلاحا. و في الوالي الأعظم يجوز بل يجب السعي في خلعه و رفع يده و لو بالكفاح المسلّح مع حفظ المراتب، و لكن يجب إعداد الأسباب: من إيجاد الوعي السياسي في الأمّة و تشكيل الفئات و الأحزاب و الجمعيات و اللجان و تهية القوى و المعدّات خفية أو علنا حسب اقتضاء الشرائط و الظروف. فإن حصل المقصود بالتكتل و المظاهرات فهو، و إلّا فبالكفاح المسلّح. فتجب رعاية المراتب و الأخذ بالأقل ضررا و الأكثر نفعا إلى أن يحصل النصر و الظفر. بل الظاهر أنه ينعزل قهرا و إن لم تقدر الأمّة على خلعه؛ فليست حكومته حينئذ حكومة مشروعة.

و يدلّ على جواز ما ذكر بل وجوبه أمور:
الأول: آيات شريفة من الكتاب العزيز و روايات مستفيضة
اشارة

يستفاد منها ذلك و لو بالملازمة.

[الآيات]

1- كقوله- تعالى-: «لٰا يَنٰالُ عَهْدِي الظّٰالِمِينَ.» «1»

دلّ على أنّ الظالم لا ينال الإمامة التي هي عهد اللّه. و إطلاق الآية يشمل الحدوث و البقاء معا.

2- و قوله: «وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ.» «2»

و حيث لا محيص عن الدولة و الحكومة لما مرّ من الأدلّة، و لا يجوز تصدّي الظالم لها

______________________________

(1)- سورة البقرة (2)، الآية 124.

(2)- سورة الهود (11)، الآية 113.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 596

و لا الركون إليه بمقتضى الآيتين الشريفتين فلا محالة يجب نفيه و خلعه مع القدرة حتّى تخلفه الحكومة العادلة الصالحة.

3- و قوله- تعالى- في قصة طالوت و داود: «فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللّٰهِ وَ قَتَلَ دٰاوُدُ جٰالُوتَ وَ آتٰاهُ اللّٰهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمّٰا يَشٰاءُ. وَ لَوْ لٰا دَفْعُ اللّٰهِ النّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ، وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعٰالَمِينَ.» «1»

يظهر من الآية الشريفة أنّ اللّه- تعالى- بفضله على العالمين يسلّط أهل الصلاح أمثال داود و طالوت على من يفسد في الأرض ليقطعوا جذور الفساد. و لا يختصّ هذا بزمان دون زمان أو بلد دون بلد؛ فإنّ فضله عامّ للعالمين جميعا إلى يوم القيام.

4- و قوله: «وَ لَوْ لٰا دَفْعُ اللّٰهِ النّٰاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوٰامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَوٰاتٌ وَ مَسٰاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللّٰهِ كَثِيراً، وَ لَيَنْصُرَنَّ اللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ، إِنَّ اللّٰهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ* الَّذِينَ إِنْ مَكَّنّٰاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقٰامُوا الصَّلٰاةَ وَ آتَوُا الزَّكٰاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ، وَ لِلّٰهِ عٰاقِبَةُ الْأُمُورِ.» «2»

يظهر من الآية الشريفة أن اللّه- تعالى- يبغض الفساد و هدم المساجد و المعابد، و

يحبّ أن يقوم أهل الصلاح الذين إن تمكّنوا في الأرض و صاروا حكّاما فيها أقاموا فرائض اللّه- تعالى- يقوموا فينصروا اللّه- تعالى- بدفع أهل الفساد و حفظ المعابد و إقامة دعائم الدين و فرائضه. و لا يخفى أن دفع أهل الفساد ربّما لا يتحقق إلّا بالكفاح المسلّح.

5- و قوله- تعالى-: «لَقَدْ أَرْسَلْنٰا رُسُلَنٰا بِالْبَيِّنٰاتِ وَ أَنْزَلْنٰا مَعَهُمُ الْكِتٰابَ وَ الْمِيزٰانَ لِيَقُومَ النّٰاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنٰافِعُ لِلنّٰاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللّٰهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ، إِنَّ اللّٰهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ.» «3»

يستفاد من الآية الشريفة أنّ من الأهداف في إرسال الرسل و إنزال الكتب

______________________________

(1)- سورة البقرة (2)، الآية 251.

(2)- سورة الحج (22)، الآية 40 و 41.

(3)- سورة الحديد (57)، الآية 25.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 597

قيام الناس بالقسط، و أن اللّه- تعالى- أنزل الحديد ضمانة لإجراء ذلك، فيجب تحقيقه و لو بالكفاح المسلّح، و يكون هذا القيام و الكفاح نصرا للّه- تعالى- و لرسله، فتدبّر في الآية الشريفة و غيرها.

6- و قوله- تعالى-: «أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمٰا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مٰا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحٰاكَمُوا إِلَى الطّٰاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ، وَ يُرِيدُ الشَّيْطٰانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلٰالًا بَعِيداً.» «1»

يظهر من الآية وجوب الكفر بالطاغوت و حرمة التحاكم إليه، و إذا حرم التحاكم إليه فلا محالة وجب إسقاطه من عرش القدرة حتّى تخلفه حكومة صالحة عادلة، إذ لا محيص عن وجود الحكم و الحاكم قطعا.

7- و قوله: «وَ لٰا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لٰا يُصْلِحُونَ.» «2»

8- و قوله: «وَ لٰا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنٰا

قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنٰا وَ اتَّبَعَ هَوٰاهُ وَ كٰانَ أَمْرُهُ فُرُطاً.» «3»

9- و قوله حكاية عن أهل النار: «وَ قٰالُوا رَبَّنٰا إِنّٰا أَطَعْنٰا سٰادَتَنٰا وَ كُبَرٰاءَنٰا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا.» «4»

10- و قوله: «فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لٰا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً.» «5»

إلى غير ذلك من الآيات الناهية عن إطاعة أهل الإثم و الفساد. هذا.

[الروايات]

11- و في الخصال بسنده عن عليّ «ع»، قال: «قال رسول اللّه «ص»: يا عليّ، أربعة من قواصم الظهر: إمام يعصى اللّه و يطاع أمره ...» «6»

______________________________

(1)- سورة النساء (4)، الآية 60.

(2)- سورة الشعراء (26)، الآية 151 و 152.

(3)- سورة الكهف (18)، الآية 28.

(4)- سورة الأحزاب (33)، الآية 67.

(5)- سورة الإنسان (76)، الآية 24.

(6)- الخصال 1/ 206.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 598

12- و في الخطبة القاصعة من نهج البلاغة: «ألا فالحذر الحذر من طاعة ساداتكم و كبرائكم! الذين تكبروا عن حسبهم و ترفعوا فوق نسبهم و ألقوا الهجينة على ربّهم، و جاحدوا اللّه على ما صنع بهم، مكابرة لقضائه و مغالبة لآلائه. فإنّهم قواعد أساس العصبية و دعائم أركان الفتنة و سيوف اعتزاء الجاهلية. فاتّقوا اللّه و لا تكونوا النعمة عليكم أضدادا و لا لفضله عندكم حسّادا، و لا تطيعوا الأدعياء الذين شربتم بصفوكم كدرهم، و خلطتم بصحتكم مرضهم، و أدخلتم في حقكم باطلهم، و هم أساس الفسوق و أحلاس العقوق، اتخذهم إبليس مطايا ضلال و جندا بهم يصول على الناس و تراجمة ينطق على ألسنتهم استراقا لعقولكم و دخولا في عيونكم و نفثا في أسماعكم.» «1»

فتأمل في هذا الحديث الشريف، و انظر كيف ينطبق مضامينه على الرؤساء الطغاة الحاكمين في أعصارنا. و كيف يصول بهم

الشيطان على الناس!!

و حيث لا تجوز إطاعتهم- و المفروض أنّ الحكومة ممّا لا محيص عنها و لا تتمّ هي إلّا بالإطاعة و التسليم- فلا محالة يجب اسقاط الحكومة المسرفة الفاسدة لتخلفها الحكومة العادلة الصالحة المفترض طاعتها. و إسقاطها من عرش القدرة لا يتحقق غالبا إلّا بالكفاح المسلح.

فإن قلت: لعلّ النهي في الآيات و الروايات متوجّه إلى إطاعة أهل الإثم و الفساد في خصوص ما أمروا به من الإثم، و قد مرّ حكمها في الأمر الأوّل، فلا ينافي ذلك بقاء حكومتهم و وجوب طاعتهم في الشؤون الاجتماعيّة التي يتوقّف عليها حفظ النظام.

قلت: ظاهر الآيات و الروايات حرمة طاعتهم بنحو الإطلاق في كلّ ما أمروا به.

و أنت ترى أنّ أهل الفساد و التزوير كثيرا ما يستفيدون حتى من الأمور العبادية و مظاهر الشرع المبين استفادة سياسية شيطانية، و ربّما أحكموا بذلك قواعد ملكهم ليكثروا فيها الفساد. فلا تستغرب أن ينهى الشارع عن إطاعتهم بالكليّة حتّى في الأمور التي تكون صلاحا بالذات حذرا من استحكام دولتهم و حكومتهم بذلك،

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 785؛ عبده 2/ 166؛ لح/ 289، الخطبة 192.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 599

فتدبّر فإن في دلالة بعض ما ذكر على المقصود نوع خفاء.

الثاني: إن الحكومة الإسلاميّة إنّما شرعت لتنفيذ أحكام الإسلام و إقامة العدل في الأمّة

، كما يشهد بذلك صحيحة زرارة عن أبي جعفر «ع». فإنّه بعد ما حكم ببناء الإسلام على خمس و سئل «ع» عن أفضلها قال: «الولاية أفضل، لأنها مفتاحهنّ و الوالي هو الدليل عليهن.» «1»

و في رواية المحكم و المتشابه عن أمير المؤمنين «ع»: «أوّلها الصلاة ثمّ الزكاة ثمّ الصيام ثمّ الحج ثمّ الولاية، و هي خاتمتها و الحافظة لجميع الفرائض و السنن.» «2»

و في رواية العيون و

العلل جعل الرضا «ع» علّة جعل الإمام المنع عن الفساد و إقامة الحدود و الأحكام و أنّه لو لم يجعل لهم إماما لدرست الملّة و ذهب الدين و غيّرت السنن و الأحكام، و لزاد فيه المبتدعون و نقص منه الملحدون و شبهوا ذلك على المسلمين. «3»

و في خبر عبد العزيز بن مسلم: «إنّ الإمامة زمام الدين و نظام المسلمين و صلاح الدنيا و عزّ المؤمنين. إنّ الإمامة أسّ الإسلام الناميّ و فرعه الساميّ. بالإمام تمام الصلاة و الزكاة و الصيام و الحج و الجهاد و توفير الفي ء و الصدقات و إمضاء الحدود و الأحكام و منع الثغور و الأطراف.

الحديث.» «4»

إلى غير ذلك من الروايات الدالة على الغرض من الإمامة و الحكومة الحقّة،

______________________________

(1)- الكافي 2/ 18، باب دعائم الإسلام من كتاب الإيمان و الكفر، الحديث 5.

(2)- راجع الدليل الثامن مما ذكرناه دليلا لضرورة الحكومة.

(3)- راجع الدليل الثالث من أدلة ضرورة الحكومة.

(4)- الكافي 1/ 200، باب نادر جامع في فضل الإمام و صفاته من كتاب الحجة، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 600

و سيجي ء بعضها في أوائل الباب السادس.

و على هذا فإذا انحرفت الحكومة عن المسير المقرر لها و لم يترتب عليها الآثار المترقبة منها كان حفظها و بقاؤها و وجوب الإطاعة و التسليم لها ناقضا للغرض المطلوب، فيجب إسقاطها و تعيين حاكم صالح لئلا يتعطل الإسلام و حدوده.

الثالث: ما دلّ من الآيات و الروايات من طرق الفريقين على وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر

بمفهومهما الوسيع، أعني السعي في إشاعة المعروف و بسطه و قطع جذور المنكر و الفساد مهما أمكن.

فإذا انحرف الحاكم عن مسير الحقّ و العدالة و أشاع البدع و المنكرات بجنوده و قدرته- و الناس على دين ملوكهم بالطبع- فلا محالة يجب على

المسلمين مواصلة العمل لتحقيق أهداف الأنبياء و المرسلين من السعي في بسط المعروف و رفع المنكرات و دفعها مع القدرة و الإمكان، و لكن مع رعاية المراتب؛ فإذا لم يؤثّر النصح و الإرشاد و التهديد و الوعيد فلا محالة تصل النوبة إلى المظاهرات الجماعيّة، ثمّ القيام و الكفاح المسلّح، قطعا لمادّة الفساد. نعم، يجب أن يكون القيام و الكفاح تحت نظام صحيح و قيادة رجل عالم عادل يقود الثوّار، كيلا يلزم الهرج و المرج.

1- ففي خبر جابر، عن أبي جعفر «ع»: «فأنكروا بقلوبكم و ألفظوا بألسنتكم و صكّوا بها جباههم و لا تخافوا في اللّه لومة لائم.» «1»

2- و في خبر يحيى الطويل، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «ما جعل اللّه بسط اللسان و كفّ اليد، و لكن جعلهما يبسطان معا و يكفان معا.» «2»

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 403، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي و ...، الحديث 1.

(2)- الوسائل 11/ 404، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي و ...، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 601

3- و روى الصدوق بإسناده عن مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمد «ع» قال: «قال أمير المؤمنين «ع»: «إن اللّه لا يعذب العامّة بذنب الخاصّة إذا عملت الخاصّة بالمنكر سرّا من غير أن تعلم العامّة، فإذا عملت الخاصّة بالمنكر جهارا فلم تغيّر ذلك العامّة استوجب الفريقان العقوبة من اللّه- عزّ و جلّ-.» قال: و قال رسول اللّه «ص»: «إنّ المعصية إذا عمل بها العبد سرّا لم يضرّ إلّا عاملها، فإذا عمل بها علانية و لم يغيّر عليه أضرّت بالعامّة.» قال جعفر بن محمد «ع»: «و ذلك أنّه يذلّ بعمله دين

اللّه و يقتدي به أهل عداوة اللّه.» «1»

4- و في مرفوعة محمد بن سنان، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «ما أقرّ قوم بالمنكر بين أظهرهم لا يغيّرونه إلّا أوشك أن يعمّهم اللّه بعقاب من عنده.» «2»

5- و في مسند أحمد بسنده عن رسول اللّه «ص» يقول: «إنّ اللّه- عزّ و جلّ- لا يعذّب العامّة بعمل الخاصّة حتّى يروا المنكر بين ظهرانيهم و هم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه، فإذا فعلوا ذلك عذّب اللّه الخاصّة و العامّة.» «3»

6- و عن الطبري في تاريخه، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، قال: إني سمعت عليّا «ع» يقول- يوم لقينا أهل الشام: «أيّها المؤمنون، إنّه من رأى عدوانا يعمل به و منكرا يدعى إليه فأنكره بقلبه فقد سلم و برئ. و من أنكره بلسانه فقد أجر، و هو أفضل من صاحبه. و من أنكره بالسيف لتكون كلمة اللّه العليا و كلمة الظالمين السفلى فذلك الذي أصاب سبيل الهدى و قام على الطريق و نوّر في قلبه اليقين.» «4»

7- و في نهج البلاغة: «و لعمري ما عليّ من قتال من خالف الحقّ و خابط الغيّ من ادهان و لا إيهان، فاتّقوا اللّه عباد اللّه و امضوا في الذي نهجه لكم، و قوموا بما عصبه بكم فعليّ ضامن

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 407، الباب 4 من أبواب الأمر و النهي و ...، الحديث 1.

(2)- الوسائل 11/ 408، الباب 4 من أبواب الأمر و النهي و ...، الحديث 3.

(3)- مسند أحمد 4/ 192.

(4)- الوسائل 11/ 405، الباب 3 من أبواب الأمر و النهي و ...، الحديث 8. و رواه أيضا في نهج البلاغة، فيض/ 1262؛ عبده 3/ 243؛ لح/ 541، الحكمة

373.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 602

لفلجكم آجلا إن لم تمنحوه عاجلا.» «1»

و أمير المؤمنين «ع»: إمام المتقين و أسوة المؤمنين، و إنّما جعل الإمام إماما ليؤتمّ به فيجب التأسي بهداه.

8- و في الوسائل بسنده، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «قال رسول اللّه «ص»: «الخير كلّه في السيف و تحت ظلّ السيف، و لا يقيم الناس إلّا السيف، و السيوف مقاليد الجنّة و النار.» «2»

9- و في صحيح مسلم بسنده، عن رسول اللّه «ص»: «من رأى منكم منكرا فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه و ذلك أضعف الإيمان.» «3»

10- و فيه أيضا بسنده، عن جابر بن عبد اللّه، يقول: سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «لا تزال طائفة من أمّتي يقاتلون على الحقّ ظاهرين إلى يوم القيامة.» «4»

11- و فيه أيضا بسنده، عن جابر بن سمرة، عن النبي «ص» أنّه قال: «لن يبرح هذا الدين قائما يقاتل عليه عصابة من المسلمين حتّى تقوم الساعة.» «5»

12- و في سنن أبي داود بسنده، عن عبد اللّه بن مسعود، قال: قال رسول اللّه «ص»: «إنّ أوّل ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول:

يا هذا، اتّق اللّه ودع ما تصنع فإنّه لا يحلّ لك، ثمّ يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله و شريبه و قعيده. فلما فعلوا ذلك ضرب اللّه قلوب بعضهم ببعض.» ثمّ قال: «لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود و عيسى بن مريم إلى قوله: فاسقون.» ثمّ قال: «كلّا و اللّه لتأمرن بالمعروف و لتنهون عن المنكر و لتأخذن على يدي الظالم و لتأطرنّه على الحقّ أطرا و

لتقصرنه على الحقّ

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 87؛ عبده 1/ 58؛ لح/ 66، الخطبة 24. و في الفيض و الصالح هكذا: «فاتقوا اللّه عباد اللّه و فروا إلى اللّه من اللّه و ...».

(2)- الوسائل 11/ 5، الباب 1 من أبواب جهاد العدو، الحديث 1.

(3)- صحيح مسلم 1/ 69، كتاب الإيمان، الباب 20، الحديث 49.

(4)- صحيح مسلم 3/ 1524، كتاب الإمارة، الباب 53، الحديث 1923.

(5)- صحيح مسلم 3/ 1524، كتاب الإمارة، الباب 53، الحديث 1922.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 603

قصرا.» «1»

أقول: لتأطرنه على الحقّ اي لتردنه عليه.

و رواه أيضا بسند آخر عن النبي «ص» نحوه، و زاد: «أو ليضربنّ اللّه بقلوب بعضكم على بعض ثمّ ليلعننكم كما لعنهم.» «2»

13- و فيه أيضا بسنده، عن قيس، قال: قال أبو بكر- بعد أن حمد اللّه و أثنى عليه: يا أيّها الناس، إنّكم تقرؤون هذه الآية و تضعونها على غير مواضعها: «عليكم أنفسكم، لا يضرّكم من ضلّ إذا اهتديتم.» قال عن خالد: و إنّا سمعنا النبي «ص» يقول: «إنّ الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أو شك أن يعمّهم اللّه بعقاب.» و قال عمرو عن هشيم: و إنّي سمعت رسول اللّه «ص» يقول: «ما من قوم يعمل فيهم بالمعاصي ثمّ يقدرون على أن يغيّروا ثمّ لا يغيّروا إلا يوشك أن يعمّهم اللّه منه بعقاب.» «3»

14- و فيه أيضا بسنده، عن جرير، قال: سمعت رسول اللّه «ص» يقول:

«ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون على أن يغيّروا عليه فلا يغيروا إلّا أصابهم اللّه بعذاب من قبل أن يموتوا.» «4»

أقول: و ربّما لا يقدر كلّ فرد فرد منفردا و لكن

يقدرون مع التجمع و التشكل، فيجب عليهم ذلك مقدمة لتحصيل القدرة، فإنّ المقدور بالواسطة مقدور.

15- و في سنن ابن ماجة، عن رسول اللّه «ص»، قال: «لا تزال طائفة من أمّتي

______________________________

(1)- سنن أبي داود 2/ 436، كتاب الملاحم، باب الأمر و النهي.

(2)- سنن أبي داود 2/ 436، كتاب الملاحم، باب الأمر و النهي.

(3)- سنن أبي داود 2/ 436، كتاب الملاحم، باب الأمر و النهي.

(4)- سنن أبي داود 2/ 437، كتاب الملاحم، باب الأمر و النهي.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 604

قوّامة على أمر اللّه لا يضرّها من خالفها.» «1»

16- و في الدّر المنثور، عن رسول اللّه «ص»: «إنّ رحى الإسلام ستدور؛ فحيث ما دار القرآن فدوروا به يوشك السلطان و القرآن أن يقتتلا و يتفرقا. إنّه سيكون عليكم ملوك يحكمون لكم بحكم و لهم بغيره، فإن أطعتموهم أضلّوكم و إن عصيتموهم قتلوكم» قالوا:

يا رسول اللّه، فكيف بنا إن أدركنا ذلك؟ قال: تكونوا كأصحاب عيسى «ع»: نشروا بالمناشير و رفعوا على الخشب. موت في طاعة خير من حياة في معصية.» «2»

17- و في نهج السعادة مستدرك نهج البلاغة: قال أبو عطاء: خرج علينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «ع» محزونا يتنفّس فقال: «كيف أنتم و زمان قد أظلّكم؟

تعطّل فيه الحدود و يتّخذ المال فيه دولا و يعادى فيه أولياء اللّه و يوالى فيه أعداء اللّه؟ قلنا:

يا أمير المؤمنين، فإن أدركنا ذلك الزمان فكيف نصنع؟ قال: «كونوا كأصحاب عيسى «ع»: نشروا بالمناشير و صلبوا على الخشب. موت في طاعة اللّه- عزّ و جلّ- خير من حياة في معصية اللّه.» «3»

18- و في كنز العمّال: «سيكون عليكم أئمّة يملكون أرزاقكم، يحدّثونكم فيكذبونكم

و يعملون فيسيؤون العمل، لا يرضون منكم حتى تحسّنوا قبيحهم و تصدّقوا كذبهم، فأعطوهم الحقّ ما رضوا به فإذا تجاوزوا فمن قتل على ذلك فهو شهيد.» (طب، عن أبي سلالة) «4»

إلى غير ذلك من الأخبار التي مرّ بعضها في ذيل الرواية السادسة من الفصل الرابع من الباب الثالث، فراجع.

و لا يخفى أن إطلاق هذه الروايات يشمل محلّ البحث و إن لا يخل بعضها عن إشكال. و ضعف السند في بعضها لا يضرّ بعد معاضدة بعضها لبعض و العلم إجمالا بصدور بعضها، فتأمّل.

______________________________

(1)- سنن ابن ماجة 1/ 5، باب اتباع سنة رسول اللّه «ص»، الحديث 7.

(2)- الدرّ المنثور 2/ 301.

(3)- نهج السعادة 2/ 639.

(4)- كنز العمال 6/ 67، الباب 1 من كتاب الإمارة من قسم الأقوال، الحديث 14876.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 605

الرابع: قيام سيد الشهداء- عليه السلام- و ثورته على يزيد بن معاوية،

مع أنه كان يحكم باسم الإسلام و اسم خلافة النبي «ص»، و ربّما كان يقيم شعائر اللّه من الصلاة و الحج و نحوهما. و الحسين الشهيد عندنا إمام معصوم، و عمله حجة شرعية كقوله، إذ الإمام إنّما جعل إماما ليؤتمّ به و يهتدى بهداه، و قد بيّن هو «ع» أهدافه من ثورته في خطبه التي ألقاها في مسيره:

فروى الطبري في تاريخه و ابن الأثير في الكامل أن الحسين «ع» خطب أصحابه و أصحاب الحرّ، فحمد اللّه و أثنى عليه ثم قال: «أيها الناس، إن رسول اللّه «ص» قال: من رأى سلطانا جائرا مستحلا لحرم اللّه، ناكثا لعهد اللّه، مخالفا لسنة رسول اللّه «ص»، يعمل في عباد اللّه بالإثم و العدوان فلم يغيّر عليه بفعل و لا قول كان حقّا على اللّه أن يدخله مدخله. ألا و إن

هؤلاء قد لزموا طاعة الشيطان و تركوا طاعة الرحمن، و أظهروا الفساد، و عطلوا الحدود، و استأثروا بالفي ء، و أحلّوا حرام اللّه و حرّموا حلاله، و أنا أحقّ من غيّر.» «1»

و روى الطبري أيضا عنه «ع» في خطبة خطبها بذي حسم: «ألا ترون أنّ الحق لا يعمل به، و أنّ الباطل لا يتناهى عنه؟ ليرغب المؤمن في لقاء اللّه محقّا؛ فإنّي لا أرى الموت إلّا شهادة و لا الحياة مع الظالمين إلّا برما.» «2» و رواه في تحف العقول أيضا إلّا أنّه قال:

«لا أرى الموت إلّا سعادة» و زاد في آخره: «إنّ الناس عبيد الدنيا، و الدين لعق على ألسنتهم:

يحوطونه ما درّت معايشهم، فإذا محّصوا بالبلاء قلّ الدّيّانون.» «3»

و هو- عليه السلام- من العترة، و عترة النبي «ص» أحد الثقلين، و قد أوصى

______________________________

(1)- تاريخ الطبري (طبع ليدن) 7/ 300، و الكامل لابن الأثير 4/ 48.

(2)- تاريخ الطبري 7/ 301.

(3)- تحف العقول/ 245.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 606

النبي «ص» في الحديث المتواتر بين الفريقين بالتمسّك بهما. فقوله «ع» حجة بلا إشكال، مضافا إلى أنّه «ع» روى الحديث عن النبي «ص». و نقله عنه لا يقلّ عن نقل سائر الرواة عنه «ص» بلا إشكال.

و ما رواه عنه «ص» عامّ يبيّن التكليف لجميع المسلمين في جميع الأعصار في قبال سلاطين الجور و طواغيت الزمان، و لا يختصّ بفريق خاصّ أو عصر خاصّ.

و هل لا يكون أكثر من يحكم في هذه الأعصار باسم الإسلام من مصاديق ما حكاه هو «ع» عن رسول اللّه «ص» و ممّن يسير في طريق يزيد و أمثاله؟!

و في تحف العقول أيضا عنه «ع»- في كتابه إلى أهل

الكوفة لمّا سار إليهم و رأى خذلانهم إيّاه-: «أمّا بعد فتبّا لكم أيّتها الجماعة و ترحا! حين استصرختمونا ولهين، فأصرخناكم موجفين. سللتم علينا سيفا كان في أيماننا، و حششتم علينا نارا اقتدحناها على عدوّنا و عدوّكم؛ فأصبحتم إلبا لفّا على أوليائكم و يدا لأعدائكم، بغير عدل أفشوه فيكم و لا لأمل أصبح لكم فيهم، و عن غير حدث كان منّا و لا رأي تفيّل عنّا. الحديث.» «1»

أقول: تبّا أي هلاكا و خسرانا. و الترح بفتحتين: ضدّ الفرح. و الإيجاف:

الإسراع. حششتم: أوقدتم. و الإلب بالكسر: الجماعة. و اللّف: المجتمعون. و تفيّل رأيه: أخطأ و ضعف.

الخامس: ثورة زيد بن عليّ بن الحسين و خروجه على هشام بن عبد الملك.

و قد أمضى عمله و قدّسه أئمتنا الأطهار «ع» و علماؤنا الأخيار، كما مرّ تفصيله في الفصل الرابع من الباب الثالث، فراجع.

______________________________

(1)- تحف العقول/ 240.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 607

و من جملة الروايات التي ذكرناها هناك صحيحة عيص بن القاسم، عن أبي عبد اللّه «ع»، و فيها: «إن اتاكم آت منّا فانظروا على أيّ شي ء تخرجون، و لا تقولوا: خرج زيد؛ فإنّ زيدا كان عالما و كان صدوقا، و لم يدعكم إلى نفسه، و إنّما دعاكم إلى الرضا من آل محمد «ص». و لو ظفر لوفى بما دعاكم إليه. إنّما خرج إلى سلطان مجتمع لينقضه ...» «1»

و في رواية أخرى، عن الصادق «ع»: «إن عمّي كان رجلا لدنيانا و آخرتنا. مضى و اللّه عمّي شهيدا كشهداء استشهدوا مع رسول اللّه «ص» و عليّ و الحسن و الحسين- صلوات اللّه عليهم-.» «2»

إلى غير ذلك من الروايات الواردة في قصّة زيد و شأنه و ثورته، و قد مرّ كثير منها.

السادس: ثورة الحسين بن عليّ بن الحسن بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، شهيد فخّ.

و قد قام في المدينة في خلافة موسى الهادي و استشهد بفخّ- موضع أو بئر على فرسخ من مكة. و لم يعرف من أئمتنا- عليهم السلام- حديث ظاهر في قدحه، بل وردت روايات كثيرة تدل على تقديسه و تقديس قيامه نذكرها من كتاب مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني:

1- ما رواه بسنده، عن زيد بن علي، قال: انتهى رسول اللّه «ص» إلى موضع فخّ فصلّى بأصحابه صلاة الجنازة، ثمّ قال: «يقتل هاهنا رجل من أهل بيتي في عصابة من المؤمنين، ينزل لهم بأكفان و حنوط من الجنة، تسبق أرواحهم أجسادهم إلى الجنة.» «3»

______________________________

(1)- الوسائل 11/ 36، الباب 13 من أبواب جهاد العدو،

الحديث 1.

(2)- عيون أخبار الرضا 1/ 252، الباب 25، الحديث 6.

(3)- مقاتل الطالبيين/ 289.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 608

2- ما رواه بسنده، عن أبي جعفر محمد بن علي «ع»، قال: «مرّ النبي «ص» بفخّ فنزل فصلّى ركعة، فلمّا صلّى الثانية بكى و هو في الصلاة، فلما رأى الناس النبي «ص» يبكي بكوا، فلمّا انصرف قال: ما يبكيكم؟ قالوا: لمّا رأيناك تبكي بكينا يا رسول اللّه. قال: «نزل عليّ جبرئيل لمّا صلّيت الركعة الأولى فقال: يا محمد، إنّ رجلا من ولدك يقتل في هذا المكان. و أجر الشهيد معه أجر شهيدين.» «1»

3- ما رواه بسنده، عن النضر بن قرواش، قال: أكريت جعفر بن محمد «ع» من المدينة إلى مكة، فلمّا ارتحلنا من بطن مرّ قال لي: «يا نضر، إذا انتهيت إلى فخّ فأعلمني ... فتوضأ و صلّى ثمّ ركب فقلت له: جعلت فداك رأيتك قد صنعت شيئا، أ فهو من مناسك الحج؟ قال: «لا، و لكن يقتل هاهنا رجل من أهل بيتي في عصابة تسبق أرواحهم أجسادهم إلى الجنة.» «2»

4- ما رواه بسنده، عن إبراهيم بن إسحاق القطّان، قال: سمعت الحسين بن علي، و يحيى بن عبد اللّه يقولان:

«ما خرجنا حتّى شاورنا أهل بيتنا، و شاورنا موسى بن جعفر «ع» فأمرنا بالخروج.» «3»

5- ما رواه عن جماعة، قالوا:

«جاء الجند بالرءوس إلى موسى و العباس و عندهم جماعة من ولد الحسن و الحسين، فلم يتكلم أحد منهم بشي ء إلّا موسى بن جعفر «ع»، فقال له: هذا رأس الحسين. قال: «نعم، إنّا للّه و إنا إليه راجعون. مضى و اللّه مسلما صالحا صوّاما قوّاما آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر. ما كان في

أهل بيته مثله. فلم يجيبوه بشي ء.» «4»

و لم يكن خروجه للدعوة إلى نفسه بل كان يدعو إلى الرضا من آل محمد، نظير

______________________________

(1)- مقاتل الطالبيين/ 290.

(2)- مقاتل الطالبيين/ 290.

(3)- مقاتل الطالبيين/ 304.

(4)- مقاتل الطالبيين/ 302.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 609

ما صنعه زيد في دعوته:

6- فروى أبو الفرج أيضا بسنده، عن أرطاة، قال:

«لمّا كانت بيعة الحسين بن علي صاحب فخّ قال: «ابايعكم على كتاب اللّه و سنة رسول اللّه «ص»، و على أن يطاع اللّه و لا يعصى، و أدعوكم إلى الرضا من آل محمد، و على أن نعمل فيكم بكتاب اللّه و سنة نبيّه «ص» و العدل في الرعية و القسم بالسويّة ...» «1»

هذا. و لكن في أسناد الروايات ضعف، و مؤلف الكتاب من بني مروان ينتهي نسبه إلى مروان الحمار، و في المذهب زيدي.

السابع: ما رواه في الكافي، عن سدير الصيرفي،

قال: «دخلت على أبي عبد اللّه «ع» فقلت له: و اللّه ما يسعك القعود. فقال: و لم يا سدير؟ قلت: لكثرة مواليك و شيعتك و انصارك. و اللّه لو كان لأمير المؤمنين «ع» مالك من الشيعة و الأنصار و الموالي ما طمع فيه تيم و لا عديّ. فقال: يا سدير، و كم عسى أن تكونوا؟ قلت: مأئة ألف. قال: مأئة ألف؟

قلت: نعم، و مأتي ألف. قال: مأتي الف؟ قلت: نعم و نصف الدنيا. قال: فسكت عنّي ثمّ قال: يخفّ عليك أن تبلغ معنا إلى ينبع؟ قلت: نعم. فأمر بحمار و بغل أن يسرجا فبادرت فركبت الحمار، فقال: يا سدير، ترى أن تؤثرني بالحمار؟ قلت: البغل أزين و أنبل. قال: الحمار أرفق بي. فنزلت فركب الحمار و ركبت البغل فمضينا فحانت الصلاة فقال: يا سدير،

أنزل بنا نصلّي، ثمّ قال: هذه أرض سبخة لا يجوز الصلاة فيها. فسرنا حتّى صرنا إلى أرض حمراء و نظر إلى غلام يرعى جداء فقال: و اللّه يا سدير، لو كان لي شيعة بعدد هذه الجداء ما وسعني القعود. و نزلنا و صلينا فلمّا فرغنا من

______________________________

(1)- مقاتل الطالبيين/ 299.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 610

الصلاة عطفت على الجداء فعددتها فإذا هي سبعة عشر.» «1»

و لم يكن مراده «ع» لا محالة مطلق من يطلق عليهم اسم الشيعة، بل الشيعة الخلّص المواتين لهم «ع» في جميع المراحل، و هم قليلون جدّا و لا سيّما في تلك الأعصار.

فيظهر من الحديث الشريف أنّه يجب القيام في قبال حكّام الجور مع وجود القدرة و أنّ قعود أئمتنا «ع» لم يكن إلّا لعدم القوّة و العدّة.

و في نهج البلاغة: «فنظرت فإذا ليس لي معين إلّا أهل بيتي، فضننت بهم عن الموت.» «2»

و قال الشارح المعتزلي في شرحه:

«فأمّا قوله: «لم يكن لي معين إلّا أهل بيتي فضننت بهم عن الموت» فقول ما زال عليّ «ع» يقوله، و لقد قاله عقيب وفاة رسول اللّه «ص»، قال: لو وجدت أربعين ذوي عزم. ذكر ذلك نصر بن مزاحم في كتاب صفين و ذكره كثير من أرباب السيرة.» «3»

و الإمام المجتبى أيضا قام و جاهد إلى أن خان أكثر جنده و لحقوا بمعاوية، فلم يتمكّن من مواصلة الجهاد.

فلم يكن أئمتنا- عليهم السلام- ذوي سياسات متضادة، كما قد يتوهّم، بل هم نور واحد و سياستهم كانت واحدة في قبال سلاطين الجور و الطواغيت، و إنّما الشروط و الظروف كانت مختلفة، فتدبر.

______________________________

(1)- الكافي 2/ 242، كتاب الإيمان و الكفر، باب في قلّة

عدد المؤمنين، الحديث 4.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 92؛ عبده 1/ 62؛ لح/ 68، الخطبة 26.

(3)- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 2/ 22.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 611

الثامن: ما في نهج البلاغة: «لو لا حضور الحاضر و قيام الحجة بوجود الناصر

، و ما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة ظالم و لا سغب مظلوم لألقيت حبلها على غاربها ...» «1»

أقول: الكظّة بالكسر و التشديد: البطنة و ما يعتري الإنسان عند الامتلاء من الطعام. و السغب: الجوع.

و فيه أيضا: «سمعت رسول اللّه «ص» يقول- في غير موطن: لن تقدّس أمّة لا يؤخذ للضعيف فيها حقّه من القويّ غير متتعتع.» «2»

و في الوسائل عن الإمام الصادق «ع»: «ما قدّست أمّة لم يؤخذ لضعيفها من قويّها غير متعتع.» «3»

و في سنن ابن ماجة عن أبي سعيد الخدري، عن النبي «ص»: «إنّه لا قدّست أمّة لا يأخذ الضعيف فيها حقّه غير متعتع.» «4»

فيظهر من هذه الأحاديث أنّه لا يحلّ للإنسان المسلم و لا سيّما العالم الذي ينفذ أمره و حكمه بالطبع أن يقعد في بيته و لا يبالي بما يقع و يشاهده في المجتمع من الجور و الظلم و الإغارة على حقوق الضعفاء، و التبعيضات غير العادلة، و لا محالة ربّما ينجرّ التدخل في ذلك إلى الكفاح المسلّح.

______________________________

(1)- نهج البلاغة، فيض/ 52؛ عبده 1/ 31؛ لح/ 50، الخطبة 3.

(2)- نهج البلاغة، فيض/ 1021؛ عبده 3/ 113؛ لح/ 439، الكتاب 53.

(3)- الوسائل 11/ 395، الباب 1 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 9.

(4)- سنن ابن ماجة 2/ 810، كتاب الصدقات، باب لصاحب الحق سلطان، الحديث 2426.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 612

التاسع: ما دلّ على جزاء المحارب و المفسد في الأرض.

قال اللّه- تعالى-: «إِنَّمٰا جَزٰاءُ الَّذِينَ يُحٰارِبُونَ اللّٰهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسٰاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلٰافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ. ذٰلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيٰا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذٰابٌ

عَظِيمٌ، إِلَّا الَّذِينَ تٰابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ ...» «1»

إذ لا فرق في الساعي بالفساد بين أن يكون فردا عاديا أو يكون صاحب قدرة و سلطة، بل الفساد في الثاني أكثر، فيجب مع الإمكان مجازاته بالقيام و الخروج عليه، فتأمّل.

العاشر: إن جواز قتال البغاة بل وجوبه ممّا دلّ عليه الكتاب و السنة،

و أفتى به فقهاء الفريقين كما حقق في محلّه، و مرّ منّا أيضا إجمالا في الفصل السابع من الباب الثالث.

قال اللّه- تعالى-: «وَ إِنْ طٰائِفَتٰانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا، فَإِنْ بَغَتْ إِحْدٰاهُمٰا عَلَى الْأُخْرىٰ فَقٰاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتّٰى تَفِي ءَ إِلىٰ أَمْرِ اللّٰهِ، فَإِنْ فٰاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمٰا بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا، إِنَّ اللّٰهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ.» «2»

______________________________

(1)- سورة المائدة (5)، الآية 33 و 34.

(2)- سورة الحجرات (49)، الآية 9.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 613

و تعليق الحكم على الوصف يشعر بالعليّة بل يدلّ عليها. فيعلم بذلك أنّ الملاك في وجوب القتال أو جوازه هو البغي و الطغيان، سواء كان من ناحية طائفة على أخرى، أو من ناحية الأفراد أو الطوائف على الولاة، أو من ناحية الولاة على الأمّة. و لذلك ترى أنّه مع كون المنصوص في الآية هو بغي طائفة على أخرى تعدّى الأصحاب و الفقهاء منه إلى بغي الفرد أو الطائفة على الإمام. و من لفظ الآية الشريفة اقتبسوا اسم البغاة.

نعم، يمكن المناقشة في استفادة الوجوب من الأمر في الآية، إذ الأمر الواقع في مقام توهّم الحظر لا يستفاد منه أزيد من الجواز، و لكنّ الجواز يكفينا في المقام.

فإن قلت: مورد آية البغي، و كذا آية المحاربة التي مرّت هو صورة وجود الهجوم و إشعال نار الفتنة و الحرب فعلا، فحكم اللّه- تعالى- بإطفائها بالقتال و الجزاء. و أمّا الحاكم

الجائر فهو لتسلّطه خارجا لا يحتاج إلى الحرب و الهجوم، بل الخروج عليه إشعال لنائرة الحرب، و موجب لإراقة الدماء و تلف الأموال و النفوس، فلا مجال للتمسك بالآيتين في المقام.

قلت: تنفيذ مقرّرات الإسلام و بسط الحقّ و العدالة و حفظ الحدود و الحقوق من أهم أهداف الإسلام و واجباته، فإذا انحرف الحاكم عن مسير الحقّ و الإسلام و ضيّع الحدود و الحقوق و إن تسمّى باسم الإسلام فلا محالة يحصل في نطاق حكمه و ملكه الفساد و الفحشاء و البغي على الضعفة كثيرا، بل ربّما خيف منه و من عمّاله على بيضة الإسلام و كيان المسلمين، و أيّ بغي أشدّ و أفحش من ذلك؟

و المراجع إلى الكتاب و السنة و إلى تاريخ صدر الإسلام يظهر له أن حفظ الإسلام و بسطه و حفظ الحدود و الحقوق من أهم الفرائض، فيجب السعي فيه و في رفع الفساد و إن استلزم ذلك فداء الأموال و النفوس في هذا الطريق. هذا.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 614

الحادي عشر: ما دلّ على حرمة إعانة الظالم و مساعدته

، بل و حبّ بقائه. و الأخبار في هذا الباب كثيرة من طرق الفريقين، فلنذكر بعضها:

1- فروى الترمذي في الفتن بسنده، عن كعب بن عجرة، عن النبي «ص»، قال: «سيكون بعدي أمراء؛ فمن دخل عليهم فصدّقهم بكذبهم و أعانهم على ظلمهم فليس منّي و لست منه و ليس بوارد عليّ الحوض.» «1»

2- و في مسند أحمد بسنده، عن جابر بن عبد اللّه أن النبي «ص» قال لكعب بن عجرة: «أعاذك اللّه من إمارة السفهاء.» قال: و ما إمارة السفهاء؟ قال: «أمراء يكونون بعدي لا يقتدون بهداي و لا يستنّون بسنّتي؛ فمن صدّقهم بكذبهم و أعانهم

على ظلمهم فأولئك ليسوا منّي و لست منهم و لا يردوا عليّ حوضي، و من لم يصدقهم بكذبهم و لم يعنهم على ظلمهم فأولئك منّي و أنا منهم و سيردوا عليّ حوضي.» «2»

3- و في صحيحة أبي حمزة، عن علي بن الحسين «ع»: «إيّاكم و صحبة العاصين و معونة الظالمين.» «3»

4- و في خبر طلحة بن زيد، عن أبي عبد اللّه «ع»: «العامل بالظلم و المعين له و الراضي به شركاء ثلاثتهم.» «4»

5- و عن سليمان الجعفري، قال: قلت لأبي الحسن الرضا «ع»: ما تقول في

______________________________

(1)- سنن الترمذي 3/ 358، الباب 62 من أبواب الفتن، الحديث 2360.

(2)- مسند أحمد 3/ 321.

(3)- الوسائل 12/ 128، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(4) الوسائل 12/ 128، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 615

أعمال السلطان؟ فقال: «يا سليمان، الدخول في أعمالهم و العون لهم و السعي في حوائجهم عديل الكفر، و النظر إليهم على العمد من الكبائر التي يستحقّ بها النار.» «1»

و واضح أنّ المراد به السلطان الجائر.

6- و في خبر ابن أبي يعفور، قال: كنت عند أبي عبد اللّه «ع» إذ دخل عليه رجل من أصحابنا فقال له: جعلت فداك إنّه ربّما أصاب الرجل منّا الضيق أو الشدة فيدعى إلى البناء يبنيه أو النهر يكريه أو المسنّاة يصلحها، فما تقول في ذلك؟

فقال أبو عبد اللّه «ع»: «ما أحبّ أنّي عقدت لهم عقدة أو وكيت لهم وكاء و أنّ لي ما بين لابتيها، لا و لا مدّة بقلم؛ إن أعوان الظلمة يوم القيامة في سرادق من نار حتّى يحكم اللّه بين العباد.»

«2»

7- و في خبر السكوني، عن جعفر بن محمد، عن آبائه «ع»، قال: «قال رسول اللّه «ص»: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين أعوان الظلمة و من لاق لهم دواة، أو ربط كيسا، أو مدّ لهم مدّة قلم؛ فاحشروهم معهم.» «3»

8- و في خبر آخر: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الظلمة و أعوان الظلمة و أشباه الظلمة، حتى من برى لهم قلما و لاق لهم دواة. قال: فيجتمعون في تابوت من حديد ثمّ يرمي بهم في جهنّم.» «4»

9- و في حديث آخر: «من مشى الى ظالم ليعينه و هو يعلم انه ظالم فقد خرج من الإسلام.» «5»

10- و عن رسول اللّه «ص» في خبر المناهي: «ألا و من علّق سوطا بين يدي سلطان

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 138، الباب 45 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 12.

(2)- الوسائل 12/ 129، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(3)- الوسائل 12/ 130، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 11.

(4)- الوسائل 12/ 131، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 16.

(5)- الوسائل 12/ 131، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 15.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 616

جعل اللّه ذلك السوط يوم القيامة ثعبانا من النار، طوله سبعون ذراعا، يسلطه اللّه عليه في نار جهنّم و بئس المضير.» «1»

11- و عن الكاهلي، عن أبي عبد اللّه «ع» قال: «من سوّد اسمه في ديوان الجبّارين من ولد فلان حشره اللّه يوم القيامة حيرانا.» «2»

12- و عن زياد بن أبي سلمة، قال: دخلت على أبي الحسن موسى «ع» فقال لي: «يا زياد، إنّك لتعمل عمل السلطان؟» قال:

قلت: أجل. قال لي: و لم؟ قلت: أنا رجل لي مروة و عليّ عيال و ليس وراء ظهري شي ء. فقال لي: «يا زياد، لأن أسقط من حالق فأتقطّع قطعة قطعة أحبّ إليّ من أن أتولّى لأحد منهم عملا أو أطأ بساط رجل منهم إلّا لما ذا؟» قلت: لا أدري جعلت فداك. قال: «إلّا لتفريج كربة عن مؤمن أو فكّ أسره أو قضاء دينه. يا زياد، إنّ أهون ما يصنع اللّه- جلّ و عزّ- بمن تولّى لهم عملا أن يضرب عليه سرادق من نار إلى أن يفرغ من حساب الخلائق ...» «3»

13- و عن صفوان بن مهران الجمال، قال: دخلت على أبي الحسن الأوّل «ع» فقال لي: يا صفوان، كلّ شي ء منك حسن جميل ما خلا شيئا واحدا. قلت: جعلت فداك أيّ شي ء؟ قال: إكراؤك جمالك من هذا الرجل، يعني هارون. قلت: و اللّه ما أكريته أشرا و لا بطرا، و لا للصيد و لا للّهو، و لكني أكريته لهذا الطريق، يعني طريق مكّة، و لا أتولّاه بنفسي و لكن أبعث معه غلماني. فقال لي: يا صفوان، أيقع كراؤك عليهم؟

قلت: نعم، جعلت فداك. قال: فقال لي: أ تحبّ بقاءهم حتّى يخرج كراؤك؟ قلت:

نعم، قال: من أحبّ بقاءهم فهو منهم، و من كان منهم كان ورد النار ...» «4»

14- و عن عياض، عن أبي عبد اللّه «ع»، قال: «من أحبّ بقاء الظالمين فقد أحبّ

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 130، الباب 42 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 10.

(2)- الوسائل 12/ 134، الباب 44 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 6.

(3)- الوسائل 12/ 140، الباب 46 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 9.

(4)- الوسائل 12/ 131، الباب 42 من

أبواب ما يكتسب به، الحديث 17.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 617

أن يعصى اللّه.» «1»

15- و عن سهل بن زياد- رفعه- عن أبي عبد اللّه «ع»- في قول اللّه- عزّ و جلّ-: «وَ لٰا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النّٰارُ»- قال: هو الرجل يأتي السلطان فيحبّ بقاءه إلى أن يدخل يده إلى كيسه فيعطيه.» «2»

إلى غير ذلك من الروايات الدالة على حرمة إعانة الظالمين و مساعدتهم و حبّ بقائهم.

و لا يخفى أنّ التسليم للظالم و إطاعته في أوامره الولائية من أشدّ مراتب الإعانة و المساعدة. و حيث إنّ الحكومة ممّا لا بدّ منها كما مرّ و إطاعة الحاكم في الأوامر الولائية من لوازم الحكومة و مقوّماتها فلا محالة يستلزم ذلك وجوب السعي في إسقاط الحكومة الظالمة الجائرة، حتّى يخلفها حكومة عادلة مطاعة فيحصل النظام و ينفّذ الإسلام، فتدبّر.

قال في تفسير المنار- في ذيل تفسيره لآية المحاربة:

«و من المسائل المجمع عليها قولا و اعتقادا: «أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، و إنّما الطاعة في المعروف»، و أنّ الخروج على الحاكم المسلم إذا ارتدّ عن الإسلام واجب، و أن إباحة المجمع على تحريمه كالزنا و السكر و استباحة إبطال الحدود و شرع ما لم يأذن به اللّه كفر و ردّه، و أنّه إذا وجد في الدنيا حكومة عادلة تقيم الشرع و حكومة جائرة تعطّله وجب على كلّ مسلم نصر الأولى ما استطاع. و أنه إذا بغت طائفة من المسلمين على أخرى و جرّدت عليها السيف و تعذّر الصلح بينهما فالواجب على المسلمين قتال الباغية المعتدية حتّى تفي ء إلى أمر اللّه.

و ما ورد في الصبر على أئمة الجور إلّا إذا كفروا معارض

بنصوص أخرى، و المراد به اتقاء الفتنة و تفريق الكلمة المجتمعة. و أقواها حديث: «و أن لا تنازع الأمر أهله إلّا أن تروا كفرا بواحا.» قال النووي: المراد بالكفر هنا المعصية. و مثله كثير.

و ظاهر الحديث أن منازعة الإمام الحق في إمامته لنزعها منه لا يجب إلّا إذا كفر

______________________________

(1)- الوسائل 12/ 134، الباب 44 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 5.

(2)- الوسائل 12/ 133، الباب 44 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 618

كفرا ظاهرا و كذا عمّاله و ولاته.

و أمّا الظلم و المعاصي فيجب إرجاعه عنها مع بقاء إمامته و طاعته في المعروف دون المنكر، و إلّا خلع و نصب غيره.

و من هذا الباب خروج الإمام الحسين سبط الرسول- صلّى اللّه عليه و آله و سلم- على إمام الجور و البغي، الذي ولي أمر المسلمين بالقوّة و المكر: يزيد بن معاوية- خذله اللّه، و خذل من انتصر له من الكرامية و النواصب، الذين لا يزالون يستحبّون عبادة الملوك الظالمين، على مجاهدتهم لإقامة العدل و الدين. و قد صار رأي الأمم الغالب في هذا العصر وجوب الخروج على الملوك المستبدّين المفسدين. و قد خرجت الأمّة العثمانية على سلطانها عبد الحميد خان فسلبت السلطة منه و خلعته بفتوى من شيخ الإسلام.» «1»

و قد نقلنا كلامه بطوله تأييدا لكثير مما ذكرناه.

خلاصة

و كيف كان، فقد تحصّل ممّا ذكرناه في هذه المسألة بطولها أنّ أخطاء الحاكم الذي بدت حكومته مشروعة إن كانت جزئية شخصية لا تمسّ كرامة الإسلام و المسلمين، فالحكم بانعزاله أو جواز الخروج عليه لذلك مشكل بل لعلّه لا يخرج بذلك من العدالة بناء على

كونها عبارة عن الملكة. و لو سلّم فالواجب في قباله النصح و الإرشاد، و يبعد جدّا أن تصل النوبة في مثله إلى الخروج عليه و الكفاح المسلّح.

و أمّا إذا انحرف الحاكم انحرافا كلّيّا و صار أساس حكمه الاستبداد و الأهواء، بحيث صدق على حكومته حكومة الجور و الفساد و انطبق عليه عنوان الطاغوت، فحينئذ يجري فيه مراتب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و ربّما تصل النوبة إلى الكفاح المسلّح و إسقاطه و إقامة دولة حقّة مكانه. و أقمنا على ذلك أحد عشر وجها.

______________________________

(1)- تفسير المنار 6/ 367.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 619

و بعض الوجوه و إن كان قابلا للمناقشة و لكن يظهر من المجموع و من تتّبع آيات الجهاد و أخباره و موارده، و من أدلّة الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و من سيرة النبي «ص» و الأئمة «ع» و لا سيّما أمير المؤمنين و السبط الشهيد- عليهما السلام- أنّ إقامة الحكومة الحقة و قطع جذور الفساد و الجور مطابق لروح الإسلام و مذاق الشرع، فيجب إعداد مقدّماتها و الإقدام عليها بقدر الوسع. و يختلف ذلك من ناحية المقدمات، و من ناحية كيفيّة العمل بحسب الزمان و المكان و الظروف و الإمكانيات.

و أمّا الأخبار الّتي حكيناها في صدر المسألة من صحيح مسلم و غيره فإن أريد بها ما ذكرناه من التفصيل فهو، و إلّا وجب ردّ علمها إلى أهلها.

و لعل بعضها و بعض ما ورد من طرقنا- ممّا مرّ في الفصل الرابع من الباب الثالث- لعلّها من بقايا ملفّقات مرتزقة السلاطين و حكّام الجور.

فانظر إلى أمثال هذه الروايات المرويّة عن لسان النبي الأكرم و الصحابة، و إلى

الفتاوى الّتي صدرت على أساسها أو على غير أساس و قد أوجبت على المسلمين السكوت بل التسليم و الإطاعة في قبال يزيد و أمثاله، الذين غلبوا على ولاية أمور المسلمين بالسيف بلا نصّ و لا بيعة و استمرت سيرتهم على الظلم و الاستعباد و قتل الأخيار و التجاهر بالفسق و الفجور.

فانظر و فكّر فيما جرّته هذه الفتاوى على المسلمين من ضعف، و انحطاط، و تشتّت، و خمود روح الثورة، و تسلّط الكفّار و الصهاينة و الطواغيت- عملاء الشرق و الغرب- عليهم و على بلادهم. و قد ثارت الأمم المنحطّة في البلاد الغربيّة يوما فيوما على الملوك الجبابرة، فتقدّمت في المدنيّة و العلوم و الصنائع، و بقيت الشعوب المسلمة الراقية ببركة الإسلام تحت سيطرة الجبابرة الظالمين المترفين بسبب تأييد علماء السوء، الذين باعوا آخرتهم و حرّيتهم بدنياهم الدنيّة.

و بعد ما تيقظت أمّة إيران المسلمة من سباتها و ثارت على عملاء الكفر فعوضا عن تأييدها و اللحاق بها هجموا عليها، فيا بعدا لعملاء الكفر و علماء السوء المبررين لجناياتهم و مظالمهم! اللّهم فخلّص المسلمين من شرورهم.

دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، ج 1، ص: 620

و ليس كلّ ما يروى و ينسب إلى النبي الأكرم «ص» أو إلى الأئمة أو الصحابة بصحيح، بل يجب عرضه على الكتاب العزيز؛ فما خالفه زخرف و باطل. و يجب على أهل النظر التتبّع و تشخيص الغثّ من السمين و الصحيح من السقيم.

و في نهج البلاغة: «إنّ في أيدي الناس حقّا و باطلا، و صدقا و كذبا، و ناسخا و منسوخا، و عامّا و خاصّا، و محكما و متشابها، و حفظا و وهما. و لقد كذب على رسول اللّه «ص» على

عهده حتّى قام خطيبا فقال: من كذب عليّ متعمّدا فليتبوّأ مقعده من النار. و إنّما أتاك بالحديث أربعة رجال ليس لهم خامس: رجل منافق مظهر للإيمان متصنّع بالإسلام لا يتأثّم و لا يتحرّج يكذب على رسول اللّه «ص» متعمّدا. فلو علم الناس أنّه منافق كاذب لم يقبلوا منه و لم يصدّقوا قوله و لكنّهم قالوا: صاحب رسول اللّه رآه و سمع منه و لقف عنه، فيأخذون بقوله و قد أخبرك اللّه عن المنافقين بما أخبرك ...» «1»

و إذا كان هذا حال عصر أمير المؤمنين «ع» مع قربه من عصر النبي «ص» فكيف بأعصار حكّام الجور من الأمويين و العباسيين و سلاطين عصورهم و ظهور أهل الأهواء و تقرّبهم منهم كثيرا. و قد ضبط المورّخون أحوال كثير من الوضّاعين، فراجع «2».

و في كنز العمال، عن أبي هريرة: «إذا رأيت العالم يخالط السلطان مخالطة كثيرة فاعلم أنّه لصّ.» «3»

و الحمد للّه ربّ العالمين، و صلّى اللّه على محمّد و آله الطاهرين، و لعنة اللّه على أعدائهم أجمعين.

تمّ الجزء الأوّل من الكتاب، و يتلوه إن شاء اللّه الجزء الثانى، و أوّله الباب السادس منه.

______________________________

(1) نهج البلاغة، فيض/ 665؛ عبده 2/ 214؛ لح/ 325، الخطبة 210.

(2) راجع كتب الرجال من الفريقين، و من جملة كتب السنة: كتاب «الضعفاء» لابن حبان، و «الحافل المذيل على الكامل» لابن عدي، و «ميزان الاعتدال»، و «لسان الميزان».

(3) كنز العمال 10/ 186، الباب 2 من كتاب العلم من قسم الأقوال، الحديث 28973.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في ولاية الفقيه و فقه الدولة الإسلامية، 4 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، دوم، 1409 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.